الفصل التاسع

قابوس بن وشمكير

في سنة ١٣٤١ﻫ نشرت المطبعة السلفية كتابًا صغيرًا اسمه «كمال البلاغة» على نفقة المكتبة العربية ببغداد، فمن الواجب في رأس هذا البحث أن نسدي الشكر لحضرتي الفاضلين نعمان الأعظمي ومحب الدين الخطيب على عنايتهما بإحياء هذا السفر النفيس.

وكمال البلاغة هذا مجموعة صغيرة من رسائل شمس المعالي قابوس بن وشمكير المتوفى سنة ٤٩٣، أما قابوس بن وشمكير فشخصية جذابة شغلت أرفع مكان بين كُتاب القرن، وسار ذكرها بين أدباء الأندلس حتى عده ابن شهيد ضريعًا لبديع الزمان. وهو ملك من ملوك الديلم على جرجان وطبرستان، قام بأعباء الملك سنة ٣٦٦، ولقبه الخليفة الطائع لله «شمس المعالي» ولكن فتنة نشأت في الشرق بين عضد الدولة بن بويه وأخيه فخر الدولة في السنة الأولى من حكم قابوس كان من نتائجها أن انهزم فخر الدولة ولجأ إلى قابوس فأكرمه ورعاه، فأحفظ ذلك عضد الدولة الذي أغار على مملكة قابوس فاستولى عليها سنة ٣٧١، وفر قابوس لاجئًا إلى خراسان، وبعد سنتين استطاع فخر الدولة أن يعود إلى ملكه وكانت بلاد قابوس في جملته، ففكر قابوس في الاستفادة من هذا الظرف، ولكنه موطل لنية كان يخفيها الوزير ابن عباد، فلما توفي فخر الدولة سنة ٣٨٧ أعد قابوس حملتين عسكريتين واسترد ملكه سنة ٣٨٨، ولكن عصره كان مملوءًا بالقلاقل والاضطرابات فانتهى الأمر بخلعه وتولية ابنه، وكانت له نهاية محزنة نشأت عن ثورة الشعب الذي أكرهه على الفرار إلى بسطام حيث قضى نحبه هناك.

كان قابوس من الملوك الأدباء، وكان للظروف القاسية التي عاناها في حياته السياسية أثر بليغ في طبع مواهبه الأدبية بذلك الطابع المحزن الذي يغلب على شعره ونثره، وهو يذكر بالمعتمد بن عباد الأندلسي، فكلاهما بكى ملكه وحظه ومجده، ولننظر كيف يقول قابوس حين استولى ابن بويه على بلاده وأخرجه منها حائرًا كاسف البال:

لئن زال أملاكي وفات ذخائري
وأصبح جمعي في ضمان التفرق
فقد بقيت لي همة ما وراءها
منال لراج أو بلوغ لمرتقي
ولي نفس حر تأنف الضيم مركبا
وتكره ورد المنهل المترنق
فإن تلفت نفسي فلله درها
وإن بلغت ما أرتجيه فأخلق

وله في هذه الأبيات التي يحفظها أكثر المتأدبين، وقد وصلت إلى أغلب الجماهير لعناية المؤلفين باختيارها في المجموعات الأدبية:

قل للذي بصروف الدهر عيرنا
هل حارب الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ
وتستقر بأقصى قاعه الدرر
فإن تكن نشبت أيدي الزمان بنا
ونالنا من تمادي بؤسه الضرر
ففي السماء نجوم ما لها عدد
وليس يكشف إلا الشمس والقمر

وله أيضًا هذه القطعة يعرض بمن رفعتهم الأيام بعد خفض وأعزتهم بعد هوان:

بالله لا تنهضي يا دولة السفل
وقصري فضل ما أرخيت من طول
أسرفت فافتصدي جاوزت فانصرفي
عن التهور ثم امشي على مهل
مخدمون ولم تخدم أوائلهم
مخولون وكانوا أرذل الخول

وبمناسبة شعر قابوس نذكر له هذين البيتين وهما من أروع ما قيل في التشبيب:

