عودة إلى تجويع النمر

كنت في إنجلترا إبان الحرب العالمية الثانية دارسًا، ولم تكن سني عندئذٍ هي متوسط السن عند الدارسين، بل كانت تعلو فوق ذلك المستوى بعدة أعوام، إذ لم يشأ لي الله سفرًا بعد التخرج إلا بعد أن بلغت تلك السن المتقدمة بالنسبة إلى الآخرين، فلأمر ما، سارت بي الحياة بمثل تلك الحركة البطيئة التي يصطنعونها بآلات التصوير، عندما يريدون للمشاهد أن يرى على شاشات السينما أو التليفزيون حركة معينة بكل دقائقها وتفصيلاتها، كحركات اللاعبين والمتسابقين، أو حركات الحيوان في معاركه أو في مناشط حياته، فتتحرك الأجسام في بطءٍ وتراخٍ، وكأنها مخدرة بنعاس ثقيل، وهكذا شاء لي الرحمن أن تسير مراحل حياتي، كل مرحلة منها تجيء، لا لترحل عند انقضاء أوانها، بل «تتمطى بصلبها، وتردف أعجازها، وكأنها تنوء بحمل ثقيل يحول بينها وبين خفة الحركة» — مستعيرًا صور امرئ القيس في وصف ليله الطويل — فكانت كل مرحلة تبدأ معي ثم لا تريد أن تخلي الطريق إلى ما بعدها، فيتقدم السائرون وأنا مجمد القدمين، كأني ملصق بأديم الأرض، لا أتزحزح من مكاني إلا كما تتزحزح السلاحف، ولم تكن تلك الحركة البطيئة نتيجة ضعف في الجهد، أو قصور في الهمة وبلادة في الحس والإدراك، فقد كنت أيام الدراسة في طليعة المتفوقين، ثم أخذت بعد التخرج أبذل الجهود فوق الجهود، لا كلل ولا ملل، ولا شكوى.

لا، لم تكن الحركة البطيئة في تعاقب المراحل، نتيجة لقلة الجهد المبذول، أو لبلادة الذهن وقصوره، وإنما هي — في أرجح الظن — نتيجة لجهلي باللغة التي يتفاهم بها الناس في بلادنا، ولست أعني بالطبع لغة القواميس، بل أعني تلك الرموز السحرية التي تنفتح لها الأبواب للداخلين من قبيل «افتح يا سمسم» في قصة علي بابا، والأقدار بعد ذلك لا ترحم من تلكأت قدماه على الطريق.

أوه! ذلك هو عصرنا، وهذه مصرنا، ونحن أبناؤه وأبناؤها.

إنني لم أمسك بقلمي لأكتب شيئًا من هذا، بل أردت أن أقول إنني كنت في إنجلترا إبان الحرب العالمية الثانية دارسًا، وكانت الحرب قد بلغت تلك المرحلة التي كانت فيها ألمانيا تقذف إنجلترا بقذائف كانوا يسمونها ف٢، وهي قذائف لم تعد تجدي معها صفارات الإنذار؛ لأنها تباغت الناس، فقد تكون في قاعة المحاضرات، أو في المطعم تتناول طعام الغداء، أو ماشيًا في الطريق، أو حيثما تكون، وإذا بالدوي الذي يصم الآذان، والذي ترتج له الأرض والجدران رجًّا عنيفًا، وإذا بالقذيفة التي أحدثته لا تبعد عنك إلا بضعة أمتار، فإذا ما وقع هذا، ساد الصمت بضع ثوانٍ، ثم مضى كل فيما هو فاعله، لا هلع، ولا صوت، ولا حركة، ولا تبادل نظرات، ولا أي شيء من هذا كله أو ما يشبهه، ترى له أثرًا على أحد.

وكان بيني وبين زميل مصري موعد، ضربناه ليكون عند «القوس المرمري»، فهنالك كان مشرب الشاي لأمثالنا، في «بيت الناصية»، وهو مكان اشتهر برخص أسعاره، مع فخامة في معداته، فمثلنا لم يكن يقوى على أكثر من هذا كلما أراد طعامًا أو شرابًا؛ لأنه محدود بحدود البنسات والشلنات، فما جاءت ساعة اللقاء، إلا وقذيفة من تلك القذائف المباغتة قد نزلت على ميدان القوس المرمري، فاستحال اللقاء، وطافت برأسي فكرة، قلت لعل فكرة مثلها تخطر لزميلي، وهي أن أنعرج إلى شارع «بارك لين» قاصدًا إلى نادي الطلبة المصريين، وهو قريب من هناك، وفي النادي وجدت مجلة الثقافة ملقاة على إحدى المناضد، فأخذت أتصفحها انتظارًا للزميل المرتقب.

