الفصل الأول

ماري وناتاشا

يستولي الروع على الإنسان أمام حيوان نافق، ذلك لأنه هو نفسه — ما يكوِّنه — على وشك الموت والكف عن الحياة تحت عينيه، ولكن عندما يكون المحتَضَر رجلًا، رجلًا محبوبًا، فإن شعورًا بالألم الممزِّق أو جرحًا في الفؤاد يشبه جرح الجسد، يقتل أحيانًا وأحيانًا يلتئم، ولكن يبقى أليمًا يُخشَى دائمًا أن يثيره مسٌّ خارجي يُضاف إلى الروع الذي يشعر به أمام فناء الحياة.

ولقد أحس كلٌّ من ناتاشا والأميرة ماري هذا الإحساس بعد وفاة الأمير آندريه، كانتا منهارتين معنويًّا، تغمضان عيونهما أمام غمامة الموت المعلقة فوق رأسيهما ولا تجرؤان على النظر إلى الحياة نظرة صريحة، ما كانتا تفكران إلا في صيانة جرحهما من مساس مهين أو أليم. كان كل شيء: مرور عربة مسرعة في الشارع، إعلان العشاء، سؤال وصيفة عن ثوب يجب إعداده، بل وأكثر من ذلك كلمة عطف مصطنع أو دون حرارة؛ كل شيء كان ينكأ الجرح المحروق ويسيء إليهما كالإهانة، فيهدم ذلك الصمت الذي لا بد منه، والذي كانتا كلتاهما تتحريانه للإصغاء إلى المجموعة الرهيبة الخطيرة التي لا تني تدوِّي في مخيلتيهما فتمنعهما من النظر إلى الأبعاد الغامضة اللانهائية التي انكشفت لحظة أمامهما.

ما كانتا تشعران بإهانة أو ألم في خلوتهما، وما كانتا تتبادلان شيئًا من الحديث خلالها تقريبًا، وإذا تحدثتا دار الحديث حول أتفه الأشياء لأن كلتيهما كانتا تتحاشيان أي تلميح إلى المستقبل.

كان الاعتراف بأمل في المستقبل يبدو لهما في الواقع سُبَّة لذكرى الأمير آندريه، لذلك كانتا كلتاهما تحاولان وسعهما أن تتحاشيا كل ما له علاقة به، وكان يُخيَّل إليهما أن ما عانتاه لا يمكن أن يُعبَّر عنه بالكلام، فتفكران أن المساس بأتفه تفصيل لحياة الأمير آندريه مهدِّم لعظمة السر الذي نفذ بعد تحت أبصارهما وقدسيته.

وكان تحفظهما المستمر في أحاديثهما وجهدهما الدائم لتحاشي كل ما يمكن أن يؤدي إلى الحديث عنه، هذا الأسلوب في إقامة الحراسة على كل مناحي حدود ما لا يجب قوله بأي ثمن، كان يعرض بوضوح ونقاء أعظم ما كانتا تشعران به أمام مخيلتيهما.

لكن الحزن الكلي يشبه في استحالته الفرح الكلي، ولقد كانت الأميرة ماري التي باتت بحكم مركزها السيدة الوحيدة لمصيرها والوصية المسئولة عن ابن أخيها، أول من استدعتها الحياة خارج الحداد الذي انطوت فيه منذ أسبوعين؛ تلقت من أقربائها مراسلات وجب أن ترد عليها. وكانت الغرفة التي يعيش فيها نيكولا الصغيرة رطبة فراح الطفل يسعل، وجاء الباتيتش إلى إياروسلافل يحمل حساباته ونصح الأميرة أن تعود إلى موسكو لتقطن مسكنها في فوزدفيجليكا الذي ظل سليمًا، والذي كان في حاجة إلى بعض الإصلاحات، فالحياة لم تكن قد توقفت وكان يجب الحياة. ومهما بلغ من إيلام الخروج من عالم الوحدة والتأمل ذاك على نفس الأميرة ماري، التي استسلمت له حتى ذلك الحين، والمتاعب المادية التي كانت تطالب بحضورها؛ فإنها اضطُرَّت إلى الخضوع رغم الإشفاق الذي كانت تحسه نحو ناتاشا والتبكيت النفسي الذي اعتلج في نفسها لفراقها. أخذت تدقق في حسابات الباتيتش وتتناقش مع ديسال حول موضوع ابن أخيها، وتتخذ التدابير اللازمة لعودتها إلى موسكو.

