متشرِّدٌ في الحديقة

انشغل والد «تختخ» ووالدته بالدكتور «الفار»، وتركا ﻟ «تختخ» مهمة العناية ﺑ «نازك»، وهكذا ظلَّت تتبعه كظله طوال ذلك اليوم، وتُتابعه بالحديث عن المغامرات والألغاز، ورغبتها في الاشتراك مع الأصدقاء الخمسة في حل لغز، أو القبض على لص. وكانا قد عادا للغداء، وبعد الانتهاء منه جلسا في الحديقة، فقال «تختخ» ﻟ «نازك»: سأصعد إلى غرفتي لأرتاح بعض الوقت، وأعتقد أنك أيضًا في حاجةٍ إلى الراحة، وسنلتقي مرةً أخرى في المساء هنا في الحديقة.

ولدهشة «تختخ» وافقت «نازك» قائلة: لا بأس؛ فسوف أصعد إلى غرفتي لأُنظِّم ثيابي وحاجاتي بها، وأُغيِّر ملابسي.

وكان «تختخ» يُريد أن يرتاح قليلًا، وفي نفس الوقت يُنفِّذ خطته التي فكَّر فيها للتخلُّص من إلحاح «نازك» وثرثرتها المتصلة.

قرب السابعة، وقد بدأت الشمس تسير نحو المغيب، أغلق «تختخ» باب غرفته بالمفتاح من الداخل، ثم فتح دولاب ملابس التنكُّر، وأخذ يختار بعنايةٍ بعض الملابس القديمة التي تُناسب شخصية المتشرِّد، ثم وقف أمام المرآة، فوضع باروكة الشعر الخشن وشاربًا مناسبًا، ثم استخدم كل براعته في رسم جرح على وجهه يبدأ تحت عينه اليسرى، ويمتد إلى فمه، ممَّا جعل منظره مخيفًا وشرسًا.

وبعد أن اطمأن إلى أنه أجاد تنكُّره، أطلَّ بحذرٍ من النافذة، فوجد «نازك» تجلس في الحديقة تنتظره كما اتفقا، ففتح الباب في هدوء، وتسلَّل نازلًا من السلم الخلفي إلى الطرف البعيد للحديقة، وكان الظلام قد بدأ يهبط، فانتظر قليلًا خلف إحدى الأشجار العالية، وأخيرًا قرَّر أن يلفت نظر «نازك» إليه، فأطلق سعالًا قويًّا سمعتْه فورًا، والتفتتْ إليه.

كانت خطة «تختخ» تسير بدقة؛ فقد وقفت «نازك» تنظر إلى الشجرة التي سمعت السعال يأتي من اتجاهها، وفي هذه اللحظة ظهر «تختخ» أمام الشجرة، ونظر إلى «نازك» نظرةً مخيفة، ثم أطلق ساقَيه للريح، وفتح باب الحديقة الخلفي وانطلق يجري، والفتاة تنظر إليه مذهولة، وقد فقدت قدرتها على الكلام والحركة!

جرى «تختخ» قليلًا حتى ابتعد عن الفيلا، ثم أخذ يسير ببطء، وهو يبتسم ويتصوَّر ما ستفعله «نازك»، وقرَّر ألَّا يعود إلى البيت إلَّا بعد أن يهبط الظلام تمامًا، ليتمكَّن من العودة إلى غرفته دون أن يراه أحد، وكم كانت دهشة «تختخ» عندما التقى بعد قليلٍ بالشاويش «فرقع»، وهو يقود دراجته بسرعة، حتى كاد يصطدم به! ولم يكد الشاويش يرى وجهه في ضوء المساء الخفيف، حتى حاول إيقاف دراجته المسرعة، ولكن المحاولة انتهت بوقوع الشاويش على الأرض، بعد أن جذب الفرامل بسرعة، وفي نفس الوقت كان «تختخ» قد اتجه إلى أقرب شارع، وأسرع يختفي بين المارة وقد اتسعت ابتسامته.

