الفصل السابع عشر

عبد العزيز بن يوسف

كان أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف — كما وصفه الثعالبي — «أحد صدور المشرق، وفرسان المنطق.»١ وكان مع تقلده ديوان الرسائل لعضد الدولة طول أيامه معدودًا في وزرائه، وخواص ندمائه، وتقلد الوزارة بعده لأبنائه.٢ وكان الصاحب بن عباد يقول: كتَّاب الدنيا أربعة؛ الأستاذ ابن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي، ولو شئت لذكرت الرابع، يعني نفسه.٣

وجملة أخباره تدل على أنه كان في زمانه من أعلام الكُتاب.

ويظهر مما أثر من أخلاقه أنه كان رجلًا كريم النفس، وقد شفع لأبي إسحاق الصابي عند عضد الدولة في ساعة غضب، وتفصيل ذلك أن قومًا سعوا لإخراج الصابي من السجن، فقال عضد الدولة: «قد سوغتُه نفسه، فإن عمل كتابًا في مآثرنا وتاريخنا أطلقته.» فشرع الصابي في محبسه في تأليف كتاب في أخبار بني بويه، وقيل: إن بعض أصدقائه دخل عليه الحبس وهو في تبييض الكتاب وتسويده فسأله عما يعمله فقال: «أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها.» فخرج الرجل وأنهى ذلك إلى عضد الدولة — ودسائس الأصدقاء كثيرة يعانيها الأحرار في جميع الأزمان! — فأمر عضد الدولة بإلقاء الصابي تحت أرجل الفيلة، فأكب أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف ونصر بن هارون على الأرض يقبلانها ويشفعون إليه في أمره حتى أمر باستحيائه.٤
والظاهر أن صلته بالصاحب والصابي كانت صلة وداد، ورسائله إلى الصاحب كثيرة، ولكن تغلب عليها صفة تردد المشوب بالتملق.٥ أما رسائله إلى الصابي فتفيض بالعطف والحنان.
وانظر هذه الرسالة:
وصل كتاب مولاي ما قرب إليَّ جناه، وبعد عليَّ مداه، من محاسن لفظه ونظمه، ومبارَّه التي ما يزال يؤثرني فيها بالرغائب، ويصفيني منها بالعقائل، فوقفت منه بين اعتبار واقتباس، واعتذار واغتباط، واستبصار في موضع الفضيلة، وشكر لما جمع الله لي في وده من المنح الجزيلة، ووجدت خطابه مفتتحًا بشكوى الأيام في انحرافها، ومكاره أحداثها، فاستوحشت منها لاستيحاشه، واستعديت عليها لاستعدائه، وشايعت المهجنين لآثارها، والزارين على أحكامها، لاعتراضها دون آماله، وقدحها في أحواله، ولم يستبق الجمال لنفسه والفضل لأهله، دهرٌ أناخ على مولاي بصرفه، واختزله دون واجب حقه.٦

وتمتاز رسائله في الإحوانيات بترصيعها بحبات شعره، فقد ابتدأ إحدى رسائله إلى الصاحب بهذه الأبيات:

كتاب لو أن الليل يرمي بمثله
لألقت يدًا في حجرتيه ذُكاءُ
تهادي بأبكار المعاني وعونها
وأعيان لفظ من لهن كفاء
شواهد لولا أنهن أوالف
ضرائر إلا أنهن سواء
لبسنا بها نعمي وألبست الربا
خمائل روض جادهن سماء
بنان ابن عباد تعلين نوءه
وما صوبه إلا حيا وحباء
وثلاث٧ كتب تناظرت في الحسن والإحسان، وتقابلت في البر والإنعام، لا زالت أياديه قلائد الأعناق، ومراميه مضامير السباق، ولا انفكت عين الله حامية له وكافلة به.٨
ويظهر أن الصابي كان كذلك يرصع رسائله بالشعر بدليل قول أبي القاسم من رسالة ثانية:
وقفت على الأبيات التي أتحفني بها سيدي، وتكلفت لجوابها على ظلع في خاطري لطول السفار، واتصال حالي بالحل والترحال، ومولاي يأخذ العفو ويرضى بالميسور، ويعذر مستأنفًا على التقصير في جواب ما يأتيني من أمثاله، ما دمنا في ملكة الهواجر، وتعب البُكر والأصائل.٩
ومن الفنون البارزة عند أبي القاسم وصف الرسائل الإخوانية؛ كقوله في وصف رسالة الصابي:
عرفت كيف تنتظم فرق البلاغة، وتلتقي طرف الخطابة، وتتراءى أشخاص البيان، وتتمايل أعطاف الحسن والإحسان، وقرأت لفظًا جليًّا، حوى معنى خفيًّا، وكلامًا قريبًا، رمى غرضًا بعيدًا، وفصولًا متباينة كساها الائتلاف صور المشاكلة، ومنحها الامتزاج صيغة المضارعة، ولحمة الموافقة، فصارت لدلالة الأول منها على الثاني، وتعلق العجز فيها بالهادي، أولاد أرحام مبرورة، وذوات قربى موصولة، تتعاطف عيونها، وتتناصف أبكارها وعونها.١٠
وعند تأمل رسائله نجده يحسن الوصف؛ كقوله من كتاب له إلى الصاحب في فتح عمان وإبادة الزنوج بها، وما وصل إلى عضد الدولة من المغانم:

… وكانت لأولئك الكفرة عادة اشتهرت منهم في استباحة الناس وأكل لحومهم، وبلغ من كلَبهم على ذلك أنهم كانوا يتنقلون بينهم إذا شربوا بأكف الناس، وسأل مولاي عن هذا النقل الغريب فحكى لي عنهم أنه لا شيء في الإنسان ألذ من كفه وبنانه، وكان في ذلك اليوم الذي شارف فيه الطلائع العسكر المنصور باب عمان ثار من بعض المكامن طوائف من أولئك الكلاب، فكبا ببعض الغلمان دابته فاختلسوه واقتسموه بينهم وأكلوه في الوقت، وتعجب الناس من ضراوتهم وقساوتهم، وقد أبادهم الله تعالى جده، وطهر البر والبحر من عبثهم ومعرتهم، فانقاد أهل عمان باخعين بالطاعة، معتصمين بذمة الجماعة، وتمت نعمة الله على مولانا في هذا الفتح، وكملت له مغانم الأجر، ووصل أمر غنائم تلك الناحية وفيها فيل صغير بقد الفرس ما عرف ألطف ولا أظرف منه، وفي الغنائم كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، والله تعالى يجني مولانا ثمار الأرض برًّا وبحرًا، وسهلًا وجبلًا، بمنه وكرمه، آمين.

وكانت له بحكم منصبه جولات في الرسائل السلطانية، نذكر منها قوله من كتاب عن الطائع لله إلى ركن الدولة لما ورد عضد الدولة العراق:
فأنت وعضد الدولة — كلأكما الله! — يد أمير المؤمنين فيما يأخذ ويذر، وناظراه فيما يقرب ويبعد، بكما افترش مهاد الملك بعد إقضاضه، ورفع منار الدين بعد انخفاضه، فأبشرا من الله تعالى بالحسنى، إن الله لا يضيع أجر المحسنين.١١
ومن كتاب عن عضد الدولة في عود الطائع إلى بغداد والتقائه معه:١٢

ولما ورد أمير المؤمنين بالنهروان أنعم بالإذن لنا في تلقيه على الماء، فامتثلناه وتقبلناه وتلقانا من عوائد كرمه، ونفحات شيمه، والمخائل الواعدة بجميل آرائه، وعواطف أنحائه، ورعاية ما كنفنا يمنه، وشايعنا عزه، إلى أن وصلنا إلى حضرته البهية في الجديدية، التي استقبلت منه بسليل الملك، وقعيد الخلافة، وسيد الأنام، والمستنزل بوجهه در الغمام، فتكفأت علينا ظلال نوره وبشره، وغزتنا جهات تفضله وفضله، وقرب علينا سنن خدمته، وأنالنا شرف القعود بين يديه، على كرسي أمر بنصبه لنا عن يمينه، وأمام دسته، وأوسعنا من جميل لقياه، وكريم نجواه، ما يسم بالعز أغفال النعم، ويضمن الشرف في النفس والعقب، ويكفل من الفوز في الدين والدنيا بغايات الأمل، وكان لنا في الوصول إليه، والقعود بين يديه، في مواقع ألحاظه، وموارد ألفاظه — مراتبُ لم يعطها أحد فيما سلف، ولم تجد الأيام بمثلها لمن تقدم.

وليس بين أيدينا من أخباره ورسائله ما يعطينا صورة صحيحة من نفسه وأخلاقه، والذي يمكن الجزم به أنه كان دقيق العبارة، رصين الأسلوب، وإلى القارئ هذه الكلمات مقتبسة من رسائله القليلة التي أعفاها الزمان من الضياع:

«وأجنهم الليل فادرعوه مقتادين بخزائم أنوفهم إلى مصارع حتوفهم.»

«سار إلى سدة دار الخلافة والسعود تشايعه، والميامن تواكبه، وطلائع الآمال تشرف عليه، وثغر الإسلام يبتسم إليه.»

«وقد كان الغضنفر بن حمدان حين نفضته المذاهب، ولفظته المهارب، وأقلقته عن مجاثمه المكايد والكتائب، تطوع إلى بلاد الشام يتنقل بين مصارع يحسبها مراتع، ومجاهل يعدها معالم، يروم انتعاشًا والجد خاذله، ويبغي انتياشًا والبغي طالبه.»

«ولما ضاق عن هذا المخذول حلمنا باتساع غوايته، ووعر الطريق إلى استبقائه، استخرنا الله تعالى في استرجاع ما لبسناه من النعم.»

«إن الله سائلك عن الخطرة والخطفة، واللحظة واللفظة.»

«ادرعْ من ثوب عفافك، ما يشمل كافة أطرافك.»

«احذروا أن ينقلكم الله بأقدامكم، إلى مصارع حمامكم.»

«التقوى هي العدة الوافية، والجنة الواقية، والتجارة الرابحة، والسعادة السانحة، والجلاء للشبهة، والضياء للغمة.»

«سيعيض الله من حرّ الهواجر برد الظلال، ومن قلق الركاب نجح الإياب.»

«أيقظوا قلوبكم من سنة الخواطر، واحبسوا ألحاظكم عن محظور المناظر.»

هوامش

(١) اليتيمة (٢ / ٧٦).
(٢) اليتيمة (٢ / ٨٧).
(٣) ياقوت (١ / ٢٣٨).
(٤) ياقوت (١ / ٣٢٥).
(٥) راجع: هذه الرسائل في اليتيمة (٢ / ٩٢–٩٤).
(٦) اليتيمة (٢ / ٩٤).
(٧) معطوف على (حيا وحباء) وبذلك يتبين القارئ مهارة الكاتب في الشعر بالنثر في سياق واحد.
(٨) اليتيمة (٢ / ٩١).
(٩) ص٩٢.
(١٠) ص٩٣.
(١١) ص٨٧.
(١٢) ص٨٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