الفصل الرابع عشر

بعث جديد

لم يبدل بيير شيئًا تقريبًا من طرق الظاهرية، بل ظل يقدم المظهر إياه، كان ساهمًا كحاله من قبل، يبدو منشغل البال ليس بما يقع تحت عينه بل بشيء ما خاص، شخصي. فكان الفارق بين حاله القديم وحاله الحاضر يرتكز على أنه من قبل عندما كان يفقد عن إبصاره ما هو أمامه أو ما كان يقال له، كانت تغضنات أليمة تقلص جبينه وكان يبذل مجهودًا عقيمًا لمشاهدة شيء ما بعيد جدًّا، أما الآن فإنه ما زال ينسى ما يقال له وما هو أمامه، لكنه بات يملك ابتسامة دقيقة ساخرة للنظر إلى ما هو أمامه وللإصغاء إلى ما يقال له، على الرغم من أنه كان بكل تأكيد يرى ويسمع شيئًا مختلفًا تمامًا. كان من قبل يبدو تعيسًا رغم مظهر الطيبة الذي يكسو وجهه، لذلك فإن الناس كانوا يبتعدون عنه لا إراديًّا، أما الآن فإن ابتسامة تعبر عن الفرحة بالحياة كانت تتلاعب على شفتيه، وتشع عيناه بجاذبية وكأنهما تسألان: هل ما زالوا مسرورين مني؟ فكان الناس في حضرته يشعرون بالارتياح.

كان من قبل يكثر الكلام، وينفعل أثناء الحديث ولا يكاد يصغي أبدًا، أما الآن فإن المحادثة قليلًا ما باتت تجتذبه، وبات يحسن الإصغاء، حتى إن الناس أصبحوا يقصون عليه بيسر أعمق أسرارهم الشخصية.

والأميرة ابنة عمه، التي لم تحبه قط، والتي كانت تغذي كراهية خاصة منذ اليوم الذي شعرت فيه بعد موت الكونت العجوز بأنها مدينة له، والتي جاءت إلى أوريل بقصد واحد هو أن تبرهن له على أنها رغم عقوقه تعتبر العناية به كواجب لها؛ هذه الأميرة شعرت بسرعة بعد مكوثها القليل بأنها تحبه وذلك لفرط سخطها ولمزيد دهشتها، في حين أن بيير ما كان يعمل شيئًا لكسب مودتها، كان يكتفي بأن يتأملها بفضول. وكانت الأميرة من قبل تشعر في النظرة التي يوجهها إليها بلا مبالاة وسخرية، لذلك فقد كانت في حضرته كما في حضرة الآخرين تنطوي على نفسها فلا تظهر إلا مزاجها الباسر، أما الآن فعلى العكس أخذت تشعر بأنه تغلغل إلى أعمق حنايا نفسها مجازًا، فراحت تكشف له في حذر بادئ الأمر ثم بعرفان عن النواحي الخيرة في عقليتها.

ما كان لأكثر الرجال مكرًا أن يتعمق بأكثر مهارة في ثقة الأميرة، حتى ولو استعرض معها أفضل ذكريات شبابها وأظهر اهتمامه بذلك، مع ذلك فإن براعة بيير كلها كانت ناجمة عن شعوره الشخصي بالمتعة في إيقاظ المشاعر البشرية في نفس هذه المرأة المتغطرسة الجافة الساخطة.

كانت الأميرة تحدث نفسها: نعم، إنه فتى باسل عندما يكون تحت تأثير أشخاص مثلي بدلًا من أن يكون تحت أشخاص سيئين.

