أخبار التوحيدي١
ولعل هذا هو السر في أن العرب ظل محصولهم الفلسفي غامضًا؛ لأنهم اضطروا إلى العناية بدرس ما وصل إليهم عن اليونان في إبهام وغموض، وقد واجهت هذه المشكلة وأنا أدرس فلسفة الغزالي، فوصلت بعد الدرس إلى أن الفلاسفة المتفوقين من العرب هم الرجال الذين بنوا فلسفتهم على أساس العقلية العربية، وكان اتصالهم بالفلسفة اليوناية اتصال ثقافة لا اتصال نقل ومحاكاة، وكذلك نجح ابن رشد ونجح الغزالي؛ لأنهما ابتدآ من نقطة مفهومة هي النفس العربية أو الإسلامية، ثم مضيا يتعقبان ما يقضي به العقل أو ما يوحي به الدين، واستطاعا بذلك أن يخلقا الحماسة للفلسفة في البيئات الإسلامية، وأن يخلقا لها ألوفًا مؤلفة من الأصدقاء والأعداء.
سمرنا عند القاضي أبي حامد ليلة ببغداد بدار ابن جيشان بشارع الماديان؛ فتصرف بنا الحديث كل متصرف، وكان والله غزير الرواية، لطيف الدراية، له في كل جو متنفس، وفي كل نار مقتبس، فجرى حديث السقيفة، وتنازع القوم الخلافة، فقال: ركب كلٌّ منَّا فنًّا، وقال قولًا، وعرض بشيء. فقال أبو حامد: هل فيكم من يحفظ رسالة أبي بكر إلى علي وجواب علي له ومبايعته إياه عقيب تلك الرسالة؟
فقال الجماعة: لا، والله! فقال: هي والله من درر الحقائق المصونة، ومخبآت الصناديق المحوطة، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبي في وزارته، فكتبها عني في خلوة بيده، وقال: لا أعرف في الأرض رسالة أعقل منها ولا أبين، وإنها لتدل على علم وحلم، وفصاحة وفقاهة وبعد غور، وشدة غوص. فقال له واحد من القوم: أيها القاضي، فلو أتممت المنة علينا بروايتها؛ سمعناها ورويناها عنك، فنحن أوعى لها من المهلبي وأوجب ذمامًا عليك … إلخ.
وحديث السقيفة حديث ممتع، والذي يهمنا قبل تحليله هو إيراد ما كتبه ابن أبي الحديد في التعقيب عليه؛ لأن لذلك أهمية عظيمة في إعطاء ما نحن بصدده من إنشاء القصص التاريخي صبغة واقعية، ويتلخص نقد ابن أبي الحديد في أن حديث السقيفة هذا شبيه بكلام التوحيدي ومذهبه في الخطابة والبلاغة، وأن خطب عمر وأبي بكر ورسائلهما خالية من البديع ومن صناعة المحدثين الظاهرة في ذلك الحديث، وأن الذي يتأمل كلام التوحيدي يعرف أن ذلك الحديث خرج من معدته، ويدل عليه أنه أسنده إلى القاضي أبي حامد المروزي، وهذه عادته في كتابه «البصائر» يسند إلى أبي حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه إذا كان كارهًا لأن ينسب إليه.
امضِ إلى عليٍّ واخفض له جناحك، واغضض عنده صوتك، واعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانهُ ممن فقدناه بالأمس ﷺ مكانهُ. وقل له: البحر مغرقة، والبر مفرقة، والجو أكلف، والليل أغدف، والسماء جلواء، والأرض صلعاء، والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق عطوف رءوف، والباطل عنوف عسوف، والعجب قداحة الشر، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والقحة ثقوب العداوة. وهذا الشيطان متكئ على شمله، متحيل بيمينه، نافخ خصييه لأهله، ينتظر الشتات والفرقة، ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة … يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويمني أهل الشرور … ولا بد الآن من قول ينفع إذا أضر السكوت وخيف غبه، ولقد أرشدك من آفاء ضالتك، وصافاك من أحيا مودته بعتابك، وأراد لك الخير من آثر البقاء معك.
ما هذا الذي تسوَّل لك نفسك، ويدوي به قلبك، ويلتوي عليه رأيك، ويتخاوص دونه طرفك، ويسري فيه ظعنك، ويتراد معه نفسك، وتكثر عنده صعداؤك، ولا يفيض به لسانك؟ أعجمة بعد إفصاح؟! أتلبيس بعد إيضاح؟! أدين غير دين الله؟! أخُلُق غير خُلق القرآن؟! … إنك والله جد عارف باستجابتنا لله عز وجل ولرسوله ﷺ، وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبتنا، هجرة لله عز وجل، ونصرة لدينه، في زمان أنت فيه في كِنِّ الصبا، وخدر الغرارة، وعنفوان الشبيبة، غافل عما يشيب ويريب، لا تعي ما يراد ويشاد، ولا تحصل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها عدل بك، وعندها حط رحلك، غير مجهول القدر، ولا مجحود الفضل.
ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالًا تزيل الرواسي، ونقاسي أهوالًا تشيب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيارها، نتجرع صعابها، ونُشرِج عِيابها، ونحكم أساسها، ونبرم أمراسها، والعيون تحدج بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفاه تشحذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، ولا ننتظر عند المساء صباحًا، ولا عند الصباح مساء، ولا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ مرادًا إلا بعد الإياس من الحياة عنده … إلخ.
وهناك صفحة في غاية الجودة كتبت على لسان عمر — رضي الله عنه، أوصى أبا عبيدة أن يواجه بها عليًّا — كرم الله وجهه — وصفحة أخرى خاطب بها عمر عليًّا حين تلاقيا بعد البيعة، وهذه وتلك من آيات النثر الفني.
والحديث طويل، ولا حاجة إلى الإفاضة في تحليله، فليرجع إليه القارئ إن شاء.