ولبثت ناتاشا وحيدة، فمنذ اللحظة التي شرعت ماري فيها في اتخاذ أهبتها راحت تتحاشاها.

خلال ذلك عرضت الأميرة ماري على الكونتيس أن تسمح لناتاشا بمرافقتها إلى موسكو، فقبلت الأم مثلما قبل الأب هذا العرض بفرح، لأنهما باتا يريان قوى ابنتهما تنهار يومًا بعد يوم، ويعتقدان أن تبديل الهواء مضافة إليه عناية طبيب في موسكو سيكونان ناجعَيْن لحالتها.

ولما قُدِّم هذا العرض لناتاشا أجابت: لن أذهب إلى أي مكان، لا أسألكم أن تدعوني بهدوء.

ونفرت إلى غرفتها وهي لا تكاد تضبط الدموع التي انبعثت من عينيها بدافع السخط والانفعال أكثر من دافع الألم.

منذ أن أخذت ناتاشا تشعر بتخلي الأميرة ماري عنها وبقائها وحدها مع ألمها، راحت تقضي معظم الوقت محتبسة في غرفتها، منطوية على نفسها في ركن من الأريكة، تحل وتعقد عملًا من أعمال الإبرة بأصابعها الدقيقة الرشيقة وأبصارها شاخصة إلى الأمام، وكانت هذه الوحدة تنهكها وتنخر فيها، لكنها كانت في حاجة إليها. فما إن يدخل بعضهم إلى حجرتها حتى تعتدل بقوة فتبدل من وضعيتها وتعابير وجهها، وتتظاهر بالقراءة أو الحياكة دون أن تخفي نفاد صبرها لرؤية الذي عكَّر صفو وحدتها.

كان يخيَّل إليها باستمرار أنها على وشك إدراك المخيف والتعمق فيه، تلك المعضلة المضنية التي كانت نظرتها الداخلية شاخصة إليها.

وفي نهاية كانون الأول كانت ناتاشا مرتدية ثوبًا أسود من الصوف، وضفيرتها ملفوفة بإهمال على مؤخرة رأسها، شاحبة ومهزولة، تجلس قابعة في ركن من الأريكة منصرفة تمامًا إلى لف طرف نطاقها وحله، شاخصة ببصرها إلى زاوية الباب.

كانت تنظر إلى الموضع الذي ذهب منه إلى الجانب الآخر من الحياة، وذلك الجانب الذي لم تفكر فيه قط من قبل، والذي كان يبدو لها من قبل بعيدًا كل البعد لا يمكن إدراكه؛ بات الآن أكثر قربًا وألفة وأكثر فهمًا من هذا الجانب، حيث كل شيء ليس إلا خواء ودمارًا إن لم يكن ألمًا وإذلالًا.

كانت تنظر هناك حيث تعرف أنه موجود، لكنها ما كانت تستطيع أن تراه على غير الشكل الذي عرفته به في هذا العالم، كانت تراه في ميتيشتشي وتروئيتسا وأياروسلافل.

كانت ترى وجهه وتسمع صوته وتردد كلماته والكلمات التي قالتها له، وأحيانًا تتصور موضوعات أخرى كانا يستطيعان تبادلها بينهما.

ها هو ذا ممدَّد على مقعد وثير في معطفه المنزلي المصنوع من الفراء المغطى بالقطيفة، ورأسه مسند إلى يده البيضاء النحيلة، وصدره مقعر بشكل مخيف، وكتفاه مرفوعتان، وشفتاه متقلصتان بقوة، وعيناه تلتمعان، وعلى جبهته الشاحبة يظهر غضن تارة وتارة يَدْرُس، وإحدى ساقيه ترتعش ارتعاشة سريعة لا تكاد تُمَيَّز. إن ناتاشا تعرف أنه يناضل ضد ألم معذِّب، ما هو هذا الألم؟ لماذا جاء؟ ماذا يشعر؟ أين يتألم؟ بذلك كانت ناتاشا تفكر، لكنه يلمس قلقها فيرفع عينيه ويبدأ في الكلام دون ابتسام.

