الفصل العشرون

نفسية بيير

لم يكن يعتلج في نفس بيير في تلك الآونة شيء مماثل لما كان يحس به في مناسبات مماثلة أثناء فترة خطوبته لهيلين.

لم يكن يكرر على نفسه كذلك العهد الكلمات التي فاه بها بخجل مرضي ولا يحدث نفسه قائلًا: «آه! لمَ لم أقل هذا؟ لماذا، لماذا قلت أحبك؟» أما الآن فعلى العكس كان يكرر في ذاكرته كل كلمة من كلماتها وكل كلمة من كلماته، وهو يرى بعين الخيال الأمارات نفسها والابتسامة ذاتها، دون أن يرغب في إبدال شيء وإضافة شيء مهما كان نوعه، كان كل ما يرغب فيه هو ترديد تلك الأقوال أيضًا. وأيضًا لم يتساءل لحظة واحدة عما إذا كان ما يشرع به سيئًا أم جيدًا، مع ذلك فإن نوعًا من الرهبة كان يتسلط عليه أحيانًا: «ولكن أليس كل هذا أضغاث أحلام؟ ألم تخطئ الأميرة ماري؟ ألست شديد التيه بنفسي مفرط الثقة بها؟ إنني مطمئن، وفجأة يقع ما يجب أن يقع، سوف تكلمها الأميرة ماري، وعندئذ سوف تبتسم وتجيب: كم هذا غريب! إنه مخدوع بلا شك، ألا يعرف بأنه مجرد رجل، لا أكثر من رجل، في حين أني أنا … شيء آخر مختلف كل الاختلاف؟ إنني مخلوق متفوق كل التفوق؟!»

كانت تلك الخشية وحدها تعذب بيير، ما كان يضع أي مشروع للمستقبل إذ إن السعادة التي تنتظره كانت تبدو بعيدة التصديق لدرجة كان يكفيه أن يراها تتحقق، وبعد ذلك لا يمكن لأي شيء أن يكون موجودًا، سوف يتم كل شيء.

استحوذ على بيير خبل مفاجئ، كان يعتقد أنه عاجز عن مثله، كان كل معنى الحياة ليس بالنسبة إليه فقط بل بالنسبة إلى العالم أجمع يتلخص في حبه وفي إمكان أن يكون محبوبًا منها. كان يخيَّل إليه أحيانًا أن الناس كلهم منشغلون بشيء واحد بسعادته المقبلة، ويخيَّل إليه أنهم جميعًا مبتهجون بقدر ما هو مبتهج، لكنهم يتظاهرون بإخفاء تلك الفرحة متظاهرين بأنهم منصرفون إلى مصالحهم الأخرى. كان يرى في كل كلمة وفي كل حركة تلميحًا إلى سعادته. وكان غالبًا ما يفاجئ الذين يقابلونه بنظراته وابتساماته المعبرة طافحة بمشاركة سرية ومشعة بالسعادة، لكنه عندما كان يلاحظ أن الأشخاص يمكن أن يكونوا جاهلين بسعادته كان يرثي لهم من كل نفسه، ويشعر بالرغبة في إفهامهم بأن كل ما يشغلهم ليس إلا تفاهة وبلادة لا يستأهلان عناء الالتفات إليهما.

وعندما كانوا ينصحونه بالاضطلاع بأعباء خدمة ما أو يصدرون في حضرته الحكم على مسألة ذات طابع عام تتعلق بالدولة أو بالحرب، ويزعمون أن هذا الحل أو ذاك هو الذي تتوقف عليه سعادة الجميع؛ كان يصغي إلى المحاضر وعلى شفتيه ابتسامة لطيفة مشفقة، ويدهش الذين يتحدثون معه بغرابة ملاحظاته. لكن كل الذين كانوا يبدون له أنهم فاهمون معنى الحياة الحقيقي أي شعوره هو، مثل التعساء الذين بلا ريب ما كانوا يفهمونه؛ كل هؤلاء كانوا يبدون له في هذه الحقبة من حياته تحت الضوء الساطع المنبعث من الشعور الذي يضيء روحه، لذلك فإنه يرى كأنه يرى دون أي عناء في أول من يقع بصره عليه كل ما هو جيد وجدير بالحب.

فحص أوراق زوجته المتوفاة، فلم يشعر لذكراها بأية عاطفة، كان يرثي لها فقط لأنها لم تتعرف على السعادة التي بات يتذوقها الآن. وبدا الأمير فاسيلي شديد الفخار بوسامه الجديد وبالمركز الجديد الذي حصل عليه، بدا لعينَي بيير عجوزًا يثير الشفقة والرثاء طيبًا.

تذكر بيير غالبًا في ما بعد هذه الفترة من الجنون السعيد، لقد ظلت الأحكام كلها التي أصدرها حينذاك على الناس والأشخاص عادلة في نظره لا يتطرق إليها الشك، ولم يكتفِ بعدم التنكر في ما بعد لأية وجهة نظر ارتآها حينذاك، بل كان على العكس يُهرع دائمًا إلى الفكرة التي تبناها خلال فترة جنونه كلما تطرق إلى نفسه الشك العميق أو التردد. وكانت تلك الفكرة تبدو دائمًا صحيحة.

كان يفكر: «لعلني بدوت حينذاك غريبًا ومثيرًا للضحك، لكنني ما كنت حينذاك مجنونًا بقدر ما يظنون، لقد كنت على العكس أكثر إحساسًا ونفاذ بصيرة مما لم أكنه قط، وكنت أفهم كل ما يجدر أن يُفهم في الحياة لأنني كنت سعيدًا.»

وكان بيير يقوم على أساس أنه لم يعد كسابق عهده ينتظر أن تكون لديه أسباب شخصية ليحب الناس على أساسها، أسباب كان يدعوها ميزان أولئك الناس، بل إن الحب كان يطفح من قلبه فكان يحب الناس دون سبب، ويجد أسبابًا لا تقبل الجدال تدفعه إلى محبتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