قضى «تختخ» ساعةً يتجوَّل، ثم عاد متسلِّلًا إلى الفيلا. كانت الحديقة خالية، فدخل من الباب الخلفي، ثم صعد السلم الخارجي، وبعد لحظاتٍ كان منهمكًا في إزالة تنكُّره وارتداء ملابسه العادية، ثم نزل مسرعًا إلى الدور الأول للفيلا، فوجد «نازك» مع والدها ووالده ووالدته يتحدَّثون بحماسة، فلمَّا شاهدوه صاحت «نازك»: «تختخ» … «تختخ» … أين كنت؟ لقد كان رجال الشرطة هنا منذ قليل، لقد حدث شيءٌ مثير للغاية.

جلس «تختخ» في هدوء وقال: رجال الشرطة؟! لماذا؟

نازك: لقد حاول أحد اللصوص سرقة الفيلا، ولكني رأيته قبل أن يدخل، فلمَّا رآني أسرع بالهرب.

تختخ: شيءٌ مدهش جدًّا، متى حدث كل هذا؟

نازك: عندما كنت أنتظرك في الحديقة. لقد سمعت صوت خطوات عند الشجرة الكبيرة في طرف الحديقة، ثم سمعت سعالًا عاليًا، وعندما نظرت وجدت لصًّا مخيفًا يقف خلف الشجرة، وعندما رآني أطلق ساقَيه للريح.

تختخ: لقد خاف منك.

نازك: طبعًا؛ فلو بقي في مكانه لقضيت عليه … أقصد كنت سأصرخ حتى يأتي من يقبض عليه.

تختخ: وكيف عرفتِ أنه لص؟

نازك: لقد كان شكله مرعبًا، وملابسه قديمة وقذرة، وله جرح في وجهه، وشعره خشن.

تختخ: وهل رأيتِ كل هذا وهو بعيد عنك؟

نازك: برغم أنه كان بعيدًا فقد كان واضحًا.

تختخ: وماذا حدث بعد ذلك؟

نازك: لقد طلبت من والدتك الاتصال بالشرطة، فأرسلت لنا الشرطة شاويشًا يُسمَّى «علي» حضر على دراجته، ومن المدهش أنه قابل المتشرِّد في الطريق، ولكنه لم يتمكَّن من القبض عليه.

تختخ: على كل حال، عندك الآن لغزٌ ممتاز، فحاولي أن تحليه.

نازك: هل ستشترك معي؟

تختخ: إذا لم تتمكني من حله، فلا بأس من أن أشترك معك.

وقضى الخمسة السهرة في الحديقة بين الحديث والسمر.

كان اليوم التالي هو بداية المؤتمر العلمي الذي حضر الدكتور «الفار» إلى المعادي لحضوره، وهكذا استيقظوا جميعًا مبكرين، وعلى مائدة الإفطار قال الدكتور «الفار»: في إمكانك يا «توفيق» أن تحضر المؤتمر. إن هناك دعوات لبعض المهتمين ببحوث الحيوان، وسأعطيك أنت و«نازك» دعوةً دائمةً لحضور المؤتمر.

تختخ: ولكن ماذا سنسمع أو نرى هناك؟

الدكتور: ستسمع محاضرات عن القرود والفئران والأرانب، وهي بحوث علمية، ولكن فيها جانب من الطرافة، وهناك معرضٌ ملحق بالمؤتمر، يعرض فيه العلماء عددًا كبيرًا من هذه الحيوانات، وبعضها من نوعٍ نادر لا تراه في الحياة العادية، ولا في حديقة الحيوان.

تردَّد «تختخ» قليلًا، ثم قال: لا بأس، سأحضر أنا و«نازك» بعض جلسات المؤتمر، ولكن ليس اليوم.

نازك: نعم؛ فعندنا لغز الرجل المتشرِّد، ونُريد أن نعرف أين ذهب؟

تختخ: إن ما حدث لا يُسمَّى لغزًا؛ فليس هناك شيءٌ غامض، ولا حتى حادث للتحقيق فيه، إنه مجرَّد متشرِّد دخل إلى الحديقة، ولعله كان يُريد بعض الطعام أو شيئًا من هذا القبيل، ولا أكثر من هذا.