قال: «إن ما يخيف هو أن يرتبط الإنسان مدى الحياة برجل يتألم، إنه عذاب لا نهاية له.» ونظر إليها بعينيه المتفحصتين، فأجابته ناتاشا كعادتها دون أن تترك لنفسها وقتًا للتفكير فيما هي بسبيل النطق به، هتف: «إن هذا لا يمكن أن يدوم على هذا النحو، إنه مستحيل، سوف تستعيد صحتك تمامًا.»

إنها تراه الآن من جديد، وهي تعيش من جديد في كل ما اعتلج في نفسها حينذاك، إنها تتذكر النظرة الطويلة الحزينة المهيبة التي ألقاها عليها بعد هذه الكلمات، وتفهم معنى اللوم واليأس في هذه النظرة الملحة.

فكَّرت: «لقد اعترفت أنه سيكون أمرًا مريعًا لو أنه استمر يتألم، ولقد قلت له ذلك لأنه كان سيكون مريعًا حقًّا بالنسبة إليه لو أنه دام، لكنه فهم الجملة على نحو آخر، لقد فكر أن ذلك سيكون مريعًا بالنسبة إليَّ، لقد كان حينذاك لا يزال متعلقًا بالحياة وكان يخاف الموت. وأنا تكلمت بقسوة وغباء ما كنت أقصد ذلك، كنت أفكر في شيء آخر مختلف كل الاختلاف، لو أنني قلت ما كنت أفكر فيه لقلت له إنه ولو كان محتضَرًا بل ولو ظل محتضَرًا أمام عيني لكنت سعيدة بالقياس إلى ما أنا عليه الآن، لم يعد لي شيء، لم يعد لي أحد، هل كان يعرف ذلك؟ كلا، ما كان يعرفه ولن يعرفه أبدًا، والآن لا أقدر قط، قط، أن أصلح ذلك.»

لكنه من جديد عاد يقول لها الكلمات نفسها، فراحت ناتاشا هذه المرة تجيبه في خيالها جوابًا مختلفًا، استوقفته وقالت: «إنه مخيف بالنسبة إليك وليس بالنسبة إليَّ، إنك تعرف أن الحياة بدونك بالنسبة إليَّ ليست شيئًا مذكورًا، وأن التألم معك أكبر سعادة لي.» فأمسك بيدها وضغط عليها كما ضغط عليها خلال تلك الأمسية الرهيبة قبل موته بأربعة أيام، فراحت تردد على مسمعه بالخيال أيضًا كلمات الحنان والحب التي كانت عليها أن تقولها له حينذاك، والتي لا تنطق بها إلا الآن، هتفت: «أحبك! … نعم، أحبك، أحبك …» وضمت يديها بحركة تشنجية، وصرفت على أسنانها بقسوة وحشية.

وحينئذ استولى عليها ألم أكثر عذوبة، وانبعثت الدموع من عينيها، وفجأة تساءلت: لمن تحدثت على هذا النحو؟ أين هو؟ وكيف هو الآن؟ ومن جديد نظرت في كآبة مضنية قاسية وهي مكفهرة الوجه مزوية حاجبيها من جديد نحو ذلك الهناك حيث هو، ومن جديد خيِّل إليها أنها ستكشف السر الغامض … ولكن، في الدقيقة التي كاد كل شيء أن ينكشف، في الدقيقة التي كاد كل المجهول أن يصبح معلومًا لديها، صك أذنها صوت رتاج الباب ودخلت دونياشا الوصيفة، مروعة الوجه منقلبة الأسارير، دخلت دون أي احتراس وقالت وعلى وجهها المنفعل تعبير غريب: إذا أمرت، اذهبي بسرعة إلى أبيك، بسرعة، لقد وقعت مصيبة … بيوتر إيليتش … رسالة …

وشهقت منتحبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