ولقد لوحظ التبديل الذي وقع لبيير من جانب خادميه تيرانتي وفاسكا كذلك، اللذين شعرا على طريقتهما بذلك الفارق، وجدا أنه أصبح أكثر بساطة من ذي قبل. كان تيرانتي غالبًا بعد أن يخلع عن سيده الثياب ويتمنى له ليلة سعيدة ينسحب ببطء حاملًا حذاءيه وثيابه بين يديه، أملًا أن يحدث بيير عن شيء ما، وكان بيير غالبًا ما يلاحظ هذه الرغبة فيستوقف تيرانتي ويسأله: قل لي لحظة … كيف عملت حتى تدبرت لنفسك ما تأكله؟

فيبسط تيرانتي قصة عن دمار موسكو أو عن الكونت المرحوم، ويمكث طويلًا وثياب بيير فوق ذراعه، يتحدث تارة ويصغي تارة أخرى، فلا يمضي إلى الردهة إلا وبنفسه اعتقاد بأنه بات أكثر قربًا إلى مولاه وأنه ينعم بتعلقه به.

وكان الطبيب الذي يعالجه، والذي يحضر لزيارته كل يوم، يعتقد أن من واجبه ككل طبيب يحترم نفسه أن يظهر بمظهر الرجل الذي تُعتبَر كل دقيقة من وقته ثمينة في حساب الإنسانية المعذبة، مع كل ذلك فإنه كان يمكث ساعات طويلة عند بيير يروي له أفضل أقاصيصه، ويحيطه علمًا بملاحظاته عن عادات مرضاه بصورة عامة والسيدات منهم بصورة خاصة، كان يقول: هذا شخص يجد المرء متعة في التحدث معه، خلافًا لما هو عندنا في الإقليم.

وكان في أوريل عدد من ضباط الجيش الفرنسي وقعوا في الأسر، فجاء الطبيب ذات يوم بأحدهم معه وكان إيطاليًّا.

ولقد ألِف هذا الضابط زيارة بيير، حتى إن الأميرة ابنة عمه ما فتئت تسخر من الشعور الحاني الذي يظهره ذلك الإيطالي حيال ابن عمها.

ما كان يبدو سعيدًا إلا عندما كان يستطيع المجيء لزيارة بيير والتحدث معه عن ماضيه وعن حياته العائلية وغرامياته، ويسهب في إظهار سخطه على الفرنسيين، وخصوصًا على نابليون.

كان يقول لبيير: لو أن الروسيين كانوا يشبهونك ولو قليلًا، فإنه من الخزي محاربة شعب كشعبكم، أنت الذي لشدة ما تألمت بسبب الفرنسيين لا تكاد تحمل في نفسك ضغينة عليهم.

ولقد كسب بيير هذه المحبة القوية من الإيطالي بكل بساطة لأنه أيقظ في نفسه أفضل جوانب روحه، وراح يتأمل تلك الجوانب.

خلال المدة الأخيرة من إقامته في أوريل، تلقى بيير زيارة أحد معارفه القدماء من العالم الماسوني، الكونت فيلارسكي، الذي استقبله في المحفل عام ١٨٠٧، ولقد تزوج فيلارسكي روسية غنية جدًّا تملك عقارات كبيرة في ولاية أوريل، وأصبح يشغل مركزًا مؤقتًا في تموين المدينة.

عندما علم بوجود بيزوخوف في أوريل، جاء فيلارسكي لزيارته رغم عدم وجود روابط صداقة وثيقة بينهما من قبل، مظهرًا بوادر الصداقة والألفة التي يظهرها عادة الأشخاص الذين يتقابلون في صحراء. كان فيلارسكي دائم السأم في أوريل، فشعر بسعادة لوقوعه على رجل لا بد وأن يكون بحسب ظنه منصرفًا إلى مثل المشاغل التي انصرف هو إليها.

لكن فيلارسكي لعظيم دهشته لم يلبث أن رأى أن بيير لم يكن قط في المكانة التي وضعه فيها، وأنه وقع — كما أخذ يحدث نفسه — في الجمود والأنانية، فرغ إلى القول أخيرًا: لقد تطبعت يا عزيزي.

