أديب

١

زعموا أن من أظهر خصائص الأديب حرصه على أن يصل بين نفسه وبين الناس، فهو لا يحس شيئًا إلا أذاعه ولا يشعر بشيءٍ إلا أعلنه، وهو إذا نظر في كتابٍ أو خرج للتروض، أو تحدث إلى الناس، فأثار شيء من هذا في نفسه خاطرًا من الخواطر، أو بعث في قلبه عاطفة من العواطف، أو حث عقله على الروية والتفكير، لم يسترح ولم يطمئن حتى يقيد هذا الرأي، أو تلك العاطفة أو ذلك الخاطر في دفترٍ من الدفاتر أو على قطعةٍ من القرطاس.

ذلك لأنه مريضٌ بهذه العلة التي يسمونها الأدب، فهو لا يحس لنفسه، وإنما يحس للناس، وهو لا يشعر لنفسه وإنما يشعر للناس، وهو لا يفكر لنفسه وإنما يفكر للناس. وهو بعبارةٍ واضحة لا يعيش لنفسه وإنما يعيش للناس، وهو حين يأتي من الأمر هذا كله يخادع نفسه أشد الخداع، ويضللها أقبح التضليل، فيزعم أنه مؤثر لا يريد أن يستمتع وحده بنعمة الإحساس والشعور والتفكير، وإنما يريد أن يشرك الناس في هذا الخير الذي أنتجته طبيعته الدقيقة الخصبة الغنية، فإذا كان متواضعًا، معتدل الرأي في نفسه فهو شقي تعس محزون، يحب أن يعلن إلى الناس ما يجد من شقاء وتعس وحزن، لعلهم يرثون له أو يرأفون به أو يشفقون عليه. وربما لم يرَ في نفسه إيثارًا، ولم يحس أنه شقي، وإنما آثر نفسه بالخير، وأحبها قليلًا أو كثيرًا، فهو يُسجل ما يحس وما يشعر وما يفكر ليحفظه من الضياع، وليستطيع العودة إليه من حينٍ إلى حين كلما خطر له أن يستعرض حياته الماضية، وكثيرًا ما تعرض له الفرص التي تحمله على أن يستعرض حياته الماضية، والذاكرة قصيرة ضعيفة، فلِمَ لا يسجل خواطره وعواطفه وآراءه التي يتكون منها تاريخه الفردي الخاص؛ ليعود إليه كلما دعاه إلى ذلك جد الحياة أو هزلها؟ وما أكثر ما يدعو جد الحياة وهزلها إلى أن يستعرض الإنسان حياته الماضية وما اختلف عليه فيها من الأحداث.

يخدع الأديب نفسه هذه الضروب من الخداع، ويعللها بهذه الألوان من التَّعِلَّات، وحقيقةُ الأمر أنه يكتب لأنه أديب، لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كتب، يكتب لأنه محتاج إلى الكتابة كما يأكل ويشرب ويدخن لأنه محتاج إلى الطعام والشراب والتدخين، وهو حين يكتب قلما يفكر فيما يَحسن أن يكتب، وما ينبغي ألا يعرفه القرطاس أو يجري به القلم، كما أنه حين يأكل ويشرب قلما يفكر فيما يلائم صحته وطبيعته ومزاجه من ألوان الطعام والشراب وأصناف التبغ، إنما هي حاجة تضطره إلى الحركة، فيتحرك وتدفعه إلى العمل فيعمل، فأما عواقب هذه الحركة ونتائج هذا العمل فأشياء قد يتاح الوقت للتفكير فيها في يومٍ من الأيام حين تصبح أمرًا مقضيًّا لا منصرف عنه ولا سبيل إلى التخلص منه.

إذا كان هذا كله صحيحًا، وأكبر الظن أنه صحيح، فيجب أن يكون صاحبي الذي أريد أن أتحدث إليك عنه أديبًا، فلست أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلًا أضْنَتْه علة الأدب، واستأثرت بقلبه ولُبِّه ونفسه كصاحبي هذا؛ كان لا يحسن شيئًا، ولا يشعر بشيء، ولا يقرأ شيئًا، ولا يرى شيئًا، ولا يسمع شيئًا إلا فكر في الصورة الكلامية، أو بعبارةٍ أدق في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس وما شعر وما قرأ وما رأى وما سمع. وكان يجد مشقة شديدة في إخفاء تفكيره هذا على الناس، فكثيرًا ما كان يقول لأصحابه إذا رأى شيئًا أسخطه أو أرضاه: ما أخلق هذا الشيء أن ينشئ صورة أدبية ممتعة للسخط أو للرضاء! وكان يقضي نهاره في السعي والعمل والحديث حتى إذا انقضى النهار، وتقدم الليل وفرغ من أهله ومن الناس وخلا إلى نفسه، أسرع إلى قلمه وقرطاسه وأخذ يكتب ويكتب ويكتب حتى يبلغ منه الإعياء وتضطرب يده على القرطاس بما لا يعلم ولا يفهم، وتختلط الحروف أمام عينيه الزائغتين، ويأخذه دوار، فإذا القلم قد سقط من يده، وإذا هو مضطر إلى أن يأوي إلى مضجعه ليستريح. ولم يكن نومه بأهدأ من يقظته، فقد كان يكتب نائمًا كما كان يكتب يقظًا، وما كانت أحلامه في الليل إلا فصولًا ومقالات، وخطبًا ومحاضرات؛ ينمق هذه ويدبج تلك، كما كان يفعل حين كانت تجتمع له قواه العاملة كلها، وكثيرًا ما كان يحدث أصدقاءه بأطرافٍ غريبة قيمة من هذه الفصول والمقالات التي كانت تمليها عليه أحلامه فيجدون فيها لذة ومتاعًا.

وكثيرًا ما كان يقرأ عليهم فصولًا من النثر ومقطوعات من الشعر أملتها عليه يقظته، وسجلتها يده حين كان يخلو إلى نفسه بعد أن يكون قد ملأ عينيه وأذنيه وحسه وشعوره وقلبه وعقله بما يحيط به من الأشياء وبما يحسه من الناس ومن الحياة.

وكان أصدقاؤه إذا سمعوا منه هواجس الأحلام أو خواطر اليقظة ألحُّوا عليه في أن يذيع ذلك وينشره، فيبتسم ثم يهزأ، ثم يمتنع عليهم ويلح في الامتناع؛ لأنه كان يؤمن بأن ما يكتبه لم يصل بعد إلى أن يكون خليقًا بأن يُقدم إلى المطبعة، فهو كان يخاف المطبعة ويُكْبرها ويحيطها بشيءٍ من التقديس غريب، وكان يتحدث بأن ما يقدم إلى المطبعة من الآثار المكتوبة أشبه شيءٍ بما كان يقدمه الوثنيون القدماء إلى آلهتهم من الضحية والقربان، وبما يتقدم به الآن المؤمنون المترفون إلى إلههم من الصلاة والدعاء، فمن الحق أن تُصطفى الضحية وأن يُتخير القربان، وأن تكون الصلاة قطعة من النفس وأن يكون الدعاء صورة للقلب والعقل جميعًا.

وكان صاحبنا يرى أن ليس فيما كتب ضحية تُصطفى ولا قربان يُختار، وأنه لم يوفق إلى أن يودع القرطاس من نفسه، أو يسطر عليه صورة قلبه وعقله. فما زالت الآماد بينه وبين المطبعة بعيدة، وما زالت الأستار والسُّجُف دونه مسدلة.

فليكتب إذن لنفسه لا للمطبعة، فإذا ضاق بنفسه وبما تملي فليظهر أصدقاءه على شيءٍ منه وليُرضِ هذه الحاجة القوية التي نحسها جميعًا إلى أن نشرك الناس فيما نجد من حسٍّ أو شعور. والحق أن صاحبي لم يكن يقدم على هذا إلا كارهًا مضطرًّا حين لا يجد بدًّا من الإقدام، أو حين يسأله أصدقاؤه عما أحدث بعدهم، وكان حياؤه يمنعه من إظهار عقله وقلبه، كما يمنعه من عرض جسمه عاريًا على الناس. ولكن أصدقاءه لم يكونوا في حاجةٍ إلى أن يروا شخصه عاريًا، وكانت حاجتهم شديدة إلى أن يروا نفسه كما هي؛ لأنها كانت جميلة خلابة تروعهم حينًا، وتثير في نفوسهم الحب والمودة دائمًا.

كان قبيح الشكل نابي الصورة تقتحمه العين ولا تكاد تثبت فيه، وكان إلى القِصر أقرب منه إلى الطول. وكان على قِصره عريضًا ضخم الأطراف مرتبكها كأنما سُوِّيَ على عجل، فزادت بعض أطرافه حيث كان يجب أن تنقص، ونقصت حيث كان يَحسن أن تزيد، وكان وجهه جهمًا غليظًا يخيل إلى من رآه أن في خديه ورمًا فاحشًا، وكان له على ذلك أنف دقيق مسرف في الدقة، منبطح غال في الانبطاح، قد اتصل بجبهة دقيقة ضيقة لا يكاد يبين عنها شعره الغزير الجعد الفاحم.

لم تكن قد تقدمت به السن، بل لم يكن جاوز الثلاثين، ولكن علامات الكبر كانت بادية على وجهه وقدِّه لا يخدع عنها أحد. كان على قِصره مقوس الظهر إذا قام، منحنيًا إذا جلس، ولعل إدمانه على الكتابة والقراءة، وإسرافه في الانحناء على الكتاب أو القرطاس هما اللذان شوها قدَّه هذا التشويه، وقلما كان وجهه يستقيم أمامه، إنما كان منحرف العنق دائمًا إلى اليمين أو إلى الشمال، وقلما كانت عيناه الصغيرتان تستقران بين جفونه الضيقة. إنما كانتا مضطربتين دائمًا لا تكادان تستقران على شيء حتى تدعاه مصعدتين في السماء، أو تنحرفا عنه إلى ما يليه من إحدى نواحيه.

ولم يكن صوته عذبًا ولا مقبولًا، وإنما كان غليظًا فجًّا، ولكنه مع ذلك لم يكن يخلو من نبرات حلوة تجري عليه إذا قرأ شيئًا فيه تأثُّرٌ وانفعال، وكان له ضحك غليظ مخيف يسمع من بعيد، بل كان كل ما يصدر عن صوته غليظًا مخيفًا يسمع من بعيد، ولم يكن للنجوى معه سبيل، وكثيرًا ما ضايقه ذلك حين كان في باريس، وكثيرًا ما حمل ذلك الناس عامة، وأصدقاءه خاصة، على أن يضيقوا به ويجتنبوه إذا لقوه في قهوةٍ أو نادٍ أو ملعبٍ من ملاعب التمثيل.

وهو على رغم هذا كله كان أحب الناس إليَّ، وأكرمهم عليَّ، وآثرهم عندي، وأحسنهم مسلكًا إلى نفسي، ومنزلًا من قلبي؛ كان يزورني فأنصرف إليه عن كل شيء وأقضي معه الساعات، فإذا تركني خيل إليَّ أني لم أقضِ معه إلا اللحظات القصار. وكنت إذا أعياني الدرس واحتجت إلى الرياضة أو الراحة آثرت زيارته والتحدث إليه والاستماع له على كل ما كانت تقدم إليَّ القاهرة أو باريس من أنواع الرياضة والراحة.

٢

فقد عرفته في القاهرة قبل أن يذهب إلى باريس، ثم أدركته في باريس بعد أن سبقني إليها، عرفته مصادفةً وكرهته كرهًا شديدًا حين لقيته لأول مرة، كنا في الجامعة المصرية القديمة في الأسبوع الأول لافتتاحها، وكنت أختلف إلى ما كان يلقى فيها من المحاضرات، حريصًا عليها مشغوفًا بها معتزمًا ألا أضيع حرفًا مما يقول المحاضرون، وكان مجلسي لهذا دائمًا قريبًا من الأستاذ، فإني لمصغ ذات ليلة إلى الأستاذ وإذا بصوتٍ من ورائي ينطلق بالحديث هادئًا، ولكنه على هدوئه يغمر أذني جميعًا، ويكاد يخفي عليَّ صوت الأستاذ فأجدُّ في التخلص منه فلا أفلح، وأضيق بهذا الصوت ويضيق به صاحباي اللذان يكتنفاني.

فنلتفت إلى صاحب الصوت نطلب إليه الصمت فلا يسكت إلا ريثما يستأنف الحديث، ونراجعه مرة أخرى فلا يحفل بنا، فنشكوه إلى الأستاذ فيضطره الأستاذ إلى الصمت، حتى إذا انتهت المحاضرة وخرجنا من غرفة الدرس رأيناه قد وقف لنا ينتظرنا، فيعرض لنا في غلظة، فإذا زعمنا له أن من حقنا أن نسمع الأستاذ، وأن ليس له أن يصرفنا عنه، قهقه قهقهة مخيفة، وقال في صوتٍ ما نشك أن الأستاذ قد سمعه: «وماذا تريدون أن تسمعوا؟ ولكنكم معذورون، جئتم من الأزهر، فكل شيء عندكم قيم، وكل شيء عندكم جديد.»

واجتهدنا بعد ذلك في أن نجتنب مكانه من غرفة المحاضرات وأن نختار لأنفسنا مجلسًا بعيدًا منه أقصى غاية البعد، تركناه ولكنه لم يتركنا، وكأنما عمائمنا كانت تغريه بنا وتحرضه علينا، فلم نكن نخرج من محاضرة حتى يعرض لنا ويأخذ بجبتي أو قفطاني وهو يسألني: «أأعجبتك المحاضرة؟» فإن قلت: «نعم» قال: «وماذا أعجبك منها؟ وهل فهمتها على وجهها؟» وكان يقول لي: «هون عليك من هذا الحرص على المحاضرات ولا تتهالك عليها هذا التهالك، فهي أقل غناء مما تظن، وخير لك أن تقرأ من أن تسمع.»

فلما ألح عليَّ في ذلك سألته: وإذا كنت ترى هذا الرأي فما اختلافك إلى الجامعة؟ وما استماعك للمحاضرات؟ وما تهويشك علينا بصوتك العالي وحديثك الذي لا ينقطع؟ فضحك وقال: الجامعة شيء جديد أحب أن أراه، وقد سئمت القهوة، ولو لم يكن في الجامعة إلا أنت وأصحابك هؤلاء الذين تتفتح عقولهم للعلم الحديث فيتلقون ما يسمعون في كلف ونهم مصدرهما الجهل العميق، لكان هذا كافيًا لأن أختلف إلى الجامعة وأستمع للمحاضرات، ثم سألني ذات يوم: أين تقيم؟ أجبته: أقيم في حي كذا، قال: ومع من تقيم؟ قلت: مع جماعة من الأهل والأصدقاء كلهم يطلب العلم في الأزهر أو في المدارس المدنية، قال: إن منزلك بعيد وليست بيئتك بالتي تحب، فأنا لا أحب مجالس الطلبة، وأنا مع ذلك حريصٌ على أن أجلس معك وأتحدث إليك فأطيل الحديث، بل أنا حريص على أن أقرأ معك بعض الكتب، فلا بد إذًا من أن نلتقي، ومن أن نلتقي في نظام وإطراد، فليكن ذلك عندي، ولك عليَّ أن أردك إلى أهلك وأصدقائك قبل أن يتقدم الليل، دون أن تجد في ذلك مشقة أو تحتمل فيه عناء.

وكان يقول هذا بصوته الغليظ العريض في لهجة الحازم الواثق بأن أمره سيطاع، وقد هممت أن أرد عليه معتذرًا، وما كان أكثر المعاذير.

فلم أكن أستطيع أن أسهر ولا أتعرف إلى أحد دون إذن من أخي، وكان عليَّ أن أغدو مع الفجر إلى درس الأصول، ولم يكن بد من أن أستعد لهذا الدرس وغيره من دروس الأزهر، وأن أعوض هذا الوقت الذي أضيعه كل مساء في الجامعة على كرهٍ من أخي في القاهرة، وأسرتي في الريف.

هممت أن أعتذر، ولكنه لم يمهلني ولم يتح لي أن أقول حرفًا، وإنما استوقف عربة ودفعني فيها دفعًا، وأمر خادمي الأسود الصغير أن يجلس إلى جانب السائق، وجلس هو إلى جانبي وقال للسائق بصوته الغليظ العريض: إلى القلعة، وكنت أسكن في أقصى الجمالية، فلما أخذت أقدر بعد الأمد بين داره وداري، وهممت أن أتكلم، وضع يده على كتفي وقال: ألم أقل إني سأردك إلى حيث تقيم؟!

٣

وقطعت بنا العربة أحياء مختلفة، ومضت بنا في أجواء متباينة، وكنت أحس اختلاف الأحياء، وتباين الأجواء فيما يصل إليَّ من أصوات الناس وحركاتهم ومن اضطراب الأشياء من حولنا، كما كنت أحس ذلك في سير العربة نفسها وفي لهجة السائق وهو يدفع الناس أمامه ويطلب إليهم أن يتنحوا له عن الطريق أو أن يجنبوا أنفسهم خيله وعربته.

كان الحي رشيقًا أنيقًا، وكان الجو سمحًا طليقًا، وكانت الحركات والأصوات من حولي لا تخلو من شدةٍ وعنف، ولكن فيها ظرفًا وتأنقًا، حتى إذا بلغنا شارع محمد علي ضاقت الطريق، واشتد أمامنا الزحام، وكثر من حولنا الصياح، وأخذت أصوات الأطفال ونساء الشعب تختلط بأصوات الرجال من العمال وسائقي عربات النقل، وانتشرت في الجو روائح ثقيلة تمتاز منها روائح البصل والثوم وقد أخذت تعمل فيهما النار، وارتفع صوت السائق واتصل، وكثر نذيره وتحذيره، وكثر حوله لوم الناس له وتأنيبهم إياه، وتردد في الهواء هذا الصوت المعروف الذي يحدثه السائقون بأسواطهم حين يأتون بها هذه الحركة التي يردعون بها الخيل وينبهون بها المارة، ثم تنفسح الطريق وتتسع ويصفو الجو، ويخف الهواء وتهدأ الحركة، ويتنفس السائق مطمئنًّا، وتمشي الخيل رفيقة. ولكن ذلك لا يطول إلا ريثما تنعطف العربة ذات اليمين، وإذا نحن في حارةٍ ضيقة هادئة قد ثقل فيها الهواء وفسد فيها الجو وكثرت في أرضيها الأخاديد. فالعربة تقفز بنا قفزًا، والسائق يهز سوطه في الهواء، ويحذر وينذر في هدوءٍ ورضى، ويدعو ذلك بعض النوافذ إلى أن تفتح، ويثير ذلك بعض الصبيان فيخرجون من بيوتهم أو من أوكارهم يعبثون بالسائق، ومنهم من يتعلق بالعربة ثم ينصرف عنها، ونحن نضحك من هذا كله، ونضحك من السائق خاصة، وهو ينظر أمامه ويلتفت وراءه، ويضرب الهواء بسوطه، ويطلق لسانه بألفاظ ترق حتى تبلغ المداعبة الحلوة، وتغلظ حتى تصل إلى الشتم القبيح، وكل ذلك يصل إلى نفسي فيحدث فيها آثارًا مختلفة، ولكنها على اختلافها تتفق في شيءٍ واحد وهو الطرافة؛ لأني لم أكن تعودت ركوب العربات، ثم يقف السائق فجأة وننزل من العربة، وإذا صاحبي يقول لي: لم نبلغ البيت بعد، ولكننا انتهينا إلى حيث لا تستطيع العربة أن تمضي، فهل تعودت التصعيد والرقي في الجبل، فأنا لا أحب أن أسكن في السهل المنبطح فأكون كغيري من الناس. وإنما أحب أن أشرف على القاهرة، وأن أخيل إلى نفسي أني لست منغمسًا فيها، وأني أدخلها إذا غدوت إلى عملي مع الصبح وأخرج منها إذا رحت إلى بيتي مع الليل، ولست أخفي عليك أني أجد لذة قوية حين أدخل المدينة مع النهار هابطًا إليها من هذه الربوة كأني أغزوها وأسقط عليها سقوط النسر على فريسته، وأجد لذةً أخرى ليست أقل من تلك اللذة قوة حين أمضي النهار كله في المدينة مضطربًا مع الناس فيما يضطربون فيه من عمل، خائضًا مع الناس فيما يخوضون فيه من حديث، مشاركًا للناس فيما يأتون من خير وشر، نافعًا ضارًّا، منتفعًا محتملًا للضرر، حتى إذا كان المساء ضقت بهم وضاقوا بي، وأويت إلى جامعتكم هذه الجديدة أريح نفسي بما أسمع من كلامٍ فيه الممتع وفيه السخيف، ولكنه على كل حال ليس بذي غناء، حتى إذا أخذت بحظي من هذه الراحة الأولى، رحت إلى بيتي، فلا تَسَلْ عن هذا الشعور العذب الذي يغمر قلبي شيئًا فشيئًا كلما دنوت من هذا المكان؛ أحس كأني أنسلُّ من المدينة، وأتخفف من أثقالها، وألقي آثامها من ورائي، وأطهر جسمي ونفسي من أوضارها وأدرانها، حتى إذا رقيت هذه الربوة وبلغت قمتها هذه — وكنت قد أحسست الجهد من التصعيد في طريقٍ عالية ملتوية — وقفت وقفة من كان في مكروهٍ فخلص منه. وأرسلت زفرة يخيل إليَّ أنها تحمل بقية ما علق بنفسي من شر المدينة، ثم تنفست ملء رئتي مرة ومرة، ثم أقبلت هادئًا مطمئنًّا قصير الخطى إلى هذا الباب. وهنا وقف ودق الباب دقتين ففتح لنا ثم أغلق من دوننا.

٤

وانعطف بنا إلى اليمين فمشينا خطوات، ثم انتهى بنا إلى دهليز، فرقينا درجات، وخادم صبية تسعى بين أيدينا وقد حملت في يدها اللطيفة سراجًا صغيرًا يضطرب منه ضوء ضئيل، حتى إذا بلغنا أعلى السلم وقف يبحث في جيبه عن بعض الشيء، ثم أخرج مفتاحًا فأداره في قفل أمامه حتى إذا فتح له الباب صاح صيحة عريضة أن اخلع نعليك فقد بلغت الغرفة الحرام.

ولم أكد أسمع هذه الجملة حتى انحنيت إلى حذائي أريد أن أخلعه حقًّا، وأي غرابة في ذلك؟ فقد تعودت خلع الحذاء مرات في كل يوم، حين كنت أختلف إلى الدروس في الأزهر أو في جامع محمد بك، أو في جامع العدوي، أو في جامع الأشرف. هناك حيث كنت أستمع لدروس الأصول والفقه والنحو والمنطق والتوحيد، وتعودت خلع الحذاء حين كنت أزور بعض الدور، ولا سيما دور شيوخنا من العلماء، ولا سيما هذا الشيخ الذي كان الخديو قد نفاه من الأزهر نفيًا وحظر عليه التعليم فيه. فتبعناه إلى داره وألححنا عليه في أن يمضي في إلقاء ما كان يلقي علينا من الدروس لا حبًّا في علمه ولا تهالكًا على شخصه، ولكن تحديًا لذلك السلطان الذي كنا نراه جائرًا متحكمًا، ولا نريد أن نذعن لجوره، ولا لتحكمه، وآية ذلك أننا نشرنا في الصحف خبر إلحاحنا على الأستاذ، واستجابة الأستاذ لنا، واختلافنا إلى داره في الضحى من كل يوم نسمع منه الأصول في بعض الأيام، والمنطق في بعضها الآخر.

هنالك في الدرب الأحمر كنا نبلغ الدار مختلفين، فبعضنا يتخذ أحذية الشيوخ، وبعضنا يتخذ أحذية الأفندية، وكلنا كان يخلع حذاءه، إذا بلغ المنظرة، فلم أجد غرابةً إذًا في أن يطلب إليَّ صاحبي أن أخلع نعلي حين بلغنا غرفته هذه، فلعل ما كان يغطي أرضها من بساطٍ أو حصير كانت تقام عليه الصلاة، كما كانت تقام على ما يغطي أرض المساجد وأرض منظرة الشيخ من بساطٍ أو حصير. ولكني لم أكد أنحني على حذائي لأخلعه حتى امتلأ الجو بضحكٍ عريض رائعٍ مخيف، ثم امتدت إليَّ يد صاحبي الغليظة فردتني إلى اعتدال القامة، وصاحبي يقول: ماذا تفعل؟ أفتظن أنك في الأزهر؟ أوَهذا كل ما علمته من البيان؟ قلت في شيءٍ من الدهش عظيم: وأي غرابة أن تخلع النعال عند أبواب الغرف؟ وأين يكون البيان وأبوابه من خلع النعال؟ قال: يا سيدي إنهم يدرسون لكم في الأزهر التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية. وما أشك في أنك تستطيع أن تعيد عليَّ كل ما سمعته من هذا، ولكنك تملأ صدرك بما لا تفهمه ولا تحسن الانتفاع به، فإني لم أرد أن تخلع نعليك، وإنما أردت أن تكبر هذه الغرفة التي بلغتها والتي ستدخلها؛ لأنها غرفة العلم والأدب، ومستقر الأسفار والكتب، ومهبط الوحي إن كان ما يقع في نفس رجل مثلي يريد أن يكون أديبًا شيئًا يمكن أن يسمى وحيًا. فلو أنك تدرس علم البيان درس فهم وانتفاع حقًّا، لما أعياك أن تفهم عني ما كنت أريد. قال ذلك في صوتٍ غليظ يقطعه هذا الضحك الذي يصور السذاجة والمكر وحب السخرية في وقتٍ واحد، ثم أخذ بيدي ومضى معي حتى أجلسني على كرسي أمام مائدة لم أكد أضع عليها يدي حتى لمست كتابًا.

وكانت الخادم في أثناء ذلك ما زالت قائمة وفي يدها اللطيفة سراجها الصغير. فالتفت إليها مغضبًا ضاحكًا معًا، وهو يقول: وما وقوفك أنت هنا كالصنم؟ ثم خفض صوته قليلًا وقال: ومع ذلك فإن منظرها جميل يصور بعض ما تركه لنا القدماء من آثار الفن.

ولم تنصرف الصبية بسراجها، وإنما ظلت في مكانها حتى مد يده إلى سلسلة تضطرب في الجو فجذبها إليه في شيءٍ من العنف، حتى إذا هبط إليه المصباح المعلق في السقف أضاءه ورفعه، وقال للصبية: انصرفي الآن وعشينا إن كان عندك طعام.

ثم جلس مني غير بعيد وأشار إلى غلامي الأسود الصغير أن استرح حيث تشاء، وبدأ حديثه معي في لهجة الحازم الجاد، فقال: والآن يا سيدي يجب أن ندع اللغو فما جئنا هنا لنلغو ولا لنلهو، وأن نأخذ في الجد فللجد وحده أقبلنا، فحدثني من أنت، وسأحدثك من أنا، حتى إذا عرف كل منا صاحبه وأخذنا فيما ينبغي أن نأخذ فيه قلت: فإنك تنظم الأمر كما تحب، تتحكم في ذلك تحكمًا غريبًا؛ لا تسألني عن شيء، ولا تستشيرني في شيء! فإني لم أطلب إليك أن أجيء إلى هذا المكان ولا أن آخذ معك في لغوٍ أو جد. قال مقاطعًا: فأنت لا تريد إذًا أن تحدثني عن نفسك حتى أحدثك عن نفسي، فسأحدثك عن نفسي ولكن بعد أن أنبئك أني أعرفك حق المعرفة، وكنت خليقًا أن تعرفني لولا أنك حديث السن.

ثم قص عليَّ من أمري ما كنت أظن أنه أبعد الناس عن العلم به، ولكني لم أدهش لذلك حين ذكر لي اسمه وتحدث إليَّ عن أسرته، وأنبأني بأنه من هذه القرية التي ليس بينها وبين مدينتنا إلا ساعة أو بعض ساعة للذين يمشون على الأقدام، وأنه قد نشأ في مدينتنا، أو أكثر التردد عليها حتى كأنه نشأ فيها، وأنه قد تعلم القراءة والكتابة في نفس الكتاب الذي تعلمت فيه، وقد عرف إخوتي الذين سبقوني إليه، وقد ظلت المودة متصلة بينه وبين بعضهم حتى تركت أسرتنا هذه المدينة إلى أقصى الصعيد، وحتى هبطنا نحن إلى القاهرة نطلب العلم في مدارسها المختلفة.

منذ ذلك الوقت تقطعت الأسباب أو رثَّت بينه وبين من كان يود من إخوتي، يسألني عنهم واحدًا واحدًا، وأنا أجيبه، ثم أسأله عن نفسه كيف تعلم وماذا يعمل الآن؟ فينبئني بأنه أتم درسه الثانوي منذ أعوام، واتصل بوزارة الأشغال يعمل فيها كاتبًا في بعض الدواوين يختلف إليها وجه النهار، ويعكف آخر النهار وجزءًا غير قليل من الليل على القراءة والدرس حتى كلف بهما أشد الكلف، وأصبح عمله في الوزارة وسيلة آلية، على حين هو عند أترابه من الشبان غاية لا يلتمسون غيرها غرضًا من أغراض الحياة.

ولم يكد يتقدم الحديث بيننا في هذه الشئون حتى أقبلت الخادم تزيل ما على المائدة من كتب لتهيئها للأطباق وآنية العشاء، وقد زالت الكلفة بيننا، وأخذت أسمع منه وأتحدث إليه كما يكون الأمر بين إلفين قد بعد العهد بما بينهما من المودة والحب والمخالطة، فليس بينهما تصنع ولا تكلف ولا عناية بما يقولان.

وما هي إلا لحظات حتى كنا نلهو ونضحك من ذكريات لم نلبث أن وجدناها مشتركة بيننا، وكلها متصل بحياتنا في الريف.

٥

قال لي في بعض ما كان يقول، وقد هدأ نشاطه وانخفض صوته، ورقَّت لهجته، وجعل يتحدث إليَّ كأنما يهمس همسًا وكأنما يصدر صوته عن نفس متأثرة أشد التأثر، وقلب يملؤه الود والحنان، ولو أني استطعت أن أرى وجهه في تلك الساعة لما شككت في أني كنت خليقًا أن أتبين فيه مظاهر التأثر وآيات الحنان.

قال لي في هذا الصوت العذب: «هبني في القرية، وهبك في المدينة، وهبني أريد أن أزورك لأقضي معك شطرًا من النهار، فأين ألقاك؟»

قلت: «إنما يزار الناس في دورهم.» قال: فإني لا أريد أن أزورك لأني لا أريد كلفة ولا حرجًا، ولا تقيدًا بهذه الأوضاع التي يتقيد بها الناس، ولا سيما الشباب والصبية، حين يتزاورون في الدور، حيث الآباء والإخوة الكبار، إنما أريد أن ألقاك حرًّا، طلقًا، لا تحسب حسابًا لشيءٍ ولا لأحد، وأحب أن تلقي عن رأسك هذه العمة الثقيلة التي تضطرك إلى وقارٍ لا أحبه لك، ولا أرضاه منك، وأن تخرج من هذه الثياب التي لا يلبسها إلا الشبان الذين تقدمت بهم السن إلى ضحوة الشباب، فأنت في آخر ليل الطفولة، وفي أول فجر الشباب. قد أخذت نفسك تتفتح للحياة وتبسم لها، وتخرج من غفلة الطفولة، وتحاول أن تقدر الأشياء، وأن تزنها وأن تحكم عليها في هذا الغرور الجميل اللذيذ، الذي يخيل إلى الغلمان أنهم رجال، ويلقي في روعهم أن آراءهم موفقة دائمًا، وأن أحكامهم صائبة دائمًا، وأن الكبار من الرجال يخطئون حين يسيئون الظن بهم ويرونهم صغارًا ولا يشركونهم معهم في كبار الأمور.

ألقِ إذًا هذه العمة، واخرج إذًا من هذه الجبة، ومن هذا القفطان، وعد إلى ثوبك الفضفاض، الذي كنت تلبسه قبل أن تهبط إلى القاهرة، والذي كان يمتاز من ثياب أترابك من أهل الريف بضيق كميه وتكسرهما بعض الشيء عند آخرهما، وبهذا التكسر المنظم على الصدر، وفي أعلى الظهر، وبهذا الحزام العريض الذي كان يتصل به عند الخصر، ولكنه لا يحيط بالجسم كله، وإنما هو قطعتان قد خيطتا على جانبي الثوب من يمين وشمال، ثم وصلت إحداهما بالأخرى أزرار من الصدف. عد إلى هذا الثوب وضع على رأسك ذلك الغطاء الرقيق الأبيض الذي يسمونه الطاقية وما هو بالطاقية، وإنما هو شيء يصطنعه المترفون من أهل المدن في الأقاليم يقلدون به بعض قلانس الفرنجة ويسمونه الطاقية الإفرنجية.

عد إلى هذا الزي، وسأخرج أنا من هذا الزي الأوربي وأعود إلى الزي الذي كنت أصطنعه في الريف حين لم أكن أذهب إلى المدرسة فأدخل في ثوبٍ من الصوف، مفتوح الصدر، وأتخذ على رأسي الطربوش، كما يفعل المترفون من أبناء العمد، فأنت تعرف أني ابن عمدة، وسأزورك ماشيًا لا أركب لهذه الزيارة فرسًا ولا حمارًا؛ لأني أريد أن أكون حرًّا طليقًا، وأن أقضي معك وقتًا لا يشغلني فيه التفكير في فرس أو حمار.

عد إلى زيك القديم وسأعود إلى زيي القديم وانتظر أن أزورك، وحدثني أين ألقاك، على ألا يكون اللقاء في بيتك فأنا أعرفه حق المعرفة، ولا أريد أن أجلس في المنظرة، ولا أريد أن أجلس في ظل هذه العنبات التي تقوم إلى جانبها، ولا أريد أن ألعب في هذا الفناء الذي ينبسط أمامها والذي يرونه واسعًا وأراه ضيقًا، والذي يحب أبوك أن يجلس فيه إذا كان العصر، والذي يؤثر سيدنا أن يقرأ فيه القرآن كل يوم قبل أن تطلع الشمس.

إنما أريد لقاء حرًّا، في مكان حر، ليس فيه رقيب يسمع لنا إذا تحدثنا، أو يسألنا أين تذهبان إذا أردنا أن نمضي أمامنا وألا نلزم مكانًا بعينه.

قلت وقد أثر في نفسي حديثه وصوته ولهجته وما أثار من الذكرى، فرجعت إلى ذلك الطور الذي كنت فيه حين فارقت المدينة لأهبط إلى القاهرة، ورجعت إلى ذلك الزي الذي وصفه والذي كنت أعود إليه كلما عدت إلى الأقاليم.

قلت: فستلقاني إذًا في طريقك جالسًا أمام دكان الشيخ محمد عبد الواحد، على أحد هذين الصندوقين اللذين يكتنفان الدكان عن يمين وشمال، واللذين يجلس عليهما الناس لينفقوا بعض الوقت في الحديث وفي النظر إلى من يأتي ومن يغرب، أو من يذهب إليه، وإلى النساء وهن يذهبن إلى الإبراهيمية ليملأن جرارهن، ويعدن منها وقد أثقلت رءوسهن هذه الجرار، وهن يتحدثن همسًا بينهن أثناء النهار، كما يتغنين جماعة حين يغدون مع الصبح، أو في الاستماع إلى حديث هاتين المرأتين اللتين تكتنفان الدكان عن يمين وشمال، إلا أن إحداهما تلاصقه والأخرى قد أقامت دارها في الناحية الأخرى من الشارع، أتعرفهما؟ قال: كما تعرفهما؛ فأما الأولى فزنوبة، وأما الأخرى فأم محمود، كلتاهما تجلس على باب دارها وتتحدث إلى صاحبتها ألوان الحديث، في صوتٍ مرتفع، فيه عبث ودعابة ولين، وشباب المدينة يَكْلفون بالجلوس عند الدكان ليسمعوا لحديثهما وليدخلوا فيه من حينٍ إلى حين، حين يكون الحديث دعابة، وما أكثر ما يكون الحديث دعابة بينهما، فهما لا تحسنان في الحياة إلا الدعابة وكسب المال. قلت: فستلقاني جالسًا على أحد هذين الصندوقين، فقد تعودت أن أقضي وجه النهار مع صاحب الدكان وأخيه، أتحدث مع أولهما في أخبار الشيخ ماضيه وآثاره وكراماته ومقاماته، وأسمع من ثانيهما ما يقرأ عليَّ من كتب القصص والوعظ، لا ينقطع حديثنا، ولا تنقطع قراءتنا إلا حين تأتي امرأة أو فتاة لتشتري بعض الملح أو الفلفل أو الخيط، أو ما يُباع عندهما من سقط المتاع.

قال: فقد انحدرت إليك من المغرب، ولم أكد أهبط من الجسر حتى مررت بهذه الدور التي تعرفها فحييت حسن كوزو وهو جالس أمام داره ومن حوله امرأته وبناته وأبناؤه، وهم يلغطون لغطهم المتصل، ثم مررت بدار عم حسنين، ولم ألقه من حسن الحظ، فلو قد لقيته لاستوقفني ولسألني: فيم أقبلت؟ وكيف تركت أبي؟ وما بال أبي لا ينحدر إلى المدينة؟ وما أشك في أنه كان سيستبقيني، ولعله كان يلح عليَّ في أن أتغدى عنده فهو حريص على أن تتصل المودة بينه وبيننا، ولكني جزت الدار سالمًا لم ألقَ أحدًا ولم أتعرض لهذا الإكرام الذي كنت أخشاه، وقد رأيتك من بعيد وتبينت أنك لم تكن تتحدث إلى صاحب الدكان ولا تسمع لقراءة أخيه، إنما كنت معتزلًا على صندوقك، قد انثنى أعلاك على أسفلك، وقد وضعت رأسك بين يديك، والناس من حولك قائمون، منهم من يشتري، ومنهم من ينظر، ومنهم من يمنح طرفه زنوبة، ومنهم من يمنح طرفه أم محمود، وهذا الشيطان المارد ابن العمدة، يذهب في الشارع ويجيء، متحدثًا متغنيًا، يلقي نظره خلسة إلى هذه الحارة عن يمين الدكان، حيث يقيم سيدنا وامرأته الشابة وحماته العجوز، وحيث تقيم عالية أم غريب.

وهأنذا أنتهي إليك فأضع يدي على كتفك، وها أنت ذا تذعر لمكاني منك، ولكنك لا تكاد تسمعني أحييك حتى تطمئن إليَّ وتبتسم لي، وتدعوني إلى الجلوس، ولكني آبى ذلك عليك، وأنهضك وآخذ بذراعك ثم نندفع في هذا الشارع الذي يكاد يواجه بيت زنوبة ونمضي معًا إلى القناة.

انظر ها نحن هذان قد بلغنا القناة، فأما عن يميننا فحديقة جرجس أفندي ثم المنحدر إلى بيتكم، وأما عن شمالنا فخيام العرب، الذين اختاروا هذا المكان مضربًا لخيامهم، والذين يخفرون هذا الطرف من أطراف المدينة إلى أي الوجهين تريد أن نمضي؟ أتريد أن نمضي إلى يمين لنبلغ المدينة؟ أم تريد أن نمضي إلى شمال نحو العرب لنبلغ الإبراهيمية، فنأوي إلى ظل شجرات التوت؟ أو نمضي أمامنا في هذه الحقول التي لا تكاد تنتهي؟ أم تريد أن نعبر القناة؟ فليس عبورها شاقًّا ولا عسيرًا، فهي جافة في هذه الأيام، ألست تحس من حولك هؤلاء الصبية، وهم يلعبون فيها، ويلتمسون ما تخلف في طينها من صغار السمك؟ إلى أين تريد أن نمضي؟ إننا إن عبرنا القناة لم نمضِ غير قليل في هذا الفضاء الواسع الطلق حتى نبلغ الخط الحديدي، فإذا عدونا فقد انتهينا إلى المدينة من طريقٍ قريبة، إلى أين تريد أن نمضي؟

وما أراني محتاجًا إلى أن أسمع منك جوابًا، فأنت تريد من غير شك وأنا أيضًا أريد أن نأخذ طريقنا عن يمين فإنها يسيرة مألوفة، وهي طريق الناس حين يأتون من المدينة أو يذهبون إليها، وهي خليقة أن تقدم لنا من ضروب اللهو وألوان العبث والمتاع ما نبتغي، فليس بيننا وبين حديقة المعلم إلا خطوات. ها نحن هذان قد بلغناها، وآثرنا أن نميل إليها فنجني من ريحانها، ونقتطف من أثمارها، ونستظل بأشجارها ساعة لنتحدث فيما تعودنا أن نتحدث فيه، إنها لجميلةٌ هذه الحديقة؛ لم تتخذ زينة، ولم يعمل فيها المنسقون، وإنما هي حرة مطلقة! ينبت فيها الزهر والشجر كما يريدان في غير قيدٍ ولا نظام، وإنها لجميلةٌ حين تقدم في رشاقة وخفة بما تحمل من زهر وثمر، وورق نضر وأغصان لدنة إلى القناة، كأنها تريد أن تهدي هذا كله إلى هذا الماء حين يجري فيها قويًّا هادئًا موفور النشاط مع ذلك كأنه إله شاب من آلهة الأساطير.