خطرات ذكرك تستثير مودتي
فأحس منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة
فكأن أعضائي خلقن قلوبا
أما نثر قابوس فأعجوبة من أعاجيب فن الإنشاء، هو نثر مصنوع صنعة دقيقة جدًّا لا يدرك كنهها إلا الفحول، وقد عُني بدراسته من المتقدمين عبد الرحمن اليزدادي الذي اختار من رسائله ما سماه «كمال البلاغة» ودراسة اليزدادي لنثر قابوس جديرة بأن يعود إليها الأدباء بالنقد والتمحيص؛ لأنها مكملة لأنواع البديع، فقد استخرج منها أنواعًا لم يكن وجدها قدامة بن جعفر فيما فتش من كلام الفصحاء، ثم تولى تسميتها بما شاكلها من النعوت، وهي أربعة عشر نوعًا؛ منها المجنح كقوله:

صام عن جواب ما نفد إليه، ونام عما لزمه في حق الاعتماد عليه.

وسماه مجنحًا؛ لأنه شبهه بشيء له جناحان من قِبل أن في أوله سجعًا وفي آخره سجعًا وبينهما واسطة، فكلمة (صام) في أول القرينة الأولى تقابل كلمة (نام) في أول القرينة الثانية.

ومنها الممثل كقوله:

ولا يعجبني أن يكسو ضوء مكارمه كلف الخمول، ويأذن لطوالع معاليه بالأفول.

وسماه كذلك لكثرة ما فيه من التمثيلات.

ومنها المجانس كقوله:

أين الطبع الذي هو للصدود صدود، وللتألف ألوفٌ ودود.

وسماه كذلك؛ لأن اسمه مشتق من الجنس، ولأن بعض الكلام منه جنس لبعض، فالصدود وصدود من جنس واحد، والتألف وألوف من جنس واحد.

ومنها مشابهة الصورة كقوله:

إذا حالف فأحسبه قد خالف، وإذا أعار فأحسبه قد أغار.

وسماه كذلك لتشابه صور الكلمات في الخط: فحالف وخالف في صورة واحدة، وكذلك أعار وأغار.

واليزدادي مفتون فتنة مطبقة بنثر قابوس، وانظر كيف علق على قوله:

قد خلد ذلك في بدائع الأخبار، وكتب بسواد الليل على بياض النهار.

فإنه يقول: «هذا كلام لا أعرف في جودة صنعته وغرابة معناه كلامًا؛ لأنه مثَّل سواد الليل بالمداد، وبياض النهار بالقرطاس، وهما شيئان ليس لهما نظيران في البقاء، وهذه القرينة الثالثة نتيجة طبع كالماء رقيق، وصنع في تأليف الكلام دقيق، وليس مما يسمح به طبع الكُتاب وتفي به قرائحهم، فإني قد أجلت الفكر في عدة ألفاظ رائية الأواخر فلم أجد منها ما يقع موقعه في الوفاق، وكل ما أتى وحضر في غاية النفور منه والشذوذ عنه، ولا يعرف ما أقوله إلا من يعالج التسجيع.»١
وفي مكان آخر يقول:
وأنا إن رمت العبارة عن بدائع هذه الرسائل عييت به لإعجازها، ولأنه كلام مباين، في الفصاحة والعذوبة والبدعة والإيجاز، للكلام المعهود الجاري على ألسنة الناس … ليس ذا من كلام البشر، ولا من المعرفة البشرية، والإدراك الطباعي، بل هو إفاضة القوة العلوية.٢

أما نحن فقد راجعنا هذه الرسائل غير مرة، ورأيناها حقًّا من الذخائر النادرة، ولكننا لا نوافق اليزدادي على تقرير أن هذه الأربعة عشر نوعًا من البديع لا توجد في كلام غير كلام قابوس، فهي في جملتها ترديد للصنعة التي عرف بها المتقدمون، وكل ما تمتاز به هو شدة الأسر، واطراد الفن في جميع أجزائها بحيث يمكن أن يقال: إن هذا الرجل كان ينحت الكلام كما ينحت المثال الصخر ليخلق منه غرائب التماثيل.