وعلى الرغم من ذلك باتت عشرة بيير تبدو له مستطابة أكثر من ذي قبل، فكان يأتي كل يوم لزيارته، أما بيير فإنه بإصغائه إلى فيلارسكي وبالنظر إليه كان يفكر بذهول غير مصدِّق بأنه كان قبل وقت قريب جدًّا مثله تمامًا.

كان فيلارسكي متزوجًا ورب أسرة، منشغلًا بأملاك زوجته وبوظيفته وأولاده معًا، وكان ينظر إلى هذه المشاغل المختلفة نظرته إلى عقبة في الحياة فيحتقرها، لأن هدفه الأوحد كان سعادته الشخصية وسعادة ذويه، وكانت المشاغل العسكرية والإدارية والسياسية والماسونية تحتكره كليًّا، فكان بيير يهتم بهذه الحالة الغريبة المعروفة منه تمامًا، دون أن يحاول التأثير عليه لإبدال وجهة نظره، أو يحكم عليه بسخرية مرحة هادئة لا تتزعزع.

كان بيير في علاقاته مع فيلارسكي والأميرة والطبيب ومع كل الأشخاص الذين بات يقابلهم الآن، يُظهر بادرة جديدة عادت عليه بميل الجميع إليه، أخذ يعترف بحق كل فرد في التفكير والشعور والنظر إلى الأشياء على طريقته، ويعترف كذلك باستحالة إقناع إنسان ما بالكلام. وهذه الشخصية الشرعية لكل إنسان التي كانت تقلق بيير من قبل وتسخطه، باتت اليوم بالنسبة إليه سبب الاهتمام والانجذاب إلى الناس اللذين يشعر بهما الآن. وطرق النظر إلى الأمور التي يتمتع بها الأشخاص مختلفة، والتي كانت أحيانًا متعارضة تمامًا مع وجهات نظره؛ كانت تبهجه وتخلق على شفتيه ابتسامة وديعة ساخرة.

وفي الأمور ذات الطابع العملي بات بيير الآن يشعر بدهشة أنه يملك مركز الثقل الذي كان يفتقده بالأمس، فقديمًا كانت كل المسائل المادية وبصورة خاصة طلبات الإخراج التي كانت غالبًا ما يتعرض لها بوصفه رجلًا واسع الثراء، تحدث في نفسه اضطرابًا وترددًا ما كان يجد لهما حلًّا، كان يتساءل: «هل يجب العطاء أم لا يجب؟ إن لديَّ مالًا وهو في حاجة إليه، لكل هذا الآخر أشد حاجة إليه منه فأيهما أساعد؟ لعل الاثنين محتالان معًا!» ولما لم يكن يصل إلى التحلل من افتراضاته، فقد كان يعطي الجميع بقدر ما يستطيع العطاء، ويعود دائمًا إلى ذلك التردد إياه كلما عرضت له مسألة تمس بمصالحه، وأشار عليه أحدهم أن ينهج هذا النهج، بينما يشير آخر عليه بذاك.

أما الآن، لدهشته الكبيرة، أخذ يجد أن الشكوك والتردد في هذه المسائل لم يعد لها مكان، بات الآن يحمل في نفسه حكمًا يحكم تبعًا لقوانين مجهولة منه، ويقرر ما يجب عمله وما لا يجب صنعه.

ظل لا مباليًا كسابق عهده فيما يتعلق بالمسائل المادية، لكنه لم يعد الآن يؤوي أي شك حول ما يجب وما لا يجب عمله. ولقد أصدر ذلك القاضي الجديد حكمه الأول خلال زيارة زعيم فرنسي أسير جاء يعوده وأخذ يسهب في التحدث عن مآثره، وفي النهاية طالبه في شبه إلحاح بإعطائه أربعة آلاف فرنك يرسلها إلى أسرته في فرنسا، فرفض بيير طلبه هذا دون أي تردد أو ارتباك، وقد دُهِش من نفسه فيما بعد إذ استطاع أن يعمل بمثل هذه السهولة ما كان من قبل يبدو على صعوبة لا تُذلَّل، لكنه بينما رفض للزعيم ذلك الطلب قرر أن يتصرف قبل مغادرته أوريل بأسلوب لبق، حتى يجعل الإيطالي يقبل منه مبلغًا من المال كان في حاجة ظاهرة إليه. ولقد كان الدليل الجديد على ثباته في الشئون العملية هو القرار الذي اتخذه بشأن ديون زوجته وإعادة ترميم بيوته في موسكو وفي الريف.

