الفصل الرابع

التصوير

ليس هنا مجال الحديث عن الصُّوَر الحائطية في قُصير عمرا أو في سامرَّا؛ فإن البنَّائين والفنانين الذين شيَّدوا بشرق الأردن في القرن الثامن ذلك الإيوان الذي يُعرف باسم: قُصير عمرا — ليتخذه أحد الخلفاء الأمويين مقرًّا للَهْوه وراحته — كانوا سوريِّين أثَّرَتْ فيهم التقاليد الصناعية والأساليب الفنية البيزنطية التي كانت تسود في سوريا منذ زمن طويل، وإن كانوا من ناحية أخرى قد تأثَّروا ببعض عناصر الفن الإسلامي وبالوَسَط الشرقي الذي كانوا يعيشون فيه، وببعض الأساليب الفنية الساسانية التي كانت موجودة في هذا الوسط الشرقي.١
وكذلك الخلفاء العباسيون الذين نُقشَتْ لهم في قصورهم بسامرَّا في القرن التاسع الصُّوَر الحائطية البديعة التي لم يصل إلينا منها — لسوء الحظ — إلا ما عثرت عليه البعثة الألمانية في حفرياتها، وكتب عنه الدكتور هرتزفلد٢ نقول إن هؤلاء الخلفاء العباسيين استخدموا فنانين غير مسلمين، أو فنانين مسلمين أخذوا جُلَّ أسرار صناعتهم وثقافتهم الفنية عن إيران، وعن بلاد المسيحية الشرقية.
وأكبر الظن أن فن تصوير الكتب وتذهيبها ظهر في العراق في خلال القرن التاسع الميلادي، ولكن شرح ذلك كله لا يدخل في دائرة هذا البحث.٣
وعلى كل حال، فبالرغم مما نراه في المصادر الأدبية والتاريخية من إشارة إلى كتب مُصوَّرة في القرنَين التاسع والعاشر؛ فإن أقدم ما نعرفه من الصُّوَر المُصغَّرة في الكتب miniatures يرجع إلى آخر القرن الثاني عشر، والنصف الأول من القرن الثالث عشر، ويُنسَب إلى مدرسة بغداد.
وقد ذهب الأستاذ ساكسيان إلى أن صورًا في مخطوط من كليلة ودمنة بمكتبة يلدز بإستانبول ترجع إلى النصف الأول من القرن الثاني عشر، وتُنسَب إلى مدرسة في شرقيِّ إيران،٤ ولكن أكثر مؤرِّخي الفن الإسلامي لا يُقرِّونه على هذا الرأي، بل يعتقدون أن الصُّوَر المذكورة لا يمكن إرجاعها إلى ما قبل القرن الرابع عشر.٥
ومهما يكن من شيء، فإن الصُّوَر المذكورة وتلك التي تُنسَب إلى مدرسة بغداد مصدرها سورية أو العراق أو إيران، ومن ثَمَّ ظن القوم طويلًا أن فن التصوير لم يزدهِر إلا في تلك الأقاليم، متأثِّرًا بالتعاليم الفنية التي أخذها العرب عن المانَوِيِّين واليعاقبة والصينيين، وظلوا لا يُفكِّرون في مصر كمهد لمدرسة من مدارس التصوير الإسلامي، حتى كان الاكتشاف المشهور في الفيوم، ذلك الاكتشاف الذي أثبَتْ وجود صُوَر مُصغَّرة إسلامية ترجع إلى آخر القرن التاسع، وإلى القرنَين العاشر والحادي عشر، وهي محفوظة الآن في المكتبة الأهلية بفينَّا، وقد كتب عنها الأستاذ جروهمان GROHMANN، وعلَّق عليها تعليقًا علميًّا وافيًا.٦

ولكنا نود قبل أن نبدأ في درس هذه الصُّوَر أن نقول كلمة عمَّا يسمُّونه تحريم التصوير في الإسلام؛ فقد زعم كثيرون من المستشرقين ومؤرِّخي الفنون الجميلة أن القرآن حرَّم رَقْم الصُّوَر وصناعة التماثيل، ولكن نظرة في الكتاب الكريم وفي كتب التفسير وفي أسباب النزول كافية لأن تُثبت أن هذا الزعم باطل لا أساس له.

