الفصل السابع عشر

مفاجأة

قالت الأميرة إنها جاءت تقضي بعض الوقت معي، ولسوف يصل الكونت والكونتيس في حالة مريعة بعد حين أن الكونتيس، بيد أن ناتاشا نفسها في حاجة إلى معالجة طبيب، وقد أرغموها على مرافقتي.

فقال بيير مخاطبًا ناتاشا: نعم، هل هناك أسرة لا ألم لها؟ إنك تعرفين أن ذلك وقع يوم تحريرنا بالذات، لقد رأيته، يا للفتى الفتان!

أخذت ناتاشا تتطلع إليه وكجواب على كلماته اتسعت عيناها وأضاءتا بوميض أقوى. استأنف بيير: ماذا يمكن أن يقال أو أن يُتصوَّر مما يبعث العزاء؟ لا شيء، لماذا كان يجب أن يموت فتى على مثل لطفه؟ مثله طافح بالحياة.

فقالت الأميرة ماري: نعم، في العصر الذي نعيش فيه يصعب العيش بدون الإيمان.

فبادر بيير يجيب: نعم، نعم، هذه هي الحقيقة الحقة.

سألت ناتاشا وهي تحدق بانتباه في عيني بيير: لماذا؟

استأنفت الأميرة: كيف لماذا؟ لمجرد التفكير فيما يُنتظَر …

بيد أن ناتاشا لم تصْغِ إلى النهاية، بل راحت من جديد تحدق في عيني بيير بنظرة مستفسرة، استرسل بيير يقول: لأن الإنسان الذي يؤمن بأن هناك إلهًا يسيرنا يستطيع وحده أن يحتمل خسارة مثل خسارتها و… خسارتكم.

فتحت ناتاشا فمها لتجيب لكنها صمتت فجأة، وأسرع بيير يشيح بوجهه وراح يخاطب الأميرة ماري مستفسرًا منها عن أيام صديقه الأخيرة.

ولقد تبدد اضطراب بيير تقريبًا، لكنه كان يشعر بذات الوقت أن حريته السابقة كلها قد اختفت بالمثل، شعر الآن أن لكل كلماته وتصرفاته حكمًا يُعتبَر حكمه أغلى وأثمن من حكم العالم أجمع، فراح وهو يتكلم يجزع للأثر الذي تحدثه كلماته على ناتاشا، ما كان يبحث عن الكلمات التي يمكن أن تروق لها، لكنه كان يحكم على كل ما يقوله من وجهة نظرها هي.

وكعادتها دائمًا راحت الأميرة ماري تتكلم دون حماس عن الحالة التي وجدت الأمير آندريه عليها، لكن أسئلة بيير ونظرته المتَّقدة الجزعة ووجهه المضطرب من التأثر دفعتها تدريجيًّا إلى الدخول في تفاصيل كانت تخاف على نفسها من أن تجدد ذكراها.

كرر بيير وهو منحنٍ بكل جسده إلى الأمام نحو الأميرة ماري يصغي بفهم إلى روايتها: نعم، نعم، هو ذلك، هو ذلك … نعم، نعم، إذن لقد هدأ؟ لقد رق؟ ذلك أنه ما كان يبحث إلا عن أمر واحد بكل قوة روحه، كان يريد أن يكون جيدًا بكمال وما كان ولا ريب يخاف الموت، والأخطاء التي كانت فيه — إذا كانت لديه أخطاء — لم تكن صادرة عنه، إذن لقد رق؟

وقال فجأة مخاطبًا ناتاشا والدموع ملء عينيه: يا لسعادته إذ شاهدك!

طافت على وجه ناتاشا انتفاضة، وقطبت حاجبيها وخفضت عينيها فترة، وترددت ثانية في الكلام، ثم قالت بصوتها الحلو الخطير: نعم، كان ذلك ولا ريب سعادة لي.

ثم بعد صمت أردفت: وهو … هو … لقد قال لي إنه كان يرغب في رؤيتي في اللحظة التي جئت فيها إليه …

وتحطم صوت ناتاشا، تضرج وجهها وتقلصت يداها أعلى ركبتيها، وفجأة بذلت مجهودًا ظاهرًا على نفسها فرفعت رأسها وراحت تتحدث بسرعة: ما كنا نعرف شيئًا عندما غادرنا موسكو، وما كنت أجرؤ على الاستعلام عنه، إن سونيا هي التي أخطرتني فجأة بأنه معنا، ما كنت أفكر في شيء ولا أقدر على تمثل الحالة التي هو عليها.

وأضافت وهي تتغضن وتتنفس بصعوبة: كنت أريد فقط أن أراه وأن أكون معه.

ودون أن تسمح بمقاطعتها روت ما لم تتحدث به بعد إلى أحد، روت كل ما عانته طيلة أسابيع سفرهم الثلاثة وفي مكوثهم في إياروسلافل.

وكان بيير يصغي إليها فاغر الفم وعيناه الممتلئتان بالدموع شاخصتان إليها، لم يكن وهو يصغي إليها يفكر في الأمير آندريه ولا في الموت ولا في ما تقول، كان يشفق عليها فقط للألم الذي تسببه الرواية لنفسها.

أما الأميرة التي كان وجهها متقلصًا كله لرغبتها في كبت دموعها، فقد كانت جالسة إلى جانب ناتاشا تصغي للمرة الأولى إلى قصة أيام الغرام الأخيرة بين أخيها وناتاشا.

وكانت رواية هذه الآلام المشفوعة بالفرح ضرورة لناتاشا كما كان ذلك واضحًا.

كانت تتحدث خالطة أتفه التفاصيل بأعمق الأسرار الشخصية، تبدو كأنها لم تعد تستطيع التوقف، ولقد كررت مرارًا الأشياء ذاتها.

وارتفع صوت ديسال من وراء الباب يسأل عما إذا كان نيكولا الصغير يستطيع الدخول لإلقاء تحية المساء، فأعقبت ناتاشا: وهذا كل شيء، كل شيء …

ونهضت بشدة في اللحظة التي دخل فيها نيكولا، ولقد اصطدم رأسها وهي تسارع إلى الخروج بالباب الذي يحجبه ستر، فاندفعت خارجة وهي تزمجر من الألم بقدر ما يطفح في نفسها من الحزن.

نظر بيير إلى الباب الذي خرجت منه دون أن يدرك لماذا ظل فجأة وحيدًا في العالم.

أخرجته الأميرة ماري من تأملاته، جاذبة انتباهه إلى ابن أخيها الذي دخل لتوه، ولقد أحدث وجه نيكولا الشديد الشبه بوجه أبيه في نفسه وهو على تلك الحالة من التحنان أثرًا كبيرًا، حتى إنه بعد أن عانق الفتى نهض بشدة وأخرج منديله ثم ابتعد نحو النافذة، أراد أن يستأذن الأميرة ماري منصرفًا لكنها استبقته: كلا، لا تذهب، إن ناتاشا وأنا نسهر أحيانًا حتى قرابة الساعة الثالثة صباحًا، عد إلى الجلوس أرجوك، سوف آمر بإعداد العشاء، انزل، لن نتأخر عن اللحاق بك.

وفي اللحظة التي همَّ بيير فيها بالخروج قالت له الأميرة: هذه هي المرة الأولى التي تحدثت فيها عنه بهذا الشكل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