أنا أعلم أنك تحب هذه الحديقة وتجد لذة في أن تخلو فيها إلى نفسك فتقص عليها ما تتصور من الأحداث والخطوب، أو تعيد عليها ما تسمع من القصص والأحاديث، وما ملت بك إليها إلا لأني أعلم أنك تحبها وتؤثر أن تقضي فيها ساعات بعيدًا عن الناس، قريبًا منهم في وقتٍ واحد، أنا أعلم أنك لا تحب العزلة الخالصة، ولا تحب الخلطة الخالصة، ولكني أحس الآن كأن مكانك ينبو بك، وكأنك لا تطمئن إلى الحديقة أو كأن الحديقة لا تريد أن تتلقاك بما تعودت أن تتلقاك به من البِشر والأنس والحنان.

أحس أن جسمك كله يضطرب كأنه يكره السكون، ويدفع إلى الحركة دفعًا، ماذا تنكر من هذه الحديقة؟ أو ماذا تنكر منك هذه الحديقة؟ لم لا تريد أن تخلو إليَّ كما تخلو إلى نفسك، وأن تقص عليَّ كما تقص على نفسك ما تعيده عليك الذاكرة أو ما يخلقه لك الخيال.

ها أنت ذا أشبه شيء بالجواد الجموح الذي يعض شكيمته، ويضرب الأرض بسنابكه، ويكاد يخرج من جلده مرحًا وشوقًا إلى العدْو، إلى أين تريد أن نمضي؟

وهو يقول هذا كله في لهجة جد واقتناع ويقين حتى ينسيني مكاني منه، ومكانه مني، ومكاننا من القاهرة، وحتى يقنعني بأننا صبيان، أو شابان نقصد إلى النزهة في ريفنا ذلك البعيد، وقد سمعت منه، وآمنت له، وهممت أن أجيبه، ولكنه منطلق لا يريد أن يقف، متدفق لا يريد أن يهدأ، يسأل ولا ينتظر الجواب، وإنما يجيب وهو يمضي في حديثه لا يلوي على شيء، وأنا أسمعه وأتبعه، وهو يسرع في الحديث، وكأنه يسرع في الحركة، حتى يعييني سماعه، ويعجزني اتباعه، ولكنه ماضٍ في حديثه، ماضٍ في حلمه، لا يقف عند شيء ولا يلوي على شيء، والغريب أنه كان يتحدث فيثير في نفسي مثل ما يثير في نفسه من الذكرى، ثم يتحدث عني وعما أحب فكأنما أنا أتحدث عن نفسي.

قال: فإنك لا تريد البقاء في هذه الحديقة لأن نفسك لا تتهيأ للخلوة ولا للحديث الهادئ المطمئن، وإنما أنت اليوم مهيأ للحركة والنشاط الجسمي، وما أرى أنك تستريح حتى تكلف نفسك بالمشي جهدًا ثقيلًا، ولولا أنك شديد الحياء، وأنك تخشى المصاعب والعقبات، لآثرت العدو ولكلفت بالجري السريع. فهلم إلى الطريق العامة فليس لك في هذه الحديقة أرب منذ اليوم.

هلم وليكن مشينا سريعًا يشبه العدو، ولكنك لم تطاوعني إلا قليلًا، وهأنذا أحس أن قدميك تثقلان وأن نشاطك ينال منه الفتور، وأنك تؤثر مشيًا رزينًا هو إلى التلكؤ أدنى منه إلى الجد والسرعة، لقد فهمت أن مكانك من هذه البيوت الأربعة التي تنتظم على شاطئ القناة في نسقٍ بديع وقد امتدت أمامها حدائقها الواسعة ذات الشجر الملتف والأغصان المتدلية على الأسوار، وأنت تريد أن تسعى سعيًا هينًا إلى جانب هذه الأسوار وأن تداعب بيدك هذه الأوراق الخضر النضر لأنك تجد في مسها راحة ولذة ونعيمًا لنفسك وهدوءًا لقلبك الذي قلما يظفر بالهدوء.

تريد أن تقف وأن تعبث بهذا اللبلاب الذي يتلوى على سور المأمور، تريد أن تداعبه وتلاعبه وتقوم اعوجاجه وتصلح التواءه، ولكنك تعلم أنه لا يستقيم، ولا يحب الاعتدال. ثم أنت تريد أن تطيل الوقوف عند بيت الملاحظ، وما أظن إلا أن نفسك تنازعك إلى أن تطرق الباب، وتدعو عثمان أو محمودًا، فمن يدري! لعل أحدهما أن يستجيب لك وأن يدعوك إلى الدخول لتتحدث إليه، أو إليه وإلى أخيه ساعة من نهار. إنك لشديد المكر، وإن نفسك لشديدة الالتواء، لِمَ تكذب على نفسك؟ وتكذب عليَّ؟ إنك لا تريد عثمان، ولا تحب الحديث إلى محمود، وإنما تريد أن تدخل الدار وتقطع إليها هذه الحديقة العريضة متلكئًا بعض الشيء، متكلفًا بعض الأناة والمهل، حتى إذا بلغت الدار وأجلست في هذه الحجرة المتواضعة التي لا تمس القدم فيها أرضًا عارية كالتي تمسها حيث تلعب في بيتك أو حيث تجلس عند الدكان، وإنما تمس أرضًا قد رصفت بالحجارة وفرشت عليها البسط، وهناك في هذه الحجرة لا تلقي إلى صاحبيك إلا إحدى أذنيك، أو بعض ما تستطيع أن تلقيه منها، فأما أذنك الأخرى فمرسلة إلى آخر الدار، ومعها نفسك كلها، قل الحق. إنك لا تريد عثمان ولا تبتغي الحديث إلى محمود، وإنما تريد أن تسمع أحد هذين الصوتين اللذين تشيع فيهما العذوبة كما تشيع النضرة في الغصن المورق اللدن، بل أنت أسعد الناس إن أتيح لك الاستماع إلى الصوتين جميعًا.

أيهما آثر عندك وأحب إليك؟ صوت هذه الفتاة الناهد التي تسمى عزيزة والتي توشك أن تلعب معك ومع أخويها لولا ما تأخذها به أمها التركية وأبوها الألباني من تكلف الوقار والاحتشام، فهي تجلس إليكم وتسمع منكم وقد تشارككم في الحديث، وقد يضحكها ما تخوضون فيه، فإذا ضحكها يضطرب في الحجرة مشرقًا صافيًا مضيئًا كأنه البلور، أم صوت أختها أمينة هذه التي نيفت على العشرين، وجاوزت طور اللعب، وتزوجت ثم طلقها زوجها فعادت إلى أسرتها كئيبة محزونة هادئة الصوت، ولكن صوتها الهادئ يثير في قلبك وجلًا، وفي نفسك اضطرابًا، وفي أعماق ضميرك قلقًا لا تتبين أصله، ولا سره، ولكنك تخافه وتحبه معًا. أي الصوتين آثر عندك وأحب إليك؟ إني لأخشى أن تكون فاجر النفس ماجن القلب، مسرفًا فيما تتيح لضميرك من حرية. إنك لتحب الصوتين جميعًا، وتألف الأختين جميعًا، وتحب أن تنعم ما وسعك من النعيم بما تثيران في نفسك من هذه العواطف الحادة المبهمة الغامضة، وإنك لتسمع لهما إذا تحدثتا أو ضحكتا أو جاءتا بشيءٍ من الحركة فتعي عنهما هذا كله، وتسجله في نفسك تسجيلًا حتى إذا عدت إلى دارك، وأويت إلى مكانك الذي تعودت أن تعتزل فيه، أخذت تعيد في نفسك ما سمعت من كلام، ومن ضحك، ومن غناء، وأخذت تتخيل ما أحسست به من حركة، وأخذت تتعمق هذا كله، وتستخرج منه صورًا ومعاني وعواطف وخواطر لا تحصى ولا تستقصى، ولكنها تنسيك نفسك وأهلك ودارك، وتنتهي بك إلى عالم غريب هو أحب إليك ألف مرة من هذا العالم الذي تعيش فيه، قل الحق! ألستُ أصوِّر ما تجد، وأقص ما تحس، وأحدثك بما تحب أن أتحدث إليك فيه؟ ولكنك قد أطلت الجلوس بين عثمان ومحمود، والاستماع لعزيزة وأمينة، وهذا صوت المؤذن ينتهي إلينا داعيًا إلى صلاة الظهر، وسيقبل الملاحظ بعد وقتٍ قصير، ولئن بقينا لنُدْعَيَنَّ إلى الغداء، وأنا أعرف أن حياءك وأدبك يأبيان عليك أن تستجيب لهذا الدعاء، وأن نفسك تنازعك إلى البقاء. وما أظن إلا أنك لو أرسلت نفسك على سجيتها لأقمت، ولاحتملت ساعة الغداء هذه الثقيلة لتستمتع بعدها بساعاتٍ طوال، تنعم فيها بهذين الصوتين وما فيهما من فتنة وروعة وحنان، ولكن لا سبيل إلى الإقامة، وماذا نصنع بحيائنا؟ وماذا نصنع بأدبنا، وكيف تلقى أمك؟ وكيف تجيبها؟ وكيف تثبت للومها العنيف حين تصور لك أن الفتيان الذين يحسن أدبهم لا يبقون في الزيارة إلى أن يدركهم الغداء، ولا يستجيبون إلى الطعام، إذا لم تسبق دعوتهم إليه.

هلم أيها الصديق البائس الحزين ودَع أمينة وعزيزة، فقد يتاح لك أن تراهما إذا كان الغد أو إذا كان المساء، فأما الآن فصدقني ليس لنا في هذه الدار مقام.

أما الآن وقد تجاوزنا عتبة الدار، وأغلق من دوننا الباب، ورجع عثمان ومحمود أدراجهما في الحديقة واستقبلنا القناة، فوقفنا على شاطئها لحظة مترددين، أنعود إلى حيث كنا بعد أن تقدم النهار؟ أم نمضي عن يمين إلى المدينة وإن عرضنا ذلك لشيءٍ غير قليل من اللوم.

ثم آثرنا اللهو والعبث فأخذنا طريقنا عن يمين نحو الخط الحديدي نسعى هادئين. أما الآن فإني أحمد جدك وحزمك وشجاعتك وإصرارك على أن تنصرف حين هممنا بالانصراف، وإباءك على عثمان ومحمود، وإباءك بنوعٍ خاص على عزيزة وأمينة، وقد كانوا جميعًا يلحون علينا في أن نبقى ويرغبوننا في البقاء، يعرض عثمان ومحمود علينا أن يُظهرانا على ما عندهما من أعاجيب القاهرة، هذه اللعب التي لا تنتشر في الريف، ولا يألفها أهل الأقاليم، وتعرض علينا عزيزة العزف على البيانو. وتعرض علينا أمينة القراءة في بعض القصص، وأنت مصمم على الانصراف برغم نفسك التي كانت تنازعك إلى البقاء نزاعًا شديدًا.

على أني لا أفهم كلفك بالاستماع لعزيزة وأمينة، وافتتانك بأحاديثهما هذه التي يلتوي فيها لسانهما بلهجة أهل القاهرة في تأنقٍ وتكلف وتعمد للفتنة، كأنما تريد كل واحدة منهما أن تدل على نفسها، وتنبهنا إلى أنها ليست منا، وإلى أننا لسنا منها في شيء، إنما هي من هذا العنصر الممتاز الذي لا ينطق الجيم كما ننطقها، ولا يحول القاف كما نحولها إلى جيم غليظة وإنما يحيلها إلى همزة رقيقة خفيفة حسنة الموقع في الأسماع، ولا يمتلئ فمه بالكلام يهدر به كما تهدر الإبل، وإنما يضيق به ويتلطف في إرساله ويجريه هادئًا حلوًا رقيقًا، فيخرجه أحسن مخرج، ولا يلقيه كما نلقيه نحن إلقاء الجنادل والصخور. لا يعجبني شيء من هذا لأني أراه تكلُّفًا وتصنُّعًا، ومن يدري لعلنا إن رأيناهما في القاهرة، واستمعنا لهما في بيئتهما الطبيعية أن نجدهما أقل تكلفًا وأدنى إلى الفطرة، ولعلهما يومئذ أن تجدا إلى نفسي الغليظة سبيلًا، أما الآن فإن قلبي مغلقٌ دونهما إغلاقًا، وإني لأوثر ألف مرة عليهم فتياتنا الريفيات، وما يمتزن به من حياءٍ حلو وخفر ناعم، وحديث عذب على غلظته، وصوت محبب إلى النفوس على ما يضطرب فيه من بعض الجفاء، ستغضب وستثور وستنكر ذوقي أشد الإنكار، ولكني لا أتردد مع ذلك في أن أعلن إليك أني أوثر كلمة بنت عالية وأخت غريب، على عزيزتك هذه المتكلفة المتصنعة. وأوثر خديجة بنت محبوبة وأخت علي، على أمينتك هذه التي ترى أن ليس على الأرض امرأة تعدلها أو تداني حظها من الرقة والجمال.

إني من أنصار الحسن الطبيعي الذي لا يُجتلب، ولا يُشترى، وإنما تخلعه الطبيعة وتفيضه على الوجوه والنفوس، هذا الحسن الذي تحدث عنه المتنبي، أتذكر بيته؟ إنه مشهور:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب

٦

وكأن هذا البيت من شعر المتنبي قد أيقظ صاحبي من نومٍ عميق، ورده من هيامٍ بعيد، ونبهني أنا إلى مكاني منه، وإلى مكانه مني. فما كان لشابين جاهلين من شباب الريف أن يديرا بينهما مثل هذا الحديث أو يذكرا مثل هذا الشعر، وأين حديث الريف الساذج اليسير الذي لا فلسفة فيه ولا تعمق من هذا الحديث الطويل الذي اندفع فيه صاحبي كأنه السيل لا يرده شيء، والذي أخذ يتكلف فيه ما تكلف، ويصطنع فيه ما اصطنع على غير شعورٍ من الفلسفة والتعمق والدقة في التفكير والتعبير. فلما سمع صوته ينشد هذا البيت ثاب إلى نفسه، وثُبْت أنا إلى نفسي وإليه، فلبث دقائق صامتًا لا يقول شيئًا كأنما كان يستجمع قواه المفرقة، ويدعو إليه نفسه الشاردة، وينتظر أن يعود إليه عقله وقلبه من مدينتنا تلك في الريف، فلما استجمع من ذلك كله ما كان يريد قال في صوتٍ هادئ عميق: أين أنا؟ وماذا كنت أقول؟ ثم أرسل ضحكته العريضة المخيفة، ونهض قائمًا وهو يقول: أما إننا قد طعمنا حتى اكتفينا! هذه الصبية البلهاء قد أقبلت فوضعت طعامنا على المائدة ولم يخطر لها أن تدعونا إليه، كأنما ظنت الحمقاء أني رأيتها أو سمعتها أو أحسست مقدمها، وكأنما لم تشعر أنا كنا غائبين نسعى في مدينة من مدن الريف، وهذا خادمك الأحمق قد جلس على كرسيه عند باب الغرفة وهو يغط معنا في نومه العميق كأن أحاديثنا لم تعجبه ولم ترُقه ولم تصل إلى نفسه الغليظة المحجبة بحجب الجهل والجفوة والغفلة، ثم ثاب إليَّ ووضع يده على كتفي وهو يقول: وأنت ماذا أحسست من هذا الحديث؟ ولم يمهلني، ولم ينتظر مني جوابًا، وإنما اندفع يقول: ما أرى إلا أنك ظننت بي الجنون وأخذت تسأل نفسك أين أنت؟ وتمقت الساعة التي لقيتك فيها وتلوم نفسك لأنك طاوعتني واستجبت لدعائي، وتشفق ألا تتاح لك العودة إلى أخيك. ومن يدري! لعل المتنبي قد أنقذك حين جرى هذا البيت من شعره على لساني فردني إلى نفسي وإليك، ولعلك إن بقيت تسمع لي وأنا أمضي في هذا الهذيان كنت مضطرًّا إلى أن تنتهي آخر الأمر إلى الهلع والجزع ثم إلى الاستغاثة والصياح، ومع ذلك فثب إلى نفسك وامنحني بعض عنايتك وحدثني: أليس هذا فنًّا من الشعر ونحوًا من أنحائه؟ لا تظن أن القدماء من الشعراء كانوا يصنعون شيئًا غير هذا حين كانوا يقفون ويستوقفون على الأطلال والديار، وحين كانوا يَذْكُرون ويُذَكِّرون بمن كان يقيم فيها ثم ارتحل عنها من الأحبة والأخلاء، وحين كانوا يتبعون الظاعنين ويصفون ما سلكوا من طريق، وما عرض لهم في سفرهم من خطوب، وما أنضوا من إبل وما وردوا من ماءٍ آجن وما انتهوا إليه من مرعى، إنما كانوا يصنعون مثل ما صنعت ويهيمون مثل ما همت، وينسون أنفسهم كما نسيت نفسي، ويرسلون قلوبهم كما أرسلت قلبي على جناحي هذا الطائر الخفيف الرشيق الذي يحسن الإسراع، ويحسن الإبطاء، ويحسن المضي، ويحسن الوقوف، وهو الذكرى.

وحدثني أفهمت شيئًا من حنين القدماء على وجهه حين قرأت ما قرأت من شعر امرئ القيس، وغير امرئ القيس من هؤلاء الذين كانوا يحسنون الذكرى ويجيدون تصوير الوفاء؟ إنما هي عندك ألفاظٌ تقع في أذنيك كما يقع غيرها من ألفاظ، تفهم الظاهر من معانيها، فإن أعجزك الفهم سألت كتابًا من كتب اللغة فلا ينبئك إلا بظاهرٍ من معانيها، لا تكاد هذه الألفاظ تتجاوز أذنيك إلى عقلك فضلًا عن أن تتجاوزها إلى قلبك وإلى ضميرك فتثير فيهما عاطفة أو هوى أو ميلًا، وتدعوك إلى أن تقدر الحياة كما ينبغي أن تقدر الحياة؛ صدقني إنكم لا تدرسون الشعر ولا تدرسون الأدب، وإنما تدرسون ألفاظًا ومعاني وصورًا ليست من الشعر ولا من الأدب في شيء.

قلت وقد أعجبني حديثه وأرضتني آراؤه، ولكني على ذلك ضقت بهذا السيل الذي لا يقف، وأشفقت من أن يمضي فيه كما مضى في الذكرى آنفًا، ومن أن ننفق بقية الليل كما أنفقنا أوله، وأشفقت بنوعٍ خاص من أن يلهينا هذا الحديث المتصل والسيل المتدفق عما نحن في حاجةٍ إليه من التفكير في العودة إلى بيتي، فما أشك في أن غيبتي قد طالت، وفي أنها ستطول، وفي أنها ستلحظ، وفي أني سأسأل عنها إذا كان الغد.

قلت ضاحكًا: فما يمنعك أن تعلن آراءك هذه إلى الناس في صحيفةٍ من الصحف، أو في محاضرةٍ من المحاضرات، بل ما يمنعك أن تلقي على الناس دروسًا في الأدب، فيسمع لك الشباب، وسينتفعون بما تلقي إليهم من حديث؟ ثم ما يمنعك أن تمضي معي في هذا الحديث أثناء العشاء وبعده وأثناء الطريق ما دمت قد ضمنت لي أن تصاحبني إلى بيتي البعيد! قال وهو يضحك ضحكًا غليظًا: قل ما يمنعك أن تكف عن هذا اللغو وأن تأخذ في الجد، فقد زعمت لي أننا لم نجتمع هنا لنلغو وإنما اجتمعنا لنجد.

وهذا حق، فما في شيءٍ من هذا كنت أريد أن أتحدث إليك، وما إلى شيء من هذا دعوتك الليلة، وإنما هو تعارفنا وتحدثنا عن الريف قد شط بي ودفعني إلى الاستطراد، فلنعد إذًا إلى ما كنا نريد أن نأخذ فيه ولنقبل على طعامنا قبل كل شيء.

وأخذنا في حديثٍ جديد لم يصرفنا عن الطعام، ولكنه لم يعجل عودتي إلى بيتي، فقد كان الجد الذي يريده صاحبي أنه يجب أن يكون بينه وبيني تعاون في الدرس، يعلمني بعض ما عنده، وأعلمه بعض ما عندي، فهو يرى أن أمري في الجامعة لا يستقيم إلا إذا تعلمت لغة أجنبية وألممت ببعض هذه العلوم التي كنا نجهلها في الأزهر جهلًا تامًّا، والتي كان جهلنا إياها يخيل إليَّ وإلى أصحابي أننا نسمع من المحاضرين في الجامعة الأعاجيب مع أننا لم نكن نسمع منهم إلا أيسر الأشياء وأهونها.

وهو كان يريد أن يمنحني من ذلك ما ينقصني، لا يسألني على ذلك أجرًا إلا أن أعوده معاشرة كتب الأزهر، والتصرف في علم الأزهريين، وكانت علوم ثلاثة من علوم الأزهر تخلبه وتشوقه بنوعٍ خاص، وهي المنطق والفقه والأصول. فأما المنطق فقد كان أمره يسيرًا، وكنت أرى أني أستطيع أن أقرأ معه كتابًا من كتبه المختصرة. وأما الفقه والأصول فقد كان أمرهما أعسر من ذلك وأشق، وأنَّى لي أن أعلِّمه علمًا لا أحسنه، وما أظن أني سأحسنه في يومٍ من الأيام؟ وهو مع ذلك مصمم على أن يدرس المنطق والفقه والأصول على أن يعلمني الفرنسية، ويقرأ معي ما أحب من التاريخ وما أشاء من هذه الكتب التي لا بد من قراءتها لمن يريد أن يعيش في هذا العصر الحديث عيشة لا غرابة فيها. وكان حوارنا طويلًا شاقًّا ملتويًا فيه كثير من الاستطراد حتى لقد انصرفنا من داره وقد كاد يسفر الصبح، وما كدنا نبلغ حَيَّنَا في أقصى الجمالية حتى سمعنا المؤذن ينبئ الناس بأن «الصلاة خير من النوم»، وكنا لم ننم فعدنا أدراجنا، وفي ذلك اليوم جلس معي إلى أستاذ الأصول رجل ليس على رأسه عمامة بل على رأسه طربوش.

وافترقنا بعد الدرس على أن نلتقي في الجامعة كل يوم إذا كان المساء على أن نرتب أمرنا بيننا، يعلمني الفرنسية وأعلمه المنطق، ومن ذلك اليوم لم نفترق حتى أتيح له أن يسبقني إلى باريس.

كنا نلتقي في قهوة بشارع قصر النيل قريبة من الجامعة قبل أن تبدأ المحاضرات بساعة أو أكثر من ساعة، فنأخذ في أحاديث مختلفة، وكثيرًا ما كان يشاركنا في أحاديثنا بعض الطلاب حتى إذا أقبلت ساعة الدرس نهضنا إليه. أما هو فكان ينهض متثاقلًا دائمًا، وأما أنا فكنت أنهض خفيفًا شديد النشاط، وكان يضحك من خفتي، وكنت أضيق بتثاقله، وكان يقول لي هون عليك فليأتين يوم تنصرف فيه عن هذه الدروس انصرافًا.

ولم أكن إذا دخلنا غرفة الدرس أفر من مجلسه، ولم يكن ينغص عليَّ الاستماع للأستاذ، حتى إذا انتهينا من الاستماع انصرفنا إلى داره أو إلى شارع كوبري قصر النيل فزعم لي أنه يعلمني الفرنسية، وزعمت له أني أعلمه المنطق، والحق أننا لم نكن نصنع من هذا شيئًا، وإنما كنا نمضي في لغوٍ مختلفٍ متصل كهذا الذي صورت بعضه آنفًا، وكنا ننفق في هذا اللغو خير أجزاء الليل، ثم نفترق، فأما هو فكان ينفق بقية الليل في القراءة أو الكتابة ثم في نومٍ قليل، ثم يصبح فيغدو على ديوانه، وأما أنا فكنت أنفق بقية الليل في تفكيرٍ طويلٍ مضطرب لا يكاد يذيقني النوم إلا غرارًا، فإذا دعا المؤذن إلى الصلاة أسرعت إلى الأزهر، ومضيت وجه النهار مستمعًا للأساتذة أو دارسًا مع الطلاب حتى إذا أقبل المساء التقينا كدأبنا في كل يوم.

وانقضى العام الأول والثاني والثالث من حياتنا في الجامعة على هذا النحو، لم يتقدم هو في درس المنطق ولم أتقدم أنا في درس الفرنسية، ولكننا تقدمنا في إدارة هذه الأحاديث الطويلة المختلفة التي تُلِمُّ بكل شيء ولا تكاد تتقن شيئًا، ولكنها تفتح القلوب لألوانٍ من العواطف وتهيئ النفوس لضروبٍ من الخواطر، وتغير الطريق التي كان كل واحد منا قد رسمها لنفسه في الحياة.

كان يريد أن ينفق حياته موظفًا يثقف نفسه ثقافة جديدة في كل يوم ويلتمس لذته في القراءة والكتابة والحديث، فأصبح أشد الناس بغضًا لديوانه، وزهدًا في عمله، ورغبة في أن يهجر مصر ويعبر البحر إلى بلد من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي، وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه. وكنت أريد أن أكون شيخًا من شيوخ الأزهر مجددًا في التفكير والحياة على نحو ما كان يريد المتأثرون للشيخ محمد عبده، أستعين على ذلك بما أسمع في الجامعة، وما أقرأ من الكتب المترجمة، وما أجد في الصحف، وما أتلقط من أحاديث المثقفين، فأصبحت وأنا أشد انصرافًا عن الأزهر، ونفورًا من دروسه وشيوخه، وحرصًا على أن أهجر مصر وأعبر البحر إلى بلدٍ من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه، ولم يكن لصاحبي ولا لي إذا التقينا حديث إلا هذه الهجرة وأسبابها، وإلا هذه الأحلام العريضة البعيدة التي لا حد لها، والتي تستأثر بنفوس الشباب حين يفرضون على أنفسهم بلوغ غاية بعيدة شاقة، وحين تخيل إليهم آمالهم أن بلوغ هذه الغاية أمر يسير.

ثم أصبحت ذات يوم مشغول النفس بما كنا نتحدث فيه أمس، وإني لجالسٌ في بيتي لم أذهب إلى الأزهر، وما كان أكثر تخلفي عن الأزهر في هذه الأيام، وانقطاعي إلى خادمي الأسود الصغير، يقرأ لي قراءة محطمة أقيمها أنا، وأصلح معوجها في نفسي. يقرأ لي مرة في ديوانٍ من الشعر، ومرة في كتاب من كتب التاريخ، وحينًا في قصة من قصص العامة، وإني لجالسٌ ذات يوم إلى خادمي الأسود وهو يقرأ عليَّ ديوان البحتري، وإذا الباب يطرق طرقًا عنيفًا، وإذا صاحبي يدخل وكأنه العاصفة، وإذا هو يدعوني في صوتٍ سريع إلى أن أنهض فألبس ثيابي وأخرج معه، وأن أسرع، فإن العربة تنتظرنا، وأحاول أن أسأله كيف خرج من ديوانه؟ وما هذه العربة التي تنتظرنا؟ وإلى أين يريد أن يذهب بنا؟ ولكنه لا يجيب، وإنما يستعجلني ويلح في الاستعجال، حتى إذا تركته وذهبت لألبس ثيابي سمعته وهو يذهب ويجيء كالمجنون، ويتغنى في صوته الغليظ بما يحضره من الشعر، ثم أخرج له فيخطفني خطفًا، ويعدو بي عدْوًا حتى يلقيني في العربة إلقاء، ثم يأمر السائق أن يمضي إلى مكان كذا حيث يقيم فلان.

ثم يهدأ بعض الشيء، وينبئني بأن الجامعة قد أعلنت في الصحف أنها سترسل طلابًا إلى أوربا، وقد حددت موعد الامتحان وأنه قد أقبل إليَّ، لألقى فلانًا وفلانًا، وكلهم من أعضاء مجلس الجامعة، ويجب أن أوصيهم به خيرًا. فهو واثقٌ بأنه سيجوز الامتحان على أحسن حال، ولكنه يخشى أن يغلبه على الفوز بالبعثة أولئك الشبان الذين يتوسط لهم أصحاب الجاه.

وما دمت يا سيدي تعرف فلانًا وفلانًا وفلانًا من أصحاب الجاه وأعضاء الجامعة فليس لك بد من أن تتحدث إليهم، ومن أن تتحدث إليهم اليوم، ومن أن تتحدث إليهم أمامي، لهذا كله تركت عملي، ولهذا كله استأجرت هذه العربة، ولهذا كله استعجلتك هذا الاستعجال. وما هي إلا أسابيع حتى تم لصاحبي ما كان يريد، وأصبح عضوًا في بعثة الجامعة وأخذ يتهيأ للرحلة إلى باريس.

٧

يونيو في …

ليتني لم أسمع لك أيها الصديق، فقد كنت أوثر أن أرتحل إلى فرنسا دون أن أذهب إلى ريفنا الحزين لأرى أبوي وأسرتي ولأرى قريتنا، ولأملأ نفسي من هذه المشاهد الجميلة التي نشأت فيها، وكنت أرى أني سأجد في هذه الرحلة القصيرة إلى الريف آلامًا يحسن أن أتجنبها وأن أستقبل الحياة الجديدة بنفسٍ مشرقة وقلب لا يجد حزنًا، ولا يحس لوعة، ولا يأسى على شيء، وأنا أكره الوداع وأرى في السفر كما يقول بعض الشعراء الفرنج نوعًا من الموت، ولا أحب أن أتلقى الموت مهما يكن يسيرًا، على علمٍ به، وانتظارًا له، وإشفاق منه. وإنما أوثر أن يفاجئني مفاجأة، وأن يختطفني اختطافًا، وأن أخرج من الحياة جاهلًا بخروجي منها كما أقبلت على الحياة جاهلًا بإقبالي عليها.

لقد كنت شديد التردد في الذهاب إلى الريف، أحس من نفسي ضعفًا شديدًا على احتمال هذا الوداع المؤلم، وداع هذين الشيخين اللذين لم يكونا يحتملان إقامتي في القاهرة بعيدًا عنهما إلا كارهين، فكيف بهما إذا علما أني لن أقيم في القاهرة، ولن تكون بينهما وبيني ساعات، ولكني سأعبر البحر الملح العريض إلى بلادٍ نائية لا تحسب المسافة بيننا وبينها بالساعات، وإنما تحسب بالأيام. لقد كانا يكرهان أشد الكره إقامتي في القاهرة، هذه المدينة التي لا يتكلم أهلها كما نتكلم، ولا يعيش أهلها كما نعيش، والتي يملؤها الفساد ويملؤها الصلاح في وقتٍ واحد، والتي يجري في شوارعها الترام والتي يكثر بين أهلها المحتالون والسراق، والتي يخرج الرجل من بيته فيها فلعله لا يعود إليه. فكيف بهما حين يعلمان أني سأقيم في ذلك البلد البعيد الغريب الذي لا صلة بينه وبيننا في لونٍ من ألوان حياتنا المعروفة، والذي لا يعلمان من أمره إلا أنه بلد الفتنة والعبث وموطن اللهو والمجون، أليس إليه يقصد السراة وكبار الأغنياء والمترفين من سادات الريف إذا اجتمعت لهم المقادير الضخمة من الذهب، فلا يكادون يقضون فيه الصيف حتى يعودوا وقد صفرت أيديهم من كل شيء، وهم يقصُّون من أنبائه وأحاديث العبث والفسوق فيه ما تشيب له الأطفال، وترتاع له نفوس الرجال. لقد كنت أقدر هذا كله حين كنت تجادلني في زيارة الريف قبل أن أبرح الأرض، ولكنك ما زلت تلح عليَّ وتذكرني وتثير في نفسي العواطف والذكريات، حتى استحييت منك ومن أبوي ومن الناس ومن نفسي أيضًا، ورأيت أني لا أستطيع أن أفارق مصر، دون أن أرى هذين الشيخين، فمن يدري؟! لعلي أذهب فلا أعود، ومن يدري؟! لعلي أعود فلا ألقاهما.

هنالك رحلت إلى الريف وليتني لم أفعل، فلم أكن أظن أني سألقى في هذا الريف ما لقيت في حزنٍ لاذع وألمٍ ممض ويأسٍ لا صبر معه ولا احتمال له.

لا أصف لك جزع أمي ولا سخط أبي، فحسبك أن تعلم أن أمي لا تصيب من الطعام إلا ما يقيم الأود، وهي لا تصيبه إلا بعد إلحاحٍ متصل، وأنها لا تذوق النوم إلا غرارًا وأنها لا تمسك الدموع، وإنما ترسلها إرسالًا حتى تنقطع، وأنها تعتقد اعتقاد يقين أنها قد فقدت ابنها الذي كانت تحبه وتؤثره وتدخره للحوادث والنائبات، وهي تمقت الجامعة وأيام الجامعة والذين فكروا في الجامعة، وهي تمقت العلم والذين يحبون العلم ويدعون إليه، وهي تلعن المدارس وهذا التمدن الذي علم مصر فتح المدارس، وهي تأسف أشد الأسف وتندم أقسى الندم كلما ذكرت ذلك اليوم الذي أراد فيه أبي أن يقلد أباك، فأخرجني من الكتاب كما أخرج أبوك من أخرج من إخوتك، وأرسلني معهم إلى المدرسة الابتدائية في عاصمة الإقليم، هنالك حيث طرحت زي الريف واتخذت هذا الزي الأوربي، ووضعت على رأسي هذا الغطاء البغيض.

ولست أخفي عليك أنها تنال أسرتك بكثيرٍ من لاذع القول، فهي التي ألقت في روعنا أن من الخير أن يتعلم الأطفال في هذه المدارس، وأن يلبسوا الطربوش، وأن يلووا ألسنتهم بالرطانة الأجنبية، وأن يصبحوا موظفين. وهي لا تفهم كيف استطعنا أن نعدل بما تعودت أسرتنا منذ الزمن البعيد من الاختلاف إلى الكتاب حتى نحفظ القرآن، ونحسن القراءة والكتابة، ومن الاختلاف إلى الأزهر حتى نحصل شيئًا من علوم الدين، ثم نعود إلى القرية حيث الجد والعمل، وحيث الغنى والثروة، وحيث الجاه وبعد الصيت.

لا أطيل عليك فأمي ثائرة إذا أصبحت، ثائرة إذا أضحت، ثائرة إذا قبل المساء، ثائرة إذا جنها الليل، ثائرة حتى امتلأ البيت حزنًا وسخطًا وبكاء، فأما أبي فمتنكر متنمر، ينذر فيلح في النذير، ويتلطف فيلح في التلطف، فإذا أعياه النذير ولم يسعد الاستعطاف، خرج عن طوره فأسخط من حوله جميعًا، وجعل حياتهم لا تطاق، وأقسم جهد أيمانه ليقطعن ما بينه وبيني من سبب وليعيشن منذ الآن كأني لم أكن له ابنًا، ولو أني استمعت لنفسي أيها الصديق لما أقمت في هذا الجحيم إلا يومًا أو يومين، ولأسرعت إلى القاهرة فانتظرت فيها معك ومع أصدقائنا هذا اليوم السعيد الذي تتملع فيه السفينة بنا إلى هذا العالم الجديد الذي ملك عليَّ نفسي كلها وقلبي كله.

ولكن كيف أستطيع أن أدع هذين الشيخين فيما هما فيه، ولما أبذل ما أقدر عليه من الجهد لأهون عليهما الأمر بعض الشيء، ولأردهما إلى بعض الطمأنينة ولأرحل عنهما وهما راضيان غير ساخطين. وإني لأجد في ذلك ما وسعني الجد، وأحتال لذلك ما واتتني الحيلة، وأستعين على ذلك ببعض من له حظ من فهم، ونصيب من ذكاء وعلم بحياتنا وما تقتضيه من تطور، وبما بين حياتنا في هذا العصر وحياة آبائنا قبل أن نولد أو حين كنا أطفالًا، وما أظن أني سأبلغ وحدي أو بمعونة هؤلاء الناس شيئًا، فأمي مستيقنة بأني إذا سافرت فقد فقدتني، وأبي مقتنع بأني إن سافرت فقد قطعت بينه وبيني كل سبب.

في ذات يوم أصبحت ضيق الصدر كئيب النفس، شديد الحرج، ممتلئًا بهذا العجز الموئس عن رضاء هذين الشيخين، كارهًا أشد الكره للدار والقرية ومن فيهما، فخرجت أهيم في الريف ألتمس راحة النفس في تعب الجسم، ولست أزعم أني خرجت أريد وجهة بعينها، أو أسعى إلى غاية معروفة، وإنما هو المشي، والإبعاد فيه، والخلوة إلى النفس، والفرار من لوم اللائمين، وعذل العاذلين، وإلحاح الملحين. وإني لأمضي أمامي لا أحفل بشيءٍ ولا أقف عند شيء، وأكبر الظن أن كثيرًا من الناس الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم قد لقوني فحيوني، وما أشك في أنهم قد أنكروني لأني لم أسمع منهم، ولم أرد عليهم تحيتهم، ولعل كثيرًا منهم قد تحدث إلى نفسه بأن هذا أول الشر، وبادرة الفساد، إنه ليعرض عنا، ويكبر علينا، ولم يذهب إلى بلاد الفرنج بعد، فكيف به إذا ذهب إليها وعاد منها.

والله يشهد ما رأيتهم ولا سمعتهم، ولا أحسست مكانهم مني، إنما كنت مشغولًا بنفسي عنهم وعن كل شيء، وإنك لتعلم أني كثيرًا ما حدثتك عن كلفي بالخروج إلى الريف، والتروض في الحقول أثناء هذا الفصل من العام، حين يكون الحصاد، وحين يشتد النشاط، وحين تنتشر في ريفنا هؤلاء الفتيات الفقيرات الحسان متبذلات بحكم الفقر، يطوَّفن بالحقول ويلتمسن أقواتهن في التقاط ما يسقط من الحب. إنك لتعلم كلفي بالخروج في هذا الفصل، وإني أجد لذة حارة حادة في الاستمتاع بهذا الجمال الطبيعي الذي تسبغه الحياة العاملة الجادة على أهل الريف حين يخرجون من أطوار الخمود والجمود، ويفنون في طبيعتهم هذه ويصبحون وكأنهم أدوات للعمل والإنتاج، لهم جد الأداة وصدقها واستقامتها وصبرها وإعراضها عن الشكوى، وبعدها عن الملل والسأم. فما رأيك في أن هذا الجمال الذي يفتنني ويملك على قلبي ويحملني على الرحلة إلى الريف إذا كان هذا الفصل من كل عام، لم يصل إلى قلبي، ولم ينته إلى نفسي في هذا اليوم. فلم أقف عند الأجران ولم أتحدث إلى المصيفات، ولم أداعب فتى ولا فتاة من هؤلاء الشباب الذين يملؤهم العمل نشاطًا ومرحًا ويقينًا وثقة وإيمانًا، إنما مضيت أمامي لا ألوي على شيء كأنما تدفعني قوة خفية إلى غاية خفية لم أتبينها ولم أتنبه إليها، إلا فجأة حين رأيتني واقفًا جامدًا وحين أنكرت من نفسي هذا الوقوف وهذا الجمود ونظرت من حولي كأني أفقت من نومٍ عميق، فما يروعني إلا أن أراني واقفًا أستظل بشجرات التوت عند الإبراهيمية، هناك حيث مدخل المدينة لمن أقبل عليها من الغرب.