ولقد جاء وكيله الرئيسي يزوره في أوريل، فأقام بيير معه بيانًا تامًّا برُيُوعه المخفضة، وبحسب تقدير وكيله سبَّب حريق موسكو لبيير خسارة تبلغ حوالي مليوني روبل. لقاء هذه الخسارة قدم له الوكيل بيانًا مشفوعًا بالأرقام يثبت أن عائداته ستزداد بدلًا من أن تنقص إذا رفض بيير سداد الديون التي تركتها الكونتيس، والتي لا يمكن لأحد أن يرغمه على دفعها، وإذا عدل عن تجديد منزلَي موسكو والضاحية اللذين يقتضيان مصروفًا يبلغ ثمانين ألف روبل في العام دون أن يعودا عليه بأي نفع.

فقال بيير بابتسامته الفكهة: نعم، نعم، هذا صحيح، لست في حاجة إلى كل هذا، لقد أغناني دماري كثيرًا.

لكن سافليتش هو الذي جاء من موسكو في شهر كانون الثاني، تحدث عن حالة المدينة وعن التصميم الذي وضعه المهندس لإعادة بناء بيت في المدينة وآخر في الضاحية، وراح يتكلم عن هذه الأمور وكأنها قضية منهية. وفي تلك البرهة تلقى بيير رسالة من الأمير فاسيلي ورسائل أخرى أرسلها أصدقاؤه من بيترسبورج. كان موضوع هذه الرسائل يدور حول الديون التي تركتها زوجته، وحينئذ قرر بيير أن المشروع المهم جدًّا الذي قدمه وكيله له خطأ، وأن عليه أن يذهب إلى بيترسبورج لتسوية شئون زوجته، وعليه كذلك أن يعيد بناء بيت موسكو. لماذا كان كل هذا ضروريًّا؟ لم يكن يعرف، لكنه كان يدرك أن عليه أن يتصرف على هذا النحو دون أي شك، ولقد نقصت موارده من جراء ذلك بمعدل ثلاثة أرباعها لكن الأمر كان إلزاميًّا، ذلك كان شعوره.

كان فيلارسكي ينوي الذهاب إلى موسكو، فعملا على أن يترافقا خلال الطريق.

شعر بيير خلال نقاهته في أوريل كلها بإحساس بالفرج والاستقلال والتجدد، فلما سار في الطريق ووجد نفسه في الهواء الطلق وشاهد مئات الوجوه المعروفة ازداد هذا الشعور امتدادًا. كان خلال كل الوقت الذي استغرقه الطريق أشبه بطالب في عطلته: كل الأشخاص الذين قابلهم؛ سائق المركبة، مدير بريد، القرويون على الطريق أو في القرى، كل شيء اتخذ سمة جديدة في نظره، وما كان وجود فيلارسكي وملاحظاته وشكاواه المستمرة عن الفقر ومن تأخر الزحف على أوروبا وجهل روسيا إلا لتزيد من سرور بيير. كان بيير يرى قوة حيوية خارقة حيث لا يرى فيلارسكي إلا مظهر الموت، هذه القوة المتسلطة التي تدعم في ذلك الثلج الذي يغطي المساحات وجودَ هذا الشعب الذي لم يُمَس، الخاص الوحيد. ما كان يتأمل صديقه، ولكنه وكأنه يؤيده في رأيه، لأن التظاهر بالموافقة أقصر سبيل إلى تحاشي محاولات عقيمة، كان يصغي إليه بابتسامة مرحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