وهنا نقطة يحسن الكلام عليها؛ هي أن نقاد الغرب اليوم يأخذون على كتاب اللغة العربية أنهم يجمعون بين الصور المختلفة في الجملة الواحدة بدون أن يلاحظوا ما يجب أن يكون بين تلك الصور من الروابط المعنوية، من ذلك مثلًا قول الثعالبي في الزوزني الكاتب:

يغرس الدر في أرض القراطيس، وينشر عليه أجنحة الطواويس.

فإن هذه أخيلة متنافرة لا جامع بينها ولا رباط، ولو حللت ما فيها من استعارة لأعياك الأمر وضاق بك المجال، وهي في جملتها شعوذة عقلية، وإن بدت لبعض الناس نهاية في الحسن والرواء.

وقول الثعالبي أيضًا في أبي الفرج الببغا:

له كلام، بل مدام، بل نظام من الياقوت، بل حب الغمام.

فإن الانتقال من هذه الصور مضلل للخيال، وكل ما عند الكاتب أنه عرض ما مر بذهنه من مختلف الأشكال.

ونحن إذا أردنا أن ننقد رسائل قابوس من هذه الناحية وجدناه يحلِّق أحيانًا ويسف حينًا، فمن المستجاد له هذه العبارة:

لا يعجبني أن يكسو ضوء مكارمه كلف الخمول، ويأذن لطوالع معاليه بالأفول.

فإن الصور هنا متقاربة والربط بينها موجود، ولكن انظر قوله في وصف نثر ابن العميد:
ولو كنت عرفت تفاضل الكلام، وميزت بين المنسم والسنام، لما قابلت بصفيري زئيره، وما ساجلت ببعيثي جريره.٣

فإن الرابط بين هذه الصور صعب؛ لأنه قابل بين المنسم والسنام، ثم انتقل فقابل بين الصفير والزئير، وأبعد من هذا انتقاله في قوله: «وما ساجلت ببعيثي جريره.» فإن القارئ يحتاج إلى تأمل وتفكير في تصور هذه القرينة الأخيرة، إلى أن يتاح له من يفهمه أنها إشارة إلى البعيث وجرير من بين الشعراء.

ويستجاد قوله: «حتى يثمر ما أزهر من القول، ويمطر ما أنشأ من سحاب الفضل؟»٤ لأن الزهر والثمر والمطر والسحاب مما يغلب الجمع بينها في عالم الوجود، ولكن انظر قوله:

الدنيا شجرة ثمرتها النوائب، وبيضة مضمنها العجائب.

فإن الانتقال من الشجرة إلى البيضة شطط غير مقبول.

ويستجاد قوله:
أمن صخر تدمر قلبه فليس يلينه العتاب، أم من الحديد جانبه فلا يميله الإعتاب، أم من صفاقة الدهر مجن نبوه فقد نبا عنه غريب كل حجاج، أم من قساوته مزاج إبائه فقد أبى على كل علاج.٥
فإن الأواصر وثيقة بين هذه التمثيلات، ولكن انظر قوله:
فأما ذلك المهم فما أحراه بأن يلجم فيه مسرج وعده، وينتج بالنجح ما ضمنه نسج يده.٦

فإن هذه الأخيلة قليلة الائتلاف.

