الفصل الخامس عشر

في باري ونابولي

ودعت الأستاذ أنطون وعائلته وزميلهم زكي أفندي؛ إذ أرادوا أن يسبقوني في السفر إلى روما.

وركبت مع الحاجة شنطة عربة يجرها حصان أكل عليه الدهر وشرب، فانطلقت بي خببًا إلى محطة سكة الحديد قاصدًا باري.

والمسافة بين برنديزي وباري مثل المسافة بين القاهرة والإسكندرية.

وباري هي المدينة الإيطالية البحرية، التي تداولت صحفنا اسمها في السنين الأخيرة لمناسبة اشتراك مصر في سوقها السنوية التي تقام في أوائل شهر سبتمبر.

ثم أكثرت الصحف المصرية والعربية من ذكرها والكتابة عنها منذ أشهر، مردِّدة اسم محطة راديو باري الإيطالية إلى جانب اسم محطة ديفنتري الإنكليزية، مفصلة كل يوم أخبار الحملة الشعواء التي كانت تقيمها هذه المحطة على تلك طردًا وعكسًا من الردح الشلق ماركة «حوش بردق»، إلى أن كانت الهدنة، فالاتفاق الإنكليزي الإيطالي الأخير.

باري قديمًا وحديثًا

ولمدينة باري تاريخ قديم يرجع إلى ١٥٠٠ سنة قبل الميلاد، وقد حكمها اليونان، وذكرها هوراس، وكانت لها شهرة عظيمة في التجارة البحرية بين الشرق والغرب، ومنها خرجت الحملة الصليبية الأولى سنة ١٠٩٥ بقيادة «أبونا بطرس الراهب».

figure
فندق الأمم على كورنيش باري.

ولا تزال المدينة القديمة حافظة شكلها من أَزِقَّة ضيقة وبوائك وبوابات. أما المدينة الجديدة، فقد بُدِئ في إنشائها وتعميرها منذ أول القرن الماضي، فمدت الشوارع الفخمة، وأُقِيمت على جانبيها العمارات العالية الذُّرَى والفنادق العظيمة.

وشملتها عناية الدوتشي موسوليني وإصلاحاته لبلاد الجنوب الإيطالي، فجدد مرفأها ووسعه، ومد الكورنيش البحري الذي يبلغ طوله ٢٧ كيلومترًا مضاءة بأنوار الكهرباء.

وفي مدينة باري ما في غيرها من المدن الكبرى من أندية الفاشزم ومكتبة عامة ومتحف وجامعة وتياترات كبيرة وسينمات … إلخ إلخ.

وللمحطة ميدان فسيح، فيه مواقف للتاكسيات وعربات الأجرة ذات الجواد الواحد الهزيل.

ونزلت في «فندق الأمم»، وهو من أحدث فنادق إيطاليا.

وقضيت السهرة في إحدى قهوات شارع كافور، وهو شارع يبلغ عرضه نحو ٥٠ مترًا، غاص بالأندية والمخازن ذات الفترينات المزدانة بالبضائع النفيسة.

وسألت عن المدينة القديمة فأرشدوني إليها، وحملتني إليها عربة طافت خلال ما بقي من الأطلال والدمن، فزرت الكنيسة والقصر والقلعة، ونزلت من العربة وتجوَّلت في الأزِقَّة وتفقدت مخازن النحاس القديم والحديد المطروق، وأبيت أن أترك هذه المدينة القديمة قبل أن أشرب فيها القهوة مع الحوذي العجوز.

figure
كنيسة القديس نيقولا في باري القديمة.

ثم خرجت إلى المدينة الجديدة، وسارت بي العربة أعلى الكورنيش مسافة أربعة كيلومترات.

وهو يمتاز على كورنيش الإسكندرية بخط ترام، يوصل إلى أرض سوق باري التي لا تزال في نشأتها، وفي طريقها حمام بحري لا بأس به.

والحركة قائمة في السوق لافتتاحها يوم ٦ سبتمبر، وقد قابلت المدير فرحَّب بي، وأطلعني على صور عدة للسوق وأقسامها، وأراني صورة لقسم الصحافة وقد عرضت فيه صحيفتنا «الأهرام».

وعدت من السوق إلى الفندق للكرزمة والقيلولة.

ولم أجد حاجة لزيارة المكتبة والمتحف أو غيرهما من المعاهد العلمية والفنية لضيق الوقت، ولتأكُّدي من أنها لا تعد شيئًا إلى جانب ما في روما والمدن الفنية في إيطاليا مثل فلورنسا وفينيسيا.

واكتفيت بالسير مسافة غير طويلة على الكورنيش والتجوُّل في أنحاء المدينة الجديدة والجلوس ساعة في قهوة النادي البحري والسهر في قهوة سافوي بشارع كافور العظيم.