وفي تلك المجلة قرأت مقالًا رائعًا، للمرحوم الأستاذ محمد فريد أبو حديد، كان له وقع في نفسي، حال بيني وبين النوم في تلك الليلة، قبل أن أكتب مقالة من وحي ما كتبه الأستاذ أبو حديد؛ لأبعث بها إلى النشر في مجلة الثقافة، ولأبعث بها صباح اليوم التالي، وجعلت عنوان مقالتي: «تجويع النمر»، وها أنا ذا أستأذن القارئ في نشر الجزء الأول منها، تمهيدًا للإضافة الجديدة التي عَنَّ لي اليوم أن أضيفها:

إنني مدين بساعة من أجمل ساعات التفكير للكاتب الفاضل الذي أدخل تعديلًا على نظرية التطور كما رآها «دارون»، فجعل الأناسي تنتمي إلى أصول عدة، لا إلى أصل واحد، فالناس في رأي الكاتب الفاضل، منهم الكلب الذليل، ومنهم الخنزير القذر، والفأر الجبان، والثعلب الماكر، والحمار العبيط، كما أن منهم الليث الهصور، وإنه لمن الشطط والإسراف حقًّا أن نحاول التوحيد فيما أراد الله له اختلافًا وتباينًا.

تلك لمسةُ عبقريٍّ لا شك في نبوغه، والرأي — فيما يظهر — حق لا ريب فيه، فليس الأمر هنا خيالًا شطح بالكاتب فطار به عن الواقع، أو شطح به الكاتب وهو من برجه العاجي في عزلة عن الناس، بل هو مستمد من ذلك الواقع نفسه، ومن هؤلاء الناس، ودنيا الواقع لم تختفِ، ولن تختفي إلى آخر الدهر، فإن شئت تحقيقًا لما نزعمه لك، فَسِرْ في الطريق مفتوح العينين، لا نطلب منك أكثر من هذا ولا أقل، على أننا نشترط شرطًا واحدًا، وهو ألا تنخدع بالإهاب البشري الذي يلبسه الناس في الطريق، بل احلل عراه بخيالك — ولا شك أن لك نصيبًا من الخيال قل أو كثر — وسترى في جوفه الكلب أو الخنزير أو الفأر أو الحمار، أو ما شاءت لك الظروف أن تجد.

والساعة الجميلة التي أنا مدين بها لكاتبنا الفاضل هي ساعة استبطنت فيها دخيلة نفسي أولًا، ثم استعرضت بعدئذٍ فلانًا وفلانًا ممن أعرف من الناس، وحاولت أن أتعقب كلًّا إلى عروقه الأولى … لكنني ما إن بدأت النظر، حتى تبدى لي ما أوقعني في حيرة، إذ خُيِّل إليَّ أني حين كشفت عن دخيلة «فلان» و«فلان»، وجدت في كل منهما أكثر من حيوان واحد، وكان النمر عنصرًا مشتركًا فيهما معًا، ففي الأول رأيت كلبًا ونمرًا، وفي الثاني وجدت فأرًا ونمرًا، وهنا أُسقط في يدي، ولم أدرِ بماذا أفسر ما أرى، فلا هو يجري مع دارون في جمع الناس تحت أصل واحد، ولا هو يجري مع مذهب الكاتب الفاضل في تعدد الأصول، بل الأمر فيما أرى يقع وسطًا بين المذهبين، فأي هذه الثلاثة أختار لنفسي رأيًا ومذهبًا؟