ومن الحق أن أقرر أنني أجد صعوبة في البحث عن مقاتل هذا الكاتب الفنان، فأكثر صوره وأخيلته وتمثيلاته يسود فيها روح التآلف والاتساق، ويعجبني قوله:
فمن أين للضباب صور السحاب، وللغراب هُوِيّ العقاب.٧
وقوله:
ولِمَ لا يسترد عازب الرأي فيعلم أنه ما لم يعاود الصلة مأفون، ويستعيد غائب الفكر فيفهم أنه ما دام على الفرقة مغبون، أظنه يقدر الاستغناء عني هو الغنى والغناء، ولا يدري أن الالتواء عليَّ هو البلى والبلاء، ويخال أنه مكتف بجاهه وعرضه، ولا يشعر أني كلٌّ لبعضه، وطول في عرضه، وأن قوة الجناح بالقوادم والخوافي، وعمل الرماح بالأسنة والعوالي.٨
وله أحيانًا مبالغات يظهر فيها الغلو والإسراف، ولكن حلاوة أسلوبه تسحب عليها نسمة من القبول، وإليك قوله:
بل كيف يهون من لو شاء عقد الهواء، وجسم الهباء، وفصل تراكيب السماء، وألف بين النار والماء، وأكمد ضياء الشمس والقمر، وكفاهما عناء السير والسفر، وسد مناخر الرياح الزعازع، وطبق أجفان البروق اللوامع، وقطع ألسنة الرعود بسيف الوعيد، ونظم صوب الغمام نظم الفريد، ورفع عن الأرض سطوة الزلازل، وقضى بما يراه على القضاء النازل، وعرض الشيطان بمعرض الإنسان، وكحل٩ الحور العين بصور الغيلان، وأنبت العشب على البحار، وألبس الليل ضوء النهار.١٠

وهذه القطعة التي نعدها من المبالغات والتهويلات، ألا تدلنا على شيء؟ إنها تدلنا على أن الإنسان كان يحلم منذ أجيال بالتحكم في الأرض والسماء، والماء والهواء. إن هذا الكلام الذي نراه مبالغة لو قاله إمبراطور ألمانيا بالأمس، أو قاله ملك إنجلترا اليوم، لما رأى الناس فيه شيئًا من الغلو والإسراف، فقد استطاع الإنسان في هذا الجيل أن يكمد ضوء الشمس والقمر وأن يسخر الهواء، وأن يؤلف بين النار والماء، وأن يسد مناخر الرياح، وأن يطبق أجفان البروق، وأن يبدل الطبائع من حال إلى حال، وقد ألبس الليل ضوء النهار، ولم يبق إلا أن ينبت العشب على البحار.

إن دراسة الآدب القديمة تعطينا صورًا عجيبة من أحلام الإنسانية، فهذا الطيران الذي أصبح قوة القوى في هذا العصر كان حلمًا يتردد كثيرًا في أخيلة الأقدمين؛ فقد تصوروا لسليمان بساط الريح، وقدروا أن سيكون في الجنة طيارون، ولم يتمثلوا الملائكة إلا مجنحين؛ لأنهم كانوا يرون القوة الكاملة في أن يطير الإنسان من أفق إلى أفق، ومن قطر إلى قطر، كلما بعثته الدواعي وأهابت به الظروف.

فما نراه مبالغة في كلام قابوس بن وشمكير ليس إلا وثبة من وثبات الخيال الإنساني الذي قدَّر ما ينتظر له من البأس والقوة في عالم الوجود، ولننظر كيف يقول في نفس الرسالة التي اقتطفنا منها القطعة السالفة:
كيف يُزهد فيمن ملك عنان الدهر فهو طوع قياده، وتبع مراده، ينظر أمره ليتمثل، ويرقب نهيه فيعتزل؟ وكيف يهجر من تضاءلت الأرض تحت قدمه، وصارت في الانقياد له كخدمه، إذا رأت منه هشاشة أعشبت، وإن أحست منه بجفوة أجدبت؟ وكيف يستغنى عمن خيله العزمات والأوهام، وأنصاره الليالي والأيام، فمن هرب منه أدركه بمكايدها، ومن طلبه وجده في مراصدها؟ وكيف يُعرض عمن تُعرض رفاهة العيش بإعراضه، وتنقبض الأرزاق بانقباضه، وأضاء نجم الإقبال إذا أقبل، وأهل هلال الجد إذا تهلل؟ وكيف يزهى على من تحقر في عينه الدنيا، ويرى تحته السماء العليا، قد ركب عنق الفلك، واستوى على ذات الحبك، فتبرجت له البروج، وتكوكبت لعبادته الكواكب، واستجارت بعزته المجرة، وأثرت بمآثره أوضاح الثرى.١١