وبالرغم من أن الأستاذ أرنولد في كتابه عن التصوير في الإسلام عقد فصلًا طويلًا للحديث عن هذا الموضوع، وأثبتَ بُطلان ما يزعمه هؤلاء المستشرقون؛٧ فإن فرنسيًّا قديرًا من علماء الآثار الإسلامية كتب في مؤلَّف حديث له أن القرآن لم يُحرِّم إلا تصوير ما له ظِلٌّ، وبالحَرِي: عمل التماثيل.٨
وقال فريق من المستشرقين: إن تحريم التصوير في الإسلام إنما جاء في الحديث، وما كنا نعترض على هذا القول لولا أن أصحابه ذهبوا إلى أن الشيعة لا تحترم هذا الحديث؛ ولذا ازدهرَتْ صناعة التصوير في فارس حيث يسود المذهب الشيعي.٩ وهذا باطل لا أساس له؛ فإن النحت والتصوير مكروهان عند علماء الشيعة كرههما عند أهل السُّنة، وإن كان الشيعيُّون لا يعترفون بما لدى السُّنِّيين من كتب الحديث، فإن لهم كتبًا خاصة تشمل ما يعترفون به من أحاديث النبي عليه السلام، وفيها ما يوجد في كتب أهل السُّنة من نَهْي عن التصوير، وإنذار للمُصوِّرين بأنهم سوف يُكلَّفون يوم القيامة أن ينفخوا في صُوَرهم الروح، وليسوا بنافخين.١٠

فالمسلمون من سُنِّيين وشيعيين مجمعون على كراهية النحت وتصوير الأحياء؛ لما فيهما من تقليد الخالق عز وجل، ولما ورد في الحديث من أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب ولا تصوير، ومن أن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المُصوِّرون، ومن أن الذين يصنعون هذه الصُّوَر يُعذَّبون يوم القيامة، يُقال لهم: أحيوا ما خلقتم … إلخ.

ومهما يكن من شيء فإن كراهية التصوير لم تكن وقفًا على الإسلام،١١ وهي فيه يمكن تفسيرها بنهي النبي عن نحت التماثيل وعمل الصُّور؛ رغبةً منه في أن يُبعد أتباعه عن كل ما من شأنه أن يُقرِّبهم لعبادة الأوثان.١٢

نعود الآن إلى الصُّور المصرية التي نشرها الأستاذ جروهمان:

وأقدم هذه الصُّوَر واحدة في مخطوط بقيَ منه ورقتان: اليُمنى منهما في وجهها آثار أربعة أسطر بالعربية، وفي ظهرها آثار اثنَي عشر سطرًا، بقيَّتها أربعة أسطُر في الورقة اليُسرى، وتحت هذه الأسطر الأربعة شجرة مرسومة بألوانٍ حية، وفيها فواكه قرمزية اللون، وعلى جانبَي الشجرة تَلَّين مُدرَّجَين يُذكِّران بالمنارة الملَّوية في جامع سامرَّا، وبمنارة الجامع الطولوني.

وقد ذهب الأستاذ جروهمان استنادًا إلى نوع الكتابة في هاتَين الورقتَين إلى أن الصورة ترجع إلى آخر القرن التاسع، أو إلى القرن العاشر الميلادي.

ولاحظ أيضًا تركيبها الأوَّلي، وما في رسمها وألوانها من أساليب تُذكِّرنا أيضًا بالفن المصري القديم.١٣
ورأى فريمل FRIMMEL أن الصورة المذكورة ترجع إلى القرن العاشر، ولكنا نظن أن فيها من خصائص الفن الطولوني ما يجعلنا نُرجِّح أنها ترجع إلى آخر القرن التاسع.
وهناك وثيقة أخرى عليها مسحة طولونية أكثر وضوحًا، وتتكوَّن هذه الوثيقة من خمس قِطَع من الورق إذا جُمعتْ صارت ورقةً أبعادها ١٤ × ١٦ سنتيمترًا، وظهر هذه الورقة عليه نص في أربعة عشر سطرًا، بينما وجهها عليه نص آخر من ثلاثة أسطر وخمسة، بينهما رسم سيدة ذات شعر طويل، وأمامها رجل جاثٍ على ركبتيه، وهذا النص جزء من الفصل السادس والأربعين من كتاب في الحب والجماع، ويصف باختصار المنظر الذي توضحه الصورة.١٤
والأستاذ جروهمان يُقارن تركيب هذه الصورة بالمعروف من التصوير القبطي والحبشي، ويظن أن راقم هذه الصورة كان لديه نموذج له علاقة بورق البردي المحفوظ الآن بمتحف تورين، والمشهور بما به من أبحاث في موضوعَي الحب والجماع ترجع إلى الدولة الفرعونية الحديثة.١٥ وعلى كل حال فإننا نلاحظ أن طريقة رسم الأشخاص في هذه الصورة تشبه كثيرًا الطريقة التي نراها على الخزف الطولوني.
وقد نشر الأستاذ جروهمان صورة أخرى وُجدت في الأشمونين، وهي الجزء الأيسر من ورقة من المحتمل أن تكون جزءًا من كتاب نوادر وحكايات مُصوَّرة، وتظهر في النصف الأيسر من الصحيفة صورة رجل ذي لحية كثَّة، وفي النصف الأيمن زخرفتان يحدُّهما خط مرسوم بالمسطرة، والزخرفة الأولى حلزونية تشبه كثيرًا الزخرفة الموجودة على قطعة الخشب الطولونية المحفوظة بمتحف اللوفر، والزخرفة الثانية من أشكال هندسية ونباتية تشبه الزخارف المرسومة على باطن أحد الأقواس في الجامع الطولوني.١٦

ونشر الأستاذ جروهمان بعض أوراق أخرى عليها زخارف عراقية وطولونية، ويمكن إرجاعها إلى آخر القرن التاسع أو أوائل القرن العاشر، كما أن في دار الآثار العربية أوراقًا أخرى صغيرة، قد يمكن إرجاع بعضها إلى التاريخ المذكور.