لم يكد «تختخ» ينتهي من حديثه، حتى سمع صوت جرس التليفون يدق، وبعد لحظاتٍ حضرت الشغَّالة وقالت إنه مطلوبٌ للحديث مع المفتش «سامي»، أسرع «تختخ» إلى التليفون وقد أدهشه الاتصال المبكِّر من المفتش، وتأكَّد أن هناك شيئًا هامًّا قد حدث.

قال المفتش: كيف حالك، وحال المغامرين؟ هل هناك شيء يشغلكم الآن؟

تختخ: للأسف، ليس هناك شيء على الإطلاق.

المفتش: إذن فنحن نُريد مساعدتكم في قضية هامة. لقد هرب مجرمٌ خطير منذ يومَين في أثناء نقله من السجن إلى المحكمة لمحاكمته. وقد دلَّت تحرياتنا على أنه قد اتجه إلى المعادي، واختفى هناك.

تختخ: وهل أبلغتم الشاويش «علي»؟

المفتش: طبعًا، وعنده أوصاف المجرم.

تختخ: إنك تعلم طبعًا أنه لا يُحب أن نتدخَّل في عمله، فأرجو أن تُعطيني أوصافه كاملة.

المفتش: سأُرسل لك صورةً له، والمعلومات التي عندنا عنه، وسيصلك هذا في خلال ساعة … فهل ستبقى في البيت؟

تختخ: سأنتظر.

عاد «تختخ» إلى غرفة الطعام فوجد سيلًا من الأسئلة في انتظاره من «نازك»؛ لقد أدركت أن المكالمة التليفونية تحمل أنباءً هامة، فأخذت تُلح على «تختخ» أن يُخبرها بما قاله المفتش «سامي»، ولكن «تختخ» الذي كان يُريد إبعادها عنه بأية وسيلة، لم يُجب عن أسئلتها الكثيرة إلَّا ببضع كلمات قليلة.

تفرَّق المجتمعون، فذهب الدكتور «الفار» ومعه «نازك» إلى المؤتمر، وخرج «تختخ» إلى الحديقة ينتظر وصول المفتش «سامي»، وكان يرجو أن يقضي ساعةً هادئة، ولكن الشاويش «فرقع» هبط عليه كما تهبط الصاعقة.

قال الشاويش: لقد جئتُ للتحقيق في وجود المتشرِّد الذي كان في الحديقة أمس.

تختخ: إن الحديقة وما فيها تحت أمرك.

الشاويش: كنت أُريد مقابلة الفتاة الصغيرة لأعاود سؤالها عن المتشرِّد … فأين هي؟

تختخ: لقد ذهبت إلى مؤتمر علماء الحيوان.

الشاويش: ألم ترَ أنت المتشرِّد؟

تختخ: لا، ولكن ما أهمية وجود متشرِّد في حديقة، إن مثل هذا الأمر يتكرَّر يوميًّا، ولا يدعو إلى الاهتمام.

الشاويش: إن عندي من الأسباب ما يدعو إلى البحث عنه؛ إنه مجرمٌ شديد الخطورة.

وتذكَّر «تختخ» كلام المفتش «سامي»، وأدرك أن الشاويش يظن أن المتشرِّد هو المجرم الخطير الذي هرب من السجن.

ابتسم «تختخ» عندما فكَّر في كل هذا، وأثارت ابتسامته غيظ الشاويش، فقال بحدة: لماذا تضحك؟! هل في البحث عن مجرمٍ خطير ما يبعث على الضحك؟!

تختخ: وهل هناك نص في القانون يمنع الضحك؟

احمرَّ وجه الشاويش، ودار على عقبَيه وغادر الحديقة، وأحسَّ «تختخ» بالسعادة لأن مندوب المفتش «سامي» حضر بعد انصراف الشاويش بدقائقَ قليلة.