تبارك الله فلم أكن إذًا قد خرجت من دارنا ضيقًا بها وبمن فيها، ولم أكن إذًا قد خرجت من قريتنا فرارًا منها ومن أهلها، ولم أكن إذًا قد همت في الريف التماسًا للخلوة إلى نفسي والراحة مما كنت أظن من عناء، وإنما خرجت من الدار وخرجت من القرية ومضيت في الريف أمامي لأني لم أكن أجد بدًّا من أن أزور هذه المدينة التي أنفقت فيها أحسن أيام الصبى، ومن أن ألم بهذه الربوع التي ذقت فيها أطيب ما ذقت في الحياة من لذة قوية طاهرة بريئة من كل إثم.

إذًا فلتعد إليَّ نفسي النافرة، وليثُب إليَّ قلبي الجامح، وليراجعني هذا العقل المضطرب المشرد لأستجمع كل ما أستطيع أن أستجمعه من قوة الحس والعقل والشعور، لأستمتع بالحياة القوية الخصبة في هذه المدينة الحبيبة إلى نفسي، الكريمة على قلبي، ولآخذ منها بأعظم حظٍّ ممكن من المتاع، أجعله زادًا لي في هذه الرحلة البعيدة التي أنا مقبلٌ عليها وأجعله ذخرًا لي في هذه الإقامة الطويلة التي سأقيمها في ذلك البلد الغريب.

لأملأ إذًا عيني مما سأرى، ولأملأ إذًا أذني مما سأسمع، ولأملأ إذًا نفسي وقلبي مما سأجد، وإني لأنظر فلا أكاد أرى إلا الإبراهيمية تمتد أمامي، ويسعى فيها الماء هادئًا حلو السعي، إلا هؤلاء الناس يسعون متفرقين، منهم المقبل من الغرب يحمل إلى المدينة ما يبعث إليها الريف من العروض، ومنهم الذاهب إلى الغرب يحمل إلى الريف ما تذيع المدينة فيه من التجارة، بعضهم راجل، وبعضهم راكب، وقليلٌ منهم يتحدث إلى رفيق، وكثيرٌ منهم يغرق في الصمت كأنما يفكر فيما وراءه أو فيما أمامه. وقليلٌ منهم يتغنى كأنه يستعين بالغناء أو يعين به دابته على احتمال السفر البعيد، وامرأة أو فتاة تأتي من حينٍ إلى حين، فتغمس جرتها في الماء حتى إذا امتلأت رفعتها إلى رأسها ونهضت تسعى بها رشيقة رائعة الجمال غامضة في هذا الصمت الذي يحجب نفوس النساء، ويستر ما يجول فيها من خواطر يود الرجل لو يعرف منها بعض الشيء. وإني لأمد سمعي فلا أسمع إلا هذه الأصوات المختلفة التي تأتيني من هذه الحركات كلها، وهذا اللحن الحلو المتصل المتشابه الذي يأتيني من هذه الأطيار وقد استقرت على الغصون، وكأنها وجدت لذة الراحة وأحست رقة النسيم واستمتعت بخفض العيش بين هذه الأوراق النضرة، فهي تتغنى بالجمال واللذة والأمل وحب الحياة. وإني لأمد نفسي كلها فلا أحس إلا حياة هادئة قوية نقية تأتيني من كل وجه، من الحركات التي أرى، ومن الأصوات التي أسمع، ومن هذا النسيم الخفيف الذي يمسني مسًّا رقيقًا فيرد إليَّ النشاط ويحيي في نفسي الأمل، ويلقي عني كل ثقل ويكاد يهبني جناحين ويكاد يجعلني طائرًا بين هذه الطير، ويكاد يرسل صوتي كما أرسل صوتها بالغناء، وأنا أقيم هنا في ظل شجرات التوت ساعة أنعم فيها بالراحة وأستمتع فيها بالحياة وأذكرك أيها الصديق، ثم أتهيأ للمضي أمامي ولأنقض على المدينة من هذا المنحدر، فرحًا مرحًا نشيطًا طروبًا، كما ينقض النسر. وهأنذا أمضي وأقدر ما سألقى من المناظر وأريد أن أبلغ أول القناة، قناتنا أتذكرها؟ أريد أن أبلغ أولها وأن أتبع مجراها أسايره على الشاطئ الجنوبي حتى إذا بلغت ذلك المنحدر الذي تعرفه، ودعتها لحظة وانحدرت إلى المدينة لأمر بهذه الأماكن التي كنا نألفها، بالدكان وبيت أم محمود وبيت زنوبة. ثم أمضي حتى أبلغ شارعكم ولعلي أقف لحظة عند أوله فأتحدث إلى بمبة، أتذكر بمبة؟ تلك التي كانت تسرف في النوم وتسرف في الغطيط ويسمع الناس غطيطها في أكثر ساعات النهار، وفي كل ساعات الليل، إذا مروا أمام بيتها الصغير. من يدري! لعلي كنت أقف لحظةً عند هذا البيت فأعبث بصاحبته وأسألها عن أصناف الجبن الذي تبيعه وجه النهار، ثم ألهو لحظة بابنها الأبله ذي الرأس الغريب، أتذكره؟ لقد كنا نسميه أبا الرءوس. إنه لا يتكلم ولا يسمع، ولا يكاد يعقل، من يدري! لعلي كنت ألهو به لحظةً ثم ألقي في يده أو في يد أمه بعض النقد.

ثم أمضي في شارعكم نحو الشمال فأمر بهذه البيوت التي كثيرًا ما نعمت فيها بالجد والهزل، وأقف عند بيتكم في هذا المنعطف الصغير أمام الباب حيث تتدلى أغصان هذه العنبات التي كثيرًا ما لعبنا في ظلها وأكلنا من ثمرها واتخذنا بينها الحدائق والحقول، ومن يدري! لعلي أجلس على هذه المصطبة الصغيرة عن يمين الباب إذا خرجت من البيت وأذكرك أو أذكر إخوتك، فكثيرًا ما جلسنا عليها وكثيرًا ما لعبنا الطاب، ومن يدري! لعل الذكرى أن تملأ نفسي وقلبي، وأن تنسيني نفسها وأن تخيل إليَّ أنها حاضرة لم تمض ولم تنقض أيامها، ولعلي أعتقد أني قد أقبلت لأزوركم، ولعلي أطرق الباب وأنتظر أن أسمع من ورائه صوتًا معروفًا مألوفًا يسأل عن الطارق، وأنتظر أن يُفتح وأن أرى من دونه شخصًا معروفًا مألوفًا يرحب بي ويدعوني إلى الدخول، ثم أنظر فأرى شخصًا لم أعرفه ولم آلفه يسألني من أنا وماذا أريد، فأثوب إلى نفسي وأستأنف رحلتي وقد مثلت فصلًا من حياتي الأولى ووجدت في التمثيل مثل ما كنت أجد من اللذة حين كانت الحياة حقيقة واقعة.

ثم أستأنف رحلتي فأمضي نحو الشمال حتى أبلغ هذا المنحدر الذي كنا ننحدر منه بعد أن كنا نقضي ساعات على شاطئ القناة أو في حديقة جرجس أفندي عن شمالنا، أو في حديقة المعلم عن يميننا، فأرقى في هذا المنحدر حتى ألقى القناة فأتابع شاطئها في طريقي إلى المدينة.

وكنت أقدر هذا كله وأقدم لنفسي المتاع بهذا كله وأنا أمضي أمامي ملتمسًا مخرج القناة من الإبراهيمية، ولكن ماذا أرى؟ وأين أنا؟ وأين القناة؟ إني لأنظر فإذا الإبراهيمية تمتد وتمتد ويجري فيها الماء هادئًا يحمل الحياة والخصب، ولكن شاطئها من ناحية المدينة قد اعتدل واستقام، فليس فيه عوج وليست فيه فرجة يخرج منها الماء، أين القناة؟ لقد كانت تخرج من نحو هذا المكان وكانت تمضي غير بعيد ثم يقام عليها جسر صغير تمر عليه بعض القطارات، ثم تمضي غير بعيد ونمضي معها فنبلغ هذا المنحدر الذي كان ينتهي بنا إلى المدينة، أين القناة؟ إني لا أراها ولا أجد لها أثرًا، وإنما أرى شوارع وأرى دورًا تقوم في هذه الشوارع، وأرى معالم لم آلفها. ومناظر لم أرها من قبل، أتراني أخطأت المدينة؟ ومع ذلك فأنا أعرفها كما أعرف نفسي، وأستطيع أن أمشي فيها وأهتدي إلى مسالكها المختلفة دون أن أفتح عيني كما كنت تمشي فيها أنت أيها الصديق لا تحتاج إلى أن ترى ولا إلى من يهديك الطريق، أين القناة؟ لقد سلكت إلى المدينة الطريق التي سلكتها ألف مرة ومرة، فلست أشك في أني قد بلغتها وبلغتها هي دون غيرها من المدن، فماذا أصابها بعدنا، وأين ذهبت القناة؟ إني لأريد أن أسأل فأجد حياء في نفسي من السؤال، ولكني أطيل الوقوف وأطيل النظر عن يمينٍ وشمال، وأطيل النظر من أمام ومن وراء حتى يخيل إليَّ وإلى من كان يراني من الناس أني أبله قد فقدت الصواب، ثم لا أملك نفسي، وإذا أنا أسأل عن المدينة وعن القناة وإذا أنا أسمع، ويا شر ما أسمع! إني قد بلغت المدينة وإن القناة قد ماتت منذ زمنٍ بعيد وإن معالم المدينة قد تغيرت منذ هدم معمل السكر، ماذا أسمع! معمل السكر قد هدم، وماذا بقي إذًا في المدينة؟ أو ماذا جئت أرى في المدينة! ماتت القناة، وهدم معمل السكر! وغيرت المعالم! وانتقل أكثر من كنا نعرف في المدينة من الناس.

يا للحزن والأسى يا للوعة والحسرة! يا لليأس والقنوط! أيبلغ العنف بالزمان أن يمحو هذا المقدار الضخم من حياة الناس في أعوامٍ قصار، لقد جد جيلٌ وجيل في إقامة معمل السكر وإقامة ما حوله من الدور، بل من القرى، لقد عاش جيلٌ وجيل، بهذا المعمل ولهذا المعمل، لقد عاش جيلٌ وجيل بهذه القناة ومن هذه القناة، فكل هذا الجهد، وكل هذا العناء، وكل هذه الحياة، وكل هذه الذكرى، وكل ما كان على شاطئ القناة وحول معمل السكر من جدٍّ وهزل ومن لذةٍ وألم، ومن حبٍّ وبغض، ومن أملٍ ويأس، ومن مكرٍ ونصح، ومن خداعٍ وإخلاص، كل هذا يذهب في أعوامٍ قصار لا تكاد تبلغ عدد أصابع اليد الواحدة، كأن شيئًا من هذا لم يكن، وكأن نفسًا لم تتأثر بما أثارته الحياة في هذه الأرض من العواطف، وكأن شفة لم تبتسم لما أنبتته هذه الأرض من مناظر الجمال، وكأن عينًا لم تبك لما شهدته هذه الأرض من أسباب الحزن والأسى، يا للحزن اللاذع! ويا للألم الممض! ويا لليأس المهلك للنفوس! لقد ماتت قناتنا أيها الصديق، ماتت ودُفن فيها أو صرف عنها ذلك الإله الشاب من آلهة الأساطير الذي كان ينطلق فيها فرحًا مرحًا هادئًا وادعًا مستبشرًا يرسل البشر من حوله جميلًا يثير الجمال على جانبيه، مات هذا الإله الشاب فدفن في مجراه أو طرد هذا الإله الشاب وردَّ عن مجراه وفني في الإبراهيمية، فأصبح ماء من الماء وجرى لا يتميز من غيره، لا يعرفه أحد ولا يعرف هو أحدًا، لا يثير في نفوس الناس حزنًا ولا فرحًا ولا يجري ألسنتهم بالحديث، نسيه الناس، ونسي هو الناس، بل نسي نفسه أيضًا.

إنك لتعرف أن آلهة الأساطير لا حياة لهم إلا إذا أقيمت لهم المعابد وأقاموا هم في المعابد، فإذا هدمت معابدهم فقد ماتوا أو طردوا من الأرض طردًا، فقد هدم معبد هذا الإله الشاب. وماتت القناة فمات هو أو نُفي من الأرض وأصبح حديثًا كغيره من الآلهة الذين أصبحوا أحاديث. أتدري أين أكتب إليك؟ إني أكتب إليك في مكانٍ لم يتغير لأن الحضارة لم تدع إلى تغييره، ولم يتبدل لأن المنفعة لم تأمر بتبديله، ولأن يد الإنسان لا تكاد تجرؤ على أن تمتد إليه، إني أكتب إليك عند المسجد، عند بابه البحري، أتذكر هذا الباب؟ هو الذي يدخل منه المترفون الذين لا يحتاجون إلى أن يمروا بالميضأة لأنهم يتوضأون في بيوتهم، ولا أن يمروا بالمغطس لأنهم يستحمون في بيوتهم، أتذكر هذا الباب؟ إنه ينتهي بك إلى قلب المسجد لا إلى فنائه ولا إلى الصحن المنبسط أمامه، إنك إذا دخلت منه لم تكد تخطو خطواتٍ حتى تجد عن يمينك قبر ذلك الغني الذي بناه، أتذكر هذا الباب؟ إنك إذا أقبلت عليه وجدت مقعدين من الحجر يكتنفانه عن يمينٍ وشمال، فأنا أكتب إليك عند هذا الباب، وأكتب إليك قائمًا لا قاعدًا، وأكتب إليك وقد وضعت القرطاس على أحد هذين المقعدين المرتفعين وقمت أمامه أجري يدي بما تلقيه هذه النفس الحزينة على هذا القلم الشقي.

لقد أطلت ولكني لم أحدثك إلا بأيسر الحديث، لقد أطلت ولكني لم أحدثك عما رأيت، بل لم أحدثك عما لم أر، فإن ما رأيته لا يستحق الحديث، وإنما الذي يستحق الحديث هو هذه المعالم التي أقبلت زائرًا لها. فلم أرَ منها عينًا ولا أثرًا، وسألت عن بعضها فلم أجد بين الناس الذين سألتهم من يعرف لها نبأ أو يروي عنها خبرًا، هذه المعالم التي جئت لأراها والتي لم أرها، هي التي تستحق الحديث. لن أرسل إليك هذا الكتاب حتى أتمه، ولن أتمه الآن، فقد آن لي أن أروح إلى قريتنا حيث ينتظرني الحزن والسخط والبؤس والشقاء.

نعم لن أرسل إليك هذا الكتاب حتى أتمه، فما ينبغي أن أحتمل وحدي ثقل هذا الحزن وما أظن أن غيرك وغيري من الذين نشئوا في المدينة يحزنهم أن يعلموا بموت القناة أو بتغير ما ألفوا من المعالم أو بتفرق من ألفوا من الناس.

وأكتب إليك الآن من قريتنا وقد بلغتها مع الليل فألهاني ما شهدت فيها بعض الوقت عما كان يملأ نفسي من الحزن والحسرة، ولو أنك رأيت للهوت كما لهوت، ولما استطعت أن تمنع نفسك من ضحكٍ ينفذ إليه حزن غير قليل، فقد رأيت أهل الدار وقد ملكهم جزعٌ غريب لم يحكموا فيه عقلًا ولا روية، وإنما اندفعوا فيه اندفاعًا، افتقدوني وجه النهار فلم يجدوني وانتظروني حتى انتصف النهار، وهم يظنون أني قد خرجت لبعض ما يخرج له الشباب من النزهة والتماس التروض والعبث في الحقول، ولكني لم أعد مع الظهر، ولم أعد مع العصر، فلم يشك أحد في أني لم أخرج لنزهةٍ ولا لتروض وإنما فررت منهم فرارًا، وعدت إلى القاهرة أنتظر فيها يوم الرحيل.

وتستطيع أن تصور لنفسك ما ملأ نفس الشيخين من هذا الحزن العنيف الذي يملؤه السخط والغضب، وتملؤه الرقة والرحمة في وقتٍ واحد، لقد كنت ابنًا عاقًّا يرتحل دون أن يودع أبويه، فكنت خليقًا أن أثير السخط والغضب والموجدة، ولكني كنت ابنًا يرتحل إلى بلدٍ نازح، فكنت أثير الرحمة والحب والحنان، وكانت غريبة هذه الدموع التي كانت تنحدر من عيني أمي، لا يعرف الناس أهي دموع الغيظ والحنق أم هي دموع الوجد والحنين، وكانت غريبة هذه الألفاظ التي كانت تنطلق متصلة على لسان أبي، لا يعرف الناس أصدرت عن أبٍ ينكر على ابنه عقوقه وجحوده وقسوة قلبه الغليظ أم صدرت عن أب ينفطر قلبه حزنًا لأن ابنه قد سافر إلى بلدٍ مجهول، وهو لا يعرف متى يعود ولا كيف يعود.

ثم كانت غريبة هذه العواطف التي ثارت في نفسي حين بلغت الدار فرأيت الشيخين راضيين يظهران السخط، ومسرورين يتكلفان الحزن، ومبتهجين يتصنعان الاكتئاب، ففي قلبهما إذًا عطف عليَّ، هذا الغضب الذي أراه وأتأذى له ليس إلا مظهرًا من مظاهر هذا العطف، ولونًا من ألوان هذا الحب، وصورة من صور هذا الحنان، وإذًا فسأسافر إلى هذا البلد الغريب وأنا واثق بأن الذي سيصحبني في هذا السفر هو الحب والعطف والحنان لا السخط والغضب والموجدة. ولعل خروجي إلى المدينة لم يكن شرًّا كله وإنما كان فيه بعض الخير، على كثرة ما أثار في نفسي من الآلام الملحة الباقية، فلأول مرة عدت إلى القرية استطعت أن أظفر من أبوي بساعاتٍ فيها هدوء وطمأنينة وحديث متصل مختلف، كأن عودتي إليهما من الرحلة القصيرة التي انقضت قد ألهتهما عن تلك الرحلة الطويلة التي لم تبتدئ بعد، وكان أكثر حديثنا عن المدينة التي زرتها، وعما تغير من معالمها ومن تفرق من أهلها، وكان الشيخان يتحدثان إليَّ في ذلك كله حديثًا هادئًا مطمئنًّا يغشاه حزن خفيف، وتتردد فيه ذكريات مؤثرة، ولكن قوامه الرضى بما كان والسخط على ما هو كائن والأمل فيما سيكون، وكانت أحاديثهما متممة لما رأيت وما علمت، ومتممة في الوقت نفسه لتشييد هذا المعبد الحزين الذي أقمته في نفسي لهذه الحياة المنقضية وهذه العهود الماضية ولهذه الذكريات التي ستبقى ما بقيت.

نعم كانت أحاديثهما متممة لتشييد هذا المعبد الحزين الذي أقمته في نفسي والذي يجب أن تقيم مثله في نفسك لذلك العهد الذي مضى إلى غير رجعة ومات إلى غير نشور، ولا بد من أن أتم لك ما تم في نفسي من تشييد هذا البناء المظلم الحزين الذي ستتردد فيه الذكريات حائرة مضطربة كما تتردد هذه الطير التي تألف الظلمة في البيت المظلم الحزين.

وماذا تريد أن أقص عليك من أمر المدينة؟ لم يبقَ فيها شيء مما كنت تعرفه وتألفه، ماتت القناة فمات من حولها كل شيء، فأما حديقة المعلم فتستطيع أن تلتمسها في نفسك، واجتهد إن استطعت أن تستحضر ما بقي من صورتها وأن تثبته، فإني أخشى أن يعبث الزمان بالصورة كما عبث بالأصل، وأما بيتكم فلن تراه إلا في الخيال يقظان أو في الحلم نائمًا، وكذلك هذه البيوت الحسان التي كانت تقوم على شاطئ القناة والتي كنت تحب أن تدخل بعضها لتتحدث إلى محمود وعثمان، ولتسمع لعزيزة وأمينة، وقد مضى أهلك إلى أقصى الصعيد، وهبط أهل عزيزة وأمينة إلى القاهرة، فتستطيع أن تلقاهم إن شئت فقد كنا نسمع أنهم كانوا يقيمون في بولاق قبل أن ينقلهم العمل إلى مدينتنا.

وأنت تعلم من غير شكٍّ أن عم حسنين قد انتقل إلى السودان بعد أن عصف الموت ببيته فأذوى منه غصونًا وأذبل زهرات، لكنك تجهل أن «حسن كوزو» قد رحل إلى عزبة «المكسرين» وأنت لا تعرف عزبة «المكسرين» فهي قطعة من الأرض منحتها الحكومة لعمال الدائرة السنية الذين عجزوا عن العمل، فهم يقضون فيها ما بقي لهم من حياة.

فأما سيدنا فقد ارتحل إلى حيث لا يئوب المرتحلون وسبقته حماته الشمطاء ذات اللسان الحاد الذي لم يكن يعرف السكون، واستأنفت زوجه الشابة حياتها سعيدة مع ذلك الذي كان يدور حول بيتها كما كان يدور الأحوص حول بيت أم جعفر، وفقدت عالية أم غريب زوجها الضرير، ثم انتقلت مع أبنائها إلى حيث لا يعلم أحد، وطارت أم محمود مع غوي من أهل المدينة، ذهب بها إلى حيث لا ينكر الناس عليه غوايته، ولقيت زنوبة من دهرها شرًّا ونكرًا، فخانها زوجها جهرة بعد أن كان يخونها سرًّا، وآثر عليها بنت أخيها الفتاة. ثم مضى الدهر في تنكره لها ومكره بها ففقدت بصرها، وعاشت أعوامًا لا ترى النور، ثم رأفت بها الأيام فأخرجتها من هذا العالم الذي لا يكمل الصفو فيه.

أتريد أن تعلم أكثر مما علمت وأن تحزن أكثر مما حزنت؟ فقد هُدم الكتَّاب هدمًا، وذهب ما كان حوله من الأشياء ومن كان حوله من الناس.

نعم هُدم الكتَّاب هدمًا، وما أعرف أن شيئًا مما رأيت أو شيئًا مما لم أرَ ترك في نفسي من الآثار المؤلمة والندوب التي ستبقى ما بقيت مثل ما تركه فيها منظر الكتاب المتهدم. فما تزال معالم الكتاب باقية، على نحو ما كانت تبقى معالم الديار لقدماء الشعراء. فالكتاب الآن طلل تمحوه الأيام شيئًا فشيئًا وتبقي من آثاره إلى الآن بقية مؤذية حقًّا، لقد ماتت القناة عن شماله وسويت الطريق عن يمينه، ونزع منها ذلك الخط الحديدي الضئيل الذي كانت تمضي عليه تلك القطارات الزراعية الصغيرة تحمل القصب إلى معمل السكر أثناء العمل وتحمل التراب والحصى، إذا كان الفيضان، لردم هذا المستنقع العظيم الذي كان يؤذي المدينة في كل عام.

نزع هذا الخط وسويت هذه الطريق وقلت الحركة عن يمين الكتاب وشماله، وعملت معاول الهدم في الكتاب نفسه وفيما كان يجاوره ويوازيه من البناء حول دار المأمور، فالمنظرة التي كانت أمام الكتاب والتي كان ينزل فيها أضياف المأمور قد هدمت كما هدم الكتاب، وأصبحت طللًا مثله. والبيت الذي كان يقوم وراء الكتاب وتعيش فيه أسرة عم نوح قد هدم كما هدم الكتاب وانتثرت هذه الأطلال في هذا الفضاء انتثارًا محزنًا موئسًا، ولكن مكان الكتَّاب بينها يثير في النفوس أسى غريبًا ولوعة محرقة حقًّا، إن أرضه ما زالت مرصوفة بهذه الأحجار التي كان يغسلها التلاميذ مساء الأربعاء من كل أسبوع بعد أن يقرءوا الحزب، وإن عتبته ما زالت قائمة، ولم تمح جدرانه كلها محوًا، وإنما بقي منها شيءٌ يرتفع هنا وينخفض هناك، وتستطيع أن تتبين مواضع المقاعد الخشبية التي كانت مُسندة إلى هذه الجدران والتي كان يجلس سيدنا على أحدها عن يمينك إذا دخلت ويجلس العريف على أحدها الآخر عن شمالك إذا دخلت، ويجلس المترفون من التلاميذ على سائرها ثم يختلط بينها الفقراء وأبناء الشعب، على حصر ممزقة تستر بعض الأرض وتبين عن بعضها الآخر، ولا تكاد تجدد إلا حين تستحيل إلى قش لا يكاد يتصل، وحين يجود بعض الأغنياء بما يقوم مقامها.

قل ما شئت، واعجب بالشعر ما أحببت، واحفظ من وقوف الشعراء على الأطلال وبكائهم على الديار وذكرهم للظاعنين ما استطعت أن تحفظ، فسيظل هذا كله في نفسك كلامًا أجوف لا يحتوي شيئًا ولا يدل على شيء، حتى تقف موقفًا منذ حين كالذي وقفته بين هذه الأطلال عن يمينٍ وشمال، وحتى تذكر ما ذكرت من هذه الحياة القوية الغنية الخصبة التي كانت تملؤها الحركة والنشاط، وتضطرب فيها الأماني والآمال، وتختصر جيلًا مضى وتنبئ عن جيلٍ مقبل، فذهبت هباء وتفرقت في الأرض، ولم يبقَ منها في هذا المكان إلا صدى لا يحسه الناس جميعًا، ولا يقدرون وجوده، وإنما يحسه مثلك ومثلي من الذين اشتركوا في هذه الحياة وتأثروا بها وملئوا من صورها النفوس والقلوب، لقد وقفت على الكتاب وقفةً طويلة وجعلت أنظر حولي فلا أرى إلا هذه الأحجار المتناثرة وأمد أذني فلا أسمع إلا هذا الصدى الذي كان يضطرب في الفضاء، ولكني مع ذلك كنت أرى رفاقنا جميعًا، وقد أخذوا مجالسهم في الكتاب، هذا يقرأ، وهذا يسمع، وهذا يغلو، وهذا يكتب، وهذا يلعب، وكنت أحلل هذا الصدى المتردد فأجد فيه هذا اللغط الذي كان يسمع من مكانٍ بعيد فيدل سامعه على مكان الكتاب، ولولا أني ما زلت محتفظًا ببقية إرادة، وفضل من القدرة على ضبط النفس لجننت ولتحدثت إلى هؤلاء الأشخاص الذين كنت أراهم يجرون ويلعبون، ولشاركتهم في الجري واللعب، لا أخفي عليك أني ملكت نفسي فلم يذهب بها الجنون، ولكني لم أملك عيني، ففاضت الدموع. هممت أن أمضي ولكني لم أسلك الطريق العامة حيث كان يمتد الخط الحديدي، وإنما هممت أن أمضي نحو بيت المأمور، فما راعني إلا النخلتان اللتان كانتا تقومان بين الكتَّاب وبيت نوح، وإذا هما قائمتان كعهدهما تبسطان ما كانتا تبسطانه من الظل، وتحملان ما تعودتا حمله من التمر الذي لم يتم نضجه بعد، وتلقيان ما كانتا تلقيان من بعض هذا التمر الذي كنا نلتقطه فنعبث به، ثم كنا نلتقطه فنأكله إذا قارب النضج، ثم كنا نزدحم عليه ونتنافس فيه إذا تم نضجه، وما زالت النخلتان قائمتين بين هذه الأطلال المتهدمة ولكنهما قد فقدتا ما كانتا تبعثان من بهجة، وظهرت عليهما كآبة عميقة حزينة مثيرة لليأس كأنهما تجدان الوحشة في هذا المكان الذي خلا بعد عمران، ومات بعد حياة.

ولقد وقفت عند هاتين النخلتين لحظة ما أعرف أني قضيت مثلها، ولقد ذقت في هذه اللحظة من لذة الذكرى وألم الحسرة ما لا أعرف أني ذقت مثله قط، وإني لأذكر الآن هاتين النخلتين فأمنحهما حبًّا ومودة وأهزأ بهذا الامتحان الذي أخضعكم له ذات يوم أستاذ من أساتذتكم في الجامعة حتى ذكر حلوان ثم استطرد إلى نخلتي حلوان ثم كلفكم أن تبحثوا عن هاتين أين كانتا وماذا قيل فيهما من الشعر ومن ذا تغنى بهما من الشعراء! لقد أجهدت نفسك في البحث، ولقد كنت تعجب بشعر مطيع في هاتين النخلتين، ولقد كتبت كلامًا كثيرًا عما عرفت من أمر هاتين النخلتين، ولقد كنت راضيًا عن نفسك لأن الأستاذ كان راضيًا عنك، ولكن ماذا تركت نخلتا مطيع في نفسك من أثر، وماذا بعثتا في قلبك من عاطفة؟ إنما هو كلام يروى ثم يثير في أنفسكم العجب والتيه والغرور أكثر مما يثير فيها الشعور الصادق بالجمال الصادق. أسرع أيها الصديق إلى مدينتنا فألمم بها يومًا أو بعض يوم قبل أن تمحى معالم الكتَّاب محوًا، وقبل أن تجتث النخلتان اجتثاثًا، وقبل أن تتم الحضارة عماراتها الشاهقة، على هذه القبور العزيزة التي دفنا فيها الصبي، وما كان يملؤه من الفرح والمرح ومن الحياة والنشاط، أسرع إلى النخلتين فاجلس إليهما واستظل بظلهما ثم أنشد شعر مطيع، فستفهمه وستتذوقه وستشعر بما يصور من الحزن كما شعر به مطيع نفسه.

ليت الأيام تتيح لي أن أحقق أمنية تضطرب في نفسي فأجمع نفرًا من رفاقنا ونقصد إلى الكتَّاب وإلى ما حوله من الأطلال وإلى النخلتين فننظر ونسمع ونجلس ونتحدث ونحيي عهدنا القديم ساعة أو بعض ساعة.

لست أدري أتقرأ هذا الكتاب الطويل أم تضيق به، وتشفق من طوله، وتكره أن تنفق في قراءته من وقتك ما أنت في حاجةٍ إليه، لتستعد لدرسٍ من الدروس، أو لتقرأ في كتابٍ من الكتب، أو لتحفظ من بعض الدواوين، ولكني لم أكن أستسيغ أن أكتب إليك أقصر مما كتبت، ولولا إشفاقي عليك ورثائي لك لكتبت إليك أطول مما كتبت، فقد تقدم الليل حتى تجاوز نصفه، فكل شيء ساكن من حولي إلا هذه الأصوات التي تبلغني من حينٍ إلى حين، أصوات الخفراء حين يتنادون أو أصوات الديكة، فتحسب أن الفجر قد لاح، فتصدح بندائها العذب لتلقاه بالتحية ولتنبئ الناس بمطلعه، ثم تعلم بعد ذلك أنها قد خدعت، أو هي لا تعلم شيئًا وإنما يمضي بها النوم في أمواجه المتصلة المتلاطمة فتعود إلى الصمت وتغرق فيه. ولعلي أجرد نفسي من خواطرها، وأسلها مما حولها سلًّا، وأعلقها في هذا السكون تعليقًا، فأسمع أصداء تتردد ويدعو بعضها بعضًا ويجيب بعضها بعضًا، وتصور لي ذلك الصدى الذي كنت أسمعه في الكتاب ثم أريد أن أحلل هذه الأصداء وأردها إلى أصولها، وأتخذ لها أشخاصًا أحياء، فيخيل إليَّ أنها نفوس الأجيال التي سكنت قريتنا على اتصال الزمن، ويخيل إليَّ أن أجسام الناس والحيوان والأشياء هي وحدها التي تزول، وهي وحدها التي تتغير، وهي وحدها التي تبرح الأرض. فأما نفوس الناس والحيوان والأشياء فمتصلة بالأرض لا تبرحها، مضطربة في الجو لا تفارقه ولا تزول عنه، وإنما هي تملؤه حياة لا يشعر بها الأحياء إلا إذا سلوا أنفسهم من المادة سلًّا، وعلقوها في سكون الليل تعليقًا، لقد تقدم الليل حتى جاوز نصفه وكاد يبلغ ثلثيه، ولقد سكن من حولي كل شيء، وأنا لا أسمع دعوة النوم ولا أحس مقدمه، ولا أرغب فيه، وإنما أنا حريص كل الحرص على أن أبقى مع هذه الذكريات أتحدث إليها، وأسمع منها حين أتخذها موضوعًا لما أحمل هذا الكتاب إليك من حديث، وما أظن أن الفجر سيلقاني نائمًا بل أنا واثق بأنه سيلقاني يقظان، ولولا أن يراع أهل الدار وأن تظن بي الظنون لخرجت لاستقباله في الفضاء فأنا أكره أن يدخل عليَّ نوره من النافذة، كأنه اللص، وأحب أن ألقاه في الفضاء الطلق، فأملأ به نفسي وقلبي، وألتمس في ضوئه الهادئ الحلو هدوءًا لهذه الثورة التي لا أستطيع أن أكبح جماحها، ولا أن أنتهي بها إلى السكون.

يا للحزن ويا للأسى! ويا للوعة ويا للحسرة! ويا لليأس ويا للقنوط! لقد أقبلت على الريف وكنت أظن أني سأملأ عيني وأذني ونفسي وقلبي بما أحببت وبما ألفت، وأني سأحمل هذا كله إلى حيث أريد أن أقيم وراء البحر، فلم أجد شيئًا، وهأنذا سأعود إليك بعد أيام، ثم أرحل إلى مصر بعد أسابيع لا لا أحمل في نفسي إلا أطلالًا متهدمة، ونخلتين قائمتين صامتتين تجدان الوحشة، وتبعثانها من حولهما، ما أكثر ما كنت أريد! وما أقل ما وجدت! وما أكثر ما يعبث بنا من الآمال!

تقبل تحية صديقك اليائس.

•••

وأنا أعترف أني تلقيت هذا الذي هو أشبه بالسِّفر منه بالرسالة في شيءٍ من الخوف والإشفاق من طوله، ولكني تعودت من صديقي طول الحديث واختلافه وكثرة الافتنان فيه، فأبقيته يومًا كاملًا لم أقرأه، ولم أعرف ما فيه حتى فرغت له آخر النهار فقرأته، ولكني لم أحس له من الأثر مثل ما أحسست له حين أعدت قراءته في هذه الأيام، وكأن الأمد بين صديقي وبيني كان بعيدًا أشد البعد، فقد كنت أقدر الذكرى وآنس إليها وأحب التحدث عن العهود القديمة، ولكني لم أكن أكلف بهذه العهود ولا أحفل ولا آسى عليها.

ولعلي كنت مدفوعًا إلى أن أسخر منها سخرًا غير قليل، فقد كنت مفتونًا بحياتي في القاهرة راضيًا عما كنت أتلقاه كل يوم من جديد الأمر، مبتهجًا بما كانت تتفتح له نفسي كل ساعة من العلم، وكان هذا النشاط العقلي يبهرني، ويسحرني ويدفعني إلى طورٍ من أطوار الحياة يشبه أن يكون سكرًا متصلًا، وكان تذكر العهود القديمة يؤذيني؛ لأنه يخرجني من هذه الحياة اللذيذة بعض الشيء، ويردني إلى تلك الحياة التي طالما ضقت بها أيام كنت صبيًّا ناشئًا في الريف، فلم أحفل بالقناة ولا بموتها، ولم أحفل بالخط الحديدي ولا بانتزاعه، ولم أكترث للكتاب ولم أعرف للنخلتين خطرًا، وما قيمة الكتاب وما قيمة النخلتين ولم يقل أحد في الكتاب ولا في النخلتين شعرًا، ولم يتحدث كتاب قديم عن الكتاب ولا عن النخلتين ولا عن القناة ولا عن الخط الحديدي، ولا عن معمل السكر. والله عز وجل قادرٌ على أن يغفر لي الخطيئة ويعفو لي عن الذنب، ويتجاوز لي عن السيئة، فقد لقيت ما أنبأني به صديقي من موت سيدنا بشيءٍ من الابتسام وهز الكتفين. أما الآن فأراني مع صديقي متلمسًا أصل القناة باحثًا عما ألفنا من الأحياء والأشياء، حزينًا ملتاعًا يائسًا قانطًا، أما الآن فإني أقرأ هذا الكتاب فأسأل نفسي: أين ذهب الكتَّاب والنخلتان؟ وماذا قام في ذلك المكان، الذي قضينا فيه شطرًا من حياتنا لعله خير ما أتيح لنا أن نحيا.

٨

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبٌ
فلا رأي للمضطر إلا ركوبها

ألقى هذا البيت بصوته الغليظ ومد قافيته مدًّا طويلًا، وهو يضرب الأرض بعصاه، ويلقي طربوشه على مائدة كانت أمامي، ثم جلس لم يبدأني بتحية، ولم ينتظر أن أردها عليه، وكأنه اعتقد أن هذا البيت الذي ألقاه على هذا النحو خير تحية يمكنه أن يهديها إليَّ، وأن دهشتي لمقدمه، وانتظاري لتفسير هذا البيت، والإبانة عما أراد به، خير رد عليه. وأكبر الظن أنه لم يكن يرى التحية والرد عليها إلا لونًا من تنبيه القادم إلى مقدمه وتنبيه المقيم إلى أن أحدًا قد أقبل عليه، وما دام هو قد بلغ من ذلك ما كان يريد فليس عليه بأس من أن يسند عصاه ويتخفف من طربوشه ويجلس إلى المائدة التي كنت أجلس إليها مالئًا الجو بضحكه العريض كما تعود أن يفعل كلما أتى شيئًا غريبًا، ثم يرفع صوته بهذه الجملة التي يمتلئ بها بيتنا الصغير كله «هات الشاي يا غلام.»

ثم يستريح قليلًا من الحركة ومن الكلام ثم يستأنف حديثه من حيث انتهى وهو إنما انتهى عند إنشاد البيت، فيقول: والأسنة هنا يا سيدي هي هذه الزيارات التي سننفق فيها آخر النهار، وأول الليل، حتى إذا ملأنا آذاننا من لغو الناس، وملأنا آذانهم من لغونا. وقلنا ما لا نعتقد، وسمعنا من الناس ما لا يعتقدون، وشبع بعضنا من الكذب على بعض، انصرفنا إلى خلوتنا تلك في أعلى الربوة ففرغنا لجدِّنا الذي خُلقنا له، وأخذنا منه بحظٍّ موفور قبل أن يفرق بيننا الرحيل، وأظن أنك لن تمانعني في أن نبدأ زياراتنا بشيخك الأديب، فإني قد أحببته منذ عرفته، ولست أدري أيحبني أم يبغضني، ولكن ذلك لا يعنيني فحسبي أني أحبه، وأني أريد أن أراه وأن أستمع إليه، وأني أريد أن يكون ذلك في هذا المساء؛ لأني سأشغل منذ غد بما يصرفني عن الزيارات. والخير أن توطن نفسك على أنك ستخرج معي الآن فلا تعود إلى بيتك إلا إذا أسفر الصبح، وغمرت الشمس مدينة القاهرة بضوئها الحار المحرق، وإن لم يرتفع النهار. وما أحب أن تجادلني في ذلك أو أن تنكره عليَّ، أو أن تتعلل بهذه التَّعِلَّات التي لا تغني فإني مصممٌ على أن يتم ما أريد مهما تكن المصاعب، ومهما تخترع من التَّعِلَّات. ولولا أني نهضت وأتيت حركة الذي يريد أن ينصرف ويترك له الغرفة وما فيها لما انقطع هذا السيل المندفع عن التدفق، ولما كف هذا الغيث المنصب عن الانهمار. ولكنه رآني قائمًا أتحول إلى باب الغرفة وقد رفعت يديَّ كأنما أريد أن أضعهما على أذنيَّ، فأغرق في الضحك، ثم ردني إلى مكاني هو يقول: «لك ما تريد سأبلعك ريقك، فقد يخيل إليَّ أني منذ أقبلت لم أُرِحْك، ولم أُرِح نفسي من الكلام، ولكن لا تلمني في هذا وَلُمْ غلامك هذا الأسود الصغير، فلو أنه أسرع بالشاي وشغلني به وببعض ما يصحبه من الطعام، لانصرفت إليه بعض الشيء عن هذا الكلام المتصل.»