وفي مجموعة المسيو رالف هراري بك صورة ليست — لسوء الحظ — في حالة جيدة من الحفظ، ولكن في استطاعتنا أن نتبيَّن فيها صورة إنسان في يده كأس خمر، وبجانبه بعض أواني النبيذ، وفي ملابسه زخارف بعضها عليه مسحة طولونية ظاهرة تتجلَّى أيضًا في الزخارف الموجودة على أواني النبيذ، ممَّا يجعلنا نُرجِّح أن هذه الصورة ترجع إلى آخر القرن التاسع، أو إلى أول القرن العاشر الميلادي (انظر اللوحة رقم ٣٦).
بقي علينا أن نُشير إلى أن الأستاذ جروهمان يُرجع إلى العصر الطولوني «جلد كتاب» من خشب الأَرْز، عليه فُسيفساء من العاج والعضم، ومحفوظ الآن جزء منه بالقسم الإسلامي من متاحف برلين، ويستند جروهمان في رأيه هذا إلى الزخارف الموجودة على هذا اللوح الخشبي،١٧ ولكن في اعتقادنا أن هذه الزخارف ليس فيها أي مسحة طولونية ظاهرة؛ ولذا نُفضِّل أن نُرجع هذه القطعة إلى القرن العاشر، وهو رأي الهيئات الفنية في متحف برلين نفسه.١٨
ومهما يكن من شيء، فإننا لا نظن أن تلك القطعة من الخشب جلد كتاب كما ذكر الدكتور جروهمان؛ بل نُرجِّح أنها جزء من صندوق، وهي على كل حال تشبه قطعة بدار الآثار العربية عُثر عليها بجهة عين الصيرة وعليها أيضًا فُسيفساء من العاج والعضم.١٩
١  راجع مقال: AMRA في دائرة المعارف الإسلامية، ج١، ص٣٤١–٣٤٣، والفصل الذي عقده كريزول CRESWELL، للكلام عن قُصير عمرا في كتابه: Early Muslim Architecture، ج١.
٢  راجع: HERZFELD: Die Malereien von Samarra.
٣  راجع الفصل الأول من كتاب التصوير عند الفُرس، للدكتور زكي محمد حسن.
٤  راجع: SAKISIAN: La Miniature persane، ص٤ وما بعدها.
٥  راجع: BASIL GRAY: Persian Painting، ص٣٦.
٦  راجع: ARNOLD & GROHMANN: The Islamic book، ص٣ وما بعدها. وFRIMMEL: Zum Funde von El Fayum (Zeitschrift fur Kunst und Antiquitätensammler II Leipzig 1885)، ص٢٤٢.
٧  راجع: THOMAS ARNOLD: Painting in Islam، ص١–٤٠، والفصل الأول من كتاب التصوير عند الفُرس، للدكتور زكي محمد حسن.
٨  انظر: H. TERRASSE: L’art hispano-mauresque، ص٤ و٥.
٩  انظر: E. KÜHNEL:Islamiche Kleinkunst، ص٤. وG. LEHNERT: Illustrierte Geschichte des Kunstgewerbes، ج٢، ص٦٢٩-٦٣٠. وT. ARNOLD: ibid، ص١١-١٢.
١٠  انظر: T. ARNOLD: ibid، ص١٢-١٣.
١١  انظر: CHARLES DIEHL: Manuel d’art byzantin، ج١، ص٣٦٠ وما بعدها. وBRÉHIER La querelle des images (Paris 1904). وSCHWARZLOSE: Der Bilderstreit (Gstha 1890).
١٢  راجع ما كتبه الأستاذ محمد كرد علي في الجزء الأول من كتابه: الإسلام والحضارة العربية، ص١٠٥–١١٠.
١٣  راجع: The Islamic Book، ص٣.
١٤  راجع: ibid، اللوحة رقم ٢، وص٤.
١٥  راجع: Papyrus de Turin, Fac similés par ROSSI de Turin et publiés par W. PLEYTE Leyde.
١٦  راجع: ibid، ص٨.
١٧  راجع: ibid، ص٣٣.
١٨  راجع: SARRE: Buchkunst des Orients I, Islamische Bucheinbände، ص٢، ولوحة رقم ١.
١٩  انظر: اللوحة رقم ٣٤ واللوحة رقم ٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