سلَّم المندوب إلى «تختخ» مظروفًا مغلقًا، فتحه «تختخ» بلهفة؛ فقد كان هذا يعني أن مغامرةً جديدةً ستبدأ.

أخرج «تختخ» صورة المجرم وأخذ يتأمَّلها. كان شعره خشنًا وعيناه لامعتَين يُطلُّ منهما الذكاء، ذا أنف معتدل، وفمٍ رفيع يدل على القسوة، وبين الأنف والشفة العليا ندبة؛ أي أثر واضح لجرحٍ قديم.

أمَّا المعلومات فكانت هامةً جدًّا؛ كان اسمه «كراوية عبد السميع» وشهرته «الخنفس»، متوسط الطول، شديد القوة، له يدان معروقتان، محكومٌ عليه بجملة أحكام في قضايا مختلفة مدتها ٣٥ عامًا في السجن، ذكي ويُتقن التنكُّر، عمره ٤٠ سنة، وليست له أسرة، ولكن له ابن عم وبنت عم يعملان في ألعاب الحواة في مدينة الملاهي، وهو يعمل معهما أحيانًا في المدينة، حيث يُدرِّب الفئران البيضاء على أداء حركات معيَّنة، كما يُتقن تدريب الحيوانات من القرود والكلاب والفئران وغيرها.

قام «تختخ» فاتصل بالأصدقاء تليفونيًّا، وبعد دقائقَ حضروا جميعًا، وأخذ «تختخ» يروي لهم تفاصيل الحديث بينه وبين المفتش «سامي»، ثم عرض عليهم صورة «الخنفس»، وقرأ المعلومات التي وصلته عنه، ثم قال: والآن أيها المغامرون لا بد أن نعثر على «الخنفس» قبل أن يصل إليه الشاويش، وفي نفس الوقت لا نُريد أن تعرف «نازك» بما نفعل؛ فهي ثرثارة وقد تُؤدِّي ثرثرتها إلى تحذير المجرم إذا كان قريبًا منَّا.

لوزة: ومن أين سنبدأ البحث يا «تختخ»؟

تختخ: إن في المعادي الآن تجمُّعات يمكن أن يندسَّ فيها المجرم؛ هي مدينة الملاهي وفيها بعض ألعاب «السيرك» المتنقِّل، واجتماع علماء الحيوان.

مُحب: وهل تتصوَّر أن يندسَّ هذا المجرم بين العلماء والأطبَّاء؟

تختخ: أتصوَّر أنه من المحتمل أن يكون بين العلماء وليس بين الحواة؛ لأنه بين العلماء والأطبَّاء سوف يختلط بوسطٍ مقتدر، يستطيع أن يجد فيه مجالًا واسعًا لسرقاته.

عاطف: إن ذلك فرصةً لسؤال الدكتور «الفار» عن العلماء، وكذلك لحضور المؤتمر، وعلينا نحن أن نبحث في مدينة الملاهي؛ فقد نجد شيئًا يدلنا عليه هناك.

تختخ: هذا اقتراحٌ معقول جدًّا.

وهكذا بقي «تختخ» في البيت في انتظار عودة الدكتور «الفار»، في حين انطلق بقية الأصدقاء في الطريق إلى حديقة الملاهي.

عندما عاد الدكتور «الفار» و«نازك» من المؤتمر قرب الساعة الثانية، استقبلهما «تختخ» استقبالًا حافلًا أدهش الدكتور، خاصةً وقد أصبح «تختخ» الذي لم يكن مهتمًّا بالمؤتمر على الإطلاق، شديد الاهتمام به.

قال «تختخ» ليستدرج الدكتور إلى الحديث: هل قدَّمت بحثك إلى المؤتمر؟

الدكتور: إن موعد إلقائي للبحث سيكون غدًا.

تختخ: إذن سوف أذهب غدًا إلى المؤتمر معك؛ لسماع هذا البحث الهام.