وإني لأنتظر أن يحقق الإنسان الحاضر جميع الخيالات التي مرت بذهن الإنسان الغابر، فقد كان الإنسان يضيف إلى الجن جميع القوى التي يعجز عن إدراكها وسائله المادية، ونظرةٌ في كتاب ألف ليلة وليلة، أو ما شاكله من كتب الخرافات والأساطير، ترينا أن الإنسان كان يضيف إلى الجن أعمالًا غريبة معقدة هي اليوم أيسر ما يأتي به الإنسان في أعوام الحروب، وستتبدل تبعًا لتطورات الاختراع أوضاع كثيرة من مصطلحات البلاغة والبيان، فتصبح أكثر المجازات حقائق، وتمسي أكثر المبالغات تعابير عادية لا شطط فيها ولا جموح، وسينتظر أن يكون للإنسان الحاضر أوهام جديدة، وخيالات طريفة، بالقياس إلى ما حققه من أوهام أسلافه الماضين، وستكون الأجيال المقبلة مشغولة بتحقيق الأحلام الجديدة التي يتصورها الإنسان الحديث.

ولا يعلم إلا الله ما سيكون من مصير الحلم الأعظم حلم الخلود، فقد تشبث الإنسان بهذا الحلم في جميع أدواره التاريخية، وعز عليه أن تكون أيامه في هذه الدنيا هي كل ما يملك من حظوظ الحياة، وليس مذهب تناسخ الأرواح الذي تعلق بأهدابه الأقدمون إلا تعزية لهذا الإنسان الفاني الذي يزعجه أن يقصر وجوده على سنوات معدودات، وقد راعت جميع الديانات هذه الأمنية الإنسانية فقررت في ثقة مصحوبة الرفق والعطف أن سيكون للإنسان حياة أخرى هي أعلى وأبقى من حياته الدنيا، وأن سيكون له جنة ونعيم، وروح وريحان، ولا أكتم القارئ أنني أعجب كيف يعيش الناس في بعض أنحاء الصين في ظلال المعتقدات الجافة التي تنذر بأن لا حياة بعد الموت، وأن لا رجعة للإنسان بعد فراق دنياه.

إن الإنسان ليسعى للخلود بوسائل شتى، منها هذه الآثار المادية والمعنوية التي يُفني الناس فيها أعمارهم ليكون لهم بعد الموت لون من ألوان الوجود، والذين لا يستطيعون أن يسمعوا التاريخ صوتهم، وأن يفرضوا بقاءهم في أذهان الأحياء، يأملون أن يصلوا بطريق الخير والبر إلى ملكوت السموات، علهم يعيشون خالدين بين المتقين والأبرار.

إني لأذكر — وأنا أكتب هذا — أن دنونزيو شاعر إيطاليا كاد يمس بالجنون حين رأى لأول مرة طيارة تحلق في الأجواء، ولِمَ ذلك؟ لأن الشاعر الذي يحس الحياة ويفهمها ويتذوقها بأكثر مما يتذوقها سائر الناس يدرك القيمة المعنوية لهذه البراعة الإنسانية التي حولت الأحلام إلى حقائق، ومكنت الرجال من ناصية السماء، ولا ندري كيف يكون شعور الإنسان حين يكشف له الغطاء عن عالم الأرواح، فهذه هي الأمنية الباقية التي يحلم بتحقيقها الأحياء.

إن طائفة من المخترعات التي يتمتع بها الناس والتي صارت مألوفة لا غرابة فيها، كانت لأول ظهورها من الغرائب والأعاجيب، وإن كشف أسرار الكهرباء ليبشر بمستقبل عظيم جدًّا للإنسانية، فقد يكون ما وصلنا إليه قشورًا من المعارف الأولية في هذا الباب، فليت شعري كيف يحيا الناس بعدنا؟ بل ليت شعري كيف عاش الناس قبلنا، وكيف كانت علوم الفراعنة يوم بنوا الأهرام؟

