الفصل التاسع

أيام في أثينا (١)

قضيت في أثينا عشرة أيام تامة.

نزلت إليها صباح يوم السبت ٣٠ يوليو، وبرحتها مساء يوم الاثنين ١٨ أغسطس.

زيارات سابقة

وكنت قد مررت بها قبل ذلك أكثر من مرة في صيف سنة ١٩٣٢ مع ركب جمعية الشبان المسيحية بقيادة المقدم أتول في الرحلة الإكسبرس إلى إستانبول.

ونظم لنا المقدم الأمريكي جولة في مدينة الأكروبول لمدة ثماني ساعات أرانا فيها بعض المتاحف والأنصاب.

وفي العودة تركنا أحرارًا، فرأى كل منَّا ما أراد من مشاهد، وفي السنة التالية زرتُها كذلك في ذهابي إلى إستانبول، وفي مقابلتي لجماعة الشبان المسيحية للسفر إلى يوجوسلافيا.

وفي هذه المرة قضيت في لوتراكي ساعات، ثم زرتها لمدة يومين في صيف سنة ١٩٣٦؛ فلست إذن غريبًا عن بلد زيوس وديانا.

ما رأيت وما سمعت

وكنت في زيارتي الحاضرة موفَّقًا لمشاهدة ما رغبت، وحضور الاحتفال بالعيد الوطني ومواكبه.

وقضيت أيامي مطربَشًا، وكان للطربوش المحترم عمله في تسهيل كثير من المهامِّ، والترحيب بي ومخاطبتي بالعربية في كل مكان.

ووجدت «الأهرام» تُباع في أكشاك الصحف والمجلات على بعد خطوات من الفندق. فتأتي الأعداد يوميًّا أو مرة كل يومين، وتباع بسعر ستة دراخمات ونصف (أي ١٢ مليمًا) النسخة. فقرأت منها بالتوالي الأعداد الصادرة من ٢٦ يوليو إلى ٣ أغسطس.

وكان يشاركني في ذلك مَن قابلتهم من أبناء الوطن العزيز.

وعرفت كيف أصرفهم بالتي هي أحسن عن المناقشة في حكاية الثكنات ومفاوضات رئيس الوزارة المصرية للإنكليز.

ولاحظت تغييرًا يُذكر في نظافة الشوارع، وكثرة عدد رجال البوليس الذين يعرفون اللغتين الإنجليزية والفرنسوية، وظهور أتوبيسات جديدة، صفراء فاقع لونها، واسعة مريحة أنيقة ذات درجة واحدة، تضرب ثورنيكروفت مصر على عينه.

ولكن القهوات لا تزال على حالها؛ كراسي القش، وكنكة القهوة الصفيح، والفنجان الصغير.

ولاحظت غلاءً وارتفاعًا في أسعار كل شيء عمَّا كانت عليه سنة ١٩٣٦.

figure
التياترو الوطني في أثينا.

وما أبدع الجلسات في ميدان سندغماتوس (الدستور)، وهو منشية أثينا، تتصدره عمارة مجلس النواب، والتياترو الوطني، وقبر الجندي المجهول، وتصدح فيه الموسيقى ليلًا، وتغص الأندية بالأجانب والوطنيين لتناول المثلجات والأوزو.

وحدِّث ولا حرج عن وفرة عدد المصريين الذين يتوافدون إلى بلاد اليونان للمصيف أو الاستحمام أو الاستجمام، بفضل الدعاية الشفوية اللسانية التي يقوم بها أصدقاؤنا التجار اليونان وجرسونات القهوات في مصر والإسكندرية وبقية البلاد المصرية الداخلية، وقرب المسافة وتعدُّد المراكب التي تبرح الإسكندرية وبورسعيد كل يوم إلى بيريه رأسًا، أو مرورًا بالجزر الصغيرة.

النزول إلى بيريه

ولم أدر في أية ساعة من ليلة السبت ٣٠ يوليو وصلت الباخرة تراكي إلى بيريه.

فقد نمت عند منتصف الليل، وفي الصباح الباكر أيقظني الخادم منبهًا إلى حضور الطبيب.

والزيارة الطبية خفيفة لطيفة لم تتجاوز نظرة فابتسامة، ثم تَسلُّم الباسبورت، فوقفة طويلة وسط زحام شديد بين يدي عمال الجواز، والتعريف عمَّا يحمل كل راكب من ورق نقد وفضة وشيكات، وتقييدها تفصيلًا على صفحات الباسبورت.

ولم نجد عناءً في إنزال الحقائب وتمريرها بالجمرك والكشف عن دخائل الحاجة شنطة، ثم تسليمها لمن حفظها لنا.

وكانت اللحية المحترمة قد طالت، فأسرعت إلى حلاق أزالها بمهارته.

وجلست مع السيدتين نازلي وزينب والأستاذ ديامنتس المحامي بالمحاكم المختلطة في إحدى قهوات بيريه. وكتب كلٌّ منَّا رسائله إلى الأصدقاء والأقرباء على تذاكر بوستة محلاة بصور الميناء اليوناني وأرصفته ودكاكين باعته.