نازك: وستُشاهد مجموعةً غريبةً من البشر؛ فهناك علماء من كل نوع وجنس، كما أن معرض الحيوانات الملحق بالمؤتمر مسلٍّ جدًّا.

سأل «تختخ» الدكتور: هل تعرف كل العلماء المشتركين في المؤتمر؟

الدكتور: لا طبعًا؛ فهناك ثلاثون عالمًا وطبيبًا، عدا المساعدين، ولست أعرف منهم إلَّا نحو عشرة فقط.

تختخ: ألم يلفت نظرك من بينهم شخص ما؟

الدكتور: لا أدري ماذا تقصد؟

وأدرك «تختخ» أنه أخطأ في السؤال فقال: أقصد أن يكون بينهم عالمٌ بارز أو مشهور.

هزَّ الدكتور رأسه قائلًا: إن أكثرهم من العلماء البارزين؛ فإن المؤتمرات العلمية لا تهم إلَّا العلماء ذوي الأهمية، والذين لهم أبحاثٌ متقدِّمة في ميدانهم.

تختخ: وهل أستطيع أن أحصل على قائمةٍ بأسمائهم وصورهم؟

الدكتور: غدًا تستطيع أن تحصل من سكرتارية المؤتمر على الأسماء والمعلومات اللازمة، أمَّا الصور فهذا غير ممكن طبعًا.

لم تكن هناك أسئلة أخرى يمكن أن يسألها «تختخ»، فأخذ يُدير المعلومات التي حصل عليها في رأسه، ولكنه لم يجد فيها شيئًا يُساعده، في حين كان «مُحب» و«نوسة»، و«عاطف» و«لوزة»، يتجوَّلون.

كانت مدينة الملاهي تشغل قطعةً كبيرةً من الأرض في طرفَي المعادي، يُحيط بها سورٌ تنتشر بداخله الخيام والعربات التي يُقيم بها العاملون ﺑ «السيرك». وعند المدخل الرئيسي يوجد كشك صغير لبيع التذاكر. تتوسَّط المدينةَ خيمةٌ كبيرة خاصة ﺑ «السيرك» المتنقِّل، بما فيه من حيوانات وموظَّفين ومدرِّبين ولاعبين، أمَّا «المراجيح» وألعاب التسلية المختلفة من ألعاب الحواة والزهر و«النشان» بالبندقية، فقد كانت تنتشر في أرجاء المكان، وكذلك باعة الحلوى والمثلجات.

كان الزحام شديدًا والحركة التي تسود المكان سريعة، حتى إن الأصدقاء أحسُّوا وكأن الدنيا تدور بهم، وقرَّروا أن يُقسِّموا المكان المتسع إلى أربعة أجزاء، كلٌّ منهم يبحث في جزء، على أن يلتقوا بعد ساعةٍ عند «المراجيح» الدوَّارة.

كانت مهمة «مُحب» هي البحث بين العاملين في ألعاب «النشان» بالبنادق، وهي لعبة كان يُحبها، وهكذا وقف من بعيدٍ يرقبهم؛ لعله يجد من يشبه «الخنفس».

ولم يطل الوقت ﺑ «مُحب»؛ فقد شاهد رجلًا متوسِّط القامة، سريع الحركة، يقوم بتعبئة البنادق وتسليمها للمتسابقين وتسليم جوائز الفائزين، وهكذا أسرع «مُحب» يقترب ويدفع قرشًا ليضرب بالبندقية، ولكن نظره كان مركزًا على الرجل يتأمَّله، لم يكن يشبه الصورة تمامًا، ولكن كان ثمة شبَه بينه وبينها؛ الشعر الخشن والعينان النفَّاذتان، ولكن نظرةً دقيقةً إلى الوجه دلَّته على أنه مخطئ؛ فلم تكن هناك «الندبة» التي فوق الفم، وهي أكثر شيء عند «الخنفس» يمكن أن يكون دليلًا عليه.

