الفصل الثاني

نثر ابن العميد

كان رجال القرن الرابع يقولون: «بدئت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد.»١ وهي مبالغة تذكر بما قيل في ذلك العهد: «بدئ الشعر بملك وختم بملك» يريدون أنه بدئ بامرئ القيس وختم بأبي فراس. وهذه وتلك من المبالغات التي تجري على ألسنة المتزلفين من الحواشي والأتباع، فقد كان لابن العميد أشياع يقولون بإمامته في النثر، كما كان لأبي فراس أشياع يقولون بإمامته في الشعر، وكلتا الكلمتين على ما فيهما من مبالغة ظاهرة ترجعان إلى أصل من الحق أصيل؛ فقد كان ابن العميد وأبو فراس من أفذاذ الرجال، ولكل منهما روح قوي قهار يعز على من رامه ويطول.

والقارئ يعرف أننا ننكر أن تكون الكتابة بدئت بعبد الحميد، ولكننا لا ننكر أن عبد الحميد كان إمامًا لأهل عصره، وأنه أدخل في الكتابة أساليب وتعابير وتقاليد لم يكن يعرفها الأولون، وكذلك كان ابن العميد إمامًا لكُتاب القرن الرابع، وما نظن أنه أدخل في فنون الكتابة ما أدخله عبد الحميد، ولكنه يمتاز بميزة عجيبة؛ هي إعزاز القلم ورفعه إلى أشرف الدرجات، فإننا حين نقرأ نثره نجد أنفسنا أمام عظمة عقلية يخر لها الجبابرة ساجدين، وهو حين يكتب لا يطالعك بفنه، كما كان يفعل معاصروه، وإنما يطالعك بقلبه وروحه وعقله بحيث تبدو كل كلمة من كلماته وكأنها قلب يخفق أو روح يثور.

فليست الكتابة عند ابن العميد زخرفًا براقًا يلهو به، ولا ثروة لغوية يكاثر بها الكُتاب، ولكن الكتابة عنده ثورة عقلية أو وجدانية يرمي بها كما يرمي البركان بأقباس الهلاك، وقد يرق فتحسب نثره نجوى حبيبين في هدأة الليل، وهو في رقته وجزالته، وغضبه وحنانه، عبقري لا يعبث برجع الحديث المعاد، وإنما يجد بإبداع الرأي الصائب والقول الرصين.

لم تصل إلينا مجموعة الرسائل التي حفظت عن ابن العميد، ولكن بقيت منها شواهد تعطي عن نثره فكرة قريبة من الصواب، ونثره باعتبار موضوعاته يرجع إلى فنين:
  • الأول: رسائله الرسمية التي كتبها بصفته وزيرًا لركن الدولة.
  • والثاني: رسائله الشخصية التي عبر فيها عن ذات نفسه وهو يراسل أصدقاءه وأحبابه.
ولكل من الفنين في نثره لون خاص، ولنسارع فنقرر أن الرسائل التي كتبها على لسان ركن الدولة ليست كالرسائل التي كتبها الصابي مثلًا على لسان بعض الخلفاء والوزراء، لا، فإن ابن العميد حين يتكلم عن مليكه يتكلم بقوة وحرية، ويعبر عن إرادته الذاتية أكثر مما يعبر عمن يكتب باسمه، ويرجع ذلك إلى أن ابن العميد كان كل شيء في الملك الذي يسيطر عليه باسم ركن الدولة، وكان إلى جانب هذا مخلصًا قويًّا يحول مشاكل الحكم عند أمثاله من الوزراء إلى معضلات شخصية تثور لها نفس الوزير قبل أن يحس بها صاحب التاج. ولننظر كيف يخاطب بعض الخوارج على ركن الدولة فلا ندري أيرمي عن غضب أم يصدر عن عقل:

كتابي وأنا مترجح بين طمع فيك، ويأس منك، وإقبال عليك، وإعراض عنك، فإنك تدل بسابق حرمة، وتمت بسالف خدمة، أيسرهما يوجب رعاية، ويقتضي محافظة وعناية، ثم تشفعهما بحادث غلول وخيانة، وتتبعها بأنف خلاف ومعصية، وأدنى ذلك يحبط أعمالك، ويمحق كل ما يرعى لك، ولا جرم أني وقفت بين ميل إليك، وميل عليك، أقدم رجْلًا لصدمك، وأخرى عن قصدك، وأبسط يدًا لاصطلامك واجتياحك، وأثني ثانية لاستبقائك واستصلاحك، فقد يغرب العقل ثم يئوب، ويعزب اللب ثم يثوب، ويذهب الحزم ثم يعود، ويفسد العزم ثم يصلح، ويضاع الرأي ثم يستدرك، ويسكر المرء ثم يصحو، ويكدر الماء ثم يصفو.