ولم تدم حيرتي إلا لحظة قصيرة، ثم استجمعت شجاعتي وقواي، وانتهيت إلى قرار: فلماذا أضعف أمام دارون؟ ولماذا أضعف أمام الكاتب الفاضل صاحب التعديل؟ أليست الحقائق أمامي جهيرة الصوت، لا تدع مجالًا لريب مرتاب؟ أليس «فلان» أمام ناظري، فيه الكلب والنمر في آنٍ معًا؟ ثم أليس «فلان» الآخر فيه الفأر والنمر جنبًا إلى جنب؟ إن سلامة المنطق تقتضي بأنه إذا تعارضت النظرية مع حقائق الواقع فلا مفر من نسخ النظرية استمساكًا بالوقائع المحسوسة، ولا بد عندئذٍ من إعادة التفكير، بحثًا عن نظرية أخرى تتفق مع حقائق الواقع، فلماذا لا أدلي بدلوي في الدلاء، لعله يخرج إلى الناس بقليل من الماء؟ إذن، هاك ما انتهيت إليه:

ليس الناس جميعًا فروعًا من أصل واحد، كلا ولا هم بغير هذا الأصل الواحد، فالناس جميعًا يتفقون في شيء، هو النمر، ثم يختلفون في أشياء، هي شتى صنوف الحيوان، فكل فرد من الناس في جوفه نوع من الحيوان، وإلى جانبه نمر، وهو يبدي من هذين التوءمين، ما يقابل به المواقف على أتم وجه وأوفاه، فقد رأيت «فلانًا» في موقف بذاته كلبًا ذليلًا خافت الصوت خافض البصر، حتى إذا ما سنحت له الفرصة المواتية «تنمر»، وكذلك رأيت «فلانًا» الآخر ذات ساعة فأرًا هزيلًا ضئيلًا رعديدًا جبانًا، حتى إذا ما سنحت له الفرصة أيضًا «تنمر».

هذا النمر الرابض في جلودنا، هو بيت الداء وأس البلاء، لو بعون الله أخرجناه، ومن جذوره اقتلعناه، صلح من أمرنا ما فسد، واستقام من حياتنا ما اعوجَّ، لو أخرجنا من أجوافنا هذا النمر الضاري، لما وجد الكلب منَّا داعيًا أن يذل، ولا الفأر مبررًا أن يجبن، لكن كيف السبيل إلى تحقيق هذه الأمنية، ودونها — فيما يبدو — خرط القتاد؟

مهلًا، مهلًا، فأصعب المسائل قد يزول بأسهل الحلول … فإذا وجدت فيمن معك نمرًا مسلطًا عليك، وأردت القضاء عليه لينزاح عن صدرك الكابوس الذي يقض لك في الليل مضجعك، فالتجويع هو وسيلة القضاء على النمر، إن النمر يتغذى وينمو ويترعرع، كلما أفسحت له أنت من مجال «التنمر»، أما إذا جوَّعت هذا النمر أينما وجدته، خلصت من شره وخلص معك الوطن كله، وعملية التجويع أبسط من البساطة، فكلما بدت عليه علامات «التنمر»، انسحب من غرفته، واتركه وحيدًا بغير غذاء، وعندئذٍ يأكل النمر بعضه حتى يقضي على نفسه القضاء الأخير، فيريح ويستريح.

ذلك ما رأيته وكتبته، أعني جزءًا مما رأيته وما كتبته، بوحي من مقالة المرحوم محمد فريد أبو حديد، ثم دارت الأيام دورتها، مرت أربعون سنة منذ ذلك التاريخ إلى يومي هذا، والمشكلة في صميمها ما زالت هي المشكلة، ظاهر الناس غير باطنهم، الشوارع ملأى بالكذب، لكن الأسلوب اختلف، فتحتم أن يختلف العلاج.

لم يعد في الصدور نمور كالتي كانت منذ أربعين عامًا، وإلا فمن يتنمر على من؟ لقد قوي الضعيف وضعف القوي، تبدلت المحاور، فبعد أن كان لأصحاب الرءوس ما يشبه السلطان على أصحاب الأيدي، تغير الموقف، فارتفعت الأيدي وانخفضت الرءوس، لم يعد — في الحق — أحد يستطيع أن يتنمر على أحد، وهذا في ذاته كسب كبير، لولا أن تبدل لون الحرباء لتتلاءم مع الأرض الجديدة، على غرار ما نقوله عن الاستعمار مثلًا، إذ نقول إنه بعد أن تعذر على المستعمر أن يمارس السيطرة بجيوشه، غيَّر الوسيلة، وجعلها «اقتصادًا»، مما قد نفهم بعضه ولا نفهم بعضه الآخر، ولكن بقي الاستعمار استعمارًا كما كان، وكذلك نقول عن ظاهرة التسلط التي تستبد بنا منذ لا أدري كم ألفًا من السنين، فلكل عصر عندنا وسيلته في التسلط، وكانت الوسيلة «تنمرًا» عندما كنت شابًّا في الثلاثين، ثم أصبح التسلط اليوم شيئًا آخر، لكي يبقى جوهر التسلط قائمًا كما كان.