ظل «مُحب» ينتظر فترةً أخرى، ولكن لم ينضمَّ إلى الذين يعملون في «النشان» شخص جديد، وهكذا انصرف، وأخذ يسير متفرِّجًا على بقية الألعاب، وصورة «الخنفس» في رأسه على أمل أن يجده، ولكن الساعة مضت دون أن يرى أحدًا، فانطلق إلى ناحية «المراجيح» الدوَّارة ليلحق ببقية الأصدقاء.

وعندما اجتمع الأربعة، كانت خيبة الأمل تُطل من عيونهم جميعًا؛ فلم يعثر أحدٌ منهم على «الخنفس».

قال «مُحب» وهم متجهون للخروج: عل كل حال لم يكن من المتوقَّع أن نجد هذا المجرم البارع في أول يوم، ومن المؤكَّد أن لصًّا ذكيًّا مثله لا بد أن يُخفي نفسه جيدًا، ولن نعثر عليه إلَّا بعد جهد، هذا إذا عثرنا عليه على الإطلاق!

عاد الأصدقاء لمقابلة «تختخ» وقالوا آسفين إنهم لم يعثروا ﻟ «الخنفس» على أثرٍ في مدينة الملاهي، ولكن «تختخ» لم يكن يستسلم بهذه السرعة، فسألهم: ألم ترَوا أي شخص يُشبهه؟

وتذكَّر «مُحب» الرجل الذي رآه عند «النشان» فقال: الحقيقة أنني رأيت رجلًا يُشبهه إلى حدٍّ بعيد، ولكن تنقصه «الندبة» التي تحت الأنف، والتي قلنا إنها تُشبه أثر جرح قديم.

تشجَّعت «لوزة» عندما سمعت هذا الحديث فقالت: لقد رأيت شخصًا يُشبه «الخنفس»، ولكنه ليس رجلًا، إنه امرأة!

لم تكد «لوزة» تنطق بهذه الجملة، حتى انفجر الأصدقاء ضاحكين، وقال «عاطف» مازحًا: هل تخيلتِ أن «الخنفس» تحوَّل إلى امرأة؟

كان «تختخ» هو الوحيد الذي لم يضحك، بل قال في جدٍّ خالص: وأين كانت هذه المرأة؟

ردَّت «لوزة» وقد اصطبغ وجهها بحمرة الخجل: إنها تعمل في لعبة الفئران البيضاء، والفأر يختار لك ورقةً مكتوب فيها «البخت» مقابل قرش.

قال «تختخ» باهتمام: لقد عثرتم على معلوماتٍ هامة، ويُؤسفني أنكم لم تستفيدوا منها. إنكم تذكرون أن ﻟ «الخنفس» ابن عم وابنة عم يعملان في «السيرك» المتجوِّل، وأن «الخنفس» يُجيد تدريب الفئران، ولعل الرجل الذي شاهده «مُحب» هو ابن عمه، والفتاة التي شاهدتها «لوزة» هي ابنة عمه، وعن طريقهما يمكن أن نصل إلى «الخنفس»، وهذا شيء واضح كان يجب أن تعرفوه.

سكت الأصدقاء جميعًا أمام هذه الملاحظة الصحيحة، وأحسُّوا أنهم أخطئوا عندما اعتبروا المعلومات التي حصلوا عليها ليست ذات أهمية.

عاد «تختخ» إلى الحديث قائلًا: أرجو أن يذهب «مُحب» و«عاطف» غدًا إلى مدينة الملاهي، وعليهما أن يُراقبا الرجل وأخته مراقبةً دقيقة، وكذلك الأشخاص الذين يتصلون بهما، أمَّا أنا فسوف أذهب غدًا إلى المؤتمر كما وعدتُ الدكتور «الفار»، وإن كنتُ أعتقد أنني لن أجد هناك شيئًا له أهمية.

وهكذا انفضَّ اجتماع الأصدقاء، على أن يلتقوا في مساء اليوم التالي بعد أن يقوم «مُحب» و«عاطف» بالمراقبة، ويزور «تختخ» المؤتمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