وفي هذه المقدمة يرى القارئ كيف يتلطف ابن العميد فيستدرج ذلك العاصي ويقفه موقف المتردد بين يومه وأمسه، وحاضره وماضيه، ثم يعرض عليه وجوه حاليه في الطاعة والعصيان فيقول:

وزعمت أنك في طرف من الطاعة بعد أن كنت متوسطها، وإذا كنت كذلك فقد عرفت حاليها، وحلبت شطريها، فنشدتك الله إلا ما صدقتني عما سألتك: كيف وجدت ما زلت عنه، وكيف تجد ما صرت إليه؟ ألم تكن من الأول في ظل ظليل، ونسيم عليل، وريح بليل، وغذاء غذي، وماء روي، ومهاد وطي، وكن كنين، ومكان مكين، وحصن حصين، عززت به بعد الذلة، وكثرت به بعد القلة، وارتفعت بعد الضعة، وأيسرت بعد المعسرة، وأثريت بعد المتربة؟ ففيم أنت الآن من الأمر؟ وما العوض عما عددت، والخلف مما وصفت، وما استفدت حين أخرجت من الطاعة نفسك، ونفضت منها كفك، وغمست في خلافها يدك؟ وما الذي أظلك بعد انحسار ظلها عنك؟ أظلٌّ ذو ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني عن اللهب؟ قل نعم كذلك!

وابن العميد يعرف قوة نفسه، وبأس قلمه، ولذلك يقول وقد بلغ هذه النقطة من الخطاب: «تأمل حالك وقد بلغت هذا الفصل من كتابي فستنكرها، والمس جسدك وانظر هل يحس؟ واجسس عرقك هل ينبض؟ وفتش ما حنا عليك هل تجد في عرضها قلبك؟ وهل حلي بصدرك أن تظفر بفوت سريح، أو موت مريح؟»٢

وهذا النمط من الكتابة القوية يمثل قدر البلاغة في أنفس الناس لذلك العهد؛ فهم يرون رسائل التهديد والوعيد طلائع من الأقلام تتقدم طلائع السيوف، وهذا في الواقع متابعة موفقة لذلك العرف الذي سنه كتاب الدولة الأموية وأقره كتاب الدولة العباسية، وهو أسلوب في الدعاية كان يجري عن طريق الرسائل كما تجري الدعاية اليوم عن طريق الصحف السياسية، والدنيا هي الدنيا والناس هم الناس، وإن تغيرت طرائق التخويف والترهيب وفقًا لتغير وسائل النشر والتبليغ.