وصورته في عصرنا هذا صورة غريبة قد تخفى عن الأبصار، وأقرب تشبيه وجدته لها هو «ملاحظ الأنفار»، فليس هدف المتسلط في يومنا هذا، هو أن يكون نمرًا يمزق بأنيابه فرائسه من الضعفاء، وإنما هدفه اليوم هو أن يقوم بدور «ملاحظ الأنفار»، بمعنى أن يعمل العاملون، وهو هناك على رءوسهم يقف ليرى، حتى إذا ما فرغ العاملون من أداء ما اجتمعوا لأدائه، نُسب الفضل للملاحظ الذي وقف وفي يده عصا سحرية، تراها القلوب الراجفة ولا تراها العيون.

«ملاحظ الأنفار» الجديد لا يتنمر كسلفه، بل قد تراه غاية في التهذيب والوداعة ونعومة الحركة، لكنه بارع في التماس طريقة نحو موقع الرئاسة، حيث يجلس مراقبًا متعقبًا، والعاملون من حوله يعملون وينتجون، ليكون هو آخر الأمر صاحب الفضل والمكانة معًا، وفي هذا المجال لا فرق بين عمل وعمل، فقد يكون ملاحظ الأنفار في مكانه التقليدي الذي ألفناه، وهو أن يلاحظ فئة من عُمَّال الزراعة أو من عُمَّال البناء، ولكنه في يومنا هذا قد يرتفع ليكون ملاحظًا على علماء أو أدباء أو نفر من رجال الفن، وفي هذه الحالة ليس المهم أن يكون هو نفسه عالمًا أو أديبًا أو فنانًا، إذ يكفيه أن يلاحظ ويراقب، وبقدرة قادر يصبح هو العالم، وهو الأديب، وهو الفنان، وهو صاحب البلاغة والفصاحة، على أن ملاحظي الأنفار هؤلاء، كثيرًا ما يخدعون أنفسهم لئلا تثور عليهم ضمائرهم، فيوهمون أنفسهم بأن الإدارة في هذا العصر الحديث أمر باتت له أهمية، تضعه في الصف الأول، فماذا يعيب الرجل، إذا هو برع في إدارة الأنفار وتشغيلهم، حتى يستخرج منهم مكنونهم كله؟ إنه في هذا الحالة شبيه بالعالم الذي يعرف كيف يستخرج كنوز الأرض من مناجمها، وحتى لو أضاف الفضل لنفسه آخر الأمر، فذلك حقه؛ لأنه لولاه لما كان ما كان.

إنها مكيافلية من طراز جديد، ومكيافلي — إذا أردت أن تتذكر — سياسي ومؤرخ إيطالي، عاش في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر، وقد ظفر بشهرته فيلسوفًا سياسيًّا، بكتابه «الأمير» الذي ألَّفه وأهداه إلى أمير فلورنسة، وفيه يحلل العوامل التي لا بد من توافرها للأمير، إذا أراد الاحتفاظ لنفسه بالإمارة؛ ولقد كان محور التفكير في هذا الكتاب، هو أن الوسائل تبررها الغايات؛ فكل وسيلة تنتهي بك إلى تحقيق الغاية التي تنشدها، هي فعل مقبول، حتى لقد كان من أقواله في هذا المعنى، قوله: «إن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لا بد له في كثير من الأحيان، أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين.» ولهذا أصبحت كلمة «مكيافلية» تعني في الاستعمال الجاري، الوصول إلى الغاية بأي وسيلة تعين على الوصول، بغض النظر عن موقعها من موازين الأخلاق.