من بيريه إلى أثينا

ثم أقلتنا سيارة إلى أثينا مجتازين شوارع بيريه الكبيرة وأرباضها وضواحيها وقُراها ذات الفيلات الزاهرة ودساكرها، حتى دخلنا إلى المدينة وودعنا الأستاذ ديامنتس شاكرين.

في مكتب الدعاية والصحافة

ونزلنا في شارع فيليلون إلى مكتب الصحافة والدعاية، وقدمت إلى المسيو الحاج مانولي، مدير المكتب رسالة توصية من صديق له في القاهرة. فتقبلها شاكرًا مرحبًا بالسيدتين والصحافي العجوز. وأوصى بنا المسيو ساختورس أحد موظفي المكتب، فأرشدنا إلى فندق كسيناس ماليترون، وقال إنه مستعد لإجابتنا إلى كل ما نطلب من تعريف إلى مزارات أو بيانات في أي شأن.

اليوم الأول في المدينة

وفندق «ماليترون» فندق متوسط بديع أنيق الرياش، طيب الطعام، واقع بين المفوضية المصرية وميدان الدستور وملتقى خطوط الترام والأتوبيس، وما هنالك من فنادق كبرى ومكاتب للسياحة ومكتبة الكتب الأجنبية، وأكشاك الصحف والمجلات، والتذاكر المصورة وغيرها.

وتغدينا في الفندق واستحضرنا الحقائب من بيريه ومعها الحاجة شنطة.

وكان لا بد من القيلولة، ولم أستيقظ إلا عند غروب الشمس، وسألت عن السيدتين فلم أجدْهما، فتجولت في شارع الأستاذ وميدان الدستور، وقضيت فيه سهرتي.

ساعات في زابيون

وكان اليوم التالي يوم الأحد (٢١ يوليو)، فأيقظتنا أجراس الكنائس، وخرجت مع السيدتين إلى حدائق زابيون، وزرنا المعرض الصناعي، وهو أشبه بمعارض الغرف التجارية المصرية، ولكنه يمتاز عليها بعمارته الواسعة المشيدة على الطراز اليوناني وتعدُّد غرفه، وقد أعدت فيها سينما في الهواء الطلق.

figure
المعرض الصناعي في رياض زابيون.

وكنت قد زرت هذا المعرض أكثر من مرة، فلاحظت في هذه الزيارة الأخيرة أنه قد أُنقِصت فيه معروضات الصنائع القديمة من نسيح ومنجور وقيشاني وورق وكتب ومطبوعات فنية، ومنها القرآن الكريم مترجَمًا إلى اليونانية، وزادت معروضات الأقمشة والمجهزات الكيماوية ولوحات مصورة لحال الفلاح اليوناني الحديث.

وإلى جانب المعرض قهوة متوسطة تُقدَّم فيها المثلجات والأوزو، فبرتفنا فيها على أنغام جوقة موسيقية لا بأس بها.

واشتريتُ عددي الأهرام الصادرين بتاريخ ٢٦ و٢٧ يوليو، فقرأت في أولهما نعي نسيب هو أقرب الناس إليَّ وأعزهم عليَّ، فكان للخبر وقعه على نفسي، فلم أقوَ على قراءة الصحيفة، ولم أتناول غداء، ولم يزر النوم جفني بعد الظهر.

سهرة على شاطئ البحر

ولكني كتمت ما في نفسي وصحبت السيدتين مساء إلى فاليرون القديمة، وهي إحدى بلاجات أثينا ومصايفها المعدودة الممتدة على شاطئ مضرَّس مسنَّن متعرج، انتشرت عليه الفنادق والكازينات والفيلات بين الجبال المخضلَّة والمياه الزمردية.

وفي جليفادا والفاليرون القديمة والفاليرون الحديثة وفاكيزا وغيرها على مسافة ٢٧ كيلومترًا، كل ما يشوق ويروق من مصايف هادئة وبلاجات صاخبة لكل منها أنصارها وزبائنها.

وقد عُنِيَتْ بها الحكومة وعاونها أصحاب الفنادق والبيوت المفروشة، وعرفوا كيف يجرون إليها المصطافين من يونانيين وأجانب.

figure
فندق كارلتون في الفاليرون.

وفي أحد كازينات فاليرون القديمة تناولنا العشاء وتعرفنا بيوناني متمصِّر وزوجته الإنكليزية. وقضينا معهم السهرة فحدثنا الرجل عن رحلاته ومغامراته التجارية في مصر وإنكلترا وأمريكا، وزواجه بهذه الإنكليزية من أهالي ليفربول، وعنها أخذت السيدتان نازلي وزينب الكثير من المعلومات عن الحياة الاجتماعية عامة، والمرأة اليونانية خاصة.

ودَّعناهما عند منتصف الليل عائدين في الأتوبيس الأصفر الفخم إلى فندقنا في أثينا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