وخرجت من باري معجبًا بكل ما فيها من قديم وحديث ونهضة في التجديد والتعمير والصناعة والتجارة.

وركبت القطار السريع ظهر يوم الجمعة ١٢ أغسطس قاصدًا نابولي المدينة الساحرة.

أيام في نابولي

نابولي مدينة الخليج البديع الجامعة بين البحر والجبل، فهي نهارًا عقد من الأزهار، وليلًا قلادة من الأنوار. تتوسطها فريدة من الزمرد الأخضر هي جزيرة كابري. وهنا وهناك انتثرت مدن الشواطئ الزاهرة وأخصها سورانتو وأمالفي. فإذا أنت خرجت من المدينة في القطار أو السيارة وجدت نفسك بعد نحو ساعة وسط أطلال مدينة بومباي وهوركولانيوم إلى جانب بركان فيزوف وقانا الله شر ثورته وحممه وقذائفه.

figure
بركان فيزوف الثائر.

وكانت نابولي أول مدينة أوروبية زرتها سنة ١٩٢١ وكررت زيارتي لنهار أو أقل، إلى أن كانت السنتان الماضيتان فأقمت كل مرة يومين، وزرت أهم ما فيها من متاحف ومكتبات.

وقضيت فيها ليلة السبت، وبكرت صباحًا قاصدًا القنصلية المصرية فاستقبلني حاجبها محمد قنديل أفندي بوجهه الصبوح مرحِّبًا، وقابلت الأستاذين شكري فانوس القنصل بالنيابة، ووهبة المصري أمين المحفوظات.

مثال طيب للشباب المصري

والأستاذ المصري خير مثال للشبيبة المصرية في المفوضيات والقنصليات المصرية. وأقصد بهم الشبان الذين يدركون نعمة وجودهم خارج بلادهم فيقضون أوقات فراغهم في الدرس والبحث وإتقان اللغات.

وقد أحرز الأستاذ المصري البكالوريا المصرية من مدارس الفرير بالقاهرة، واشتغل مترجمًا بالمحافظة، وانتقل منها إلى وزارة الخارجية.

ولم يكد يمضي في نابولي ستة أشهر حتى شرع في درس الحقوق منتسبًا إلى الجامعة، فأدهش أساتذته وممتحنيه بقدرته على الإجابة شفاهًا وتحريرًا بلغة إيطالية صحيحة.

المضياف أمين يوسف بك

وفي القنصلية قابلت الأستاذ أمين يوسف بك، الرجل المضياف في مصر وخارج مصر، فهنَّأته بالسلامة، وذكرته بمقابلته لي منذ عشر سنوات تامة في مدينة كولونيا الألمانية (على شاطئ الرين)، وعشائي معه في بروكسل.

ودعاني مع الأستاذين فانوس والمصري للغداء في الباخرة روما والفرجة عليها.

وكانت كرزمة شرقية أفاض فيها علينا الأستاذ أمين أحاديثه الشائقة عن رحلاته القديمة والحديثة، وزياراته لأوروبا وأمريكا، وتقدير الحكومات الأجنبية لأعماله في مصلحة التموين.

وفصَّل لنا خبر الباخرة «روما»، فقال: من أحسن ما رأيته فيها ثلاثون من الشبان والشابات المصريين اشتركوا في الرحلة، وهم بهجة السفينة وقرة عين ركابها، يملَئونها فرحًا وحبورًا، ويمثلون مصر خير تمثيل بأدبهم في حركاتهم وسكناتهم آكلين شاربين راقصين مغنين.

وبعد الأكل طافَ بنا الأستاذ أرجاء الدرجة الأولى.

ونزل مع الأستاذ المصري إلى البلد لإنجاز بعض الأعمال، وتركني والأستاذ فانوس في الباخرة، فأسمعني الأستاذ فانوس الكثير من معلوماته عن حركة الملاحة والتجارة البحرية في مواني البحر الأبيض المتوسط.

سهرة في مَرقص الأورانجيري

وبعد عودة الأستاذ أمين بك ودَّعناه، وانصرف الأستاذ فانوس، وقضيت والأستاذ المصري أمسية موسيقية في قهوة كفاليش على شاطئ البحر.

figure
منظر عام لمدينة نابولي.

ثم ركبنا أتوبيسًا أقلَّنا إلى ضواحي المدينة في شارع طويل تمتد إلى أحد جانبيه روضة فيحاء. ثم صعدنا في الفونيكيلير إلى قهوة الأورانجري (حديقة البرتقال)، وفيها يحمي وطيس المُراقصة حتى وجه الفجر، ولكن التعب حكم علينا بالانصراف.

وأبى الأستاذ المصري إلا أن نأكل ونشرب في مطعم بلدي فيه الإسباجتي النابوليناني وخمرة كابري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