أما رسائل الشخصية فهي فن من الشعر الوجداني البليغ، هي قصائد منثورة في موضوعات شعرية ما كان يصلح لها غير القصيد، وأظهر ما كتب فيه ابن العميد من الوجدانيات هو العتاب، ولكن أي عتاب! إن الرجل يتحدث اليوم عن مشاعرنا وعواطفنا وبيننا وبينه عشرة قرون. لقد كان هذا الرجل يفهم الصداقة فهمًا دقيقًا جدًّا، والظاهر أنها كانت تتحول في قلبه إلى عشق؛ لأنه في عتابه يتنفس عن قلب العاشق أضعاف ما يتنفس عن روح الصديق، وهو في عتابه مختلف الأشجان والنوازع، فله أوقات يثور فيها ثورة جارفة فيرمي بإخاء من يعاتب في جحيم النسيان، كقوله وقد مزج بين العتب والهجاء:
وقد ندمت … ولكن أي ساعة مندم! بعد إفناء الزمان في ابتدائك، وتصفحي حالات الدهر في اختيارك، وبعد تضييع ما غرسته، ونقض ما أسسته، فإن الوداد غرس إذا لم يصادف ثرى ثريًّا، وجوًا غذيًّا، وماء رويًّا، لم يرج زكاؤه، ولم يجر ماؤه، ولم تتفتح أزهاره، ولم تجن ثماره، وليت شعري كيف ملك الضلال قيادي حتى أشكل عليَّ ما يحتاج إليه الممزوجان ولا يستغني عنه المتآلفان، وهي ممازجة طبع، وموافقة شكل وخلق، ومطابقة خيم وخلق، وما وصلتنا حال جمعتنا على ائتلاف، وحمتنا من اختلاف، ونحن في طرفي ضدين، وبين أمرين متباعدين، وإذا حصلت الأمر وجدت ما بيننا من البعاد أكثر مما بين الزهاد والنجاد، وأبعد مما بين البياض والسواد، وأيسر ما بيننا من النفار، وأقل ما بيننا من النضار، وأكثر مما بين الليل والنهار، والإعلان والإسرار.٣
وهذه قطعة من رسالة طويلة يعاتب بها أبا عبد الله الطبري، ولا يتوهمن القارئ أن هذه العبارات الجافية تدل على أن ابن العميد خلص قلبه من علاقات ذلك الصديق، هيهات! فنحن نعرف ما تشير إليه أمثال هذه الثورات، فإن المرء لا يغضب مثل هذا الغضب الأسود إلا حين يهاجم من لا يستطيع الخلاص من أسر وداده، ودليل ذلك أننا نراه يعاتبه في الرسالة نفسها معاتبة المغلوب فيقول:
ولو بقيت من الصبر بقية لسلوت، ولو وجدت في أثناء وجدي مخرجًا يتخلله تجلد لأمسكت، فقديمًا لبست الصديق على علاته، وصفحت له عن هناته، ولكني مغلوب على العزاء مأخوذ على عاداتي في الإغضاء، فقد سل من جفائك ما ترك احتمالي جفاء، وذهب في نفسي من ظلمك ما أنزف حلمي فجعله هباء، وتولى عليَّ قبح فعلك في هجر يستمر على نسق، وصد مطرد متسق، ما لو فض على الورى وأفيض على البشر لامتلأت صدورهم … إلخ.٤
وكان ابن العميد — فيما يظهر — موصول القلب بأبي عبد الله الطبري هذا، وقد غالب نفسه في وداده أعنف مبالغة، واستطاع أخيرًا أن يتوهم أنه تعزى عنه فكتب إليه في جواب خطاب:
وصل كتابك فصادفني قريب العهد بانطلاق من عنت الفراق، ووافقنى مستريح الأعضاء والجوانح من جوى الاشتياق، فإن الدهر جرى على حكمه المألوف في تحويل الأحوال، ومضى على رسمه المعروف في تبديل الأشكال، وأعتقني من مخالتك عتقًا لا تستحق به ولاء، وأبرأني من عهدتك براءة لا تستوجب دركًا ولا استثناء، ونزع من عنقي ربقة الذل في إخائك، بيدي جفائك، ورش على ما كان يضطرم في ضميري من نيران الشوق بالسلو، وشن على ما كان يتلهب في صدري من الوجد ماء اليأس، ومسح أعشار قلبي فلأم فطوري بجميل الصبر، وشعب أفلاذ كبدي فلاحم صدوعها بحسن العزاء، وتغلغل في مسالك أنفاسي فعوض عن النزاع إليك نزوعًا عنك، ومن الذهاب فيك رجوعًا دونك، وكشف عن عيني ضبابات ما ألقاه الهوى على بصري، ورفع عني غيابات ما سدله الشك دون نظري، حتى حذر النقاب عن صفحات شيمك، وسفر عن وجود خليقتك، فلم أجد إلا منكرًا، ولم ألق إلا مستنكرًا، فوليت منهم فرارًا وملئت رعبًا، فاذهب فقد ألقيت حبلك على غاربك، ورددت إليك ذمم عهدك.٥

أليس هذه قصيدة رثاء يسكب دمعها على جدث الود المفقود؟ إن الناقد ليرى ابن العميد اقتبس أكثر معانيه في هذه الرسالة من روائع الشعر القديم، ولكن لينظر منصفًا كيف اتصلت هذه المعاني بنفسه أشد اتصال، وكيف جرت على أسلة قلمه وكأنها فيض الفطرة وجود الطبع، حتى ليخفي ما طرزت به حواشيها من آثار الاقتباس.