لكن المكيافلية الجديدة عندنا اليوم، والتي أشرت إليها منذ حين، تختلف قليلًا عن النموذج الأول؛ فمن الإنصاف لمواطنينا أن نقول إنهم في سعيهم للوصول، يندر أن يخالفوا الذمة والمروءة والإنسانية والدين، إنهم في الحقيقة أخلاقيون إلى حدٍّ كبير، لكن الذي ينقصهم هو مشاركتهم الأنفار؛ فليس شرطًا لملاحظ الأنفار في البناء أو في تفريغ السفن، أن يكون هو نفسه قادرًا على أن يؤدي هذه أو تلك؛ وكذلك ملاحظو الأنفار في مجالات حياتنا اليومية، بكل أنواعها؛ قد يتربع على عروشها من ليس بالضرورة عليمًا بأسرارها؛ لكنه ملاحظ فقط، وهذا يكفل له — في مقاييسنا — أن تُخلَع عليه الصفات التي لا هي منه ولا هو منها، تمامًا كملاحظ الأنفار.

على أن أنصار المكيافلية الجديدة عندنا يلتقون في نقطة جوهرية مع المكيافلية في نموذجها الأول، وتلك النقطة هي ما أوصى بها مكيافلي أميره، بأن يحرص أشد الحرص على التظاهر بما ليس فيه، مما قد يكون له قوة الجذب عند الجماهير؛ فمثلًا ليس من الضروري أن يكون رحيمًا رقيق القلب في حقيقته، فليعصف بالناس كما شاءت له نزواته ومصالحه الخاصة، شريطة أن يفعل ذلك وهو متستر بقناع من هو رحيم رقيق القلب؛ لأن هذه الصفة هي مما يجذب إليه الجمهور، وليكن في حقيقته بخيلًا مقبوض اليد كيفما شاء، على شرط أن يبدو للناس كريمًا، وهكذا؛ وأظن أن أنصار المكيافلية الجديدة عندنا، لم يَفُتْهم هذا الدرس المفيد؛ فملاحظ الأنفار إذا وجد أنفاره من العلماء، عرف كيف يظهر وكأنه أعلم العلماء؛ وإذا كان أنفاره من رجال الفن، أتقن الظهور بمظهر العليم بأسرار الفن وخفاياه.

قال صاحبي الذي كنت أتحدث معه بهذا كله: كأني بك قد جعلت ظاهرة التسلط، التي تستبد بنا، تظهر عند أصحابها في شكلين مختلفين: ففي المرحلة التي عشتها أنت في شبابك، كانت هي النمور الرابضة بين الضلوع، تنتهز الفرصة لتنقض على الفريسة، وفي هذه المرحلة الراهنة، أخذت شكل «ملاحظي الأنفار» الذين يستمدون مكانتهم من عمل غيرهم، فإذا كنت قد أحسنت فهمك، كانت مصيبتنا في هذه المرحلة أفدح؛ لأن النمور — كما قلت — يمكن تجويعها، وأما ملاحظ الأنفار، فكيف نتقيه؟ يا ليتك استطعت أن تستخدم طريقة التشبيه بالحيوان في هذه الحالة الثانية، كما استخدمتها في الحالة الأولى لعلنا نهتدي.

قلت: إذا استخدمت طريقة التشبيه بالحيوان، أحللت «الثعالب» محل «النمور»؛ فالتسلط هو التسلط في الحالتين، لكنه بينما كان افتراسًا للضحايا عندما كانت الظروف السياسية والاجتماعية تسمح بذلك، نراه اليوم قد أصبح «دهاءً»، وأما العلاج في هذه الحالة فقد نهتدي إليه من الطريقة التي كان يتبعها النبلاء في صيد الثعالب، وهي أن تصحبهم كلاب الصيد، التي تشم رائحة الثعلب وهو على بُعد بعيد، فتتعقبه مهما بلغ خفاؤه في ظلمات الغابة، حتى تعود به قتيلًا، وما دمنا قد ذكرنا الثعالب، فلا بد أن نذكر ما قاله المتنبي عن ثعالب مصر أثناء زيارته لمصر؛ إذ قال ما معناه: إن أعين الحراس في مصر قد غفلت عن ثعالبها، حتى امتلأت بطون تلك الثعالب بالعنب، ومع ذلك فكلما أتت الثعالب على العناقيد الموجودة، أثمرت لها الكروم عناقيد أخرى، وهكذا دواليك، خيرات لا تفنى، وثعالب ما فتئت متربصة تأكل الخيرات، وكأنه لا حراسة ولا حراس.

نظرت إلى الموقف في شبابي، فرأيت نمرًا، واستطعت قتل النمر تجويعًا بإهماله؛ وها أنا ذا أنظر إلى الموقف في شيخوختي، فكأني أرى ثعلبًا، وما زلت حائرًا كيف أتقيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