في اللحظة التي أكتب فيها هذه الملاحظات أقاسي بعض الألم في الأمعاء، ومع هذا الضعف أشعر بوحشة شديدة كلما فكرت في قصر حياتي على طائفة من الأعمال الأدبية التي لا تقدم الإنسانية إلا بمقدار ضئيل، ويزيد وحشتي كلما ذكرت أن الإنسان سيحتاج إلى أجيال طويلة حتى يبرأ من وحشيته وبداوته، ويعرف كيف فضل السلام، وكيف تكون ثمرات العالم أدوات إحياء، لا قذائف إفناء، وليس أمامي إلا هذا الأمل الصغير؛ وهو أني سأعود إلى العالم عن طريق الذكريات، كما عاد قابوس بن وشمكير فشغلني به، وشغل معي جماعة من الأساتذة بجامعة باريس بعد أن فارق العالم بعشرة قرون.

ونعود بعد هذا فنذكر أن قابوس بن وشمكير يلتزم الصنعة في أكثر ما يكتب، حتى في الموضوعات الفلسفية.

وللقارئ أن يسأل: أكان لهذا الملك الأديب فلسفة يكتب عنها بلغة مثقلة بالسجع والموازنة والجناس؟

نعم، كان لهذا الرجل فلسفة؛ منها رأيه في العالم، وهو يرى من الممكن أن يغير الله هذا النظام الحاضر الذي يفضي بالإنسان إلى الفناء، وليس من المستغرب عنده أن يحول الله هذا العالم الفاني إلى عالم خلود، وانظر كيف يقول:
إنا لا نقدر على علم الأشياء الغائبة إلا بما نشاهده من الأشياء الحاضرة … ولو لم يكن لنا هذا التدريب والممارسة للمشاهدات، ثم القياس بها على المغيبات، لكنا نأبى قبول قول واصف لحيوان ما على صورة مخالفة لمعهودنا ومعلومنا من جملة الحيوانات التي شاهدناها، ولكنا نعلم بهذا القياس المعول عليه أن كون ما وصفه جائز، وغير مدفوع أن تأتي القدرة من الباري بحيوان لم نشاهده في صورته الخاصة به، فجائز على هذا القياس أن تحدث قدرة الباري — جل جلاله — صنعًا آخر زائدًا على الصنع الأول في الشرف والكمال، فلا توجد في شيء من أحواله حال تنافي الاستقامة، وتباين الحكمة، فيكون العالم حينئذ عالم الخلود والبقاء، منزهًا عن الزوال والانقضاء.١٢

وفي رأي قابوس أن هذا سيكون أظهر لقدرة الباري — عز شأنه — ولا ينبغي أن يقال: لماذا لم يخلق الله العالم كذلك منذ البداية؛ لأنه لا يقال لقادر حكيم تظهر منه القدرة بعد القدرة والبدعة بعد البدعة، وكان لكل متأخر منها على متقدم مزية وشرف، وفضيلة كمال: «هلا فعل ذلك في الأول؟»؛ لأن الفعل كلما كان المستأنف منه أشرف مما سلف، والأخير خيرًا مما سبق، كان أدل على قدرة الصانع وحكمة المبدع.

وقد أتاحت لنا هذه الأماني أن نعود فنتأمل تقلبات العوالم المختلفة نشأتها البعيدة إلى وجودها الحاضر، ولكن رويدًا، فأنا أكتب هذا في غرفة مغلقة النوافذ، مسدولة الستائر، لا يهديني فيها غير الكتاب والمصباح، وليس لدي من وسائل التحقيق غير الخيال، ومع هذا فليسمع القارئ إن شاء:

إن علماء طبقات الأرض؛ علماء الجيولوجيا يقولون مثلًا: إن جزيرة مدغشقر أكبر من أن تكون جزيرة، إنما هي قارة، ولكنها مع ذلك ليست مستقلة منذ خلقت، فإن هناك دلائل جيولوجية تدل على أنها انفصلت من أفريقيا في عهود ما قبل التاريخ، فهل يدري القارئ في كم مليون من السنين كونت الطبيعة بوغاز موزنبيق؟ وهل يعرف في كم أمد من الآماد استطاعت الطبيعة أن تكون لمدغشقر وجودًا خاصًّا بحيث تفترق في حيوانها ونباتها عن أفريقيا بعض الافتراق؟ إن مدغشقر تختص بنوع فذ من أنواع الغربان، ففيها وحدها يكون الغراب الأسود الظهر، أبيض الصدر، كأنه يستعد لحفلة ساهرة! ففي كم جيل شاب ذلك الغراب الذي جهل الشاعر وجوده حين قال:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار القار كاللبن الحليب

ألا يمكن أن يكون هذا التطور المبطئ جدًّا الذي يتناسب بطؤه مع خطورة هذا العالم المترامي الأطراف، ألا يمكن أن يكون سنة مطردة من سنن الطبيعة تتحول بها الموجودات من وضع إلى وضع، ومن حال إلى حال، في مدى ما لا نعرف ولا نفرض من طوال الأجيال؟

إذن فلنسمح للإنسانية أن تحلم بأن سيكون من نتائج هذا التطور أن تظفر بوضع آخر من أوضاع العالم؛ هو الخلود، وما ذلك على الله بعزيز.

وهناك نظرة أخرى فلسفية من نظرات قابوس هي تقديره لنفس الحيوان، فعنده أن قوة الفكر والتمييز كامنة في جميع الحيوانات، وما من أجناس الحيوان جنس إلا وقد أعطي منها قدر ما كفاه في طلب المعاش، والاحتراز من المضار والآفات، وأشرف الحيوان عنده ما كانت معرفته من ابتداء كونه إلى انتهاء سنه معرفة غريزية، ولم يكن محتاجًا إلى إرشاد وهداية، وتعليم ورياضة، ثم ما كان مكتفيًا بحوله وقوته في دفع المضار عن نفسه وحريمه، ومستغنيًا في تحصيل مطالبه ومآربه عن مشارك ومعين، ثم ما كان أصدق وفاء وخلة لما عرفه وشاهده، وألفه واعتاده، ثم ما كان بجبلته وخلقته نظيفًا لا يحتاج إلى الاغتسال بالماء، ولا إلى التزين بزينة متخذة من خارج، وإنما يغنيه حسن شعره في مختلف ألوانه، وأنوار ريشه في صنوف أصباغه، عن الحسن المكتسب والجمال المجلوب، ثم ما كان من ابتداء مولده إلى منتهى أمده على طبع واحد؛ لا يتبدل حالًا بحال، ولا يتغير بين غدو وآصال … وما أبعد نظر قابوس إذ يقول:
كل هذا الذي ذكرته من الأوصاف الجميلة، والخصال المرضية في سائر الحيوان موجود، وفي الإنسان — بحمد الله — مفقود، وماذا يضرهم إن فاتهم علم الفلسفة والهندسة ومعرفة أفلاطون وأرسططاليس، وفيثاغورس وانبذقليس، وأرشميدس وبطلميوس، وهرمس وواليس، فلا العالم به ينال من العمر مزيدًا، ولا الشقي يصير به سعيدًا، وكفى شرفًا وفضلًا بالبهائم أن بعر الظباء طب لهذا الحكيم العالم، وما يتولد في أحشاء بعضها من الحجر دواء وشفاء لأدواء البشر … ولكن الجاهل المظلوم، والإنصاف في الناس معدوم.١٣
ولقابوس آراء في الفلك والنجوم هي صورة لمعارف أهل عصره في هذا العلم، يضيق عن نقدها المجال، وحسبنا أن نذكر أن بعض ما سماه أوهامًا من تأثير الكواكب هو اليوم موضع عناية علماء الفلك، والعلم يمضي بأقدام راسخة في تحقيق أوهام الأولين، وفوق كل ذي علم عليم.١٤