ولكن ابن العميد لا يستطيع في كل مرة أن يلقي حبل من يود على غاربه ويرد إليه ذمم عهده، فليس القلب في كل لحظة بمطواع حتى يزهد في كل نافر صدوف، وكذلك نجد ابن العميد على قوة نفسه وسعة ماله ورفعة جاهه يقف وقفة الخاشع الذليل فيعاتب بعض إخوانه بمثل هذا الكلام:
ما هذا التغالي بنفسك، والتعالي على صديقك! ولم نبذتني نبذ النواة، وطرحتني طرح القذاة، ولم تلفظني من فيك، وتمجني من حلقك، وأنا الحلال الحلو والبارد العذب، وكيف لا تخطرني ببالك خطرة، وتصيرني من أشغالك مرة، فترسل سلامًا إن لم تتجشم مكاتبة، وتذكرني فيمن تذكر إن لم تكن مخاطبة، وأحسب كتابي سيرد عليك فتنكره حتى تتثبت، ولا تجمع بين اسم كاتبه وتصور شخصه حتى تتذكر، فقد صرت عندك ممن محا النسيان صورته من صدرك، واسمه من صحيفة حفظك، ولعلك أيضًا تتعجب من طمعي فيك وقد توليت، واستمالتي لك وقد تأبيت، ولا عجب فقد يتفجر الضخر بالماء الزلال، ويلين من هو أقسى منك قلبًا فيعود إلى الوصال، وآخر ما أقوله: إن ودي وقفٌ عليك، وحبسٌ في سبيلك، ومتى عدت إليه وجدته غضًّا طريًّا، فجربه في المعاودة، فإنه في العود أحمد.٦

ولعل القارئ يسأل: أتصدر أمثال هذه المكاتبات الرقيقة عن وزير؟ ونجيبه بأننا نرجح أنه كتب أمثال هذه الرسائل الغضة في صباه، على أننا لا نستكثر أن تصدر عنه وهو وزير، فللوزراء كسائر الناس جوانب وجدانية تلقي على حياتهم ظلالًا من الرفق والحنان، خصوصًا إذا تذكرنا أن كلمة «وزير» كان يلحظ فيها دائمًا معنى «كاتب»، وكان الإبداع في الكتابة من المؤهلات السياسية في الوصول إلى مناصب الوزراء.

ومما يؤيد ما ذهبنا إليه أن ابن العميد كتب إلى عبد الله الطبري كتاب نصح يدل على معرفة وبصر بشئون السياسة، كتبه حتمًا بعد أن اتصل بالملوك والرؤساء. والطبري هذا هو صديقه الذي حدثناك آنفًا عن معاتبته إياه في نفحات وجدانية تنم عن ود رقيق، وفي هذا ما يشعر بأنه ما كان يتورع وهو في أوج مجده عن بث نوازع القلب والوجدان.

وإنه ليشرح لصديقه ما يجب أن يتحلى به في الحياة الرسمية فيقول بعد تمهيد:
واركب في الخدمة طريقة تبعدك عن الملال، وتوسطك في الحضور بين الإكثار والإقلال، ولا تسترسل إلى حسن القبول كل الاسترسال، فلأن تدعى من بعيد خيرٌ من أن تقصى من قريب، وليكن كلامك جوابًا تتحرر فيه الخطل والإسهاب … ولا يستفزك طرب الكلام على ما يفسد تمييزك، والشفاعة لا تعرض لها فإنها مخلقة للجاه، فإن اضطررت إليها فلا تهجم عليها حتى تعرف موقعها، وتحصل وزنها، وتطالع موضعها، فإن وجدت النفس بالإجابة سمحة، وإلى الإسعاف هشة، فأظهر ما في نفسك غير محقق، ولا توهم أن عليك في الرد ما يوحشك، ولا في المنع ما يغيظك، وليكن انطلاق وجهك إذا دفعت عن حاجتك أكثر منه عند نجاحها على يدك، ليخف كلامك ولا يثقل على سامعه منك.٧
وهذا الصديق الذي يوصيه ابن العميد بالرفق في مصاحبة الأمراء والرؤساء هو نفسه الذي وصفه بالبعد عن الأواصر الغريزية التي توجب المودة؛ من ممازجة الطبع، وموافقة الشكل، ومطابقة الخلق، وتلك — كما قلنا — علالة يوهم بها ابن العميد قلبه أنه خلا من ود ذلك الصديق، وإلا فقد رأيناه في كلمة ثانية يذكر أنه صنو نفسه فيقول:
لكن ما بقي أن يصفو لي عيش مع بعدي عنك، ويخلو ذرعي مع خلوي منك، ويسوغ لي مطعم أو مشرب مع انفرادي دونك، وكيف أطمع في ذلك وأنت جزء من نفسي، ناظم لشمل أنسي، وقد عدمت رؤيتك، وحرمت مشاهدتك، وهل تسكن نفس متشعبة ذات انقسام، وينفع أنس ميت بلا نظام؟٨