هوامش

(١) ص٢٦، ٢٧ من كمال البلاغة.
(٢) ص٣٢.
(٣) ص٤٢.
(٤) ص٤٧.
(٥) ص٥٣.
(٦) ص٨١.
(٧) ص٧٧.
(٨) ص٥٦.
(٩) لعل الصواب (مثّل) بالتشديد.
(١٠) ص٥٥.
(١١) ص٥٤.
(١٢) ص٩٢.
(١٣) انظر: ص٩٧، ٩٨.
(١٤) من أغرب ما في آراء قابوس إنكاره للتكنية؛ فهي عنده منقصة للآباء، ومن رأيه أن التكنية رسم حدث في أيام ملوك العجم إذا كانت عندهم رهائن العرب، فكان يقال إذا زار أحد الآباء ابنه: جاء أبو فلان وأبو فلان، أي: إن هذا والد فلان، وذاك والد فلان (ليعرف ولد كل رجل بأبيه، فلا يعترض الاشتباه فيه، فلما دارت الأيام على ذلك، صارت هذه النسبة رتبة لأولئك). ويضيف قابوس إلى هذا أن التكني «ترتب برتبة أهل الذمة، واستعمال لرسوم تلك الأمة، وقبيح سمج بالمسلمين، أن يكونوا بسماتهم متسمين.» انظر: ص١٠٩، ١١٠. والتكنية — كما يرى قارئ كتابنا هذا — صارت من الأمور الشائعة عند رجال القرن الرابع حتى نكاد نجزم بأن لكل كاتب كنية، والكنية هي التي ميزت بين الحسن بن عبد الله العسكري والحسن بن عبد الله فهما متساويان في التسمية وتفرق بينهما الكنية؛ فأحدهما أبو أحمد، وثانيهما أبو هلال، ومن المحتمل أن يكون رأي قابوس صحيحًا في أصل التكنية، ولكن لا مرية في أنها صارت عادة عربية، فإن الجاحظ يحدثنا أن كل من اسمه علي صار يكنى بأبي الحسن، وكل من اسمه عمر صار يكنى بأبي حفص. الحيوان (١ / ١٥٩). ويحدثنا ابن النديم أن عبد الله بن المقفع كان قبل إسلامه يكنى أبا عمرو، فلما أسلم اكتنى بأبي محمد (الفهرست ص١٧٢)، وابن أبي الحديد يخبرنا أن التكنية كانت عند العرب وعند الفرس، وأن ملوك بني ساسان لم يكنها أحد من رعاياها قط ولا سماها في شعر ولا خطبة، وإنما حدث هذا في ملوك الحيرة، وأن جفاة العرب لسوء أدبها وغلظ تركيبها كانوا إذا أتوا النبي — صلى الله عليه وآله وسلم — خاطبوه باسمه وكنيته. راجع: شرح نهج البلاغة (٤ / ٤٢٩، ٤٣٠). والكنية مألوفة في شعر العرب قول الفرزدق:
وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى
كثيرًا ولكن ميزوا في الخلائق
والظاهر أنها كانت مطردة فيمن ليس له ولد، من ذلك قول أبي صخر الهذلي:
أبى القلب إلا حبها عامرية
لها كنية عمرو وليس لها عمرو
والكنية من تقاليد الناس في العصر الحاضر، وأهل مصر يكنون الرجل أحيانا باسم أبيه لا باسم ابنه، فيقال: «أبو عبد السلام»؛ لأن الوالد اسمه «عبد السلام». وجرت التكنية مجرى التشريف في مصر، فكان السيد أحمد عبد الخالق السادات — رحمه الله — يكني مريديه في ليلة من ليالي رمضان في غرفة خاصة تسمى بهذا «أم الأفراح» وكان المريدون يفرحون بكناهم أبلغ الفرح، وهو تقليد يدل على أن الكنية كان لها في ذلك البيت معنى من معاني التشريف. فإن صح ما ذكره قابوس من أن التكنية كانت رتبة من رتب أهل الذمة، فإن انتقالها إلى الجو الإسلامي في هذا الوضع الشريف دليل على أن التطور قادر على قلب المعاني في كل شيء، وما أكثر ما تتلون الألفاظ والأوضاع باختلاف الأجيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