ومما امتاز به ابن العميد إجادة الرسائل الإخوانية، وهو فن برع فيه كتاب القرن الرابع وصيروه سنة يجري عليها الأصفياء والألاف، وقد تأملت فرأيت معاني ابن العميد صارت وردًا سائغًا لمعاصريه؛ كالميكالي والببغاء وبديع الزمان، وليس غريبًا أن يصير قدوة في هذا الباب؛ فقد كان له بين ضلوعه قلب وفي أمين، وكان يتحدث في الصداقات والمودات عن ود صادق ووفاء صريح، وقد كنا نعجب لخيال ابن زيدون إذ يقول:

يدني مزارك حين شط به النوى
وهم أكاد به أقبل فاك
حتى رأيناه ممثلًا أوضح تمثيل في قول ابن العميد:
قد قرب — أيدك الله — محلك على تراخيه، وتصاقب مستقرك على تنائيه؛ لأن الشوق يمثلك، والذكر يخيلك، فنحن في الظاهر على افتراق، وفي الباطن على تلاق، وفي التسمية متباينون، وفي المعنى متواصلون، ولئن تفارقت الأشباح، لقد تعانقت الأرواح.٩
وهو معنى جيد انتهبه الببغا في إحدى رسائله الإخوانية.١٠
ولا يقف ابن العميد في ملاطفة إخوانه عند هذا الحد، بل يتأنق في وصف كتبهم إليه فيقرظها في حنان أشبه بالنسيب؛ كقوله في وصف خطاب وصل إليه من أحد الأصدقاء:

وصل كتابك الذي وصلت جناحه بفنون صلاتك وتفقدك، وضرب برك وتعهدك، فارتحت لكل ما أوليت، وابتهجت بجميع ما أهديت، وأضفت إحسانك في كل فصل إلى نظائره التي وكلت بها ذكري، ووقفت عليها شكري، وتأملت النظم فملكني العجب به، وبهرني التعجب منه، وقد رمت أن أجري على العادة في تشبيهه بمستحسن من زهر جني، وحلل وحلي، وشذور الفرائد في نحور الخرائد:

والعذارى غدون في الحلل البيض
وقد رحن في الخطوط السود
فلم أره لشيء عدلًا، ولا أرضى ما عددته له مثلًا، والله يزيدك من فضله، ولا يخليك من إحسانه، ويلهمك من بر إخوانك ما تتم به صنيعك لديهم، ويرب معه إحسانك إليهم.١١
وقد يغلب على أمره فيختم خطابه بكلمة نعرف منها صراحة أن إعجابه بالمكتوب صورة لإعزازه للكاتب، كقوله في خاتمة خطاب:
وقد قرأت كتابك — جعلني الله فداءك — فامتلأت سرورًا بملاحظة خطك، وتأمل تصرفك في لفظك، وما أقرظهما فكل خصالك مقرظ عندي، وما أمدحهما فكل أمرك ممدوح في ضميري وعقدي، وأرجو أن تكون حقيقة أمرك موافقة لتقديري فيك، فإن كان كذلك وإلا فقد غطى هواك وما ألقي على بصري.١٢

هذا؛ ولابن العميد رسائل في الحب تضارع في روعتها قصائد التشبيب، وتتصل برسائله الإخوانية أوثق اتصال، وله في التهاني رسائل تغلب عليها الصنعة، ولكنها كأكثر نثره قوية محكمة تدل على صاحبها وتذكر بأدبه البارع واطِّلاعه على ما أنشأ الأقدمون من أفانين البيان، وما نحسب معاصريه أسرفوا في مجاملته حين لقبوه بالأستاذ الرئيس.

هوامش

(١) يتيمة الدهر (٣ / ٣).
(٢) راجع: بقية الرسالة في اليتيمة (٣ / ١٢).
(٣) زهر الآداب (٣ / ٢٣٨).
(٤) زهر الآداب (٣ / ٢٣٥).
(٥) زهر الآداب (٣ / ٢٣٤).
(٦) زهر الآداب (٣ / ٢٤٥).
(٧) زهر الآداب (٤ / ١٣٠).
(٨) (٤ / ١٨٠).
(٩) زهر الآداب (٣ / ١٨٧).
(١٠) انظر: صبح الأعشى (٩ / ١٤٤).
(١١) (١ / ١١٢).
(١٢) زهر الآداب (٤ / ١٨٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