ثم صمت متكرهًا وتعجلت خادمي فجاءه بما كان يريد، واستطعت أن أتحدث إليه، وأن أسمع منه كما يتحدث بعض الناس إلى بعض في هدوءٍ واطمئنان وشيءٍ من الرزانة والتفكير.

ولم أشك مع ذلك في أنه كان مضطرب النفس، شديد الاضطراب مدفوع القلب إلى ثورةٍ عنيفة لا يعرف منها مخرجًا ولا ينتهي منها إلى قرار. فقد أخذت أتعلل عليه وأظهر كراهة الخروج، ثم أقيم الدليل إثر الدليل على أني إن خرجت فلا بد من أن أسرع إلى العودة؛ لأني لا أستطيع السهر.

في هذه الليلة كان كلما سمع مني تَعِلَّة محاها محوًا، وكلما سمع مني دليلًا نقضه نقضًا، حتى إذا أعياه ذلك وضاق بهذا التمنع الطويل نهض كالمغضب وخرج من الغرفة واندفع إلى الغرفة التي كان أخي قد خلا فيها إلى بعض كتبه، فدفع بابها دفعًا، ولم يكد يجد أخي حتى أنبأه بأنه سيصطحبني في بعض الزيارات ثم سيقضي معي أكثر الليل أو كله في حديث طويلٍ ذي بال. وخيَّره ضاحكًا صاخبًا بين أن يكون هذا الحديث الطويل الخطير هنا في هذه الغرفة أمام غرفته أو هناك في بيته البعيد على تلك الربوة مما يلي القلعة.

وكان أخي أشد الناس ضيقًا بالناس، وأكثرهم نفورًا من الزيارة والزائرين، وأشدهم بغضًا لهذا النوع من الحديث الطويل ذي البال، الذي يظن أصحابه أن له خطرًا، وإنما هو وسيلة من وسائل قتل الوقت، والانصراف عما ينبغي للطالب الجاد من درسٍ وتحصيل. فلم يكد يسمع حديث صاحبي حتى أجابه متعجلًا أن أخرجه معك متى شئت وأعده متى أحببت، فلست أطلب إليك ولا إليه أن تريحاني من لغوكما الذي لا حد له، فأخي يعلم، ولعلك تعلم أيضًا، أني غارقٌ في الاستعداد للامتحان.

قال ذلك وأعرض عنه إلى كتبه فعاد إليَّ جذلان مبتهجًا وهو يقول: لم تبقَ لك حجة، وإنما أنت منذ الآن ملك لي، فلا بد مما ليس منه بد.

ولم يكن بد من أن أذعن له، وأنزل على حكمه وأطوف معه في بعض أحياء القاهرة نزور هذا لمامًا ونزور ذاك فنطيل عنده الإقامة، وهو في أثناء هذه الزيارات وفي أثناء الطريق التي كنا نقطعها من بيتٍ إلى بيت، مندفع في مزاحٍ لا ينقطع بصوتٍ مرتفع كثيرًا ما كان يلفت إلينا الناس، وكثيرًا ما كان يحملني على أن ألح عليه في أن يخفض منه بعض الشيء وعلى أن أقسم له أني لست أصم وأني أسمع همسه فضلًا عن حديثه المعتدل. وأن أحتج له على أن الناس ليسوا في حاجةٍ ولسنا نحن في حاجةٍ إلى أن يشاركونا فيما نأخذ فيه من عبثٍ وجدٍّ، وكثيرًا ما اضطر أصدقاؤنا الذين زرناهم إلى أن يظهروا الضيق بصوته المرتفع الذي لا يخفي شيئًا، ولا سيما هذا المزاح الغليظ المسرف في الحرية الذي يرتفع به صوته حتى يخشى أصحاب الدور أن يبلغ النوافذ وأن ينتهي إلى آذانٍ لا ينبغي أن ينتهي إليها.

ومهما يكن من شيء فقد كانت صحبتي له هذا المساء لذيذة حقًّا متعبة حقًّا، كانت لذيذة لهذه الفنون المختلفة التي كان يطرقها في أحاديثه المتصلة، ينتقل من بعضها إلى بعض في غير تمهيد، ولا تنبيه، ولا مناسبة، وإنما هو الاستطراد كما يفهمه هو لا كما تفهمه أنت، ولا كما أفهمه أنا، معتمدًا على هذه المناسبات الظاهرة التي تدعو إلى الشرح والتفسير، وتبيح الانتقال من موضوعٍ إلى موضوع، وإنما هي مناسبات خفية كان يجدها هو ولم نكن نجدها نحن. فكان استطراده من موضوعٍ إلى موضوع، أشبه شيء بالوثوب والقفز من شاطئ القناة إلى شاطئها الآخر دون اصطناع جسر أو شيء يشبه الجسر، وكنا نجد في استطراده هذا ما يلهي ويضحك ويعجب، وكنا نقدر دائمًا أنه إذا وثب من موضوعٍ إلى موضوع أو قفز من حديثٍ إلى حديث، فلن يعود إلى الموضوع الذي وثب منه ولا إلى الحديث الذي تجاوزه، ولكنه كان يقهرنا فلا ينسيه موضوع موضوعًا ولا يشغله حديث عن حديث، ومن أجل هذا استحالت اللذة التي كنا نجدها في الاستماع له إلى تعب مضن للعقل، منهك للقوى، ويكفي أن تتصور رجلًا يسير بك أو يعدو بك في طريق ثم لا يلبث أن يعدل بك إلى طريقٍ أخرى ثم لا يلبث أن يردك إلى الطريق الأولى فيعدل بك إلى طريقٍ ثالثة، وهو يمضي في ذلك جاهدًا متصل الجهد، لا يريح ولا يستريح. فأنت واجد في هذا لذة، وأنت مستقبله بالنشاط والمرح، ولكنك لا تلبث أن يدركك الإعياء والسأم وأنت تتمنى على صاحبك أن يعفيك من هذا الاضطراب أو يمضي بك على صراطٍ مستقيم.

وكم تمنينا وكم ألححنا في التمني، لكن عقل صاحبي كان قد ركب على هذا النحو، فلم يكن يستطيع أن يمضي في تفكير أو روية أو حديث دون أن ينحرف يمينًا أو شمالًا ثم يعود إلى طريقه الأولى ليعود إلى الانحراف عنها، ومن يدري! لعل الحياة الواقعة ولعل الحقائق أو الأمور المعقولة التي تعمل فيها عقول الناس لا تستقيم ولا تسمح بأن يستقيم التفكير فيها، وإنما هي تنحرف وتعوج وتلتوي وتكره العقول على أن تسايرها في الانحراف والاعوجاج والالتواء، ولعل عقولنا نحن أوساط الناس يسيرة ساذجة ليست تامة التكوين ولا كاملة الأداة، فهي ترى الأشياء سهلة ميسرة، وتسلك في التفكير طرقًا معتدلة مستقيمة وتتعب من الانحراف والالتواء، أي من التفكير الصحيح. ومهما يكن من شيء فقد كان هذا الاستطراد المتعب لازمة من لوازم صاحبي إذا فكر أو كتب أو تحدث، فإذا أضفت إلى هذا صوته الذي لم يكن يعرف الخفوت ولا يحب الهمس، وإذا أضفت إلى هذا أنه صمم في هذا المساء على ألا نركب عربة ولا نتخذ ترامًا ولا نستعين بأداة من أدوات الانتقال مهما تبعد بنا الطريق؛ لأنه قد أزمع أن نجن في هذا المساء، وكان الجنون عنده أن نهيم في الأرض حتى إذا أجهدنا المشي، استرحنا لحظة ثم استأنفنا الهيام حتى ينتهي بنا الإعياء إلى أقصاه، أقول إذا لاحظت هذا كله، وأضفت بعضه إلى بعض لم تشك في أني كنت متعبًا مكدودًا حين بلغنا منزله في أعلى الربوة مما يلي القلعة وقد تقدم الليل، وليس من جدالٍ في أني لو ملكت يدي ونفسي — كما يقول الفرزدق — لتخلفت عن مرافقته، ولتركته في بعض الطريق، ولكنه قد احتاط لذلك عامدًا أو غير عامد، فأبى عليَّ أن أصطحب غلامي الأسود الصغير، وقال: ارفق به ودعه يسترح، ولعل أخاك أن يحتاج إليه، وما دمت ستنفق الليل معي، وما دمت سأردك إلى بيتك مع الضحى فلسنا في حاجةٍ إلى رقيبٍ يسمع ما نقول، أو يحصي ما نهذي به، وقد لا نكون في حاجةٍ إلى أن نسمع غطيطه حين يطول عليه حديثنا، ويثقل عليه سهرنا فيأخذه نومه العميق، ويهوي به عن كرسيه إلى الأرض كما كان ذلك ليلة كنا نطيل الحوار في بعض قضايا المنطق التي كنت تراها واضحة كل الوضوح، وكنت أراها أنا غامضة كل الغموض.

واستطاع على هذا النحو أن يخرجني من غير خادمي، وأن يتحكم في أذني وفي رأسي وفي رجلي كما أراد، حتى إذا انتهى بي إلى داره نحو منتصف الليل كنت محطمًا أو كالمحطم، وكنت لا أتمنى إلا مجلسًا أستريح إليه من هذا العناء، وكنت واثقًا أني لن أبلغ غرفته الحرام ولن أجلس على ذلك المجلس من الخشب تغطيه الوسائد، حتى أنثني على أحد جنبي وأستسلم للنوم.

ولكنه لم يمكني حتى من هذا، فما كاد بابه يفتح لنا، وما كادت خادمته تهدينا بمصباحها الضئيل إلى غرفته الحرام حتى أقبلت بما عندها، وليتها لم تفعل، فقد أقبلت بإبريق الشاي ومن حوله قطع من فطير الريف، وأقبل هو على الشاي يصبه في الأكواب وهو يقول في صوتٍ ماكر: هذا هو الشاي الذي تعتمدون عليه في إنفاق الليالي البيض حين يطلب إليكم الدرس ألا تناموا والدرس يا سيدي يطلب إلينا في هذه الليلة ألا ننام، فاشرب من هذا الشاي واستعن عليه بهذا الفطير حتى إذا أخذت من الراحة والغذاء والري بنصيبٍ أخذنا في درسنا المعضل العويص.

وقد كنت متعبًا مكدودًا ولكني جائعًا ظمآن أيضًا، فلم أجد قدرة على الامتناع عن أخذ ما كان يقدم إليَّ من طعامه الثقيل، وشرابه الذائد للنوم، وأقبل هو على ما حملت الفتاة، فأصاب منه في غير رفقٍ ولا اقتصاد، حتى إذا أحس أن معدته قد استقرت في جوفه، وأن أعصابه قد تنبهت بعد الخمود، أخذ في حديثه الذي كان يقدم بين يديه بهذه المقدمات الطوال الثقال التي كانت تلتوي بنا وتحملنا ألوان العناء منذ العصر. وكان انتهاؤه إلى الأخذ في هذا الحديث بعد الجهد الذي لقينا، والمشقة التي احتملنا ساعاتٍ متصلة، أشبه شيءٍ بخلاص الأم بعد أن ثقل عليها الوضع، وابتلاها بالآلام المضنية المنهكة. وكان صوته وهو يأخذ في هذا الحديث هادئًا يحاول الرقة وتجري فيه عذوبة مؤلمة بعض الشيء كأنه صوت المريض وهو يخرج من المرض أو يدخل فيه، قال: أتعلم فيم أرقتك الليلة وكلفتك ما كلفتك من هذه الأهوال التي لم تكن تنتظرها ولا تحب أن تلقاها؟ قلت: لا، وإني لأنتظر أن أعلم ذلك منذ عزمت عليَّ في الخروج معك، ولو أنك استمعت لي وأردت بي الراحة، لألقيت إليَّ حديثك منذ خرجنا ولأرحت نفسك وأرحتني من هذا العناء الطويل. قال: لم يكن ذلك يستقيم يا سيدي فلكل شيء موعده وإبانه، وهذا الحديث لا يصلح له إلا الليل إذا تقدم وتجاوز نصفه وغمر كل شيء بهدوئه العميق، على أن جهدك لن يذهب عبثًا، فإني أعرفك تحب المسائل المعضلة، وتجد في حل المشكلات لذة، فإليك مسألة معضلة فواجهها كما تعودت أن تواجه مسائل المنطق والفلسفة والأصول. أيهما أهون أن يحتمل: الظلم أم الكذب؟ ولست أخفي عليك أيها القارئ أني وجمت حين سمعت هذه المسألة، ولم أستطع أن أسرع إلى الإجابة عنها. وظن هو أني أفكر فأمهلني لحظةً ثم سألني عن رأيي فقلت: لا أدري لأني لا أفهم معنى للسؤال، فالظلم قبيح، والكذب قبيح، والخير للرجل الكريم الفاضل أن يتجنبهما معًا.

قال: فإن لم يكن له بد من إحداهما قلت: دعني من الأمور العامة، وألق إليَّ حديثك في صراحة ووضوح فعلِّي أفهم عنك ولعلي أستطيع أن أرد عليك، قال في ضحكٍ هادئ: يظهر أنك فاترٌ عن الفلسفة منذ الليلة، فلنواجه مشكلتنا من طريق غير طريق الفلسفة، ولأنبئك قبل كل شيء بأني إنما أرقت وأرقتك معي هذه الليلة لأني سأصبح بطلًا قبل أن ينتصف نهار الغد، وأنا لا أريد أن أنتظر البطولة نائمًا ولا غافلًا، وإنما أريد أن أنتظرها يقظان، وأن آخذ لها أهبتها وأستعد لها كما يستعد الناس لعظام الأمور، وأنا أعلم أنك ضيق بي وبهذا الكلام الذي لا ينقضي والذي لا يفصح عن معناه، ولكني أقسم لك جاهدًا إني لا أمزح ولا أهذي ولا أريد العبث، وإنما أسوق إليك حديثًا كله حق وصدق وصواب، فلن ينتصف نهار الغد حتى أكون قد بدأت بطولتي وأقدمت على عملٍ ذي بال، ولست أزعم أني سأكون قد بدأت بطلًا من طراز الإسكندر أو قيصر، ولكني سأكون بطلًا على كل حال، سأكون بطلًا لقصة من القصص لتكن تمثيلًا أو لتكن قصصًا مرسلًا، ولكني سأكتب الصفحة الأولى منها قبل أن ينتصف النهار غدًا.

وكان يمضي في حديثه هذا مستأنيًا مستثنيًا حتى أخذت أسأل نفسي أمجنون هو، ولكنه أسرع فردني إلى شيءٍ من الاطمئنان، قال: أتعرف أن نظام الجامعة يقضي على أعضائها ألا يتزوجوا حتى يعودوا من أوربا؟ قلت: نعم، قال: ألم يخطر لك أن هذه القاعدة قد تؤذيني وتضطرني إلى بعض الحرج؟ قلت: وما أنت وهذه القاعدة، قال: فأنت تجهل إذًا أنني زوج، وهنا ظهر عليَّ دهش صادق لأني كنت أجهل أن لصاحبي زوجًا، وما كان يخطر لي أن امرأة تستطيع أن تحتمل الحياة معه مهما يكن حظها من الصبر والحلم ومن العفو والقدرة على الاحتمال، وما كنت أستطيع أن أتصوره إلا رجلًا مضطرب الحياة ظاهر اضطراب التفكير، ولكن قوة عقله وسعة علمه وذكاء قلبه هي التي تضطره إلى هذا الاضطراب، وتظهره في هذا الاختلاط، وكنت أرى أنه يقضي نهاره كما رأيته يقضيه يعمل في ديوانه قليلًا ويلغو مع الناس كثيرًا، ويحيا حياة خفيفة قوية متصلة قيمة الإنتاج وينفق الليل بين القراءة والنوم.

فلما رأى ما ظهر عليَّ من الدهش والإنكار أغرق في الضحك. وقال: لقد كنت تظنني طالبًا مثلك أحيا حياة الطلاب، ولكنك تعلم أني موظف وأن لي بيتًا كبيرًا وأني من أسرة غنية من أسر الريف، فكيف لم يخطر لك أني لم أكن أستطيع أن أستكمل ما ينبغي لمثلي من الحياة إلا إذا اتخذت لي زوجًا، مهما يكن من شيء يا سيدي فأنا متزوج وقد ظفرت بالنجاح في امتحان الجامعة ولا بد من أن أمضي العقد إذا كان النهار، ومن أصول هذا العقد ألا أكون متزوجًا، وألا أتزوج حتى أعود، فأنا إذًا مضطر إلى إحدى اثنتين، إما أن أكذب على الجامعة وأتورط في التزوير وأتعرض لما يقتضيه الكذب والتزوير من الشر إن ظهر أمرهما، وإما أن أظلم امرأتي فأطلقها، فماذا ترى؟ وكيف المخرج من هذه المشكلة؟ وأحب أن تعترف قبل كل شيء بأنها مشكلة معضلة حقًّا، وبأنها خليقة أن تكلفك ما كلفتك من الجهد، وتحملك ما حملتك من العناء، وتؤرقك مع صديقك ليلة كاملة، قلت: فدعنا من الهزل ومن لغو الحديث واستقبل هذه المشكلة العنيفة بما ينبغي لها من الحزم والعزم ومن الروية والأناة، قال: فإني أنفقت وقتًا غير قصير في الروية والأناة، وأنفقت جهدًا غير يسير في التماس الحزم والعزم. وقد كاد ينتهي ما أملك من الوقت، وقد انتهى ما كنت أملك من الجهد، ومن أجل هذا دعوتك لأستعين بك على الخروج من هذا الحرج الذي لا أدري كيف يكون الخروج منه، إن من اليسير أن أزعم للجامعة إذا كان الصباح أني أعزب، وأن أرسل امرأتي إلى الريف لتقيم فيه حتى أعود إليها إن أتيحت لي العودة. وما أظن أن هذا الكذب سيظهر، وما أحسب أنه إن ظهر استتبع عواقب ذات خطر، فماذا يعني الجامعة من أمري إن عرفت أني متزوج وأني قد كذبت عليها ما دمت لا أصطحب زوجي إلى حيث يجب أن أفرغ للدرس، وما دمت سأجعل بينها وبيني هذه الآماد البعيدة في البر والبحر. وقد يكون هذا الكذب مرذولًا، وقد يكون منافيًا لأخلاق الذين يريدون أن يحيوا حياة العلماء، ولكني لن أكذب رغبة في الكذب، ولا تعلقًا به، ولا حرصًا عليه، ولا إيثارًا لغش الجامعة وتضليلها، وإنما أكذب إن كذبت رغبة في العلم، وتهالكًا عليه وحرصًا على أن أغير حياتي وأجعل لها معنى وقيمة وخطرًا وأثرًا في منفعة الوطن. والكذب مرذول إلا أن ينتهي إلى نفعٍ وإلى نفعٍ صحيح، وأن يحقق مصلحة ومصلحة قيمة، فماذا ترى؟ أليس هذا الكذب خيرًا من الظلم الذي أقدم عليه إن طلقت امرأتي مع أنها لم تأت ذنبًا ولم تقترف إثمًا ولم تدفعني إلى هذه الرحلة بل كرهتها أشد الكره، ولكنها لم تصرفني عنها لأنها تؤمن بأني لا أعزم إلا بعد تفكيرٍ صادق، وانتهاء إلى رأيٍ مصيب، وما أظنك أن تقترح عليَّ أن أصدق الجامعة وأظهرها على جلية الأمر، فإني إن فعلت لم يكن لهذا من أثرٍ إلا أن تخيب آمالي كلها، وأن أستيئس من رحلتي، وأطمئن إلى هذه الحياة الخاملة الذابلة التي لا نفع فيها ولا غناء، وأنا أعلم حق العلم أني لا أملك هذه الشجاعة ولا أحتمل هذه الحياة، وأني إن صرفت عن هذه الرحلة بعد أن مدت لي أسبابها وهيئت لي وسائلها ميت من غير شك، ميتٌ بالمعنى الصحيح الواضح لهذه الكلمة، سأقتل نفسي إن ملكني الغضب، وسيقتلني الحزن واليأس إن أتيح لي الصبر والاحتمال، فَأَلْغِ هذا الفرض إلغاءً وامْحُهُ محوًا فليس لي بد من أن أكذب على الجامعة أو من أن أطلق امرأتي لأكون صادقًا، فاختر لي وأشِر عليَّ.

قلت وقد أنسيت كل ما كنت أجد من تعبٍ وجهد، وأنسيت الوقت وأنسيت المكان الذي أنا فيه، وشاقني علاج هذه المشكلة حتى ملك عليَّ أمري كله، وحتى أحسست كلفًا بالأخذ والرد والحوار ما أحسسته قط في درسٍ من دروس العلم، وقد لا يحسه شباب هذا الجيل الذي تعود الاستماع لمثل هذه المحاورات، والاطلاع على مثل هذه المشكلات بعد أن اتسعت حياتنا وبعدت آفاقنا العقلية واشتد اتصالنا بالحضارة الغربية وقرأنا من أدبها وفلسفتها الشيء الكثير، قلت: فإني لا أرى لك الظلم بحالٍ من الأحوال ولا أفهم أن تحمل امرأتك ذنبًا لم تجنه ولا أن تحمل نفسك هذا الإثم الثقيل، ومع ذلك فإني لا أرضى لك الكذب ولا أعينك عليه ولا آمن عليك شره وآثاره السيئة. قال متضاحكًا: فأنت إذًا ترضى لي أن أموت، قلت: بل أرضى لك أن تكون رجلًا وأن تؤمن بما تلح في الدعوة إلى الإيمان به، من أن ظروف الحياة أقوى من إرادة الإنسان ومن أن المثل القديم لم يعدُ الحق حين قال: «لا بد مما ليس منه بد.» ومن يدري، لعلك تستطيع أن تصور للجامعة أمرك كما هو وأن تحملها على أن ترضى منك هذا الزواج الذي لن يكون له في حياتك الدراسية أثر كما قلت آنفًا، قال: فإنك تعلم حق العلم أن الجامعة لن تغير نظامها من أجلي، وأني لم أنجح وحدي في الامتحان، وأن من ورائي اثنين يودان لو تقطعت بي الأسباب عن هذه الرحلة ليفوز بها أحدهما من دوني، فأنا إن صدقت الجامعة، مضحٍّ برحلتي من غير شك، وإذا حيل بيني وبين هذه الرحلة فقد حيل بيني وبين الحياة واتصلت بي أسباب الموت فليس إلى هذا الصدق من سبيل.

وأنت تخطئ إن ظننت أنه تحمس الشباب أو أنه التعجل والتقصير في التفكير، فأنا أعرف نظام الجامعة هذا قبل أن أقدم على الامتحان، وأنا أفكر فيه منذ أعلنت الجامعة إلى هذه البعثة، ومنذ ظهرت نتيجة الامتحان خاصة، فليس إلى هذا الصدق الذي تطلبه من سبيل، لن أعدل عن الرحلة ولن أصارح الجامعة بجلية الأمر، قلت: وإذًا؛ ففيم تستشيرني وقد أجمعت أمرك ووطنت نفسك على الكذب؟ قال: كلا يا سيدي، لم أوطن نفسي على الكذب، ولو قد وطنت نفسي عليه لأمعنت فيه ولأخفيت جلية الأمر عليك ولاجتهدت في إخفائها على نفسي، ولكني قد وطنت نفسي على الظلم، فأنا أريد أن أكون صادقًا، حين أتحدث إلى الجامعة، إذا كان الصباح، وأن أكون ظالمًا لنفسي ولامرأتي، قلت: فإني أرى في هذا إثمًا بشعًا واستباحة قبيحة للشر، واعتداء على حق من لا تملك الاعتداء عليه، قال وهو يضحك حزينًا: وأنت مع هذا أزهري تدرس الفقه وتعرف أن الطلاق مباح وأنه أبغض الحلال إلى الله، ولكنه مع ذلك حلال لا خطيئة فيه، ولا إثم على الذين يقدمون عليه، فأمر الزواج عندنا ليس إلى امرأتي بعد أن قبلته وهو ليس إليها وإلي، وإنما هو إليَّ وحدي، فأنا أستطيع أن أمسكه إن شئت وأستطيع أن أحل عقدته إن أردت، وأنا أريد أن أحل هذه العقدة، لا إيثارًا للطلاق ولا رغبة عن امرأتي ولكن إيثارًا لما هو خير من الزواج ولما هو خير من الزوج وإن كانت خليقة بالحب والمودة والعطف، إيثارًا للعلم ورغبة في رقي النفس والعقل، قلت: فإني أخشى أن يكون هذا كله غرورًا ووحيًا من وحي الأماني، وما أدري أيهما خير: هذا العلم الذي تتحدث عنه كأنه شيء لا يدرك إلا إذا تكلفت له ما ستتكلف من الشر، أم هذه الزوج التي أصفتك ودها ومنحتك حبها، ووقفت حياتها عليك، وجعلها الله رحمًا لك وسكنًا، ومن يدري! لعل تحصيل هذا العلم الذي تتهالك عليه وتستبيح في سبيله الظلم، أن يكون ميسرًا لك وأنت مقيم في مصر بين أهلك لا تفارقهم ولا تتكلف لهم ظلمًا، ولن تكون أول من حصل العلم دون أن يرحل إليه، والعلم يعبر إلينا البحر من أوربا، وهو يسعى إلينا في دورنا، ونحن نستطيع أن نلتمسه فيما يلقى من الدروس وفيما يؤلف من الكتب، وإني لأخشى ألا يكون حب العلم الخالص هو الذي يغريك بهذه الرحلة التي لن أتحرج من أن أراها آثمة، وإنما يغريك بها سأم الأديب والحرص على تغيير الحياة، والطموح إلى منصب الأستاذ، وهذا كله يغري، ولكنه يجب أن يكون أهون على الرجل الكريم من أن يدفعه إلى الظلم والإثم والعدوان.

قال: يا سيدي إنك تضيع وقتك ووقتي، فلن تقنعني بالعدول عن الرحيل، ولا بإظهار الجامعة على جلية الأمر. وليس إلى اقتناعي بالكذب على الجامعة سبيل، أتدري لماذا أهون عليك؟ فإني أرى هذا الكذب مباحًا وما أكثر ما أبيح لنفسي أشياء تحرمونها أنتم على أنفسكم، ويحرمها عليكم الدين وما تواضعتم عليه من الأخلاق، أنا لا أكره هذا الكذب لأني أراه إثمًا، وإنما أكرهه لأنه سيدفعني إلى آثامٍ أمقتها حقًّا، وإلى ظلمٍ أرى أن ظلم الطلاق أهون منه، إني لأعرف من أمر أوربا شيئًا كثيرًا، وقد قرأت غير قليل مما ترسل إلينا من القصص، وسمعت غير قليلٍ من أنباء الذين يرحلون إليها ويقيمون فيها، وكل هذا ينبئني بأني لن أقاوم الحياة الأوربية وآثارها في نفسي كما ينبغي للرجل الوفي لزوجه أن يقاومها، فأنا واثقٌ يا سيدي بأني سآثم وسأنغمس في الخطايا وأنا أريد أن أحتمل وحدي هذا الإثم وأنغمس وحدي في شر هذه الخطايا، وأنا أبيح لنفسي أن أكذب على الجامعة، ولكني لا أبيح لنفسي أن أكذب على امرأتي كذبًا متصلًا، فأزعم لها أني وفيٌّ أمين، على حين أني قد غرقت في الخيانة إلى أذني، قلت وقد اقشعر جلدي واضطرب قلبي وأخذني غضب عميق لا أكاد أجهر به، ولا أكاد أخفيه: فهل تعلم أنك تقول منكرًا من القول، وأنك تقدم على أمرٍ بشع شنيع، وأن حبي لك يحملني على أن أتمنى ما استطعت أن تصرف عن رحلتك هذه صرفًا، وأن تكره على الإقامة في مصر إكراهًا. أنت تعلم أنك ستأثم في أوربا ثم تقدم مع ذلك على السفر إليها، وتشتد في السفر، فأنت إذًا تريد الإثم وتتعمد الخطيئة وتصر على المعصية، ولكن كلمة المعصية هذه لم تكد تبلغ أذنيه حتى جن جنونه، واندفع في ضحكٍ عريض، عالٍ متصل، أخرجه عن طوره وكاد ينتهي به إلى الشر في جسمه وفي عقله أيضًا، وكان هو يضحك ويضطرب اضطرابًا عنيفًا من شدة الضحك وأنا واجم ذاهل مبهوت أسأل نفسي أول الأمر عن هذا الخبل الذي مسه، ثم تثوب إليَّ نفسي قليلًا قليلًا وإذا أنا أحس العمامة التي على رأسي وأحس الجبة والقفطان اللذين أسبغا على جسمي إسباغًا، وأذكر أني شيخ وأني أزهري، وأني تحدثت إلى صاحبي حديث رجل الدين، وأن صاحبي يسخر مني ويهزأ بي ويردني إلى مكاني الأول، ويرى أن أمله في قد خاب وأن اختلافي إلى الجامعة واستماعي للأساتذة الأوربيين وتحدثي إليه واستماعي منه، وما قرأنا من كتبٍ أوربية، وما كنت أتكلف من التجديد والخروج على الأزهر والأزهريين والتنكر له ولهم، وما كنت أرمي به من المروق وإيثار البدعة، وما كنت أجد من اللذة حين أحس أن الناس يرون في المروق وحب البدع جديدًا، كل هذا لم يكن إلا غشاء رقيقًا وطلاء يسيرًا لا يكاد يثبت للتجربة الأولى، فإذا جد الجد، وكان أول درس من دروس الحياة العاملة التي ليست كلامًا ولا غرورًا، فأنا الشيخ الأزهري القح الذي حفظ ما حفظ من كتب الدين وورث ما ورث من آثار القرون، واحتمل في قلبه الضئيل وعلى كتفيه الصغيرتين، ثقل السنين التي توارثها الأجيال أثناء ثلاثة عشر قرنًا.

أأقول الحق أم أخفيه؟ وما لي لا أصطنع الشجاعة ولا أحمل نفسي على بعض ما تكره، وإن الحياة لتحملها على ما تكره في أكثر الأحيان، لقد استحييت من صاحبي، واستحييت حتى انتهيت إلى الخزي، وأحسست كأن رأسي ذاب في عمامتي، وكأن هذه العمامة لم تكن تستقر على شيء. وأخذت أتضاءل في جبتي وقفطاني، حتى خيل إليَّ أنهما يستقران على هذا الكرسي لا يملؤهما شيء، وأخذت قطرات من العرق تسيل على جبهتي فتبلها، وكادت الرعشة أن تجري في جسمي المتضائل المضطرب، كل هذا لأن صاحبي ظهر على جلية أمري، وعرف أني ما زلت أزهري النفس والقلب والعقل، أرى الانغماس في الحياة الأوربية إثمًا وأشفق على صاحبي منه، وأرى الإصرار على الخطيئة وتعمد الإقدام عليها كفرًا، وأخاف على صاحبي عواقبه. وإذًا فأي فرق بيني وبين هذا الشيخ العتيق الذي كان يعرض بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيتغنى في بعض دروسه بهذه الجملة التي شاعت والتي كنا نتندر بها، ونضحك منها. وكنت أنا أشد الناس تندرًا بها وضحكًا منها، «ومن ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق.»

كذلك قال الشيخ، وبذلك كنا نتندر في الأزهر، ومن ذلك كنا نضحك في أنديتنا الحرة التي كان الأزهريون يرونها أندية ابتداع وضلال، فقد أصبحت أنا كهذا الشيخ أرى أن من ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق، ومع ذلك فإن أساتذتي من الفرنجة في الجامعة يرون أني حر الرأي ويشفقون عليَّ من حرية الرأي هذه، وكنت أنا أرى أني حر الرأي وأغتبط بما يصيبني في سبيل هذه الحرية، فقد كنت إذًا أكذب على نفسي، وكنت إذًا أخدع أساتذتي، ولم أكن إلا شيخًا أزهريًّا قحًّا يرى أن من ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق.

كذلك كنت أفكر مستخذيًا متضائلًا من الخزي بينما كان صاحبي يغرق في الضحك، حتى إذا أعياه اضطراب جسمه هدأ بعض الوقت يتكلف الهدوء، ثم لا يلبث أن يعود إليه الضحك العنيف فيهزه هزًّا عنيفًا وهو يردد كلمة المعصية هذه ويقول ما زلت تؤمن بالطاعة والمعصية وتردد هاتين الكلمتين، وما زلت تفكر في الكفر والإيمان.

ثم يمضي في الضحك وأمضي أنا في الخجل والاستخذاء، ومع ذلك فلو أني كنت أتحدث إلى رجلٍ هادئ عادي غير غريب الأطوار، لما أنكرت من حديثي شيئًا ولما رأيت على نفسي منه بأسًا، فلم أكن أرى الذهاب إلى فرنسا كفرًا ولا زندقة وإنما كانت طبيعتي كلها تثور لهذه الجرأة الوقحة، التي كان يقدم عليها صاحبي في غير تكلفٍ، وهو يتحدث عن الخطايا والآثام وانغماسه فيها وتهيئه للانغماس فيها.

ولقد مضت أعوام وأعوام وذهبت إلى أوربا مرات ومرات وأقمت فيها، فأطلت الإقامة، وما زلت اليوم كما كنت في تلك الليلة تثور طبيعتي كلها إذا سمعت من يتحدث في هذه الجرأة الوقحة عن الخطايا والآثام والتهيؤ للانغماس فيها. ولا بد من أن أمضي في قول الحق إلى أقصاه، فقد وادعت صاحبي وصانعته واجتهدت في أن أقنعه بأني لست شيخًا أزهريًّا قحًّا، لم أحبب إليه فراق امرأته ولم أعنه على التهيؤ للانغماس في الخطايا والآثام، ولكني فقدت القدرة على مقاومته، وعجزت عن محاولة إقناعه بما كنت أرى، لا لأني ملت إلى رأيه، بل لأني كرهت أن يراني شيخًا أزهريًّا قحًّا يؤمن بأن من ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق.

وكذلك يسيطر الغرور على أنفس الشباب فإذا هم يتكلفون ما لا يحسنون ويحملون أنفسهم ما لا يطيقون، ويتكلفون هذا النفاق الغريب يخفون به ما في نفوسهم من أصول الخير ويظهرون به ما يرغبون فيه من مظاهر التجديد.

ثم يرتفع الضحى وإذا صاحبي يردني إلى بيتي ويفارقني ليذهب إلى الجامعة ويقول في لهجةٍ ساخرة لاذعة: سألقاك في المساء، فلا بد من أن نستأنف حديث الطاعة والمعصية، فإذا لقيني في آخر النهار علمت منه أن الجامعة قد احتجزت له مكانه على إحدى السفن، وأنه مرتحل بعد أسبوع، وأن زوجه قد ارتحلت ظهر اليوم إلى الريف، وأن طلاقها سيبلغها إذا كان الغد.

٩

يونيو في …

بينك وبيني أيها الصديق العزيز فتور أحسسته أمس حين التقينا في قهوتكم هذه التي تزدحم بالشيوخ، ويشتد فيها لغطهم بالفقه والنحو والأدب، وتختلط أصواتهم بهذه الضوضاء العنيفة التي تصدر عن الناس وعن الترام وعن هذه العربات التي تخرج مع المساء من درب الجماميز إلى شارع محمد علي، لتنبث في أحياء القاهرة موزعة عليه ما يحتاج أهلها من اللحم، وقد كان هذا الضجيج المختلط خليقًا أن يحول بيني وبين الشعور بهذا الفتور، حتى يطول الحديث بيننا، ولكني لم أكد أصافحك حتى أحسست الفتور في يدك، وتأكدت أنه صورة للفتور في نفسك، فلما تحدثنا فصَّل لي صوتك الهادئ ما أجملت يدك، واستيقنت أن بينك وبيني شيئًا.

ولولا أصحابك من الشيوخ هؤلاء الذين أحب أن أراهم من بعد، وأكره أن أجلس إليهم، وأن يتصل بيني وبينهم الحديث، لولا أصحابك الشيوخ هؤلاء، وما كانوا يشغلوننا به من أحاديثهم عن الأزهر ومدرسة القضاء ودار العلوم، وما كانوا يشغلوننا به من تهالكهم على أصحاب الطعام حين كانوا يمرون بما يحملون من الفطير والشواء وما يشبهها من هذه الأطعمة الرخيصة، لولا أصحابك الشيوخ هؤلاء لما اتصل الحديث بينك وبيني أمس إلا في هذا الفتور الذي تبينته في يدك وفي صوتك، وفي وجهك، ولما انصرفت عنك إلا وقد رددت الأمر إلى ما كان عليه، من هذا الصفاء القوي الذي لا تكلف فيه، ولا احتياط. ولكني جعلت أنتهز الفرصة لأخلو بك ولتفرغ لي فلا تسنح، ولم يكن من اليسير أن أطلب إليك النهوض معي لبعض الشئون كما تعودنا أن نفعل: فقد كنت على ثقةٍ بأنك ستعتذر، وستتعلل بأنك متعب مكدود من ليلتك البيضاء، التي قضيتها معي أمس.

على أني لم ألبث أن تبينت أني لم أكن مخطئًا فيما كنت أقدر حين رأيتك تتعجل العودة إلى بيتك ولا تحفل بإلحاحي عليك وإلحاح أصحابك في أن تبقى معنا كما تعودت أن تبقى حتى يتقدم الليل، وتقل الضوضاء في الشارع، ويطيب الحديث في هذه القهوة الجميلة.

ولقد هممت أن أنهض لأرافقك إلى بيتك، وكنت أظن أن في مرافقتك هذه الدقائق ما يتيح لي أن أدير الحديث بيننا حتى أبلغ هذا الفتور، وكنت واثقًا بأني إن بلغته فلن أدعه حتى أمحوه محوًا، وإن أرقتك ليلة أخرى، ولكن الله لم يرد ذلك، أو لم يرده أصحابك الشيوخ، فقد نهض صاحباك هذان اللذان طالما نغصا عليَّ مجلسي معك فرافقاك، واضطررت أنا إلى التخلف، والله يعلم إلى أين ذهبتم، فلست أشك في أنهما لم ينصرفا عنك حين انتهيت إلى بيتك، وأكاد أعتقد أنك إنما تكلفت الانصراف وتعجلت العودة لتخلص مني وممن كان من أصحابك، ولتفرغ لصديقيك هذين فتقضي معهما شطرًا من الليل غير قليل، فيما تعودتم أن تنفقوا ليلكم فيه من عبثٍ وحديث.

ولولا أني كرهت أن أثقل عليك وعليهما وأن أوصف بالإلحاح، لتبعتكم لأعلم علمكم، ولأسقط عليكم بعد أن يستقر بكم المجلس، ولأتخذ موضوعًا للصراع بينهما وبيني، فلا أنصرف عنك، حتى أصرفهما، وما أوسع حيلتي حين أريد أن أصرفهما عنك، وأي شيء أيسر من أن آخذ معك في بعض الحديث الذي لا يحبانه، ولا يسيغانه، ولا يفهمانه، فإذا أنت تجيب وإذا أنا أمضي في الحديث، وإذا هما يظهران الضجر، ثم يظهران الضجر الشديد، ثم يتثاءبان، ثم يؤذنان بعزمهما على الانصراف ثم ينصرفان، ولكني لم أنشط لشيءٍ من هذا لأني لم أجد منك ما يعينني على النشاط إليه، ولأني لم أجد من نفسي ما يدفعني إلى هذا النشاط، فقد كنت أنت فاترًا، وكنت أنا مثقل النفس بالهم، مملوء القلب بالحزن، والله يعلم ما احتجت إليك في يومٍ أو ليل كما احتجت إليك أمس، وما افتقدتك في يوم أو ليل كما افتقدتك مساء أمس، لقد رأيتكم تنهضون، وأتبعتكم بصري وأنتم تسعون إلى درب الجماميز. حتى إذا انعطفت بكم الطريق، أثبت بصري في الفضاء أمامه كأنما كنت أريد أن ينعطف معكم وأن يبلغكم وأن يدعوكم إليَّ وأن يردكم عليَّ، ولكن بصري لبث ثابتًا في الفضاء، لم يستطع أن يتبعكم ولا أن يبلغكم ولا أن يؤدي إلى أنفسكم ولا إلى نفسك أنت خاصة رسالة نفسي، فرددته إليَّ خائبًا محزونًا، ومكثت في قهوتكم هذه أنظر ولا أكاد أرى، وألقي السمع ولا أكاد أسمع، ويتحدث إليَّ من حولي فأجيب حينًا، وأذهل أحيانًا عن الجواب. وقد تفرق الناس من حولي كما تعودوا أن يتفرقوا حين كاد الليل أن ينتصف، وخلت القهوة لي ولجماعات ضئيلة تفرقت فيها حول بعض اللعب، فأنفقت فيها ما استطعت أن أنفقه من الوقت، وأستطيع أن أنبئك صادقًا بأني دهشت حين سمعت الخادم ينبهني إلى أن قد آن أوان الإغلاق، فنهضت كارهًا متثاقلًا، وأخذت الطريق التي أخذتموها، في درب الجماميز، أسعى أمامي وكأني كنت أقدر أنني سألقاك عائدًا إلى بيتك مع أحد صاحبيك، فآخذك منه قهرًا أو أنفق معك بقية الليل هائمين في القاهرة، أو لاجئين إلى داري أو إلى هذا السطح الجميل الهادئ الذي ينبسط أمام بيتكم الصغير، وكنت كالمستيقن بأنكم إنما ذهبتم عند أحدكم في هذا البيت الذي يسكنه غير بعيد عن بيتي، عند جامع ابن طولون، فسمرتم ما شاء الله أن تسمروا وهزأتم بشيوخكم في الأزهر ما شاء الله أن تهزءوا، وذكرتم من أنباء صحبكم ما شاء الله أن تذكروا، وتناشدتم الشعر وهجا بعضكم بعضًا، وأثنى بعضكم على بعض، ثم آن لكم أن تتفرقوا فبقي أحدكم في بيته وخرجت أنت مع صاحبك تسعيان في هدوء الليل الساكن وتمضيان فيما كنتم فيه من لغو، وتضحكان من هؤلاء السكارى الذين يتخبطون في هذه الأحياء الوطنية حين يعودون إلى بيوتهم آخر الليل، حتى إذا بلغتما بيتك آويت إليه، ومضى صاحبك وحيدًا، يسرع في هدوء الليل كأنه السهم، حتى يبلغ داره في أقصى الظاهر.

كنت أقدر هذا كله وأكاد أثق به، وأكاد لا أشك في أني سألقاك مع صاحبك في بعض الطريق، والله يعلم ما سمعت وقع أقدام من بعد، إلا خيل إليَّ أنها أقدامكما، ولكني قطعت درب الجماميز حتى انتهيت إلى السيدة دون أن ألقاكما، ثم مضيت نحو جامع ابن طولون، فلم ألقكما، ثم انعطفت حتى مررت ببيت صاحبك، فلم ألقكما، ولم أرَ في البيت ما يدل على يقظة، ولم أسمع منه ما ينبئني باتصال السمر والحديث.

فمضيت في طريقي يائسًا من لقائك محزونًا لهذا الفتور الذي لم أستطع أن أمحوه حتى انتهيت إلى بيتي، وليتني لم أنته إليه، لقد كنت ذاهلًا حين بلغت البيت فدققت الباب كما تعودت أن أفعل وانتظرت، ثم دققته مرة أخرى ومرة ثالثة، وكان الصوت يتردد في هذه الدار ثم يعود إليَّ فينبئني بشيءٍ لا أكاد أفهمه، حتى إذا كانت الطرقة الثالثة عاد الصوت إليَّ ينبئني بما فهمته وارتعت له، عاد الصوت إليَّ يقول لي: إنك لأحمق، فيم تطرق الباب وليس من ورائه من يسمع لك، ولا من يسرع إليك؟ لقد تحمل من كان في البيت وأصبح البيت خاليًا فارغًا هادئًا ينتظر مقدمك لتملأه وتعمره وتذيع فيه الحركة، لا تعُد طرق الباب، فلن يستجيب لك أحد، ولكن أخرج المفتاح وأدِره في القفل أمامك، فإذا انفتح لك الباب، فادخل وأغلقه من دونك أو لا تغلقه، فمن يدري! لعلك لا تستطيع مصاحبة لهذه الوحدة المروعة في هذا البيت الذي لم يتعود الفراغ، لن تهديك الخادم الصغيرة بمصباحها الضئيل كما تعودت أن تفعل، فأنت تعلم أنها سافرت مع سيدتها، فأخرج من جيبك علبة الثقاب وأضئ لنفسك ظلمة الطريق واذهب إلى أي الوجهين شئت، اذهب إلى غرفتك الحرام، فلا بأس عليك من الالتجاء إليها، لن يبلغك فيها صوت، ولن تنتهي إليك فيها حركة. ولن تتحدث فيها إلى صديقك، ولن تلقى فيها إلا كتبك التي لا تحصى، ومن يدري! لعل نفوس المؤلفين لهذه الكتب قد أقبلت جماعات من أعماق الزمان ومن أقطار الأرض، لتؤنس وحشتك في هذه الغرفة الخالية، واذهب إن شئت إلى غرفة نومك فلن ترى في السلم سراجًا مضيئًا ولن ترى إذا انتهيت إلى أعلى السلم خادمتك الصغيرة مستلقية تغالب النوم وتنتظر مقدمك، ولن ترى في غرفتك امرأتك في سريرها تتكلف النوم وهي مستيقظة، ولكنها لا تريد أن تؤذيك، ولا أن تشق عليك ولا أن تلقي في روعك أنها تأرق حتى تعود إلى غرفتك، فالله يعلم أنها لا تأرق إلا انتظارًا لك، وشوقًا إليك، ولكنك خليق أن تسيء الظن وأن تقدر أنها إنما تأرق لتحصي عليك الساعات، تستطيع الآن أن تدخل هذه الغرفة لا مترفقًا ولا محتاطًا فلن توقظ أحدًا، ولن يحس مقدمك أحد، ومن يدري! لعل ظلًّا من امرأتك قد أقام في هذه الغرفة ينتظر مقدمك ويأبى أن يفارق هذا البيت حتى تفارقه أنت لتعبر البحر.

نعم عاد إليَّ صوت الطرقة الثالثة بهذا الحديث الطويل، في لحظات لا أدري أكن طوالًا أم قصارًا، ولكن الذي أعلمه هو أني لم أخرج المفتاح ولم أدره في القفل أمامي، ولم يفتح لي الباب، وإنما لبثت قائمًا أمام البيت بعد أن تردد هذا الحديث في أعماق نفسي، فملأها حزنًا ووحشة ورعبًا، وأكاد أكتب وندمًا، ولكني لا أريد أن أعترف بأني أحسست الندم.

لبثت قائمًا أمام البيت أسأل نفسي أأقدم أم أحجم، أأدخل الدار أم أنصرف عنها، ثم لا أخفي عليك لقد عجزت عن الإقدام وكرهت أن أفتح الباب، ولم أحس شوقًا إلى لقاء الظلال، ظلال العلماء والأدباء والفلاسفة، قد أقبلوا يؤنسون وحشتي في الغرفة الحرام. ولم أجد جلدًا عن أن ألقى ظل امرأتي في غرفة نومي، وإنما استحييت منه أشد الاستحياء، لم أدخل الدار وإنما انصرفت راجعًا أدراجي، ومضيت أهيم في الطريق أمامي، أخرج من شارع لأدفع إلى شارعٍ آخر، لا أحفل بما قد يظنه بي هؤلاء الخفراء والشرطيون الذين لا أشك في أنهم كانوا ينكرون شخصي الهائم، في مثل هذه الساعات المتأخرة من الليل، ولعل منهم من هم أن يسألني عن أمري، ولكنه لم يجد عليَّ من مظاهر الريبة ما يغريه بهذا السؤال، فخلَّى بيني وبين الطريق.

وما زلت أهيم وأهيم في غير وجه حتى أحسست يقظة الناس من حولي، وسمعت أصوات المؤذنين تتجاوب بالدعاء إلى الله، فثابت إليَّ نفسي بعض الشيء مع ضوء النهار، وتكلفت في مشيي ومظهري ما يصرف عني كل ريبة أو شك ومضيت في هيامي، ساعة وبعض ساعة، ثم أنظر فإذا أنا عند قهوتكم هذه التي التقينا فيها مساء أمس، من أين جئتها، وكيف انتهيت إليها، لا أدري، ولكني قد بلغتها وبلغتها متعبًا مكدودًا، وما كدت أرى هذه الكراسي ينسقها الخادم في شيءٍ من الكسل والفتور حتى أحسست كأن هذه الكراسي تدعوني إلى الراحة، وحتى رأيتني أستجيب لدعائها، وأسرع إلى الجلوس، وأطلب إلى الخادم أن يحمل إليَّ الشاي، ومن قهوتكم هذه أكتب إليك الآن أيها الصديق، وكنت أريد أن أتحدث إليك عن هذا الفتور الذي أحسسته منك أمس لأمحوه ولأتم معك الحديث الذي كنا فيه والذي قطعته أنا بهذا الضحك المفاجئ السخيف الذي دفعت إليه دفعًا والذي أفسد الأمر بينك وبيني، ولكني لم أحدثك إلى الآن إلا عن نفسي وعن ليلتي البيضاء الثانية التي قضيتها في غير راحة ولا أمن ولا هدوء، على حين لهوت أنت مع صاحبيك ثم استمتعت بالراحة والنوم، وها أنت ذا الآن تستقبل النهار نشيطًا مستريحًا مبتسمًا للحياة، تريد أن تمضي فيما تعودت أن تمضي فيه من القراءة أو الدرس، أو تريد أن تخرج للقاء صاحبيك أحدهما أو كليهما. أو تريد أن تنتظرهما فلعلهما أن يزوراك ليخرجاك أو ليبقيا معك. ألست ترى أنك أثر مسرف في الأثرة وأنك تترك صديقك يحتمل وحده أثقال الشقاء؟ ألست ترى أن من حق صديقك عليك أن تسرع إليه فتسمع منه، وتقول له، وتسليه وتواسيه، فإنه سيشقى وحده دهرًا طويلًا حين يعبر البحر إلى تلك البلاد التي ليس له فيها صديق؟

سأرسل إليك هذا الكتاب مع خادم القهوة، وسأنتظر بعد إرساله ساعة فمن يدري لعلي أراك مقبلًا مع غلامك الأسود الصغير …

دخل عليَّ بهذا الكتاب غلامي الأسود الصغير هذا وأنا أتهيأ للخروج، وكنت كما قدر صاحبي على موعدٍ من صديقي لنذهب إلى دار الكتب، ولكن الغلام لم يكد يفرغ من قراءة هذا الكتاب عليَّ في لهجته الأسوانية التي كانت تضحكني عادة لأنها تجعل القاف غينًا والغين قافًا والتي لم تضحكني اليوم وإنما آذتني وملأت صدري حرجًا، لم يكد يفرغ من قراءة الكتاب حتى خرجت معه ولكن لا إلى قهوة دار الكتب حيث كان ينتظرني صديقاي، بل إلى قهوة الزاوية حيث كان ينتظرني صاحبي هذا الشقي.

١٠

ألم أقل لك أول أمس إني سأصبح بطلًا قبل أن ينتصف النهار من غد؟ فإني قد صرت بطلًا منذ أمس وما أظنك تماري في ذلك بعد أن قرأت الكتاب الذي أرسلته إليك منذ حين، قال ذلك وضرب المائدة أمامه بعصاه ضربًا خفيفًا، فلما أقبل الخادم طلب إليه إبريقًا من الشاي، ثم استأنف حديثه متعبًا مكدودًا وفي صوته شيء غير قليل من التكسر والفتور، قال: نعم لقد صرت بطلًا منذ أمس، بطلًا لقصة قد تكون كلها جدًّا وقد تكون كلها هزلًا وقد تكون مزاجًا من هذا وذاك ولكنها قصة لا بد لها من بطل على كل حال، وقد أردت أو أرادت الظروف أو أراد القضاء الخفي أن أكون هذا البطل، فليس من الأشياء الهينة أن يقدم الرجل على طلاق امرأة يحبها ويؤثرها ويعرف لها جميلًا لا يستطيع أن يقدره ولا أن يكافئها عليه، ليس هذا من الأشياء الهينة ولا سيما حين تكون هذه المرأة كريمة النفس رضية الخلق طاهرة القلب نقية الضمير لا يأخذها زوجها بخطيئة ولا يتعلق عليها بسيئة ولا يلقى منها إلا ما يسره ويبره ويرضيه، ومع ذلك فقد أقدمت على هذا الشيء الخطير إيثارًا للعلم وإن شئت فقل إيثارًا للرقي وارتفاع المنزلة، وإن شئت فقل اجتنابًا للكذب على الجامعة وفرارًا من الخيانة الممكنة، بل الراجحة، بل المحققة. وأنا أعلم أنك قد أنكرت عليَّ هذا وأنك كنت تجادلني فيه، ولكن تلك الضحكة التي لقيتك بها حين انتهيت إلى بعض الحديث قد قطعت عليَّ وعليك هذا الجدال وكادت تفسد ما بينك وبيني من الأمر.

فالآن وقد قرأت كتابي وعرفت من أمري ما عرفت وزال من نفسك هذا النفور الذي كنت أحسه أمس فقد نستطيع أن نعود إلى هذا الحديث لتعلم أني لم أكن مخطئًا فيما كنت أعتزم وأني لست مخطئًا فيما تممت عليه من فراق امرأتي قبل أن أرحل إلى أوربا، وأقبل الخادم يحمل الشاي فملأ منه قدحًا لي وقدحًا له وهو يقول هذا خامس أقداح الشاي التي شربتها منذ بلغت هذا المكان في أول النهار.

ثم عاد إلى حديثه من حيث انقطع حين كنا نتحاور في داره، قال: لقد كنت تلومني على أني أقدر الإثم وأفكر فيه وأعلم منذ الآن أني سأقترفه وأتهيأ لفراق امرأتي لاقترافه، وكنت ترى الإصرار على هذا كله خطيئة بل كفرًا وخروجًا من الدين، وكان حديث الكفر يدهشني لأني لم أكن أنتظره منك بعد أن عرفتك حر الرأي غاليًا في التجديد، فلا تغضب إن أظهرت هذا الدهش، وعد بنا إلى خلاصة الحديث فأيهما خير؟ أن يعرف الإنسان مكانه من القوة والضعف ونصيبه من القدرة والعجز، وأن يحتاط لما يعرف من ذلك فلا يقترف من الآثام ولا يجترح من السيئات إلا ما لا يجد منه بدًّا ولا عنه منصرفًا، أم أن يخدع الإنسان نفسه ويغره بها الغرور فيضيف إليها الخير وليست بخيرة ويثبت لها الفضيلة وليست بفاضلة ويحملها ما تطيق وما لا تطيق، ويقترف من الآثام ما يستطيع أن يجتنبه ويتقي التورط فيه، وما رأيك في أني أعرف من نفسي مواطن الضعف وأقدر أن الحياة الجديدة في ذلك الذي أنا راحل إليه ستمحو منها هذا المقدار اليسير الذي بقي لها من رعاية العادات والاحتفاظ بالتقاليد والحرص على ما تواضع الناس على أنه الخير، وستغمرني أمواجها الزاخرة المصطخبة فلا أقوى على دفعها ولا مقاومتها وإنما أعيش كما يعيش الناس وآتي من الخير القليل والشر الكثير ما يأتون، أفإن صارحت نفسي بالحق وأخذتها بأن تحتمل وحدها أوزار أعمالها كنت خاطئًا ممعنًا في الخطيئة وكافرًا مسرفًا في الكفر، فإذا ضللت نفسي تضليلًا وغررتها تغريرًا وزينت لها وللناس أني سأكون في فرنسا خيرًا مما أنا في مصر تقيًّا نقيًّا وبرًّا طاهر القلب، وأنا أعلم أن ذلك لن يكون مهما أحاوله وأعلم قبل ذلك أني لن أحاوله لأني لن أستطيع التفكير في محاولته، أفإن عمدت إلى هذا التضليل والتغرير برئت من الخطيئة ونجوت من إثم الكفر والمروق، ألست ترى في هذا النحو من التفكير والفهم والحكم عوجًا والتواء؟ قلت: لا أدري ولكني أوثر الرجل أن يقع في الخطيئة إن لم يكن له بد من الوقوع فيها على غير علم بذلك ولا تهيؤ ولا تفكير فيه، وأرى في هذا الاستعداد للإثم بدءًا في اقترافه وفي هذا التهيؤ للإساءة شروعًا في الإساة وفي هذا التفكير في الشر قبل أن يقع مع أن من الممكن ألا يقع استعدادًا رديئًا للشر وإلحاحًا آثمًا في دعائه، وقد كان يحسن ألا تدعوه. والأمر لا يقف في رأيي عند الدين ولا عند الكفر والإيمان ولا عند رعاية العادات والاحتفاظ بالتقاليد والأخلاق، وإنما هو يتجاوز هذا كله إلى شيءٍ لا أدري كيف أصفه، ولكن صورته تقع من نفسي موقعًا سيئًا، فقد يخيل إليَّ أن الإنسان المتحضر المثقف خليق ألا يتجرد ولا يعرى حتى أمام نفسه إن وجد إلى ذلك سبيلًا، وقد يخيل إليَّ أن حياء الرجل المثقف من نفسه هو خير أنواع الحياء وأرقى منازله، وقد يخيل إليَّ أن في مواجهتك لهذا الشر الذي لم تعرفه ولم تدفع إليه بعد وفي تأهبك له، شيئًا من الخروج عن هذا الحياء الذي لا ينبغي للرجل المتحضر المثقف أن يبرأ منه.

قال: فأنت تريد أن تقول إني وقح أمام نفسي، فليس غريبًا أن أكون وقحًا أمام الناس! قلت في شيءٍ من التحفظ: هو ذلك، بل إن في الأمر ما هو أغرب من هذا، فإنك لا تظهر وقحًا أمام الناس، وما أعرف أن أحدًا أساء الظن بك أو شك في سيرتك أو رماك بالخلاعة أو اتهمك بالمجون، فأنت إذًا تظهر للناس غير ما تضمر، وأنت إذًا تكاشف الناس بما لا تكاشف به نفسك، وأنت إذًا خليع ماجن، ولكنك تظهر للناس أنك صاحب جد واحتشام. قال وقد عاد إليه نشاطه واستأنف ضحكه العريض: فإني يا سيدي خليع ماجن، ما أرى في ذلك عيبًا وما أشك في أني عظيم الحظ منه، وإذا أخفيت على الناس فما أخفيه إلا اتقاء لشر الناس وإيثارًا لمنفعتي ليس غير، فقل إني وقح في السر، وقل إني رجل لا حظ له من الحياء، فأنت إن قلت ذلك لم تعدُ الحق ولم تؤذني؛ لأنك لست كغيرك من الناس، ولأنك لا تملك أو لا تستطيع أن تؤذيني وأن تفوت عليَّ حظي من الخلاعة والمجون، وأنا على هذا كله أرى أني أقرب إلى الخير من قومٍ لا يظهرون خلاعة ولا مجونًا، ولا يكشفون للناس ولا لأنفسهم عما يطوون من سرائر بغيضة ونيات آثمة خبيثة، فأنا أريد أن أحتمل وحدي وزر خلاعتي وثقل مجوني، وأنا أعلم أن حساب ذلك بيني وبين ضميري أو بيني وبين الله، ولكني لا أحب أن أمسك امرأتي، فأحملها ثقل ما أقترف من الآثام والسيئات، وأخونها وأنا أزعم لها أني وفيٌّ، إني لا أعلم أني ما خنتها منذ اتخذتها زوجًا على كثرة ما نازعتني نفسي إلى الخيانة، ومن يدري! لعل حظي من الحياء أمام نفسي أكثر مما تظن، ومن يدري! لعل حظي من هذه الأخلاق الأخرى التي تعصم الرجل من الخلاعة والمجون أكثر مما تظن أيضًا، وإني لأقيس نفسي إلى صاحبك هذا الشيخ ما كاد يظفر بالإجازة التي تجعله من علماء الدين وتضمن له أجرًا يوسع عليه في الحياة ويمكنه من الترفيه على نفسه، حتى أقدم على ما تعلم وما لا تعلم من الآثام والخطايا والخصال التي لا تلائم علمًا ولا دينًا ولا خلقًا. فهو يغرق في المجون والإثم إلى أذنيه حين تمكنه الفرصة، فإن لم تواته دعاها واتخذ إليها الوسائل والأسباب، وهو في الوقت نفسه يخطب فتاة كريمة من أسرة كريمة ويظهر لهذه الفتاة البريئة وأسرتها أنه أطهر الناس سيرة وأعفهم لسانًا وقلبًا ويدًا، وهو في الوقت نفسه يتكلف الوقار والاحتشام ويظهر الإيمان والنسك، ولا يكاد المؤذن يتم أذانه حتى يكون في المسجد قد سبق إلى الصف الأول، ولا تراه في مجلسٍ من مجالس العامة ولا في نادٍ من الأندية إلا وفي يده سبحة يعبث بها، أو كتاب من كتب العلم أو الدين ينظر فيه أو ينصرف من النظر فيه وكأنه قد أكره على هذا الانصراف إكراهًا، أنا يا سيدي خير من هذا الشيخ في نفسي، وخير منه في نفسك، وخير منه عند الله.

قلت ضاحكًا: أما أنك خير من هذا الشيخ في نفسك وفي نفسي فهذا شيء ليس فيه شك، وأما أنك خير منه عند الله فالله وحده يعلم هذا، وما أرى إلا أن كليكما شر من صاحبه، وما أرى أن الوقاحة في الإثم خير من النفاق، ولا أن النفاق في الإثم خير من الوقاحة، إنما أمركما كحماري العبادي قيل له أيهما شر؟ فقال: هذا ثم هذا.

قال وقد أرسل من فمه ضحكة ملأت القهوة، وما أشك في أنها لفتت إلينا من كان فيها من الناس: ليس هذان الحماران سواء يا سيدي، بل إن بينهما شيئًا من الاختلاف، فأما أحدهما فقد ينفق النهار لا يذوق طعامًا وقد يأرق الليل لا يذوق نومًا، حتى إذا استقبل الصبح وأدركه الضعف وأضناه الأرق والتفكير استعان على الضعف والضنى بأكوابٍ من الشاي يحسوها هادئًا رفيقًا، ثم يخوض معك في أحاديث العلم والدين، ويجادلك في الأخلاق وفلسفة الأخلاق؛ فهو حمارٌ مثقف متحضر، إن جاز للحمير أن تأخذ بحظٍّ من ثقافة أو حضارة، وأما الآخر فهو الحمار الذي ذكره القرآن، يحمل الأسفار ويشقى بثقلها ولا يعي ولا يفقه مما فيها شيئًا، لو قد رأيته منذ حين في هذا المكان الذي لم يبرحه بعد لوليت منه فرارًا ولملئت منه رعبًا، إذًا لرأيت حيوانًا قد أقبل على طعامه من الفول والبصل كما يقبل الحمار على طعامه من اليابس والأخضر، وهو يلتهم الفول التهامًا، ويقضم البصل قضمًا، وبين يديه هذا الغلام الذي لا يزال معه إلى الآن يأكل متحفظًا مستخذيًا من نفسه ومن مكانه بين يدي هذا الشيخ أمام الناس، ثم يفرغان من الالتهام والقضم، ومن الازدراد والخضم، ويحمل إليهما الشاي فإذا الغلام يتناوله في أناة ومهل، وإذا شيخك الحمار أو حمارك الشيخ لا يكاد يملأ القدح حتى يلقيه في جوفه إلقاء كما يصب الماء من النوافذ على الأرض صبًّا، وأقسم لقد رأيته منذ حين يقبل على هذه القهوة ضعيفًا مكدودًا ويسعى إلى مجلسه منها بطيئًا متهالكًا، ثم يلقي نفسه على كرسيه إلقاء، كأنه عجز عن أن يمسك جسمه على ما ينبغي له من اعتدال القامة، فخر على كرسيه كما ينقض البناء، أقسم لقد رأيته يقبل ثم يسعى ثم ينهار على هذه الحال، فما شككت في أنه أنفق ليله أو أكثر ليله في غير النوم وفي غير ما يأرق له النساك والصالحون، وفي غير ما يسهر له العلماء والمفكرون، وفي غير ما أنفقت فيه ليلي من ألم وندم ومن هيام واضطراب في الأرض، ثم لم يكد يستقر ويستقر غلامه هذا بين يديه، حتى أقبل الخادم فسمع منهما كلامًا ثم انصرف، وأقبل صاحب الفول يحمل آنيته وطعامه وحزمًا من البصل، وانكب الشيخ على ما قدم إليه لا يعقل ولا يعي ولا يستأني ولا يكاد يمضغ أو يذوق، إنما هي يد تنقل الطعام من مكانه على المائدة لتلقيه في مكانه الآخر من جوفه، حتى إذا امتلأ واكتظ وحاول أن يطفئ نار الهضم بهذه الأقداح من الشاي التي ألقاها في حلقه إلقاء، تهالك على كرسيه كما أراه الآن لا نائمًا ولا يقظان، وإنما هو شيء بين ذلك، وغلامه جالس بين يديه يرمقه في خزي وازدراء، ثم ينظر في صحيفته ويشغل نفسه عنه بالقراءة، والله يعلم إلى أين يذهبان إذا قاما، والله يعلم فيم ينفق شيخك الحمار أو حمارك الشيخ نهاره، وأكبر الظن أنه سيكذب ويمكر ويكيد، ويسعى بين الناس بالشر، ويظهر الطاعة والعبادة بين ذلك، فيؤدي الصلوات في أوقاتها، ويضع جبهته حيث يريد الله لها أن توضع في هذا المسجد أو ذاك من المساجد التي تلقاه في بعض الطريق كلا! ليس الحماران سواء يا سيدي، أحدهما حمارٌ متحضر مثقف، والآخر حمارٌ وحشي غليظ.

قلت وقد أغرقت في الضحك: هما حماران على كل حال، ولكن صورة الحمار الوحشي تعجبني من الناحية الفنية.

قال: كل يصف حماره الوحشي كما يستطيع، فما أظنك تريدني على أن أصفه كما كان الشعراء الأقدمون يصفون حمرهم الوحشية، وإنك لتعلم أن أولئك الشعراء كانوا يرون حمرًا تمشي على أربع، أما نحن فنرى حمرًا تمشي على رجلين، ثم صب لنفسه قدحًا من الشاي وأخذ يدير الملعقة فيه مستأنيًا بطيئًا، كأنما يأتي عملًا آليًّا على حين قد شردت نفسه وفارقته إلى مكانٍ بعيد، وسكت عنه حينًا فلم يتحدث، ومضيت في الصمت فمضى فيه ومضت يده تدير الملعقة في القدح، حتى إذا أنكرت منه ذلك قلت له: ويحك! ماذا تصنع وفيم تفكر؟ قال: يا سيدي إن الحمر لا تفكر، ثم ألقى الملعقة من يده وأخذ يحسو الشاي مصممًا على الصمت وماضيًا فيه، قلت: فإني أغضبتك حين شبهتك مع صاحبك بحماري العبادي، فلا بأس عليك، فواحدة بواحدة. لقد أغضبتني أول من أمس ثم اعتذرت إليَّ، وقد أغضبتك الآن وأنا أعتذر إليك، فعد إلى مثل ما كنا فيه من الحديث.

قال: ما أغضبتني وما أكره أن أكون حمارًا ما دمت أعرف أني حمار مثقف متحضر، فارتفاع القامة في السماء وانحناء الجسم إلى الأرض والمشي على رجلين أو على أربع، كل ذلك لا يعنيني ما دمت أجد اللذة والألم في الحس والشعور والتفكير، أتدري ماذا كنت أصنع حين أقبلت عليَّ آنفًا؟ قلت: لا. قال: فإني كنت أتحدث إلى امرأتي فأطلت الحديث، ثم أحسست أنها لن تفهم من حديثي شيئًا، فطويت كتابي وتحدثت إلى أبي في الأسطر القصيرة التي أقرؤها عليك، ثم أخذ يقرأ:

والدي العزيز …

إذا انتهى إليك كتابي هذا، فستجد معه صك الطلاق، فإني قد طلقت حميدة أمس على كرهٍ مني؛ لأني لا أدري كم يطول مقامي في أوربا، وما أحب أن أفرض عليها حياة معلقة مع أنها لم تجن ذنبًا ولم تقترف إثمًا، وما لها تتعذب لأني أريد أن أتعلم، وتشقى لأني أكلف بالاغتراب! وإني لمحزونٌ لهذا الطلاق الذي أقدمت عليه، ولكن لا بد مما ليس منه بد. فاقرأ عليها تحيتي وعذري واستوص بها وبأهلها خيرًا، والسلام عليك ورحمة الله.

ثم قال: وكذلك يا سيدي أديت في هذا اللفظ القصير السخيف معانٍ لا تتسع لها الكتب الطوال؛ لأن الله قد أراد ألا يفهم الناس عن الناس، وأن تظل بينهم الحجب الصفاق، فهم يعيشون ويتعاملون ويعتقدون أنهم يعيشون معًا وأنهم يتعاونون على الحياة، وإن لكل واحد منهم لبرجًا من العاج يعيش فيه لا يظهر عليه أحد ولا يظهر هو منه على إنسان.

قلت: وكتابك إلى امرأتك ماذا صنعت به؟ قال: طويته، وماذا تريد أن أصنع به إلا أن أمزقه وأرميه في النار؟ قلت: فألقه إليَّ إن لم تجد بذلك بأسًا. قال: وأي بأس أن تلتهمه أنت أو أن تلتهمه النار! سواء عليَّ، ولكن لا تطلب إليَّ أن أقرأ عليك هذا الكتاب، فخذه وليقرأه عليك غلامك الأسود متى شئت، أما أنا فإني متعب مكدود، وأظن أن قد آن لي أن أنصرف عنك، فليس بد أن يخلو هذا البيت مما فيه من الأثاث، قلت: ستنصرف عني، وستخلي بيتك من أثاثه ولكن بعد أن تستريح، فأنفق معي بقية اليوم وافرغ لأمرك إذا كان الغد وقم فلننصرف إلى بيتي؛ فلعلك تظفر فيه ببعض الراحة.

ثم نهضنا متثاقلين، وخرجنا متباطئين، فلما جاوزنا الباب قال في ضحكٍ خفيف: ما زال حمارك الشيخ أو شيخك الحمار في ركنه يقظان كالنائم، ونائمًا كاليقظان!

١١

يونيو في …

لم يئوني البيت منذ فارقتك ظهر أمس يا حميدتي العزيزة، ومع ذلك فقد قضيت فيه وقتي كله منذ انصرف بك القطار عن القاهرة إلى هذا الوقت الذي أكتب إليك فيه وقد كاد يرتفع الضحى، ذلك أن في نفسي صورة لا تريد ولا أريد أنا أن تفارقني، وهي صورتك قبل الرحيل وقد انتحيت ناحية من غرفتنا ووقفت واجمة لا تنطقين، ثم لم أكد أقبل عليك وأدعو باسمك حتى رفعت إليَّ عينًا مثقلة لا تريد أن ترتفع، ثم انهمرت دموعك انهمارًا صامتًا لا يتبعه ما يتبع دموع النساء عادة من زفيرٍ وشهيق. وقد نظرت إليك وأنت في هذه الحال ساعة لم أقل لك شيئًا ولم أقل لنفسي شيئًا، وإنما وجمت كما كنت واجمة، ثم انهمرت دموعي كما انهمرت دموعك، ثم قام كل منا في مكانه لحظات لا أدري أكانت طوالًا أم قصارًا، ولكنها كانت لحظات صمت عميق يغمره دمع غزير. ثم سعيت إليك في رفقٍ فضممتك إليَّ وطوقتك بذراعي، فلم تقولي شيئًا وإنما أسندت رأسك إلى كتفي وظل دمعك ينهمر سخينًا غزيرًا ثم أخذت رأسك بين يدي، ولثمت عينيك كأنما أريد أن أشرب دمعك شربًا، ثم قبلت جبهتك وخديك، ثم ضممتك إليَّ مرة أخرى فقبلتني ثم افترقنا ومضى كل منا في الاستعداد للرحيل.

لم تفارقني هذه الصورة أو هذه الصور ولا أريد أن تفارقني، فما زلت منذ أمس أنظر إليك واجمة وأرى دموعك تنهمر ثم أراك بين ذراعي تذرفين دموعك على كتفي، ثم أراني أقبلك وأراك تقبلينني، ثم أراك تسعين في الغرفة ذاهبة جائية تهيئين متاعك في صمتٍ متصل لا يقطعه شيء حتى ولا زفرة من الزفرات، ولقد اضطربت في المدينة بقية النهار وشطرًا من الليل ولقيت كثيرًا من الناس فتحدثت إليهم وسمعت منهم، وخيل إليَّ أنهم يفهمونني وخيل إليَّ أني أفهمهم، وخيل إليهم في أكبر الظن أني كنت كما تعودوا أن يروني دائمًا ثرثارًا ساخرًا متصل العبث والمزاح ولكن الله يشهد ما خلصت لواحدٍ منهم ولا خلص لي واحدٌ منهم، وإنما كنت أمنحهم بعض نفسي أو كنت أمنحهم أيسر ما يستطيع الرجل أن يمنح من نفسه. وكنت أرى أن هذا يكفي لأفهم عنهم وليفهموا عني، وكانت خلاصة نفسي مملوءة بك منصرفة إليك تملؤها هذه الصورة وتمتزج بها امتزاجًا حتى لكأنها هي، ولست أدري: أتعرفين أني كثير التفكير والتحليل، وأني لا أحس شيئًا ولا أجده إلا فكرت فيه وحاولت تحليله وتعليله! ولكن كيف تعرفين ذلك أو تقدرينه ولم يكن بينك وبيني إلا أيسر ما يكون من الصلات بين الأزواج، فأنت لا تعرفين من أمري إلا أقله وأيسره، وأنا لا يفوتني من أمرك إلا أقله وأيسره، لست أدري أتعرفين أني كثير التفكير والتحليل؟! ولكن حين رأيت إلحاح هذه الصورة عليَّ ولزومها لنفسي وامتلاكها لقلبي وامتلاء خواطري بها وأحسست ما كان بينها وبين نفسي من الامتزاج، أخذت أفكر فيم يقوله بعض الناس من أصحاب التصوف حين يتحدثون عن امتزاج الظرف بالمظروف والعقل بالمعقول والفكر بموضوع التفكير، ولكن فيما أتحدث إليك يا حميدة البائسة؟ إني لأقص عليك سخفًا لا يغني ولا يستطيع أن يبلغ سمعك ولا أن يستقر فيه ولا أن يتجاوزه إلى قلبك الحزين، وما أنت وما هذا الكلام؟ وما أنا والتحدث به إليك؟ وإنما أريد أن أرسل إليك كتابًا كله حب وكله بر وكله حنان. فأين هذا مما أخذت أهذي به وأخوض فيه؟! أفكُتب علينا ألا تلتقي نفسانا فيطول بينهما اللقاء؟ أفكُتب علينا ألا يكون بيننا الامتزاج الحلو الذي لا يخفى معه من أحدنا شيء على صاحبه، لا من حسه حين يحس، ولا من شعوره حين يشعر، ولا من تفكيره حين يفكر؟! أفكُتب علينا أن تلتقي أجسامنا وألا تلتقي نفوسنا إلا لحظات قصارًا في نظراتٍ قصار سراع كأنما نختلسها اختلاسًا؟ ولكن أتفهمين عني ما أقول؟ أتحسين ما أحس؟ أتجدين ما أجد؟ إني لم أتعود أن أتحدث إليك مثل هذا الحديث وإنما تعودت ألا أتحدث إليك إلا قليلًا، ولا أتحدث إليك إلا في أيسر الأشياء وأدناها إلى السخف وأشدها اتصالًا بشئون حياتنا المادية مما يمس شئون البيت، ما أذكر أني تحدثت إليك في الحب، وما أعلم أنك تحدثت إليَّ فيه. كنت أرى أنك لن تفهمي عني إذا تحدثت إليك بما أجد، وكان الحياء يمنعك من أن تتحدثي إليَّ ببعض ما تجدين، وكنا نكتفي بالنظرات الحلوة القصيرة يملؤها الحنان، وكنا نكتفي بحلاوة الصوت ولين الألفاظ وعذوبة النبرات حين نتحدث في أي شأنٍ من الشئون ليشعر كل منا بما يجب من الحب والعطف ومن الحنو والإخلاص وكانت حياتنا على هذا النحو صريحة واضحة في شئونها المادية، وكانت رمزًا أو شيئًا أشد غموضًا من الرمز فيما يمس شئون القلب والنفس والضمير؛ ولعلنا لم نشعر قط بأن لنا شيئًا من حياة القلب والنفس والضمير، فلم نفكر قط في تحليل ما بيننا من صلةٍ أو في تأويله وتعليله. ومتى كنا نستطيع أن نفكر في ذلك وقد كنت مشغولًا عنك بالعمل والكتاب، وكنت مشغولة عني بالبيت، وكنا لا نلتقي إلا لنتحدث فيما يتحدث فيه الأزواج من الأمور غير ذات الخطر التي لا تمس قلبًا ولا نفسًا ولا ضميرًا، ماذا أقول! وإلى من أكتب؟ وإلى من أسوق هذا الحديث؟ أترين أنك تفهمين عني هذا الكلام؟ وما أظن! فكيف تفهمينه وأنت تسمعينه لأول مرة؟ ومع ذلك فإني شديد الحاجة إلى أن أتحدث إليك كما تعودت أن أتحدث إلى نفسي بهذا الأسلوب العسير الدقيق، وعلى هذا النحو الذي لا ينقصه العوج ولا الالتواء.

ومع ذلك فقد كان يسيرًا كل اليسر هذا المعنى الذي أردت أن أتحدث به إليك حين بدأت هذا الكتاب، فقد كنت أريد أن أنبئك بأني لم أستطع أن أستقر في بيتنا بعد فراقك؛ لأني وجدت فيه وحشة نفتني عنه وجعلت مقامي فيه مستحيلًا، فهمت في المدينة وتلمست السلوة عند الأصدقاء بقية النهار وطول الليل. ولم أستطع مع هذا أن أنسى البيت أو أنسى غرفتنا فيه أو أنسى صورتك في هذه الغرفة طول هذا الوقت برغم الاضطراب في الأرض والاختلاف إلى الأندية والاتصال بالأصدقاء.

هذا ما كنت أريد أن أتحدث به إليك حين أخذت أسطر هذا الكتاب؛ فهو يسير سهل كما ترين، ولكني مع ذلك لم أكن آخذ فيه حتى تعقد والتوى بي أو التوى عليَّ، ودفعني إلى أنحاء من التفكير ومذاهب من القول بعدت بي عن الغاية ولم أخلص منها، ولم أعد إلى ما كنت أريد إلا بعد مشقةٍ وعناء. وكذلك أنا في حياتي الشاعرة مضطرب ملتو كثير الاستطراد، لا أفكر في شيءٍ إلا أثار لي أشياء، ولا آخذ في مذهب إلا التوى بي إلى مذاهب تشق شقًّا من نواحيه، فأنا أيامن مرة وأياسر أخرى، وربما نسيت الطريق التي أخذت فيها أول الأمر، ومضيت في الاستطراد إلى غير أمد.

وكذلك أنا في حياتي العملية لا آتي أمرًا إلا أثار لي أمورًا وفتح لي أبوابًا من النشاط مختلفة الجهات بابًا بابًا. ولعلي ألج واحدًا منها فلا أخرج منه، وإنما تفتح لي أبواب أخرى، فأنا مضطرب حين أفكر، وأنا مضطرب حين أعمل، وأنا مضطرب حين أقول. والغريب أني أستطيع مع هذا الاضطراب كله أن أعرف لحياتي وحدة وأن أتبين لها طريقًا متشابهة تنتهي أو تريد أن تنتهي إلى غاية مقاربة. ماذا أقول؟ هأنذا قد بعدت عنك وعما أكتب إليك من أجله، وفرغت لنفسي أو شغلت بها، فأنا أدرسها وأسرف في درسها وتحليلها، وإن كنت أعلم أن لدي من الوقت ما يكفي للنظر في المرآة ولأرى هذه النفس التي أحب وأكره أن أراها، وليس لدي من الوقت ما يسمح لي بالتحدث إليك فيما أريد إلا القليل. ومن يدري! لعل نفسي غير الشاعرة التي تجور بي عن القصد وتنحرف بي عن الطريق المستقيمة لأنها تشفق من المضي إلى الغاية التي من أجلها أكتب، تشفق عليك وتشفق عليَّ أيضًا. فإن الأمر الذي أريد أن أتحدث إليك فيه ثقيل خطير، ما أحسب أنك تقوين على استماع حديثي فيه، وما أشك في أني محتاج إلى شيءٍ كثير جدًّا من الشجاعة والجلد لأمضي في هذا الحديث. وكذلك ترفق نفسي غير الشاعرة بنفسي الشاعرة، وتحميها من بعض ما تكره، وتريد أن تؤخر عنها العذاب. فما أشد سلطان الأثرة علينا! وما أشد استئثار الضعف بنفوسنا! وما أشد امتلاك الخوف لقلوبنا ولا سيما حين نزعم أننا أقوياء وحين نريد أن نظهر الناس على أننا أقوياء! ولولا ذلك لما تكلفت هذا الكلام الطويل، ولما دفعت إلى هذا القول الملتوي حين أحاول أن أنبئك بنبأ مهما يكن ثقيلًا خطيرًا فهو واضح لا غموض فيه، ولكن أستحي منك وأستحي من نفسي وأشفق من الصراحة فأتقيها بالفلسفة والتواء الكلام، فلأتشجع إذًا ولتتشجعي أنت أيضًا، ولأقل إذًا ولتسمعي أنت ما أريد أن أقول! إن القلم ليضطرب في يدي، وإن يدي لتجمد فلا تكاد تتحرك، وإني لمحتاجٌ إلى أن أكف عن الكتابة حينًا لأسترد القوة والجرأة والنشاط. وهأنذا أستأنف الكتابة وأدافع عن نفسي دفاعًا شديدًا لأحول بينها وبين الاستطراد، ولأكرهها على المضي فيما تلتمس الفراغ منه، ولأحملها على أن تقسو عليك وعليَّ فنلقي إليك بهذا النبأ وهو أننا لن نلتقي بعد اليوم.

أف! لقد ألقيت العبء وتخففت من الثقل، واستطعت أن أتنفس في غير حرجٍ ولا ضيق، وأحسست كأني أصبحت طليقًا حرًّا وقد كنت مقيدًا مغلولًا؛ لا لشيءٍ إلا لأني ألقيتك إليك هذا النبأ بعد أن كنت أتحرج من إلقائه، وأصبحت ملزمًا أن أعلله لك وأن أفسره وأن أرد عن نفسي ما سيثور في قلبك من الشبهات. وأنا أعلم أنك لن تصدقيني ولن تؤمني لي ولن تقبلي شيئًا مما أقول، ولكن أقسم مع ذلك ما طلقتك عن قِلًى ولا فارقتك عن زهد فيه أو رغبة عنك أو نفور منك. وإني أقسم ما أحببتك قط كما أحبك الآن، وما آثرتك قط كما أوثرك الآن، وما عرفت سلطانك عليَّ ويدك عندي كما عرفتهما الآن. بل أقسم إني لأحس كأنما أشطر قلبي شطرين، فأحفظ شطره في صدري وأرسل شطره الآخر إلى مكانٍ بعيد في أعماق الريف حيث لا يتاح لي أن ألقاه، بل أقسم ما طلقتك إلا حبًّا فيك وإيثارًا لك وضنًّا بك على ما أكره. ولأكن صادقًا كلَّ الصدق؛ فإن الضعف والعجز والخور، كل هذه العيوب هي التي تدفعني إلى أن أفارقك أشد ما أكون لك حبًّا وأعظم ما أكون لك حبًّا وأعظم ما أكون عليك حرصًا. لم أستطع أن أوثرك على أوربا فأبقى معك، ولم أستطع أن أطمئن إلى أني سأكون وفيًّا إذا عبرت البحر فأحتفظ بما بيننا من صلة الزواج. ولست أريد هذا الوفاء الخلقي الذي يتصل بالنفس، فأنا واثق بأني قادر عليه، بل أنا واثق بأنه سيعذبني وسيكلفني آلامًا وأسقامًا، إنما أريد الوفاء الكامل الشامل الذي يملك النفس كلها والقلب كله والضمير كله والجسم أيضًا، أريد هذا الوفاء الذي لا يبيح شركة ولا توهمه للشركة ولا تفكيرًا فيها، وأنا آسف أشد الأسف محزون أشد الحزن؛ لأني أعلم أني سأتعرض للفتنة إذا عبرت البحر، وأن بعض اللحظ سيمس قلبي، وأن بعض الجمال سيستهويني، وأن بعض الشر سيدفعني إلى شيءٍ من الغي. وما أحب أن أعرض حبك، أستغفر الله، بل ما أحب أن أعرض زواجنا للإثم والفساد، لا أستطيع أن أخفي عليك ما قد أقترف من إثم؛ لأني لم أعودك ولم أعود نفسي الكذب، ولا أستطيع أن أعترف لك بما قد أقترف من إثم؛ لأني إن فعلت آذيتك في غير حقٍّ وفي غير جدوى، وعرضت ما بيننا للفساد. وأنا إن كذبت عليك أهنت نفسي بالكذب، وإن اعترفت لك أهنت نفسي بالاعتراف، وإذًا فما لي لا أستقبل الحياة شجاعًا جريئًا مستمتعًا بلذاتها محتملًا لتبعاتها! كم كنت أريد أن أكون قويًّا قادرًا على أن أقاوم الشر وأعاف الإثم، وأحتفظ بقلبي طاهرًا نقيًّا، وبجسمي عفيفًا نظيفًا، وأردهما إليك بعد العودة كما ارتحلت بهما عنك أول الرحيل، ولكني عاجزٌ عن ذلك، أو عاجز عن الاطمئنان إلى ذلك. والغريب أن من الممكن أن أعبر بحر الغواية ولا أغوى، وأن أقضي أعوام الغواية نقيًّا طاهر القلب، وأن أكون قد شققت على نفسي بهذا الحرج وحملتها ما كنت أستطيع ألا أحمِّلها، هذا ممكن ولعله أن يكون، ولكني لا أكتفي بالممكن ولا أطمئن إلى الظن، إنما أريد الثقة ولا سبيل إليها، وأطمع في اليقين ولا أمل فيه، ولهذا أتكلف ما أتكلف وأقدم على هذا الأمر العظيم.

أترين أنك فهمت عني؟ ما أظن! ومتى فهم العقلاء عن المجانين؟ أترين أنك صدقتني؟ وما أظن! ومتى صدق الناس مثل هذا الهذيان؟ يا للحزن ويا للأسى! لمن أكتب هذا الكتاب وإلى من أسوق هذا الحديث، إنك إن قرأته فلن تفهميه، وإن فهمته فلن تقبليه، فكيف وأنت لن تقرئيه؟! إني لغافلٌ ذاهل، إني لمدله مجنون. لقد أنسيت أنك لا تقرئين ولا تكتبين فمن الذي سيقرأ عليك هذا الكتاب ويفسره لك من أهل الريف؟ كلا لن أتمه ولن أرسله إليك، ولن تعلمي من أمري إلا أني رجل قاس غليظ مسرف في كفر النعمة وجحود الجميل! متتبع للأهواء والشهوات، لا أتحرج من شيءٍ ولا أعرف لجموح نفسي غاية تنتهي إليها أو حدًّا تقف عنده. سيسقط النبأ في أسرتنا كما تسقط الصاعقة، وسيلقونه إليك في عنفٍ أو في لين، وستجزعين وتظهرين التجلد، وسيبكي قلبك وتتكلف عيناك الجمود. ثم ستمر الأيام، وستحرصين على أن يصل إليك بعض أنبائي دون أن يعرف منك هذا الحرص، ثم سيأتي الخاطبون، كلا! لا أريد أن أمضي إلى أبعد من هذا الحد في التفكير، فما أرى أني أقوى على المضي، لقد أبطأ عليَّ صاحبي وكلفني انتظارًا طويلًا، ليته يقبل فيخرجني من هذا العناء …

قرأ غلامي الأسود الصغير هذا الكتاب بعد أن انصرف عني صاحبي فلم أكد أفرغ من قراءته حتى رثيت له، وسألت نفسي كيف يكون موقع هذا الكتاب من حميدة البائسة لو أنها استطاعت أن تقرأه وتظهر على ما فيه!

١٢

يوليو في …

لم تفارقني صورتها بعد أيها الصديق العزيز، ومع ذلك فقد مضت أيام وأيام منذ انصرف بها القطار إلى قريتها في الريف، وحدثت بعد ذلك أحداث واختلفت شئون، فلقيت من لقيت وتحدثت إلى من تحدثت إليه، وأقدمت من الأمر على اليسير والخطير، ثم كان محرجة وهبط بي القطار إلى البحر ومضت بي السفينة إلى ما وراء البحر، وهأنذا أكتب إليك في غرفةٍ من غرفاتها، وشهد الله ما فارقتني صورتها أثناء هذا كله في يقظةٍ ولا في نوم.

ولقد سألت نفسي منذ عهدٍ بعيد عن خير ما يستطيع الصديق أن يتمناه للصديق، وسألت نفسي حين عرفتك فأحببتك، وحين فارقتك فجزعت لفراقك، عن خير ما أستطيع أن أتمناه لك، وعرضت عليَّ نفسي أجوبة مختلفة لهذا السؤال كنت أطمئن إلى بعضها حينًا ثم أدعه، وكنت أنصرف عن بعضها الآخر حينًا ثم أعود إليه، ولكن الحياة نفسها قد أجابت عن هذا السؤال جوابًا ما أحسب أني سأتحول عنه. فخير ما أتمناه لك وخير ما أتمناه للصديق وخير ما أتمناه للعدو إن طابت نفسي وأحببت للعدو خيرًا، هو أن يجنبك الله أسباب الندم، ويعصمك من الاضطرار إليه والإيغال فيه. فلست أعرف ألمًا أشد ولا حزنًا ألذع ولا عذابًا أمض ولا شقاء مفسدًا للحياة كهذا الذي يثيره الندم في نفس الرجل الذي يقدر من الأمر ما يأتي وما يدع.

وإني لأقول لك هذا عن علم، وأتحدث به إليك عن تجربة. وأي تجربة! تجربة وددت لو أني تحملت كل ما ذقت من الألم منذ عرفت الألم مرة واحدة ولم أدفع إليها، فيا لها من منغص ماكر قادر يعرف كيف يلقاك جهرة فيقطع عليك كل أمل، ويأخذ عليك كل طريق ويردك إلى حزنٍ مظلم متكاثف الظلمة لا منفذ للنور منه، فإذا ألح عليك بالهم والحزن وبالتنغيص المتصل والكدر المتقطع حتى انتهى بك أو كاد ينتهي بك إلى اليأس المهلك، جلا عنك غمراته، ونفس عن قلبك وعقلك بعض الشيء، وخيل إليك أنك قد رددت إلى الفضاء الواسع والهواء الطلق والضوء المشرق. ولكنك لا تكاد تذوق الراحة وتطمئن إلى بعض الأمن، حتى يمسك هذا الشيطان الخفي مسًّا رفيقًا ولكنه عنيف، لينًا ولكنه يبلغ غاية القسوة. يخز نفسك بين حينٍ وحين وخزًا يسيرًا ضئيلًا خفيفًا لا يكاد يحس، ولكنه يذكرك بمكانه وينبهك إلى أن في هذا الهواء الطلق راحة لجسمك إن تنسمته مطمئنًّا فارغ البال. ولكن يجب عليك ألا تطمئن وألا يفرغ بالك، فهو هنا قريب وإن ظننته بعيدًا، وإنه دان منك كل الدنو وإن حسبته نائبًا عنك كل النأي، فإن كنت في شكٍّ من ذلك فانظر واشعر وسل نفسك عن هذا الوخز الخفيف الذي تجده، ما هو أو من أين يأتيك؟ فستعلم أنه مس هذا الشيطان وألم هذا الندم الذي إن رفه عليك فإنه لم ينسك، ولا ينبغي له ولا ينبغي لك أن تظن أنه سينساك.

نعم، وينبهك إلى أنك قد تجد اللذة في الحديث مع من يحسن معه الحديث، وفي التفكير فيما يحسن فيه التفكير، ولكنه كفيل أن ينغص عليك لذة الحديث والتفكير بوخزةٍ من هذه الوخزات الرفيقة الضئيلة التي يمسك بها في ناحية من نفسك، فإذا أنت تقطع الحديث فجأة وتنصرف عن التفكير فجأة، كأنما ذكرت شيئًا كنت تنساه.

نعم، وينبهك إلى أنك قد تجد اللذة والمتاع في قراءة الكتاب القيم الذي يغذى عقلك وحسك وشعورك بما شئت من علمٍ وأدب وفن، والذي تود لو تفنى فيه فناء وتمتزج به امتزاجًا وتنسى لقراءته الزمان والمكان وما يشتمل عليه الزمان والمكان، ولكنه خليق أن يحول بينك وبين ما تريد من هذا، وأن يفسد ما تجد من لذة ومتاع بوخزة من هذه الوخزات التي يمس بها نفسك في ناحيةٍ من نواحيها، فإذا يدك تتحرك حركة آلية تتضع الكتاب، وإذا رأسك يتحرك حركة آلية فيرتفع إلى السماء، وإذا أنت واجم قد أنسيت ما كنت فيه، واشتمل عليك ذهول غامض واضح معًا، فيه انصراف عن كل شيء، وفيه شعور بهذا الشيطان الذي يفسد عليك كل شيء، وقد يكون هذا الشيطان أخفى من ذلك مكرًا وأدق حيلة؛ فهو لا يصرفك عن الكتاب ولا يلقيه من يدك ولا يحول عنه عينيك، ولكنه يسايرك في القراءة كأنه الرفيق، ويلقي أثناء ذلك كلمات وخواطر لا صلة بينها وبين ما تقرأ، فإذا هي تختلط بما تقرأ، وإذا هي تحول نفسك عما في الكتاب، وإذا أنت تقرأ بعينيك دون أن يصل شيء مما تقرؤه إلى نفسك.

وقد يغلو هذا الشيطان في المكر والكيد لك، فلا يسايرك في القراءة، ولا يلقي في نفسك كلمات ولا خواطر، ولا يصرفك عن الكتاب وإنما يصرف الكتاب عنك صرفًا، يثير بين الحروف والكلمات والسطور صورًا ومظاهر وألوانًا من الخيال، تراها وأنت كاره لرؤيتها، وتحاول أن تخلص منها إلى هذه الحروف والكلمات والسطور فلا تجد إلى ذلك سبيلًا. فالكتاب بين يديك ولكنه بعيد عنك، والكلمات أمام عينيك ولكنها تفر منك، هي تفر وأنت تطلبها، وهذا الشيطان يلقي بينها وبينك غبارًا من هذه الصور والمظاهر والخيالات، وقد يزدريك هذا الشيطان فلا يتكلف في تعذيبك جهدًا ولا عناء، وإنما يداعبك في رفقٍ ويلاعبك في استهزاء، فأنت في حديثك أو في تفكيرك أو في قراءتك، وإذا صورة ضئيلة يسيرة رقيقة تتراءى لك، فتمر بين نفسك وبين ما تريد أن تقول أو تفكر أو تقرأ، ثم لا تلبث أن تنجلي عنك في سرعة البرق الخاطف، فإذا أنت تعود إلى ما كنت تقول وما كنت تفكر وما كنت تقرأ، ثم ما تزال بك مقبلة مدبرة، وسانحة بارحة، وملمة منصرفة، حتى يجهدك الشيطان ولم يصبه الجهد، ويشق عليك ولم تدركه المشقة، ويوئسك من الحديث والتفكير والقراءة وهو جالس غير بعيد، ينظر إليك في احتقارٍ وازدراء، وفي سخريةٍ واستهزاء.

كل هذا وجدته أيها الصديق العزيز منذ مضى بها القطار إلى قريتها في الريف، وما زلت أجده الآن والسفينة تمضي بي إلى فرنسا متكلفة مع البحر فنونًا من التفكير، تجاهده جهادًا عنيفًا حين يهيج وتضطرب به أمواجه وتعصف به الريح، وتداعبه دعابة حلوة حين يهدأ ويستقر ويعبث على سطحه النسيم، وكم منيت نفسي منذ أخذت أتهيأ لهذه الرحلة أن أجد هذه اللذات المتباينة التي يجدها المسافرون فيما يكون بين السفينة والبحر من جدٍّ وهزل، ومن خصام ووئام. ولكن هذا الشيطان قد حال بيني وبين ما كنت أتمنى من ذلك، فأفسده عليَّ إفسادًا ونغصه عليَّ تنغيصًا، ولو أنه قد ألقى بيني وبين ما أريد من ذلك حجبًا صفاقًا وأستارًا كثافًا لهان الأمر ولكان اليأس منه مريحًا، ولكنه يشرف بي على اللذة إشرافًا ويمعن بي فيها إمعانًا، ثم يقطع أسبابها قطعًا، ويصدني عنها أو يصدها عني أشد ما أكون كلفًا بها واندفاعًا إليها واستعدادًا لاجتناب ما هيأت لي من ثمرات.

جنبك الله الندم أيها الصديق، وعصمك من أثقاله فإنها لا تُحتمل، ومن آلامه فإنها لا تُطاق.

ولست مع هذا كله مبغضًا لشيطان الندم، هذا الذي يعذبني، ولا منكرًا عليه، فأنا أعطي الحق من نفسي وأقبل راضيًا أو كارهًا ما ليس من قبوله بد، فأنا قد اقترفت الإثم، ولا بد من أن أحتمل أثقاله وأتجرع آلامه، والإثم عندي شجرة لا بد من أن تؤتي ثمرها إذا صادفت من الخصب ما يمكنها من النمو والإثمار، وإنما تصادف الخصب وأسباب النمو والإثمار حين تصادف نفسًا كريمة حرة دقيقة الحس قوية الشعور. والندم عندي آية من آيات الكرم، وعلامة من علامات السمو، ومظهر من مظاهر الارتفاع عن الدنيات، ودليل من أدلة خصب النفس وجودة أصلها واستعدادها للخير وحسن البلاء فيه، وإني لأبغض النفوس المجدبة التي لا تعرف ألمًا ولا ندمًا، والتي تموت فيها أشجار الآثام والخطايا، كما يموت النبات في الصحراء المُحرقة المُهلكة.

وإني لأبغض هذه النفوس ذات الخصب السيئ الرديء، التي تغرس فيها أشجار الخطيئة والإثم، فلا تموت ولا تجف أعوادها، وإنما تثمر خطايا وآثامًا.

أترى أيها الصديق أني مغرور مسرف في الغرور! أتعزى عن الألم والندم بتزكية نفسي، وأكاد لا أكره ما أقترف من الآثام لأنه يشعرني بأني كريم النفس نبيل الطبع نقي الضمير، ولكن لا تنكر عليَّ هذا الغرور، ولا تلمني فيما ألتمس لنفسي البائسة من ضروب التسلية وألوان العزاء. فلولا هذا الغرور لأهلكني ما أجد من الحزن، ولقضى عليَّ ما أحس من الندم، ولدفعت إلى اليأس المهلك دفعًا.

وإني لأعجب كيف انجلت عني غمرة الأمل وصُرفتُ صرفًا عن هذه الخيالات الحارة التي كنت أخلقها لنفسي خلقًا، وأستعين بها على ما كنت مقدمًا عليه من الطلاق حين كنت أصور الحياة الجديدة في فرنسا، وما تدخر لي من لذاتٍ مختلفة لا تفنى. فأنا أحاول الآن أن أتصور هذا البلد الذي أنا مقبلٌ عليه، فلا أرى إلا هذا البلد الذي أنا منصرفٌ عنه.

أحاول أن أتمثل السربون فلا أرى إلا جامعتكم المصرية، وأحاول أن أتمثل رفاقي من الفرنسيين فلا أرى غيرك وغير أصحابك الشيوخ، ثم أحاول أن أتمثل جمال باريس فلا أرى إلا القاهرة وأحاول آخر الأمر أن أضلل نفسي وأعللها وأمنيها الأماني الآثمة، أحاول أن أتمثل المرأة الباريسية فلا أرى إلا حميدة قائمة أمامي كهيئتها يوم كانت تستعد للرحيل في بكاءٍ متصل وصمتٍ عميق.

مهما أفعل لأنظر إلى أمام فأنا مكره على أن أنظر إلى وراء، فلا تلمني إذًا حين أعجز عن أن أخرج من نفسي، وعن أن ألتمس العزاء إلا فيها، فأنا أتلهى بهذا الغرور عن هذه الأهوال المنكرة التي تأخذني من كل مكان وتسعى إليَّ من كل صوب، وما لي لا آلم ولا أندم ولا أتجشم من ذلك أهوالًا وقد اقترفت إثمًا عظيمًا حقًّا، لقد كنت أخافك أيها الصديق فلم أصور لك من هذا الإثم: إثم الطلاق، إلا أيسره وأهونه، لم أصور إلا ما فيه من ظلم البريء والاعتداء على من لم يستحق الاعتداء، وقد لقيت منك مع ذلك لومًا شديدًا وإنكارًا عنيفًا، ونبوًّا كاد يفسد ما بيننا من الود، فكيف لو صورت لك حقيقة الإثم الذي اقترفته! وكيف لو كشفت لك عن وجهه الذي أخفيته عليك.

لقد أفلت منك أيها الصديق، ولقد بلغ الكتاب أجله، وقطعت الأسباب بين حميدة وبيني، وبعدت بي الدار، فلا أمل الآن في إصلاح ما فسد، ولا خوف الآن من أن تصدني عن الرحيل. الآن أستطيع أن أظهرك على نفسي كلها … والآن أستطيع أن أنبئك بإثمي كله، وأنا أعلم أنك ستحتقرني وستزدريني، وما يعنيني من ذلك وأنا أحتقر نفسي وأزدريها! فلن يصرفني احتقارك إياي وازدراؤك لي، ولن يصرفني احتقاري لنفسي وازدرائي إياها عن أن أتمثل هذا الإثم القبيح وأملأ به خلوتي، وأتغنى بآلامه فيما بيني وبين نفسي غناءً قبيحًا منكرًا بشعًا أكرهه الكره ولكن أمعن فيه أشد الإمعان.

لن يصرفني ازدراؤك لي وازدرائي لنفسي عن هذا كله، وعن أن أسجل نغمات هذا الغناء البشع في هذا الكتاب الذي أرسله إليك …

لست ظالمًا فحسب أيها الصديق، ولكني كافر للنعمة منكر للجميل. فلم تكن حميدة زوجي فحسب، ولكنها كانت منعمة عليَّ منقذة لي، ورضيت بي بعد أن نبذني غيرها، ومنحتني ودها وحبها بعد أن أعلن غيرها أني لست أهلًا لودٍّ ولا حب.

إن لهذا قصة لم أنسها ولن أنساها؛ لأنها مزقت نفسي تمزيقًا، وعذبت قلبي تعذيبًا، وآذتني في أعز شيء عليَّ وهو الغرور والاعتداد بالنفس.

لقد كان أبواي كغيرهما من أهل الريف يعدانني لعروس غير حميدة، وكان أهل هذه العروس يعدون ابنتهم لي منذ نشأنا صبيين وكانت الفتاة ابنة عمي، ولم تكن جميلة ولا وسيمة، ولكنها على ذلك كانت محببة إليَّ أثيرة عندي، لكثرة ما سمعت منذ الطفولة من حديث الزواج.

ولكنك لم ترَ وجهي ولا شكلي أيها الصديق، وأكبر الظن أنك عرفت من صوتي أني قبيح الشكل دميم الوجه بعيد كل البعد عن أن أروق العذارى، وأرضي أهواء النساء. ولم أكن أرى ذلك في نفسي ولا أعترف به عليها، ومتى رأيت رجلًا قبيحًا دميمًا يؤمن بأنه قبيح دميم! ولكن فهيمة كانت ترى ذلك وتتأذى به وتنفر منه أشد النفور، وكانت تكره أن يتحدث إليها أهلها وأترابها بأمر الزواج، ولكنها لم تكن تظهر الكره وتعلن الإنكار، حتى إذا جد الجد وتقدمت بها وبي السن، وأخذ أهلنا يفكرون ثم يتحدثون في أمر الخطبة، جهرت بالرفض جهرًا وأعلنت الإباء إعلانًا، وخرجت في ذلك عما هو مألوف من أمثالها من فتيات الأسر في الريف، فنبت على أمها نبوًّا وامتنعت على أبيها امتناعًا، وأعلنت أنها تؤثر الموت على أن تكون زوجًا لهذا الشاب الدميم.

وتصور أنت موقع هذا الرفض من نفسي وأثره من قلبي وفيما كان يملأ نفسي وقلبي من غرور، ثم تصور أن حميدة كانت أبرع من ابنة عمي جمالًا وأكثر منها مالًا، وأذكى منها قلبًا، وأحسن منها مستقبلًا، وأنها مع ذلك سمعت رفض فهيمة فأنكرته وأظهرت إنكارها، وتعمدت أن يصل حديث هذا الإنكار إلى أهلي ثم إليَّ، وكان هذا الإنكار وما أظهرت من أمره وسيلة المودة ثم وسيلة الخطبة ثم وسيلة الزواج، وما زالت فهيمة تنتظر الزواج إلى الآن، ولكن حميدة قد طلقت. فانظر إلى الإحسان يكافأ بالإساءة، وإلى النعمة كيف تكافأ بالكفر، وإلى الجميل كيف يكافأ بالعقوق! ومع ذلك فإني لأنظر الآن في المرآة أمامي فأستكشف في وجهي وخلقي من الدمامة والقبح ما ينهض بألف عذر وعذر لابنة عمي، وما يثقلني بألوان الندم حين أفكر فيما جزيت حميدة به من العقوق.

أتعرف أني أسافر على سفينة إنجليزية؟ فقد تهيأت لهذه السفينة وأنبأني المنبئون بأن المسافرين على السفن الإنجليزية إذا استقبلوا المساء لبسوا له لباسًا خاصًّا لا يقبلون في غرفة المائدة بدونه، فاتخذت لنفسي هذا اللباس واتخذته على أحسن ما يتخذه المترفون، فلما أقلعت السفينة وأقبل المساء عمدت إلى هذا اللباس فدخلت فيه، واتخذت ما يتصل به من زينة، وكانت صورة حميدة لا تفارقني، وكانت صورة فهيمة تعرض لي من حينٍ إلى حين فلما تهيأت للخروج من غرفتي سمعت فهيمة تنكر قبحي ودمامتي، ورأيت حميدة تبسم لي وتشير إليَّ. هنالك نظرت في المرآة فرأيت، ثم استحييت ثم بكيت، ثم نزعت هذا اللباس نزعًا، ولم أخرج إلى غرفة المائدة هذا المساء، ثم أصبحت فتكلفت المرض وأخذت نفسي بأن آكل في غرفتي، وأقسمت لا أغشى غرفة المائدة ولا مجالس السفينة؛ اجتنابًا لسخرية النساء، فما أرى منذ الآن إلا أنهن جميعًا فهيمة.

أترى إلى أي حد انتهى الاضطراب بعقل صديقك وبما له من حسٍّ وشعور؟ ولن تعلم حميدة من هذا شيئًا، ولن تعرف حميدة أني أجد من الندم على فراقها ما يفسد عليَّ حياتي إفسادًا، ويوشك أن ينتهي بي إلى شر ما ينتهي إليه الأحياء.

ليتني سمعت لك! وليتني قنعت بما كنت أنعم به في مصر! فما أظن إلا أني مقدم على سراب أحسبه ماء، حتى إذا بلغته لم أجده شيئًا.

وأخرى لم تعرفها أيها الصديق، ولا بد لك من أن تعرفها لتعلم أنا مكرهون على أكثر ما نأتي من الأمر، وأن اختيارنا لعب كله وغرور كله. فقد كنت أحسب أن الناس لا يعلمون من أمري إلا ما أريد أن يعلموا فأنبئهم به وأظهرهم عليه، وكنت أظن أن أكثر من عرفتهم في القاهرة وعرفوني يجهلون أمر زواجي جهلًا تامًّا، وكنت واثقًا بأني أستطيع أن أكذب على الجامعة إن أردت، وأن أزعم لها أني أعزب وأن أمسك عليَّ زوجي وأسافر إلى أوربا لا أصطحبها. وكنت مع ذلك حريصًا أشد الحرص على ألا أكذب على الجامعة ولم يكن يدفعني إلى هذا إلا حب الصدق وإيثار الخلق والضن بكرامة العلم وطلابه على الكذب الظاهر الخفي، وكنت أحمد من نفسي هذا الإقدام على التضحية، وهذا النصح للجامعة، وهذا الإلحاح في أن أكون صادقًا معها في السر والعلانية معًا.

وكثيرًا ما وجدت في هذه التضحية التي كنت أحبها وأرضى عنها مظهرًا من مظاهر الغرور، ومصدرًا من مصادر العجب والتيه والإكبار للنفس، وكنت أقول لنفسي إذا خلوت إليها: ليس كل الناس قادرًا على أن يبلغ من حب الصدق وإيثاره هذا الحد، فأنا إذًا شخص نادر وفرد ممتاز، ومن حق الجامعة أن تفخر منذ الآن بخلقي، كما أنها ستفخر بعد قليل بجدي واجتهادي وكفايتي في البحث وقدرتي على الدرس والتحصيل.

وكان هذا الخاطر الجميل يملؤني ثقة بنفسي وإكبارًا لها ورضى عنها، ولعل ذلك كان يظهر فيما كنت آتي من حركة وما كنت ألقي من جمل. بل لعل هذا كان يظهر فيما كان وجهي يأخذ أحيانًا من الصور والأشكال، ولكن لا تسل عما أدركني من الدهش، وما أصابني من خيبة الأمل، وما ملأ قلبي ذات يوم من الحيرة والاضطراب حين دعاني سكرتير الجامعة لأزوره، فلما لقيته لم يظهر الراحة للقائي، ولم يتكلف الأنس بمقدمي، كما كان قد تعود من قبل، وإنما لقيني فاترًا وحدثني بصوتٍ متكسر؛ ثم لم يلبث أن أظهر من التجهم والتكبر والاستطالة ما أنكرت، ثم لم يلبث أن أن ألقى عليَّ حديثه قصيرًا متقطعًا سريعًا كأنه الصواعق يتلو بعضها بعضًا، وقد اتخذ صورة الأستاذ ولهجته، وصوت الواعظ الغالي في التأنيب، فما ينبغي لطالب العلم أن يكذب وهو القدوة، وما ينبغي له أن يغش وهو الأسوة، وقد كانت الجامعة مخدوعة لي. فالآن وقد تبين لها الحق وانكشف لها السر تستطيع الجامعة أن تزهد فيَّ زهدًا، وأن تنصرف عني انصرافًا، بين الذين تقدموا للامتحان ونجحوا فيه من يستطيعون أن يشغلوا مكاني في البعثة، وأن يطلبوا العلم صادقين غير كاذبين، ومخلصين غير متورطين في الغش ولا متكلفين للخداع، والجامعة تؤثر ألف مرة ومرة أن تعدل عن إرسال البعوث، وأن تغلق أبوابها إغلاقًا في وجه الطلاب الذين يختلفون إليها على أن تهيئ للأمة أساتذة يقيمون حياتهم العملية على الكذب والغش، وعلى الخداع والنفاق.

ولست أخفي عليك أني ضقت بهذا الواعظ الثرثار، وتعجلته إتمام الحديث والانتهاء إلى ما يريد. فلم يتردد في أن يلقي إليَّ ما عنده إلقاء فيه كثير من الازدراء، قال: زعموا أنك متزوج يا سيدي، وقد زعمت لنا أنك حر طليق.

هنا أريد أن أستغفرك أيها الصديق، وما أدري أتغفر لي؟ فقد أسأت بك الظن واتهمتك بأنك أقدمت على الوشاية بي مخلصًا حسن النية تريد أن تحول بيني وبين الظلم، كما أقدمت أنا على تطليق حميدة مخلصًا حسن النية أريد أن أفرغ للعلم وأن أتجنب الخيانة والإثم.

نعم، أسأت بك الظن واتهمتك، ورأيت ما بيننا من الصلات وقد تصرم وتقطعت أسبابه، وأحسست شيئًا من الحزن لكذب ظني بك وخيبة أملي فيك. وكان هذا كله سريعًا مسرفًا في الإسراع لم أكد أتنبه إليه، ولم يتنبه سكرتير الجامعة إلى أن شيئًا غيره وغير حديثه كان يشغلني، فقد أخذت أسأله من زعم لك هذا السخف؟ ومن ألقى إليك هذا الهذيان؟ وكيف تسمع الجامعة لكل ما يلقى من القول إليها! وكيف تصدق كل ما يرفع إليها من الحديث! وما ينبغي لك أن تلومني هذا اللوم، وتؤنبني هذا التأنيب، قبل أن تتحقق أنك تتهمني بما لا أستطيع له دفعًا، وتأخذني بما لا أجد منه مخرجًا!

قال الرجل: مهلًا يا سيدي، فليس يغني عنك ما أنت فيه منذ الآن من التجاءٍ إلى الجدال وشغف بالمراء، فقد ألقي إلينا أنك متزوج، ثم ألقي إلينا اسم الأسرة التي أنت مصهر إليها، فلم نأخذ بالظنة ولم نطمئن إلى الريبة، وإنما بحثنا واستقصينا وسألنا حتى تبين لنا الحق وعرفنا أنك قد خدعتنا وضللتنا تضليلًا، وما دعوناك اليوم إلا لنقطع ما بينك وبيننا من صلة فنرد إليك ما أخذنا منك، ونسترد ما أخذت منا.

قلت وقد ثاب إليَّ عقلي كله، وحرصي على البعثة: قد كان ذلك ممكنًا منذ أيام، أما الآن فلا. ثم قدمت إليه صك الطلاق، فلم يكد ينظر فيه حتى تغيرت حاله معي تغيرًا تامًّا، وإذا هو يصافحني مكبرًا لي معجبًا بي، ألم أقدم على عملٍ خطير! … ثم تبسط معي في الحديث وقد ضم الصك الذي دفعته إليه إلى ما ينبغي أن يحفظ من أوراقي عنده، وما زلت أتلطف له وأمكر به، حتى أطلعني على ذلك الكتاب الذي ارتفع إليه بالنميمة وأنبأه بزواجي، فقرأت ويا شر ما قرأت! وعلمت ويا شر ما علمت! علمت أن صاحب هذا الكتاب صديق متصل بي، يتكلف المودة ويظهر النصيحة والإخلاص، ولكني علمت أنك لست صاحب هذا الكتاب ولا مقترف هذه الوشاية.

وخرجت من الجامعة راضيًا ساخطًا ومسرورًا محزونًا، راضيًا لأن البعثة لم تفلت مني، وراضيًا لأنك أنت لست الواشي بي، وساخطًا لما انطوت عليه جنوب الناس من المكر والخداع، ومن الكذب والنفاق، ومن الحسد الذي يفسد عليهم كل شيء.

فلم يكن لهذا الصديق الذي وشى بي طمع في البعثة ولا طموح إليها، وإنما هو الحسد وحده. رأى أني سأسافر إلى حيث لا يستطيع ولا يأمل أن يسافر، ورأى أن حالي قد تتغير وأن حياتي قد تصلح، وأني قد أرقى إلى منزلةٍ لا يستطيع أن يطمع فيها ولا أن يسمو إليها، فكره ذلك وضاق به، ثم جد في أن يحول بيني وبين ذلك، وأن يمسكني في المنزلة التي أمسكته فيها الظروف، فأبقى مثله خاملًا متواضعًا محدود الأفق من البيت إلى الديوان، ومن الديوان إلى البيت، والقهوة بين ذلك أحيانًا.

نعم أيها الصديق! خرجت راضيًا ساخطًا، وأنا لا أفكر حين كنت أحس الرضى أو أجد السخط إلا في شيءٍ واحد، وهو أن كيدًا كان يُكاد لي فخلصت منه، وأن مكرًا كان يُمكر بي فانتصرت على أصحابه ورددت سهومهم في نحورهم. ثم هبط بي القطار إلى البحر، وأخذت السفينة تمضي بي إلى ما وراء البحر، وأخذت صورة حميدة تلزمني وتلح عليَّ، وأخذ يثير في نفسي من الخواطر ما يثير، وإذا أنا الآن أسأل نفسي عن هذه الوشاية التي أنكرتها: ألم تكن خيرًا قد صرف عني وحيل بيني وبين الانتفاع به؟ فلو قد نجحت هذه الوشاية وحيل بيني وبين البعثة لكان هذا الإخفاق أول العقاب على ما جنيت من ذنب، ولكان نذيرًا بما كان ينتظرني من الشر إن تممت على ما بدأت من الظلم، ولكان خليقًا أن يردني إلى حميدة أو أن يرد حميدة إليَّ، ولكن الله لم يرد إلا أن يقدم بين يدي هذه الرحلة نذيرًا بما ينتظرني فيها من آلام، وطليعة لما ينتظرني وراء البحر من الشر.

وصدقني أيها الأخ العزيز، إني لأدنو الآن من فرنسا خائفًا وجلًا شديد التشاؤم، لا أنتظر خيرًا ولا نجحًا، وإنما أنتظر شرًّا كثيرًا وإخفاقًا شنيعًا. ولو طاوعت نفسي لما استقررت في مرسيليا إلا ريثما آخذ السفينة التي تردني إلى مصر، ولكن ماذا يقول الناس؟ وماذا أقول لنفسي؟ وكيف ألقى غيرك من الأصدقاء المخلصين ومن الأعداء الشامتين؟ وماذا أقول لأهلي وماذا أقول لحميدة؟ أأمضي في فراقها؟ ولماذا أنا لم أفارقها عن قلى ولا عن بغض؟ أم أعود إليها نادمًا بائسًا معتذرًا مستغفرًا؟ ولكن أتسمع لي؟ أتعطف عليَّ؟ ثم ما نفع هذا الحديث الذي هو بالهذيان أشبه منه بالجد؟ إن السفينة لتمضي أمامها لا تلوي على شيء، ولن تقف حتى تبلغ مرسيليا، ولو أردت أن أقفها لما بلغت من ذلك شيئًا مهما يكن إلحاحي وصياحي، ومهما أتخذ من وسيلة عند القبطان، وإنما حياتنا كهذه السفينة تمضي بنا إلى حيث يريد القضاء لا إلى حيث نريد. ومهما نلح، ومهما نصح، ومهما نتخذ من وسيلة، فلن نقف حركتها ولن نردها إلى وراء، ولن نتقي الانتهاء إلى هذه الغاية التي رسمها لنا القضاء.

فلأمضِ إذًا إلى حيث تريد السفينة أن تنتهي بي، ومن يدري! لعلي أعود إليك بعد حين ولم أرَ باريس، ولم أختلف إلى السربون، ولم أشهد أندية اللهو والمتاع، ومن يدري! لعلي لا أعود إليك حتى آخذ من هذا كله بحظ. وكل ما أستطيع أن أقطع به الآن هو أن هذه السفينة التي تعبر بي بحر الروم، ستوفي بي من بعد بحرٍ إلى بحر، كما يقول مسلم بن الوليد، ولكن البحر الذي ستوفى بي إليه ليس هذا ولا ذاك من أولئك الأجواد الذين كانوا يغنون الشعراء، وإنما هو بحر آخر عريض لا حد لعرضه، عميق لا آخر لعمقه. هو بحر هذه الحياة الأوربية المملوءة باللذة والألم، المفعمة بالخير والشر. فليت شعري أأرسب فيه أم أطفو عليه؟

الآن أحس أني قد أطلت عليك، وإنما يذكرني بك ويثير في نفسي الإشفاق عليك من الإطالة هذه الحركات التي أسمعها تكثر من حولي في الغرف المجاورة وفي الطريق أمام هذه الغرف، فقد فرغ السفر من لهوهم ورقصهم وعادوا إلى غرفهم يقضون فيها ما بقي لهم من الليل.

وداعًا يملؤه الحب والود والحزن أيها الصديق! فما أدري! لعلي لا أكتب إليك بعد هذا الكتاب.

١٣

أغسطس في …

أحسست كأني أسمع صوتًا يناديني من بعيد، كأني أدنو من هذا الصوت، أو كأنه يدنو مني شيئًا فشيئًا. واستمر هذا الحس لحظة لست أدري أطالت أم قصرت، ولكني وجدتني قد قربت من الصوت أو قد قرب الصوت مني، فإذا هو بين يدي، وإذا أنا أسمع طرقًا على الباب، وإذا أنا أصيح دهشًا أو كالدهش بلغتي العربية الشعبية: «مين؟» وإذا الباب يفتح، وإذا شخص يدخل خفيفًا رشيقًا سريع الحركة، سريع الكلام، وإذا هو يقول في صوت امرأة: لقد أشفقت عليك، ولقد حسبت أنك لا تفيق، وإذا هو يسرع إلى النافذة فيجذب عنها الأستار ويفتحها ويأذن للشمس بالدخول. وأنا دهش ذاهل، أدعو لنفسي وأجمعها فتجتمع لي، وأنظر وأشعر فإذا أنا في غرفة الفندق التي أويت إليها أمس حين تقدم الليل، وإذا الخادم قد أقبلت تحمل إليَّ طعام الإفطار، وإذا النهار قد تقدم حتى بلغ النصف أو كاد يبلغه، وإذا أنا أثوب إلى نفسي وأذكر من أمري ما كان قد ذاده النوم عني، فأعلم أني قد بلغت مرسيليا أثناء الليل أمس، وأني كنت متعبًا مكدودًا لكثرة ما أرقت، وأني ذهبت إلى أول فندق دلني عليه ذلك الذي حمل أمتعتي ووضعها ووضعني معها في عربةٍ وأخذ مني ما أعطيته من نقد وقال للسائق: إلى فندق جنيف. وقد بلغت الفندق بعد الساعة العاشرة، فلم أقبل طعامًا ولا شرابًا، ولم أزد على أن أجبت على ما وجه إليَّ من أسئلة لم يكن منها بد، وطلبت غرفة آوي إليها، وأنبأت أني سأسافر من الغد إلى باريس، ثم لم أكد أبلغ الغرفة حتى خرجت من ثياب ودخلت في ثياب، وأويت إلى السرير مسرعًا أتمنى لقاء النوم وأشفق كل الإشفاق ألا ألقاه، ولكني لم أكد أنزلق في هذا السرير الوثير حتى أحسست راحة وهدوءًا ودعة لم أعهدها قط، فأين هذا السرير الوثير الذي أتقنت تسويته مما ألفت في دارنا في ريف مصر، أو في بيتي في القاهرة، من هذا الفراش الخشن الغليظ. لقد خيل إليَّ أني لا أنام على شيءٍ أو أني أنام على فراش من الزئبق، كان جسمي يضطرب في هذا السرير فلا يجد شيئًا يقاومه أو يثبت له، إنما كان يغوص في الفراش غوصًا، ولم أكد أطيل التفكير في هذا، ولم أفرغ للتفكير في غير هذا مما شغلني آخر أيامي في القاهرة وأكثر أيامي ولياليَّ في السفينة، وإنما أخذت أفقد نفسي قليلًا قليلًا، ثم لم أشعر إلا بهذا الصوت الذي كان يدعوني من بعيد والذي لم أكد أرد عليه حتى فتح له الباب، وإذا أنا أرى هذا الشخص الرشيق.

والآن قد دخلت الشمس هذه الغرفة فغمرتها، وردت عليَّ اليقظة حسي كله وشعوري كله، وذكرت في لحظةٍ قصيرة جدًّا كل ما أنبأتك به أيها الصديق، أنظر فأرى الخادم ذاهبة جائية، تهيئ طعامي على المائدة وتدني هذه المائدة من السرير، فأخرج من غفلة النوم لأدخل في غفلة الذهول، فأين أنا؟ وما هذا الحرص على تيسير الأمور كلها لي؟ من زعم لهؤلاء الناس أني في حاجةٍ إلى عنايتهم هذه الدقيقة، وإلى رفقهم هذا الغريب؟ هذا السرير الوثير، وهذه الخادم تحمل الطعام إليَّ وتفتح النافذة وتدني مني المائدة لأفطر في سريري، أتراهم ظنوا أني مريض! فما أحسب أنهم ظنوني غنيًّا من كبار الأغنياء، فما كان وجهي لينبئ بذلك، وما كان شكلي ليدل عليه.

والفتاة تتحدث، وتتحدث والحديث ينبعث من فمها حلوًا عذبًا رقيقًا، أحاول الآن أن ألتمس له تشبيهًا فلا أظفر بما ألتمس، وإنما أصور لك الشعور الذي وجدته حين كان يصل هذا الحديث إليَّ ويغمرني فيملؤني دعةً وراحة ولذة وهدوءًا، كنت أشعر كأن نسانًا يرسل إليَّ نفحات متصلة من الطيب تأخذني من كل مكان، وكنت أحاول أن أرد عليها بعض الحديث فلا أجد إلى ذلك سبيلًا؛ لأنها لم تكن تمكنني من ذلك من جهة، ولأني لم أكن أريد أن أقطع هذه اللذة من جهةٍ أخرى. حتى إذا هيأت لي كل شيء ودعتني إلى الطعام همت أن تنصرف، فرُد إليَّ الرشد، وثُبْت إلى نفسي وسألتها مترددًا متلهفًا: أين تذهبين؟ قالت ضاحكة: أذهب إلى عملي، قلت: وما عملك ومن تكونين؟ أوَليس من عملك أن تمكثي معي حتى أفرغ من طعامي؟ قالت وهي تغرق في الضحك: وأما عملي فهو هذا الذي رأيت والذي ترى، أما أن أمكث معك حتى تفرغ من طعامك فليس من عملي وليس إليه من سبيل، وماذا تكون الحال لو أني مكثت مع كل من أحمل إليه الطعام من أهل الفندق حتى يفرغ من طعامه؟ ثم أرسلت إليَّ نظرة فيها دعابة وابتسامة يملؤها الظرف، ومضت مسرعة لا تمشي على الأرض وإنما تمشي في الهواء، ثم أغلقت من دونها الباب وتركتني ذاهلًا كالأبله أمام هذا الإفطار الذي تركته وقتًا غير قصير معرضًا عنه إعراضًا، ثم ناظرًا إليه دون أن أقدم عليه.

وإني لفي ذلك وإذا الباب يُطرق، فآذَنُ، فتدخل الفتاة نفسها قد أقبلت تحمل آنية الطعام. فإذا رأت كل شيء كما تركته منذ حين سألتني دهِشة عن أمري، فأسرع إلى الطعام ضاحكًا وأنا أقول: ألم أطلب إليك أن تمكثي معي حتى أفرغ من الإفطار؟ لقد أبيتِ فلم أفطر، وها أنت ذي تعودين، فانظري كيف أسرع إلى الطعام.

وكنت مزمعًا أن أسافر مع المساء إلى باريس، ولكني لا أدري لم غيرت رأيي، أو لعلي أدري لم غيرت رأيي! فقد قضيت في القاهرة أيامًا ثقالًا وأجهدني عبور البحر لكثرة ما فكرت وقدرت ولكثرة ما أرقت، وليس ما يدعوني إلى أن أسرع إلى باريس، فليس الفصل فصل درس، واللغة الفرنسية موجودة مسموعة حيثما وجهت من أرض فرنسا، فما يمنعني أن أقيم في هذا الفندق الجميل المترف أيامًا أعوِّد نفسي فيه حياة الفرنسيين، وآخذ نفسي بما لا بد من أن آخذها به من العادات والتقاليد حتى لا أظهر غريبًا مضطربًا حين أصل إلى العاصمة؟ وما يمنعني أن أعوِّد نفسي العبث في مياه البحر على الساحل قبل أن أبعد في السباحة وقبل أن أضطر إلى مصارعة الأمواج الضخام! لأمكث إذًا في هذه المدينة أيامًا أستمتع فيها بالراحة وأتمرن فيها على الحياة الجديدة، وأنعم فيها بدخول هذه الفتاة عليَّ تحمل الإفطار إليَّ إذا أصبحت، فمن يدري أين يكون مستقري في باريس! أأجد غرفة كهذه الغرفة، وسريرًا كهذا السرير، وفتاة كهذه الفتاة تحمل إليَّ الطعام في كل صباح؟ وهذه المدينة وسط بين الجو الأوربي الخالص والجو الإفريقي الخالص، فهي على البحر الأبيض المتوسط، وفي الانتقال المفاجئ من جوٍّ إلى جوٍّ خطر على صحة الجسم، وقد يكون فيه خطر على صحة النفس أيضًا. فلأصطنع الأناة، ولأدع هذه العجلة فإنها لا شك من الشيطان، وما يمنعني أن أستأني وقد تركت مصر وجعلت من بينها وبيني بحرًا عريضًا، فلست أخاف على البعثة، ولست أخشى أن أرد عن باريس.

وكذلك خلقت لنفسي أيها الصديق من التَّعِلَّات والمعاذير ما أقنعني بأن الإسراع إلى باريس خطل وحمق، وما حملني على أن أنبئ أصحاب الفندق بأني سأقيم أيامًا، وعلى أن أقدم على الكذبة الأولى في حياتي الجديدة فأكتب إلى مراقب البعثة بأني متعبٌ محتاج إلى الراحة، وبأني سأبلغ باريس بعد أسبوع.

والغريب أني قضيت النهار هادئًا مستريحًا، لا أكاد أفكر فيما تركت ولا فيمن تركت ورائي قبل أن أعبر البحر، ولا أكاد أشعر بشيءٍ من هذا الألم أو هذا الندم اللذين كانا يثقلان عليَّ في السفينة، واللذين صورتهما لك تصويرًا مخيفًا في آخر كتبي إليك، واللذين كنت أظن أنهما سيلزمانني لزوم الظل. لم أكد أشعر بشيءٍ منهما، ماذا أقول! بل لم تتراء لي صورة حميدة إلا مرتين أو مرات قليلة، وكانت تتراءى لي من بعيد شاحبة الوجه كاسفة البال بادية الحزن، ولكني كنت أراها مسرعة كأنها لا تريد أن تقف عندي ولا أن تثبت لي.

وهأنذا أكتب إليك بعد أن عدت إلى غرفتي وقد كاد يبلغ الليل نصفه، ونظرت فإذا الغرفة قد هُيئت لاستقبالي، وإذا السرير قد هُيئ لإيوائي، وإذا دورق من الماء وكوب قد وضعا على هذه المائدة الصغيرة التي تلي السرير، ما شاء الله! ما تعودت مثل هذه العناية. ولقد كان الظمأ يوقظني في الريف، ولقد كان الظمأ يوقظني في القاهرة، فما كنت أجد إلى اتقائه سبيلًا إلا أن أتكلف النهوض والسعي إلى حيث وضعت هذه الجرار الصغيرة التي كانت تبرد لنا الماء، فأما الآن فإن الظمأ يستطيع أن يهجم عليَّ وأن يوقظني، فسأعرف كيف أرده ردًّا، وكيف أعود إلى النوم كما خرجت منه لا أجد في ذلك جهدًا ولا عناء.

على أني لم أكد أرى هذا الدورق وأفكر فيما كان يعتادني من الظمأ في مصر حتى أحسست الظمأ، فأصب شيئًا من الماء أحسوه في هدوء، ولكن ماذا! إنه لا يرد عني ظمأ ولا ينقع لي غلة، وإني لا أجد له لذة حين أحسوه، ولكني أذكر قصة الأخطل وحديثه حين عرض عليه الماء في مجلس عبد الملك فقال: شراب الحمار.

ولست حمارًا يا سيدي مهما يكن رأيك في وفي ذلك الشيخ، أو قل كنت حمارًا قبل أن أعبر البحر، فلما دخلت هذا الفندق، وصعدت إلى هذه الغرفة وأويت إلى هذا السرير، وانغمست في فراشه الوثير، وأدركني ما أدركني من النوم العميق، وأيقظتني هذه الفتاة ذات الوجه المشرق والثغر المضيء والحديث الحلو والروح الخفيف، نظرت فإذا أنا لم أبق حمارًا، وإذا أنا قد مسخت إنسانًا أو قل صورت إنسانًا إن كانت كلمة المسخ لا ترضيك، ولكني على كل حال قد دخلت النوم حمارًا وخرجت منه إنسانًا يحس ويشعر ويعقل ويذوق لذة الجمال ويعرف كيف يستمتع بسحر العيون. أصبحت إنسانًا، وذكرت قصة الأخطل، فعفت شراب الحمار، وآليت لا أرد الظمأ إلا بمثل ما رده به الأخطل، ولا تغضب يا سيدي ولا تثر، فأنا في بلدٍ قلما يشرب أهله الماء، ولقد شهدت غداء الناس وعشاءهم ودهشت حين سألني الخادم ماذا أريد أن أشرب، فلما طلبت إليه الماء أظهر دهشًا لم يكن أقل من دهشتي حين ألقى عليَّ سؤاله، ثم أقبل عليَّ بالماء، وبعد لحظة حدق النظر في، ثم قال: ألا يريد سيدي شيئًا من النبيذ؟ فلما أبيت قال متبسطًا في لغة أهل الجنوب ولهجتهم: «سيدي مخطئ فالماء لا ينقع الغليل هنا»، ثم انطلق وعاد إليَّ بعد لحظة ومعه دورق وفيه نبيذ، ونظرت فلم أرَ الماء في حجرة الطعام كلها إلا على مائدتي، فاستحييت وشربت كما يشرب الناس، وكنت أحسب أن الخادم إنما يرغبني في النبيذ ترويجًا لتجارة الفندق، فلما فرغت من طعامي عرفت أن الناس يشربون النبيذ في هذا الفندق كما يشربون الماء لا يدفعون له ثمنًا، أو هم يؤدون ثمنه فيما يؤدون من ثمن الغداء والعشاء، آليت إذًا يا سيدي ألا أرد الظمأ بشراب الحمار، وأزمعت أن أدفعه بهذا الشراب الذي لم أنتظر قدومي إلى فرنسا لأعرفه وهو الجعة، فأدق الجرس وأنتظر أن يطرق الباب وأن يفتح وأن تدخل عليَّ هذه الفتاة. ومن يدري! لعلي لم أزدر الماء ولم أفكر في قصة الأخطل ولم أبتغ هذا الشراب الحرام إلا تعلة لأدق هذا الجرس، ولتدخل عليَّ هذه الفتاة، وليكون بينها وبيني طرف من حديثٍ يقصر أو يطول، فقد جعلت أتهم نفسي في كل ما آتي وفي كل ما أريد منذ استيقظت ظهر اليوم، وإني لأتبين أن منظر هذه الفتاة وعذوبة حديثها وخفة روحها وحسن خدمتها ودخولها عليَّ مع الصبح وإذنها للشمس أن تغمر غرفتي، كل هذا هو الذي بطأني عن باريس وحبب إليَّ المقام في هذا الفندق، فأنا إذا فكرت أو قدرت أو هممت أو فعلت، أسأل نفسي لعل من وراء هذا التفكير والتقدير، ولعل من وراء هذا الهم والفعل غرضًا خفيًّا غير ما توخيت من الأغراض الظاهرة، والباب يطرق وأنا أعلن الإذن بصوتٍ مرتفع تظهر فيه اللهفة وقليل من الاضطراب، والباب يفتح، ولكن ماذا أرى! أرى رجلًا شابًّا قد أقبل فاترًا متثاقلًا وقال في صوتٍ خافت يملؤه الكسل والسأم والضيق: سيدي يريد؟ قلت وأنا أتكلف كظم ما يملؤني من الغيظ وإخفاء ما لا أشك في أنه ظهر على وجهي وفي عيني من خيبة الأمل، قلت وكأني ألقيت في وجهه ما قلت إلقاء: أريد زجاجة من الجعة، قال: نعم، صغيرة أم كبيرة؟ قلت مغضبًا: أكبر ما عندك، ثم انصرف عني وعاد إليَّ بزجاجته وقدحه، فلما هم أن ينصرف قلت: فقد أحتاج إلى أخرى، وما أحب أن أشق عليك حين يتقدم الليل. قال مبتسمًا: إن سيدي لظريف، ولكن عندي ما يريد سيدي، ثم مضى وعاد بإناء فيه الثلج وفيه زجاجة أخرى من الجعة، وتمنى لي ليلًا سعيدًا، وأغلق من دونه الباب.

ولعلك تنكر أيها الصديق إقبالي على الشراب، وعلى الشراب خاليًا، وعلى الشراب بعد أن كذب الظن وخاب الأمل. ولكن ما رأيك في أن كذب الظن وخيبة الأمل هما اللذان دفعاني إلى الشراب دفعًا، فقد وجدت على الحظ وسخطت على الزمان، وأبيت أن أذعن لمكر الأقدار وغدر الظروف، وأقسمت ألا أذوق النوم حتى أرى وجه هذه الفتاة المشرق وثغرها المضيء وأسمع حديثها الحلو وأستمتع بروحها الخفيف. وأي شيء أعون على السهر من الشراب والتفكير فيها والكتابة إليك! لا تغضب، فما كنت لأكتب إليك لولا أن أخلف الحظ ظني وكذب أملي، واضطرني إلى أن أستعين بك على الليل في مرسيليا، كما كنت أستعين بك على الليل في القاهرة. لا تغضب، فقد عرفتني أوثر الصدق على الكذب، وأكره أن أغشك أو أخفي عليك ما أجد، ولو خيرني الحظ بين زيارة هذه الفتاة لحظة قصيرة تهدأ لها نفسي الثائرة وتستقر لها خواطري المضطربة، ثم آوي إلى السرير لأنام، وبين لقائك أو الكتابة إليك، لما ترددت في أن أرجئ لقاءك والكتابة إليك إلى غدٍ حين يشرق النهار وتملك النفس صوابها كله وأمنها كله، ويفكر العقل في غير فتور ولا قلق ولا اضطراب. ما أظن أنك سترضى عن هذا الكتاب، فليس فيه شيء يرضيك، وليس فيه شيء يرضيني. وما كتبت إليك لأرضيك ولا لأرضي نفسي، وإنما كتبت إليك انتظارًا لمطلع الشمس.

ما أسرع ما تتغير نفس الإنسان! بل ما أسرع ما تغيرت نفسي! فصدقني أني أنكرها أشد الإنكار، ولا أكاد أصدق أن هذه النفس التي كانت هائمة بحميدة، محزونة بل جزعة لفراقها، نادمة أشنع الندم وأبشعه على ما قدمت إليها من مساءة واقترفت في ذاتها من إثم — لا أكاد أصدق أن هذه النفس التي لم تكن تذوق النوم إلا غرارًا «مثل حسو الطير ماء الثماد» كما يقول شاعرك القديم، قد نسيت أو كادت تنسى حميدة وفراقها وطلاقها، ومحيت منها أو كادت تمحى صورة حميدة قائمة في غرفتنا تلك تنهل دموعها الصامتة. لقد كانت هذه الصورة تؤرقني الليل، وتنغص عليَّ النهار، ويملأ سنوحها لي قلبي فرقًا وذعرًا، فأنا الآن أنتظرها فلا تسنح لي، وأدعوها فلا تستجيب لي، وألح في الدعاء وفي الاستحضار فأتمثلها شاحبة واجمة، وكأني أستحضر روحًا من أرواح الموتى. وهي لا تثبت بعد أن أجهد نفسي في دعائها واستحضارها، وإنما تمر بي مرًّا سريعًا كأنها الطيف.

كيف انتقلت من طورٍ إلى طور، وكيف تغيرت من حالٍ إلى حال! أكنت خيرًا فأصبحت شريرًا أم كنت شريرًا أتكلف الخير، فلما بلغت هذا البلد ألقيت عن نفسي أعباء التكلف وأثقاله وظهرت لنفسي كما أنا، لا متحفظًا ولا منافقًا؟ أم ماذا؟ إني لفي حيرة لا أعرف لها حدًّا، ولكني على ذلك كله راضٍ عن نفسي بعض الرضا، بل كل الرضا. أترى أني أسأت حين قطعت ما بيني وبين حميدة من الأسباب؟ هبني لم أفعل، أفكان ما بيني وبين حميدة من الصلة يعصمني من الشر الذي أنا مدفوع إليه، أم كنت أدفع إلى الشر دفعًا وأقترف الإثم اقترافًا لا أحفل بحميدة ولا بحبها ولا بهذا العهد المؤكد الذي قطعته لها بالوفاء؟ فأنا مدفوع إلى الشر ما في ذلك شك، وأنا عاجز عن المقاومة، وأنا أسأل نفسي دون أن ألح عليها في السؤال: أليس يمكن أن تكون هناك قوة خفية ماكرة قد دفعتني إلى ما وراء البحر لألقى في هذه الأرض الغريبة كيدًا يدبر وأمرًا يراد، ولأكون نهبًا لشياطين الإثم والغواية والفساد؟ أنا ألقي على نفسي هذا السؤال منذ رأيت وأن أرد إلى الصواب من أمري، وأن أتبين ما أنا مقدم عليه. ولست أريد أن أتبين ما أنا مقدم عليه الآن، وإنما أريد أن أتبين الشر إن كان هناك شر بعد أن أتورط فيه، لماذا؟ لست أدري. ولكني لست أستطيع أن أقف ولا أن أتأخر، إنما أنا شيء قذفت به قوة عنيفة من قمة الجبل فهو يتدحرج على السفح لا يستطيع أن يمسك نفسه ولن يستطيع أن يمسك نفسه، حتى يبلغ الحضيض فتمسكه الأرض السهلة المستوية، أكنت ملحًّا في طلب البعثة رغبة في العلم الذي كنت أزينه لنفسي، أم رغبة في هذه الأبواب من الفتنة التي لم أكن أستطيع أن أستفتحها في مصر، والتي لست أحتاج أن أستفتحها في فرنسا لأنها تفتح لي وحدها؟

ماذا أقول أيها الصديق! أتراني جننت أم تراني سكرت؟ كلا! لست مجنونًا ولا سكران، وهاتان الزجاجتان لم أمسهما، وإني لأتبين كل ما حولي، وإني لأعرف أني أكتب إليك، وإني لأستطيع أن أنبئك من أمرنا بما لا يحسن المجانين أن ينبئوا به. ولست مجنونًا ولا سكران، ولكني عاقل محكم العقل واضح الرأي صافي الذهن، أنظر في المرآة فأرى نفسي منكرة بشعة، وأخجل منها حين أنظر إليها أكثر من خجلي منك حين أكتب إليك. نعم لست مجنونًا ولا سكران، ولكني رجل يزدري نفسه أشد الازدراء ويمقتها أبشع المقت. وكيف تريدني ألا أزدري نفسي وأنا لا أكاد أرى خادمًا مبتذلة تحمل إليَّ الطعام وتبسم لي وتتحدث إليَّ، كما تحمل الطعام لعشراتٍ من أمثالي وتبسم لهم وتتحدث إليهم، بالصوت نفسه وباللهجة نفسها وبالدعابة نفسها، لا أكاد أراها مع هذا كله حتى يجن بها جنوني ويفتن بها قلبي، وأرجئ من أجلها الرحلة إلى باريس، وأقضي من أجلها الليل مسهدًا أرقًا، أستعين على انتظارها وعلى انتظار الصبح بالكتابة والشراب!

لست مجنونًا ولا سكران، بل لست أدري من أنا ولا ما عسى أن أكون، لقد زعمت لك منذ حين أني كنت حمارًا قبل أن أعبر البحر فردتني هذه الفتاة إنسانًا، فصدقني! إني لا أرى نفسي إنسانًا! ولا أعرف من أي نوعٍ أنا بين الأنواع الخسيسة الدنيئة من الحيوان.

إلى اللقاء أيها الصديق! لا أحب أن أطيل في هذا الحديث فإني أخشى أن أخرج من طوري، وأن أدفع إلى هذا الجنون الذي أنكره وأبرأ منه.

إلى اللقاء! لو أني عقلت وأحكمت أمري لانصرفت عنك إلى هذا السرير الذي يدعوني إلى الراحة والنوم، ولكني أعلم حق العلم أني لن أستريح ولن أنام، وأني سأقضي الليل إن أويت إلى فراشي لعبة لصورتين مختلفتين أشد الاختلاف، إحداهما تخيفني حتى تبلغ بي أقصى الخوف، والأخرى تغريني حتى تنتهي بي إلى غاية الإغراء. إحداهما حميدة البائسة، والأخرى هذه الفتاة الخادم التي لا أعرف من أمرها شيئًا إلا أنها جميلة رشيقة حلوة الحديث خفيفة الروح، تحمل الطعام وتبسم للأضياف، كلا! كلا! إني لأكذب عليك وأكذب على نفسي، إني لأعرف من أمرها أكثر من هذا قليلًا: إن اسمها «فرنند».

إلى اللقاء أيها الصديق! لأشغلن نفسي عنك وعن هاتين الصورتين بمصارعة هاتين الزجاجتين، فإما أن تصرعاني فأستريح حتى توقظني هذه الفتاة من الغد، وإما أن أصرعهما فليس الجرس ببعيد. وما عليَّ إذا أزعجت الخادم وكلفته أن يحمل إليَّ زجاجة أو زجاجتين!

إلى اللقاء!

أكتوبر في …

ليست الحياة لعبًا أيها الصديق، أو قل ليست الحياة كلها لعبًا، والجنون مباح على أن يكون قليلًا، فإن طال فمصير صاحبه إلى مستشفى المجانين، وقد أشفقت أن يطول جنوني، وقد أشفقت أن أدفع إلى هذا المستشفى، ولكني أفقت بعد لأي ورشدت بعد غي، وكان أول ما لقيته في فرنسا شرًّا، ولكني أرجو ألا أستقبل فيها منذ اليوم إلا خيرًا متصلًا.

أنا أكتب إليك من باريس بعد أن أقمت فيها إقامة المستقر لا إقامة الزائر الملم. فستبدأ الحياة الجامعية بعد أيام، ولا بد من الانتساب إلى الجامعة والاختلاف إلى الدروس، وإلا رددت إلى القاهرة أشنع رد، وكيف ألقاك! وكيف ألقى أصحابنا! وكيف ألقى أهلي وأصحابي في الريف! وماذا أقول للناس! وماذا أقول لصورة حميدة إن عرضت لي فسألتني ماذا أفدت من المكث في باريس أو في غير باريس من مدن فرنسا! وماذا أقول لصورة حميدة إن سألتني ماذا جنيت من هذا الطلاق الذي أقدمت عليه في غير أناة ولا رشد ولا تفكير!

نعم، لا بد من الانتساب إلى الجامعة والاختلاف إلى الدروس وإرضاء الأساتذة الذين لا أعرفهم، وإرضاء مراقب البعثة الذي أعرفه وأحبه أصدق الحب وأقواه، وإرضاء نفسي التي لا أدري أأوفق إلى إرضائها أم أعجز عنه! فإنها بعيدة الطمع شديدة السخط عليَّ منذ عبرت البحر.

لا بد من الانتساب إلى الجامعة، والاختلاف إلى الدروس، وإرضاء مراقب البعثة لأظفر بثقته واحترامه! فأنا في حاجةٍ شديدة إليهما، وأنا لم أظفر منه إلى الآن إلا بالعطف والبر والإشفاق بعد السخط الذي ليس فوقه سخط والغضب الذي لا يشبهه غضب، فقد كلَّفته من المشقة ما لم يكلفه أحد من قبلي، وقد حملته من الجهد ما لم أحمله أحدًا من قبله، فلم تكن هذه الأسابيع التي أنفقتها في فرنسا ناعمة ولا راضية، ولم يكن يملؤها الهدوء والاطمئنان، وإنما كانت أسابيع بؤس وجنون وشقاء ومرض أيضًا، واكتُم عليَّ! فإن أحدًا من المصريين في باريس لم يعرف مما أصابني شيئًا، وأنت أول من يعرف قليلًا من أمري بعد مراقب البعثة، هذا الصديق الفرنسي الذي يعرف من أمري كل شيء، ويكتم من أمري كل شيء، ويعنى بأمري عناية الأخ المحب الرفيق، والذي استطاع أن ينقلني من فسادٍ لا حد له إلى صلاحٍ أرجو ألا يكون له حد.

أنا أكتب لك من باريس بعد أن أقمت فيها إقامة الساكن المستقر لا إقامة الزائر الملم، فقد زرت باريس في الصيف، ولكني لم أقم فيها إلا يومين اثنين لقيت فيهما مراقب البعثة وعرفته بنفسي، وقلت له وسمعت منه، ثم استأذنته في أن أترك باريس حتى ينقضي الصيف، ولم يرَ بذلك بأسًا، ولعله رأى فيه خيرًا! فقد كان يحب ألا ألقى المصريين لأول عهدي بفرنسا ليصح تمريني على اللغة ويحسن حديثي إلى أهلها وفهمي عنهم، وقد زعمت له أني أحب أن أعود إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط لأن جوه قريب من جو مصر، فلم ينكر ذلك ولم يرَ به بأسًا، ولكنه نهاني عن مرسيليا وزين لي مدينة قريبة منها على ساحل البحر أيضًا هي مدينة «كان»، فأظهرت الطاعة له والقبول لرأيه. والغريب أنه منحني أجر السفر على حساب الجامعة للذهاب والإياب، وتركته وتركت باريس، ولكني لم أذهب إلى «كان» ولم أنزل في الفندق الذي سماه لي من فنادقها إلا بعد أن مررت بمرسيليا … وأقمت في فندق جنيف أيامًا، واستوثقت من أني لن أكون وحيدًا في «كان».

ولم لا؟ إن لفرنند وإن كانت خادمًا الحق في أن تستريح وتصطاف كما يستريح السادة ويصطافون، وما يمنعها أن تستريح وتصطاف أسبوعين حيث أستريح أنا وأصطاف!

وكذلك لم أسافر من مرسيليا إلا بعد أن قدمتها بين يدي إلى «كان» في قطار الصباح، ولحقت بها في قطار من قطارات المساء، ولا تسل بعد ذلك عن هذه الأيام الحلوة المرة، المشرقة المظلمة، التي قضيتها في هذه المدينة مع فرنند في أول الأمر، ثم وحيدًا بعد أن آن لفرنند أن تعود، ولا تسل عما جنته عليَّ هذه الوحدة من السيئات والآثام! فأنت أكرم عليَّ وأحب إليَّ من أن أقص عليك تفصيلها المنكر البشع، وأنت لا تقرأ كتبي بنفسك، وإنما يقرؤها عليك غلامك الأسود الصغير. وحسبك أن تعلم أني رجعت إلى باريس متعبًا مكدودًا، أستغفر الله! بل مريضًا مشرفًا على أعظم الخطر وأشده نكرًا، ولولا مراقب البعثة لما برئت، وإن له عندي ليدًا ما أعرف أني أستطيع مكافأتها إلا بالجد الذي يرضيه، ولأبلغن من هذا الجد ما أريد وأكثر مما أريد.

لا تغضب إن انقطعت عنك كتبي! فما أظن أني سأفرغ للكتابة إليك قبل أن يمضي وقتٌ طويل.

١٤

وكان طويلًا حقًّا هذا الوقت الذي انقطعت عني فيه رسائل صاحبي، وقد كنت أقدر أنه سيتركني شهرًا أو شهرين، وكنت أظن أنه لن يستطيع أن يبلغ هذا الأمر دون أن تثور به خواطره هذه الغريبة فترده إليَّ يلتمس عندي شيئًا من الأمن وراحة النفس واستقرار الضمير. ولكن الأسابيع مضت في إثر الأسابيع، وانقضت الأشهر في أعقاب الأشهر، دون أن أتلقى من صاحبي كتابًا أو شيئًا يشبه الكتاب، والغريب أنه لم يُعرض عن الكتابة إليَّ وحدي، وإنما انقطعت عن أصحابنا هذه الجمل القصار التي كان يرسلها إليهم على بطاقات البريد، وانقطعت أخباره حتى عن أهله في الريف، فكثيرًا ما كتب إليَّ أبوه الشيخ يسألني أوصل إليَّ من أنباء ابنه شيء، فكنت أرد عليه بأن ابنه في باريس على خير حال، يختلف إلى السربون، ويرضي أساتذته، ويرضي مراقب البعثة، ويرضي الجامعة عنه أحسن الرضا. ولم أكن أعلله بالأماني ولا أقول له غير الحق، وإنما كنت أسأل عن صاحبي في إدارة الجامعة، وأعرف منها أنه بخير وأنه يجد في الدرس جدًّا غير مألوف، ويظهر من التفوق ما لم يألفه الأساتذة الفرنسيون من الطلاب المصريين. ولم أكن أجد في هذا غرابة! فقد كنت أعرف من ذكاء صاحبي الشاذ واستعداده النادر ما لم يكن يعرف غيري من الذين اتصلوا به وخالطوه، وكانت هذه الأنباء تكفيني وترضيني، وتقوم له بالعذر عندي عن انقطاع رسائله عني، وتملأ نفسي حبًّا له وإعجابًا به وشوقًا إليه وحرصًا على أن يتاح لي ما أتيح له من الحظ فأعبر البحر كما عبره، ولكني كنت أقسم لئن بلغت مرسيليا لأجتنبن المقام فيها إلا ريثما يحملني القطار إلى باريس، وكثيرًا ما كنت أسخر من نفسي حين كان يخطر لي هذا الخاطر، لماذا أخاف من مرسيليا! وماذا أخاف من فندق جنيف! وماذا أخاف من فرنند وأمثال فرنند! وما أنا وهذه الفتن التي لم تصل الأيام بيني وبينها سببًا، ولم تجعل الأيام لها على نفسي سبيلًا، وما أنا وهذه الفتن وقد كنت غارقًا في الدرس والتحصيل أتأهب لامتحان الأزهر الذي أخفقت فيه إخفاقًا بشعًا، وأتهيأ لامتحان الجامعة الذي نجحت فيه نجاحًا حسنًا! ثم ما أنا وهذه الفتن وقد كنت غارقًا في أدب أبي العلاء وفلسفته، متمثلًا لهذه الفلسفة، متكلفًا لتشاؤم شيخ المعرة! وكثيرًا ما كنت أخدع نفسي وأغرها، وأزعم لها أني سأذهب إلى باريس كما ذهب أبو العلاء إلى بغداد، ومن يدري! لعلي أعود من باريس، كما عاد أبو العلاء من بغداد، فألزم قرية من القرى وأقيم فيها لا أريم. ولم أكن في حاجةٍ إلى أن أطلب إلى أهل هذه القرية كما طلب أبو العلاء إلى أهل المعرة ألا يكلِّفوه أن ينفر معهم من القرية إذا أغار عليها الروم! فلم أكن أخشى أن يغير الروم على قريتي في أدنى الصعيد أو أقصاه، وكذلك كنت مشغولًا بجد الدرس وغرور الشباب عن هذه الفتن التي تعرض لها صاحبي، فأفسدت عليه خلقه ودينه وصحته، وكادت تنتهي به إلى الموت.

ثم ينقضي العام ويتقدم الصيف، وإذا الأنباء تأتي من باريس بأن صاحبي قد فعل الأعاجيب، فأتم في عامٍ واحد ما لا يتمه غيره في أعوام، وتقدم إلى امتحان ذي بال ففاز فيه وفاز بتهنئة الأساتذة أيضًا، وهو مع ذلك لا يكتب إليَّ ولا يفكر في، وقد كنت أظن أن فوزه في الامتحان وفراغه للراحة سيردانه إلى صديقه لحظات قصارًا أو طوالًا.

ولكن الصيف كله ينقضي وأنا ألح عليه بالكتب فلا أظفر منه بشيء، حتى إذا كان شهر أكتوبر تلقيت منه هذه الأسطر:

أكتوبر في …

إنك تنتظر أن أكتب إليك لأصف لك حياتي في باريس، وما كان أحب إليَّ أن أفعل! ولكن حياة باريس لا توصف في الكتب والرسائل، ولا سبيل لك إلى أن تعرفها إلا إذا حييتها، على أني أحب أن أصور لك شعوري في باريس تصويرًا مقاربًا غير دقيق. ولن يكون هذا التصوير بكلامٍ أكتبه إليك، فالكلام كما قلت لا يغني في باريس شيئًا، ولكن اذهب إلى الأهرام، فما أظن أنك ذهبت إليها قط، وانفذ إلى أعماق الهرم الكبير، فستضيق فيه بالحياة وستضيق بك الحياة، وستحس اختناقًا وسيتصبب جسمك عرقًا، وسيخيل إليك أنك تحمل ثقل هذا البناء العظيم، وأنه يكاد يهلكك، ثم اخرج من أعماق هذا الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف، واعلم بعد ذلك أن الحية في مصر هي الحياة في أعماق الهرم، وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق، واجتهد في أن تتم ما بقي لك من درسٍ في القاهرة، وتؤدي ما بقي لك من امتحان، واجتهد أيضًا في أن تستبقي رضا الذين يحبونك ويشجعونك ويريدون أن تتم درسك في باريس، وأسرع إلى باريس متى استطعت فإني أنتظرك فيها، وما أكثر ما سيكون بينك وبيني من الأحاديث!

١٥

وتنقضي السنة الدراسية كلها لا يصل إليَّ فيها من صاحبي كتاب ولا نبأ، وإنما أسأل عنه في الجامعة كما كنت أسأل في العام الماضي، فأعرف من أنبائه كما كنت أعرف في العام الماضي أنه مقبلٌ على الدرس في نشاطٍ وتفوق، وقد أخذ يدرس اللاتينية بعد أن أحسن الفرنسية إحسانًا لا بأس به. وأنا أكتب إلى أبيه الشيخ بما أعرف من أنبائه وأتحدث بها إلى أصحابنا، حتى أصبح اسمه بيننا رمزًا للجد في العمل وللتوفيق في الحياة.

وقد تهيأت لي أسباب الرحلة إلى فرنسا على خير ما كنت أحب، وإني لأستعد للرحيل لذلك بين القاهرة والصعيد، وإذا الحرب الكبرى تعلن، وإذا كل شيء يتغير في حياة الأفراد والجماعات، وإذا رحلتي تؤجل، وإذا أنا مضطرٌّ إلى أن أقيم في القاهرة بائسًا محزونًا سيئ الحظ خائب الأمل وتأتي الأنباء بأن الطلاب المصريين قد هجروا باريس كما هجرها كثيرٌ من الفرنسيين، وكما هجرتها الحكومة الفرنسية نفسها حين دنت منها جيوش العدو، ولكني أتلقى من صاحبي هذا الكتاب:

أغسطس في …

لقد زلزلت الأرض زلزالها، واضطرب فيها كل شيء وكل إنسان أيها الصديق، وما أحاول أن أصف لك من أمر الحرب شيئًا، فأنت تقرأ من ذلك في الصحف المصرية والأجنبية ما لا أستطيع أن أبلغه ولا أن أقاربه، وإنما أكتب محزونًا لأن الظروف لم تهيئ لك الرحلة التي كنت ترجوها وتعقد بها الآمال، والتي كنت أرجوها وأنتظر منها خيرًا كثيرًا، فليس لي بين المصريين المقيمين في باريس صديق آنس إليه إن سرتني الحياة، أو أستعين به إن ساءتني. وإنما نحن قوم متخاذلون متنافسون، يبغض بعضنا بعضًا، ويمكر بعضنا ببعض، ويكيد بعضنا لبعض في كل شيءٍ ولسببٍ ولغير سبب. قد طوى كل واحد منا نفسه على أصحابه، فجهل كل واحد منا من أمر أصحابه كل شيء إلا هذه الأمور الظاهرة التي ليس إلى جهلها من سبيل.

فنحن نعرف من يختلف إلى السوربون في مواظبة، ومن يزورها لمامًا، ومن ينفق يومه في البيت وليله في القهوة، ونحن نعرف من يعبث مع هذه الفتاة من بنات الغي، ومن يدور حول هذه الفتاة من طالبات العلم، ونحن نعرف من تفسد عليه الغواية حياته كلها، ونعرف من يلهيه تتبع الطالبات في غير نفعٍ عن الدرس والتحصيل، ونحن نعرف من يكتب إلى أهله بالأكاذيب ويخدعهم بالأماني، ويستخلص منهم المال بالحق والباطل، وينفق حياته كلها في اللهو واللعب، ونحن إذا لقي بعضنا بعضًا لم نتحدث إلا في هذا، ولم نستعن بأنفسنا إلا بهذا. وأظنك تعلم أن ليس لي في شيءٍ من هذا أرب ولا لذة، فأنا وحيد بين المصريين في باريس وإن لم أكن وحيدًا بين الفرنسيين، فقد اتخذت لي منهم أصدقاء أحبهم ويحبونني وآمن لهم ويأمنون لي، ولكني ألاحظ أن لي نفسين: نفسًا تأنس إلى الفرنسيين، وتجد اللذة في عشرتهم وأحاديثهم ومشاركتهم فيما يأخذون فيه من الجد واللهو، ونفسًا أخرى مشوقة أبدًا، ملتاعة أبدًا، تحب أن تسمع صوتًا مصريًّا صادقًا، وأن تأمن إلى قلب مصري صادق، على أني قد حرمت لقاء المصريين والفرنسيين جميعًا.

فأما أولئك فقد فروا بأنفسهم من الموت الذي يقال إنه يغزو باريس، وأما هؤلاء فقد دفعوا أنفسهم دفعًا إلى لقاء الموت ليردوه عن باريس، وقد أنفت أن أفر مع أولئك، وضعفت أن أنفر مع هؤلاء، وآثرت موقفًا لا أحمده لنفسي ولا ألومها عليه وهو موقف الانتظار. وما أرى إلا أني سأخرج من هذا الموقف كارهًا إن استطاع الموت أن يقتحم ما أعد له الفرنسيون ليردوه عن هذه المدينة الخالدة، فما أملك حياتي حين يقدم الموت على باريس، على أني أجد في هذه المدينة الخالية التي فر الناس منها ذعرًا أو نفر الناس منها حفاظًا ونجدة، شيئًا من الشعر الرائع لا أستطيع تصويره، وإنما أستطيع أن أقول إنه يملك عليَّ نفسي ويفعم قلبي إفعامًا، ويحبب إليَّ هذه الأرض كما لم أحب أرضًا قط.

نعم، وأجد في مقامي في هذه المدينة الخالية لذة لا أدري كيف أصورها، وفخرًا لا أعرف كيف أصفه، ومع أني لم أنفر مع الناس فقد يخيل إليَّ أني شجاع، فليس جبانًا ولا ضعيف القلب هذا الذي لم يفر مع من فر، ولم يعد إلى مصر فيمن عاد من الطلاب، ولم يغير من أمره شيئًا مع أن كل شيء من حوله قد تغير، وما زال يتغير، وإنما ظل في مكانه هادئ النفس مطمئن القلب ينتظر الأحداث والخطوب لا خائفًا ولا وجلًا ولا مذعورًا.

ولقد أخذت على نفسي عهدًا ألا أبرح باريس مهما تكن الظروف، وستعلم أني سأفي بهذا العهد مهما يكلفني ذلك وإن انتهى بي إلى الموت، وأي شيء يكون الموت في سبيل باريس! لقد أبيت أن أكتب إليك في وصفها وفي وصف الحياة فيها؛ لأن ذلك لم يكن ميسورًا، ولأني كنت أرجو أن تقدم على باريس فأظهرك على ما تستطيع أن تظهر عليه من أمرها. وقد تأخر قدومك، وكنت أحب أن أعلك بالحديث عن باريس، ولكني عاجزٌ حتى عن هذا، مشغولٌ بالحديث إلى نفسي عن الحديث إليك، فكم لي من ساعات أخلو فيها إلى نفسي حتى تنقطع الأسباب بيني وبين كل شيء، وبيني وبين كل إنسان، والناس مع ذلك حولي يذهبون ويجيئون ويموج بعضهم في بعض، وأنا لا أخلو إلى نفسي هذه الخلوة في بيتي وإنما أخلو إلى نفسي في الحدائق والمتاحف والقهوات حيث يجتمع الناس ويزدحمون، أخلو إلى نفسي أمام تمثال من هذه التماثيل، أو عمارة من هذه العمارات، أو معهد من هذه المعاهد التي يستقر فيها الجد خصبًا حافلًا بالنفع والأمل، لا لأهل باريس، ولا لأهل فرنسا، بل للناس جميعًا، ومنهم هؤلاء العدو الذين يقدمون على باريس ومعهم الموت يريدون أن يصبوه عليها صبًّا.

نعم، وأخلو إلى نفسي أمام معهد من معاهد اللهو، هذه التي تستنفر فيها الدعابة فتبعث الفرح في القلوب جميعًا، وتبعث الابتسام على الثغور جميعًا، وتجدد النشاط للعمل وتحبب الحياة إلى الذين زهدوا في الحياة.

أخلو إلى نفسي أمام هذه الأشياء التي أراها كنوزًا للإنسانية قد حوت خير ما عند الإنسانية من فنٍّ وأدب، ومن فلسفةٍ وعلم، ومن عملٍ وأمل، ومن تفكيرٍ وتدبر، ورويةٍ ونشاط.

أخلو إلى نفسي أمام هذه الأشياء، وأفكر في أن قومًا يزحفون عليها يريدون بها السوء، ولا يكرهون، ولعلهم يحبون أن يمحقوها محقًا، ويسحقوها سحقًا، ليغضوا من أمر باريس، وليغضوا من أمر فرنسا، دون أن يحفلوا بأنهم إن فعلوا فسيغضون من أمر الحضارة كلها، وسيعلنون في القرن المتم العشرين كما أعلن آباؤهم في أول التاريخ المسيحي أن عهد الحضارة والعلم والفلسفة والتفكير والفن قد آذن بزوال، وأن الإنسانية قد آن لها أن تستريح من جهدها الخصب العنيف، وأن تعود إلى هذه الراحة المجدبة التي يملؤها الذل والعقم والهوان.

أخلو إلى نفسي أمام هذه الأشياء، وأراها قائمة باسمة نضرة يملؤها الفخر والتيه ويزدهيها الأمن، فأراها وقد مستها لفحةً من لفحات العدو فاستحال ابتسامها عبوسًا ونضرتها ذبولًا وكبرياؤها ذلًّا وخنوعًا، وإذا أنا مدفوعٌ إليها متصل بها، فأنا فيها أنعم لأنها ناعمة، وأبسم لأنها باسمة، وأبتئس لأنها مبتئسة، ويدركني الموت لأنه أدركها.

حرام عليَّ فراق باريس حتى أصير إلى مثل ما تصير إليه، وأخرج معها من الأهوال بما تخرج به منها، ولتغضب الجامعة إن شاءت أن تغضب، ولترضَ الجامعة إن أحبت أن ترضى؛ فقد دعت طلابها إلى مصر فعادوا سراعًا. وأكبر الظن أنها ستردهم إلى فرنسا بعد أن تستقر الأمور شيئًا، ولكنها ستحول بينهم وبين باريس؛ لأن باريس قريبة من الخطر معرضة له دائمًا، وسيعود هؤلاء الطلاب وقد تقْدم أنت معهم، وسيتفرقون من أرض فرنسا في حيث يستقر الأمن والسلم، وفي حيث لا تصل إليكم يد العدو ولا تبلغكم قذائفه. أما أنا فمقيمٌ هنا لا أريم، منتظر هنا مع المنتظرين، ومن يدري! لعلي أخرج من هذا الانتظار إلى العمل، فما ينبغي للرجل الكريم ذي المروءة أن يعيش مع الناس ضيفًا عليهم مستمتعًا بما يمنحونه من الأمن آخذًا بأوفر حظه مما يبيحون له من لذة العقل والقلب والجسم، حتى إذا ألمت بهم الخطوب أو هجمت عليهم الأحداث، فر عنهم مسرعًا لا يلوي على شيء، أو أقام فيهم جبانًا أثرًا خانعًا لا يبتغي إلا أن يعيش.

نعم، ما ينبغي للرجل الكريم ذي المروءة والنجدة أن يسير هذه السيرة، وما كنت أحب للجامعة أن تلقي على طلابها هذا الدرس أو تدعوهم إلى هذه السيرة، وإنما كنت أحب منها شيئًا آخر. وأنا أعلم أن الجامعة أمينة على حياة طلابها مسئولة إلى حدٍّ ما أمام أهل هؤلاء الطلاب، ولكني أعلم أيضًا أن الجامعة لا تجير من الموت، وأن أهل الطلاب لن يستطيعوا أن يرجعوا إليها إن ألمت بطالب من طلابها علة مهلكة أو عدت عليه عادية لا مرد لها، وهل الحرب إلا بعض هذه العلل والعوادي! وماذا تقدم الجامعة إلى الناس حين تقدم إليهم هؤلاء الطلاب أساتذة قد فروا حين أقبل الخطر، وآثروا الحياة على الموت حين كان الكرم والشهامة والنجدة وعرفان الجميل، حين كان هذا كله يريدهم على أن يسعوا إلى رد الخطر كما سعى الفرنسيون، أو يثبتوا لانتظار الخطر كما ثبت أنا! إنما تقدم إليهم أساتذة قد فروا من الخير إلى الشر، ومن الإيثار إلى الأثرة ومن الكرم والنبل إلى الذلة والهوان.

وأنا أعلم أنك أيها الصديق تنكر هذا مني، وتراه جنونًا أو تراه إسرافًا، ولكن ما رأيك في أني أرى هذا طبيعيًّا، وأصدر عنه حين أفكر وحين أعمل، وفي أني رفضت العودة حين عاد الطلاب الجامعيون، ورفضت الهجرة حين هاجر الطلاب غير الجامعيين إلى الأقاليم النائية، وآثرت البقاء لم أجد فيه مشقة ولم أتكلف له جهدًا، وسينقطع عني من غير شكٍّ راتب الجامعة، ولن أطلب العون من أهلي، وما أحب أن تنبئهم من ذلك بشيء. وقد أتعرض للضر، وقد أذوق لذة الجوع، وما أرى بذلك بأسًا، فإن معي ملايين سيتعرضون لهذا الضر، وسيذوقون هذه اللذة، وما أحب أن أسعد وهم أشقياء، ولا أن أشبع وهم جياع، على أني لا أريد أن أغلو ولا أصور لك نفسي في صورة البطل، فلئن نجت باريس من هذا الشر المحدق، لأعودن إلى ما أنا فيه من حياةٍ هادئة وادعة. ولئن ألمت بها الكارثة لأكونن واحدًا من هذه الملايين التي تشقى، ولكنها لا تصور شقاءها في الكتب ولا تتحدث به إلى الأصدقاء من وراء البحر، وإنما تلقاه ثابتة له مطمئنة إليه، حتى تنفرج عنها الكربة، وتزول عنها الغمة، وتنجاب عنها ظلمة الليل. ولعل أظهر ما تترك الحرب في نفوسنا من الآثار أنها تهون عليها الحياة، وتزيل عنها هذه الأغشية التي نسجتها الحضارة لها نسجًا من الأثرة وحب اللذة والتهالك عليها، والطموح إلى الترف، والحرص على الأمن والاستمتاع بما يبيح من نعيم، فكل هذا شيء مصنوع متكلف أنتجته الحضارة إنتاجًا، وليس هو في طبيعة الحياة، وإنما طبيعة الحياة أيسر من هذا وأدنى إلى السذاجة، إنما هي حركة ونشاط يعقبهما سكون وخمود، إنما هي هذا الذي نراه في غيرنا من الحيوان الذي يتبع غرائزه آخذًا من نشاطه بأعظم حظ يستطيعه، حتى إذا ألمت به الكارثة أو تلقاه الموت لم ينظم شعرًا ولم يكتب نثرًا، وإنما انتظر الموت مذعنًا له، ودخل في الفناء كما خرج منه، لم يرد الدخول فيه كما لم يرد الخروج منه.

نعم، هذا أظهر ما تترك الحرب في نفوسنا من الآثار، فنحن نتبع غرائزنا أكثر مما نتبع عقولنا، نحن شجعان دون أن يكون لنا فضل في الشجاعة. ونحن مؤثرون دون أن يكون لنا فضل في الإيثار، ونحن جبناء وأثرون أيضًا دون أن يكون علينا في الجبن والأثرة لوم، إنما نُقدم أو نُحجم لأنا ندفع إلى الإقدام أو نرد إلى الإحجام، لا نرى من هذا ولا ذاك بدًّا. ذهبت بالقياس إلينا كل فلسفة، وانحلت بالقياس إلينا كل قاعدة، وأرسلت نفوسنا على سجيتها إرسالًا، فنحن ننتهز الفرص حين نظفر بها، ونستمتع باللذة إلى أبعد غاية الاستمتاع حين تتاح لنا، لا نحاسب أنفسنا ولا نسألها، وفيم الحساب والسؤال ونحن لا نفكر في العاقبة لأن فكرة العاقبة قد محيت من نفوسنا محوًا، وما التفكير في العاقبة وما السؤال عنها، ونحن نراها ساعية إلينا مشرفة علينا، قد زلزلت الأرض من حولنا زلزالًا، أليست هي في هذا الموت الذي يسعى إلى باريس ويوشك أن يبلغها غدًا أو بعد غد!

لست أدري إلى أي عاقبة تنتهي هذه الحرب، ولست أدري لمن سيتاح النصر، وعلى من ستدور الهزيمة، ولكن الذي لا أشك فيه هو أن الناس سيقضون أيام الحرب والأعوام التي تليها متأثرين بالغرائز أكثر مما يتأثرون بأي شيءٍ آخر، مهدرين لما عرفوا من قيم الأشياء إهدارًا، مزدرين لما ألفوا من المثل العليا، وما أرى إلا أنهم سينفقون دهرًا متمردين على العقل والخلق، واجدين في هذا التمرد أقصى اللذة وأقصى الألم.

لست أدري أتفهم عني! فقد ألقت الظروف بينك وبيني حجبًا كثافًا صفاقًا، لعل الكلام لا ينفذ منها، ولعل العقول لا تتصل من دونها، أنت آمن وأنا خائف، أنت هادئ وأنا مضطرب، أنت لا تخشى الموت وأنا أراه يسرع إليَّ وإلى ما حولي ومن حولي في غير ريثٍ ولا أناة، كم أحب لك أن تعبر البحر لتقرب من ميدان الخطر أو لتسمع حديث الذين دنوا من هذا الميدان، أو ألموا به ثم ردوا عنه. فمهما تكن المدينة التي سترسل إليها بعد أشهر فستكون فيها قريبًا من المئات والآلاف من هؤلاء الجرحى الذين يوزعون توزيعًا على ما أقيم في فرنسا من المستشفيات، وستسمع من هؤلاء أو من الذين يتصلون بهؤلاء أنباء الموت وأحاديث الحرب، وستفهم أنها خليقة أن تغير في الحياة رأي الأحياء. أين أنا؟ وماذا كنت أريد أن أقول لك حين بدأت هذا الكتاب؟ لقد أنسيت مكاني وأنسيت بدء الحديث، وهأنذا ألتفت عن يمينٍ وشمال فأعرف المكان الذي أنا فيه والذي أكتب إليك منه، إنها هذه القهوة التي يألفها الأدباء في حي مونبرناس، والتي تعودت أن أختلف إليها، وأجلس غير بعيد من أنديتهم ومجالسهم، لأراهم حين يقبلون وحين ينصرفون، ولأسمعهم حين يديرون بينهم هذه الدعابة الحلوة، وهذه الفكاهة ذات الأجنحة، وحين يتناشدون الشعر، ويتبادلون الرأي فيه حول أقداح الأبسنت إذا دنا الظهر أو أقبل الليل، وحول كئوس الكونياك وأقداح القهوة بعد الغداء وبعد العشاء. إني لأعرف نفسي في هذه القهوة التي كانت وقفًا أو كالوقف على أدباء الحي اللاتيني، ولكني أختلف منذ أيام فلا أرى فيها حلق الأدباء ولا أنديتهم، وإنما هي مزدحمة دائمًا تكتظ بالمقبلين عليها من كل صوب، قد اختلطوا أشد الاختلاط، وتباينت طبقاتهم أشد التباين. وهم يلمون بالقهوة لا يطيلون فيها المقام، إنما يلتقون ويفترقون، ويصيبون بعض ما يحتاجون إليه من شراب بارد أو حار، ثم يمضي كل منهم لوجهه. ومن يدري! لعلهم لا يعودون إلى هذه القهوة أبدًا، ومن يدري! لعل الذين يلتقون فيها لا يلتقون بعد هذا اليوم أبدًا، وباريس كلها في هذه الأيام تشبه القهوة، يلتقي فيها الناس سراعًا ويفترقون سراعًا، كلهم معجل، وكلهم قلق، وكلهم يستقبل الساعة التي هو مقبل عليها غير حاسب للساعة التي تليها حسابًا؛ لأن حساب الساعات لم يبقَ في أيدي الناس وإنما صار إلى يد «أم قشعم»، ألستم تزعمون أن أم قشعم هي الحرب؟! تعال أيها الصديق فانظر إليها وابل سلطانها على النفوس، فسترى وستسمع وستحس أشياء لا صلة بينها وبين ما تقرأ في شعر زهير.

وداعًا أيها الصديق! لقد ذكرت الآن فيم أقبلت إلى هذه القهوة، فهذه «إلين» تقبل عليَّ مبتسمة في هذه الأيام التي لا يفهم معنى الابتسام، وأنا أبسم لها، ولا تسلني عن إلين، فالله قد نهاكم أن تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤكم، وما أحب أن أسوءك بحديث إلين، فيكفي أن تعلم أن صديقك الذي كان جادًّا كل الجد، منصرفًا كل الانصراف، قد فارق اللذة وطلق الحب وقطع الأسباب كلها بينه وبين حميدة وفرنند. يكفي أن تعلم أن صديقك هذا قد فارق الجد وقطع الأسباب بينه وبين الدرس، ووصل الأسباب بينه وبين إلين، ولن أحدثك عنها ما دامت هذه الأسباب موصولة، فإذا انقطعت فسيطول بينك وبيني الحديث، فأنت تعلم أني لا أحدثك عن رضاي حين أرضى، وإنما أحدثك عن شقائي حين أشقى، فتمن لي الشقاء إن حرصت على أن أتحدث إليك.

وداعًا أيها الصديق! إن إلين تضيق بانصرافي عنها إليك، ولئن مضيت في هذا الحديث لتمزقن كتابي إليك تمزيقًا، فلأنصرف عنك إليها، ولأستقبل معها حياة المساء في باريس المضطربة، فمن يدري عم يسفر لنا الصباح؟!

١٦

ديسمبر في …

وكذلك عبرت البحر في أيام الحرب وفي فصل الشتاء، ولقيت من عبوره هذا الشر العنيف الذي خلقته لنفسك خلقًا، وخيلته إليها تخييلًا أيها الصديق، فما كانت سفينتك معرضة لخطر الغواصات، ولو عرفت الجامعة أنكم تتعرضون لهذا الخطر ما أرسلتكم إلى فرنسا، فهي حريصة على حياتكم حرصًا شديدًا، وما كانت سفينتك على صغرها وطول العهد عليها معرضة للغرق ولا لأن تحطمها الأمواج. فلو كانت تعرض لشيءٍ من ذلك لما أذن لها بالعمل في البحر، وإنما أنت رجل من أبناء الريف لا تعرف المخاطرة ولا المغامرة، فكل جديد عندك خطير، وكل مشقة عندك مشرفة بك على التهلكة. وها أنت ذا قد نجوت من الغرق، فلم تنسفك غواصة ولم يطغ الموج على سفينتك، فانعم بهذه النجاة، وانعم بالوصول إلى فرنسا والاستقرار فيها والاختلاف إلى جامعة مونبلييه، وانعم بما قدر لك من أمنٍ وهدوء، فلن يبلغ الألمان مونبلييه، وأنى لهم أن يبلغوها وهم قد ردوا عن باريس كما علمت ردًّا عنيفًا، وهم قد اضطروا إلى هذه الحياة التي يحيونها في الخنادق ينتظرون أن ينحسر الشتاء ليستأنفوا الهجوم، وينتظر عدوهم من الفرنسيين أن ينحسر الشتاء ليستأنفوا الدفاع العنيف وليخرجوهم من أرض الوطن إخراجًا!

اهنأ بهذا الأمن في مونبلييه وإن كنت لا أفهم لم وجهتكم الجامعة إليها وصرفتكم عن باريس، فليست باريس أقل أمنًا من مونبلييه بعد أن رُد الألمانيون عنها ردًّا وقد كسرت حدتهم وفلت عزائمهم، فلن يبلغوها بعد اليوم مهما تتح لهم القوة ومهما يواتهم الحظ، ولكنكم قوم تحسنون الاحتياط وتغلون فيه وتتجنبون حتى مظنة الخطر. فلتنعموا بما أتيح لكم من هذا الحذر الذي لن يغني عنكم من الله شيئًا، ولكني أحب لك ألا تخدع نفسك بالأماني ولا ترسلها مع الغرور، ولا تخيل إليها أنك تعيش في فرنسا تلك التي عرفناها قبل الحرب، فإن فرنسا تلك ليست في المدن ولا في الأقاليم ولا في باريس، وإنما هي في ميدان القتال، تواجه الموت وتبسم له بعد أن كانت من قبل تواجه الحياة وتبسم لها. ستسمع العلم ولكن من أساتذة شيوخ عجزوا عن حمل السلاح إلى الحرب فأقاموا في الجامعة يعلمون، وستختلف إلى الدروس ولكن مع طلاب من الغرباء لا حظ لهم مما كان يملأ نفوس الفرنسيين من فرحٍ ومرحٍ ونشاط، ستعيش في بيئةٍ مظلمة مكفهرة، فيها أمل ولكنه بعيد، وفيها خوف ولكنه قريب، فيها أمل في فوز فرنسا، وفيها خوف على أبناء فرنسا، وفيها يأس لاذع يتردد بين ذلك الأمل وهذا الخوف، والحياة في هذه البيئة لا تخلو من لذةٍ وعبرة ومتاع، ولكنك لا تستطيع أن تبلوها كما ينبغي؛ لأنك لم ترَ فرنسا الفرحة المبتهجة الآمنة لتقيس إليها فرنسا المحزونة المكتئبة الخائفة. افرغ إذًا لعلمك ودرسك، وامنح أكثر وقتك للكتب، وأجِّل معرفة فرنسا إلى حين، فإنك لن تعرفها حق المعرفة إلا بعد أن تضع الحرب أوزارها، ومتى تضع الحرب أوزارها؟

ما كنت أظن أن حب الاستطلاع يسيطر عليك إلى هذا الحد فقد ذهبتَ فيما زعمت لي إلى فندق جنيف حين انتهيت إلى مرسيليا، وكنت تظن أنك ستلقى فيه فرنند. ويحك! وهل تبقى فرنند في فندقٍ واحد كل هذا الأمد البعيد، ومن يدري! أين فرنند بعد ما مضى من الزمن، وبعد ما اضطربت شئون فرنسا وشئون الأرض كلها هذا الاضطراب، وماذا كنت تريد إلى فرنند؟ وعم كنت تريد أن تسألها؟ لقد أنبأتك بما وسعني أن أنبئك به من أنبائها، فهل كنت تريد أن تمتحن ذوقي، أو هل كنت تريد أن تعرض نفسك لمثل ما عرَّضت نفسي له من المحنة؟ إنك لست في حاجةٍ إلى فرنند إن كنت تريد أن تبلو مثل ما بلوت، فأمثال فرنند كثيرات في كل فندق وفي كل مدينة وفي كل بيئة، فاحذر أن تتعرض لمكرهن، وارفع نفسك عن هذا الشيء الذي غمست نفسي فيه، والذي لا أستطيع أن أخلص منه مهما أبذل من جهدٍ وأتكلف من عناء.

لقد صدق «موسيه» حين شبه قلب الرجل النقي بالإناء العميق، إذا استقر الدنس في قاعه فليس إلى تطهيره من سبيل، ولو مر به ماء البحر كله، إن قلبي هو هذا الإناء، وقد استقر في قاعه الدنس، ولقد حاولت تطهيره ما استطعت إلى ذلك سبيلًا: بالتفكير والتدبر، بالقراءة والدرس، بالجد والنشاط، بهذه المثل العليا التي كنت اتخذتها وأجدُّ في السعي إليها، وأوفق أحيانًا في هذا السعي بما حاولت من إرضاء الأساتذة، وبما حاولت من إرضاء مراقب البعثة، وبما حاولت من إرضاء الجامعة، وبما بلغت من هذا كله، ولكني مع ذلك لم أستطع أن أمحو من قرارة نفسي هذا الدنس الذي استقر فيها فلزمها لزومًا، واتصل بها اتصالًا لا انقطاع له.

لقد خيل إليَّ في بعض الأوقات أني قد خلصت من الشر وبرئت من الإثم، وارتفعت عن النقيصة، وأني قد كفَّرت بالمرض الطويل الثقيل المهلك عما اقترفت من السيئات، وأني قد طهرت نفسي بالعلم تطهيرًا، وكرَّمتها بالدرس عن كل ما يفسدها ويشينها، وأخذت أكبر نفسي وأغالي بها، ولكني تبينت بعد ذلك أن الحياة غرور كلها، وأن القضاء نافذ بالغ أجله مهما نفعل ومهما نحاول، وقد عرفت قضاء الله في أمري، فأنا رجل موكل بالجد واللهو معًا، أبلو اللذة حتى أصل إلى أقصاها، وأبلو الألم حتى أنتهي إلى غايته، أقبل على العلم حتى كأني لم أخلق إلا للعلم، ثم أقبل على اللهو حتى كأني لم أخلق إلا للهو، أقبل على العلم فلا يصرفني عنه صارف مهما يكن، وأقبل على اللهو فلا يشغلني عنه شاغل مهما يكن. يتاح لي الغنى ويلم بي الفقر، فلا يمنعني هذا ولا ذاك من المضي في العلم إن كنت مقبلًا عليه، ولا من المضي في اللهو إنت كنت منصرفًا إليه، وقد عرفت إلين — إن كنت تذكر إلين — من أمري هذا كله، فقبلته مني وجارتني فيه، وأخذت إن رأتني مقبلًا على العلم تهملني حتى كأنها لم تعرفني قط، وإن رأتني مقبلًا على اللهو تعنى بي حتى كأنها لم تعرف غيري قط. وأنا يا سيدي كما ترى لعبة تتقاذفها معاهد العلم ومنازل اللهو، وقد بقي لي شيءٍ من إرادة، فأنا أنفقه في تنظيم أمري على وجهٍ ما، وأود لو استطعت أن ألائم بين هذين اللذين يختصمان فيَّ اختصامًا، وأود لو استطعت أن أقسم وقتي وجهدي بينهما قسمة عادلة، فللعلم شطر منهما وللهو شطرٍ آخر. فمن يدري! لعلي إن وفقت لهذه القسمة أن أصلح مزاجي بعض الإصلاح، وأن أنظم أمري بعض التنظيم، وأن أنتهي إلى نتيجةٍ أرضاها وأرضي بها من لا بد من أن أرضيهم من الناس. وقد أخذت في هذه التجربة منذ أسابيع، وأنا أبذل فيها جهدًا عنيفًا وألقى فيها شططًا شديدًا، وأخشى كل الخشية ألا أوفق لشيء، لقد أخذت أدرس اللاتينية، ورتبت نظام الدرس مع الأستاذ ترتيبًا رضيه وأقره، فلما أخذنا في تنفيذ ما اتفقنا عليه لم نجد إلى ذلك سبيلًا، ولو أنك سألته عني لأنبأك في يأسٍ وحزن بأني أكسل الناس وأنشط الناس، وبأني أقدر الناس على العمل وأعظمهم حظًّا من التوفيق، وبأني أعجز الناس عن الجد وأعظمهم نصيبًا من الخيبة. أما في أول أمرنا فقد كان لا يزورني إلا وجدني مستعدًّا للقائه متهيئًا لدروسه، وكان يزعم لي أني سأتقدم للامتحان في وقتٍ قريب وسأفوز فيه فوزًا مبينًا، ثم تمضي أسابيع، وإذا أنا قد صرفت عن العلم ودفعت إلى اللذة، وأفلتُّ من السوربون ولزمت ذراعي إلين، ويزورني الأستاذ للدرس مع الظهر فيجدني مغرقًا في النوم لأني أفنيت الليل ووجه النهار في اللهو والعبث والمجون، فيستيئس إذ تكررت زيارته في غير جدوى.

ولكني أفرغ له بعد حين، فأسعى إليه وألح عليه، وأعوض ما فسد، وأرضيه بعد سخط. وعلى هذا النحو تمضي حياتي منذ حين، ولم يزدها شبوب الحرب إلا مضيًّا في هذا النحو من الفساد والاضطراب، فقد محت الحرب من نفسي كل ثقة، وذادت عنها كل يقين، وأهدرت فيها كل قيمة للعمل والأمل والحياة، فأنا أحيا لغير شيء، أو قل إني لا أحيا، وإنما أنتظر شيئًا مجهولًا لا أعرفه ولا أريد أن أعرفه، ولو قد أردت لما استطعت. وأنا أنتظر هذا الشيء المجهول كما أستطيع أن أنتظره، مستعينًا عليه بالعلم والجد حين أفرغ للعلم والجد، وباللهو والعبث حين أنقطع للهو والعبث. وقد يتاح لي أن أفكر في ذلك، وأن أمتحنه وأحاول أن أتعرف أسبابه، فأشعر بأن نشأتي في مصر هي التي دفعتني إلى هذا كله دفعًا وفرضت هذا كله عليَّ فرضًا؛ لأني لم أنشأ نشأة منظمة، ولم تسيطر على تربيتي وتعليمي أصول مستقيمة مقررة، وإنما كانت حياتي مضطربة كلها أشد الاضطراب، تدفعني إلى يمين وتدفعني إلى شمال، وتقف بي أحيانًا بين ذلك، ولو أني بقيت في مصر لأنفقت حياتي كلها كما بدأتها في هذا الاضطراب المتصل في غير نظامٍ وإلى غير غاية، ولكني عبرت البحر إلى بيئةٍ لا يصلح فيها الاضطراب، ولا تقوى على الحياة فيها نفوسنا الضعيفة المضطربة، فلم أحسن لقاءها ولم أحسن احتمال الأثقال فيها، ولم أحسن الخضوع لما تفرضه من نظام وإطراد.

ثم كانت الحرب واضطربت الدنيا، وأضيف في نفسي فساد إلى فساد واضطراب إلى اضطراب، ففقدت نفسي محورها — إن صح هذا التعبير — وأصبحت لعبة تتقاذفها الأهواء.

ما أشد حاجتي إلى قربك أيها الصديق، فقد تقدر على أن تنفعني، ولكني لا أستطيع أن أفر إليك من باريس، فالموت أهون عليَّ من ترك باريس، ولا أستطيع أن أنقلك إلى حيث أنا، فالجامعة تحول بينك وبين هذا الانتقال، وإني مع ذلك لأخشى على نفسي كل شيء، وإني مع ذلك لأظن أني لن أعود إلى مصر — إن عدت إليها — سالمًا موفور العقل مستقيم الملكات قادرًا على النفع والإنتاج.

فلينفذ القضاء إذًا، ولتتم كلمته، فلئن ذهبت في غير نفع فما أكثر الشبان الذين يذهبون في غير نفعٍ هذه الأيام!

١٧

يناير في …

إن ظننت أيها الصديق أن فيَّ بقية من عقل أو فضلًا من إرادة، فانف عن نفسك هذا الظن نفيًا، فالبرهان يقول لي على أني أسعى إلى الجنون في سرعة تزداد بين حينٍ وحين، كما تزداد سرعة السقوط بالجسم الذي يهوي إلى الأرض بين ثانيةٍ وثانية، فإن كنت في شكٍّ من ذلك فاعلم أني أنفقت في القراءة وفي القراءة وحدها إجازة عيد الميلاد ورأس السنة على حين كان الناس ينصرفون إلى ما ينصرفون إليه في هذه الأيام التي هي أيام بهجة وعيد عادة، والتي يشوبها الحزن والألم هذه المرة. كنت أنا عاكفًا على «سيسيرون» و«تاسيت» قراءة وفهمًا وترجمة، وكنت أجد لذةً في هذه الليالي التي أنفقها من وراء الباب مع الكتاب القدماء والشعراء القدماء، على حين يحيا الناس حياتهم ويجدون فيها ما يجدون من اللذات والآلام، وقد أنسيت كل شيءٍ وأنسيت كل إنسان، ولولا أن الخادم كانت تحمل إليَّ الطعام أو تدعوني إليه لأنسيته أيضًا، وقد انقطعت الصلة بيني وبين إلين في هذه الأيام التي كان يجب أن تقوى فيها الصلة وتكون بمأمنٍ من الضعف والفتور.

ثم انقضت الإجازة، وجعلت أختلف إلى السربون، فسمعت درس اللاتينية وظفرت بثناء الأستاذ، وخرجت. ولكني لم أذهب إلى بيتي، وإنما ذهبت إلى حيث ألقى إلين، وقد لقيتها، وأنفقت معها اليوم بعيدًا عن باريس في غابةٍ من هذه الغابات الجميلة القريبة، ثم عدنا ولم نفترق إلا لنلتقي بعد قليل، وأنا أختلس هذه الدقائق لأكتب إليك، ولأظهرك من أمري على أطوار هذا المرض الذي يسعى إليَّ، أو يسعى فيَّ سعيًا حثيثًا، وثق بأن السربون لن تراني غدًا ولا بعد غد، بل ثق بأني لا أعلم متى تراني السربون.

وداعًا يا سيدي، إني لأرى شبح الجنون بغيضًا مزعجًا، ولكني مع ذلك لا أهابه ولا أتأخر عنه، وإنما أقدم عليه إقدام المحب الجريء، وكيف أحجم عن الجنون وقد اتخذ لنفسه صورة إلين!

١٨

يوليو في …

لم يكن الامتحان عسيرًا، ومع ذلك فقد أخفقت فيه أجمل إخفاق وأروعه، هذا الإخفاق الذي لا يظفر الطالب فيه بدرجةٍ أو بعض درجة، وإنما يظفر فيه بالصفر المريح، ولن تعلم الجامعة من أمر هذا الامتحان شيئًا؛ فقد تقدمت إليه سرًّا، فلن أؤدي لها حسابًا عن مال لم تنفقه وأمر لم تحط به علمًا. لم أكن أشك في الفوز؛ فقد وعدني به أستاذي الخاص الذي أتعلم عليه اللاتينية، ووعدت نفسي به وتهيأت له كأحسن ما يتهيأ طالب للامتحان، ولكن أدركتني نوبة المرض أو نوبة اللهو — إن أردت الدقة في التعبير — قبل موعد الامتحان بأسبوعين، فقضيت هذين الأسبوعين مع إلين، نهيم في الغابات إذا كان النهار، ونطوف على الحانات إذا كان الليل، ولا نلم بالبيت إلا مطلع الفجر.

كانت إلين تذكرني بموعد الامتحان، وتحذرني عاقبة هذا الجنون، وتصور لي جمال الفوز، وتمنيني تلك الأيام الجميلة التي سننفقها بعيدًا عن باريس إذا كان الصيف، ولكني كنت أعرض عنها أشد الإعراض، وأزجرها أشد الزجر. فقد كان شيطان اللهو قد ملأ قلبي ونفسي وركب كتفي.

ثم أصبح يوم الامتحان فلا أتردد في الذهاب إلى السربون ولا في دخول حجرة الامتحان، وآخذ النص اللاتيني فأقرؤه وأقرؤه، ثم أقرؤه وأقرؤه، فلا أفهم شيئًا ولا أصنع شيئًا. وأنا أبذل جهدًا عقليًّا عنيفًا لعلي أوفق لفهم جملة أو بعض جملة، فإذا لم أظفر بشيءٍ رددت النص كما أخذته، وانصرفت إلى بيتي راضيًا محزونًا معًا. ثم لا أكاد أخلو إلى هذا النص بعد ذلك بساعةٍ أو ساعتين حتى أفهمه في غير مشقةٍ وأترجمه في غير جهد، وأستوثق من أني كنت خليقًا أن أفوز، وإذا قلبي يمتلئ سرورًا وبهجة، وإذا أنا أسرع إلى إلين فأنبئها بأني جمعت بين الفوز والإخفاق معًا.

وداعًا يا سيدي! سأنجح في نوفمبر إذا لم يدركني الشيطان، فأما الآن فإلى اللهو، إلى اللهو المجنون الذي لا يعرف رفقًا ولا مهلًا ولا تفكيرًا، إلى اللهو حتى يضعف العقل والجسم معًا، وحتى أضطر إلى الراحة ثم إلى الجد اضطرارًا.

١٩

سبتمبر …

وإذًا فقد زرت فرنسا وأقمت فيها، وستعود إلى مصر ولم يكن بينك وبيني هذا اللقاء الذي كنا نرجوه، ولست أدري أيسوءك هذا أم لا يسوءك، ولكني أعلم أنه يسوءني حقًّا؛ فقد كنت حريصًا على لقائك لأراك بعد أن طال افتراقنا، وقد كنت حريصًا على لقائك لأستعين بك على نفسي وعلى ما يدهمها من الأحداث والخطوب. ولكن الجامعة أبت أن نلتقي، وأبت أن تطول إقامتك في هذا البلد حتى تتاح لنا فرصة اللقاء، وإني لأرجو أن تتاح لك عودة قريبة، فما أرى أنك قد زرت فرنسا ولا انتفعت بزيارتها، وما أظن إلا أنك ستعود وفي نفسك حسرات لا تنقضي، فليس من الهين أن تدنو من الغاية ثم ترد عنها ردًّا، وأن تشارف الأمل ثم تقطع بينك وبينه الأسباب، ولست في حاجةٍ إلى أن أنبئك بأني قد رفضت الإذعان لأمر الجامعة، وأبيت أن أعود في هذه المرة كما أبيت ذلك في العام الماضي. وكيف تريدني على أن أعود وقد أنفقت أعوامًا في فرنسا، ثم لم أصنع شيئًا تحسن العودة والاطمئنان إليه، وإنما كان حظي من الفساد والشر أكثر من حظي من الصلاح والخير! وماذا تريد أن أقول حين أعود إلى مصر فأسأل عما صنعت؟ أأحدث الناس عن فرنند وإلين وما لقيت عندهما مما أحب وما لا أحب؟ أم أحدث الناس بذلك المرض الذي ألح على جسمي حتى أشرف بي على الموت؟ أم أحدثهم بهذا المرض الذي ألح على عقلي حتى أشرف بي على الجنون؟

لا يا سيدي! إن العودة إلى مصر شيء لم يقدر لي بعد، ولو أني بلغت من مقامي في فرنسا كل ما أريد ما رضيت هذه العودة ولا أجبت إليها، فأنت تعلم أني قد نذرت ألا أترك باريس حتى أصير إلى ما تصير إليه، وحتى أرى مخرجها من هذه الحرب كيف يكون، وما أبعد الأمد بيننا وبين آخر الحرب كما ترى! فالأسباب مقطوعة بيني وبين مصر حتى تنكشف هذه الغمة، وهب كل شيء يجري كما أحب، فكيف أعود إلى مصر دون أن أصطحب إلين وليس لي إلى الحياة سبيل إذا لم أكن قريبًا من إلين، أراها متى شئت وتراني متى أحبت، وأفرغ إليها حين أضيق بحياة العمل والجد، وإلين فرنسية لا تريد أن تهجر وطنها، ولا أن تفارق باريس، وإن أعطيت ملء الأرض ذهبًا، فإقامتي في فرنسا قضاء محتوم لا مندوحة لي عنه، وشهد الله ما أجد لذلك ألمًا، وإنما أجد فيه اللذة كل اللذة. فاقرأ تحيتي على مصر إن شئت، ولا تحدث أصحابنا بشيءٍ من أمري، وإن سألك أهلي عن بعض أمري فقل لهم ما يخطر لك، ولكن احذر أن تنبئهم من حقيقة أمري بشيء؛ فما ينبغي أن نشق على هذين الشيخين، وما ينبغي أن نشمت بنا الشامتين.

وبعد فإن أمور مصر محزنة حقًّا، أليس مما يسوء ويحزن أن يعجز هذا البلد السعيد الناعم بالسلم ومنافعها عن أن يمد الجامعة من المال بما يمكنها من استبقاء بعوثها في أوربا حتى تتم ما أرسلت من أجله؟

أو ليس مما يحزن ويسوء أن نرى هذه الجهود الضخمة الشاقة التي تبذلها الشعوب الصغيرة لتثبت للحرب ولتحتمل أثقالها ونفقاتها، وتضحي فيها بما تضحي به من الأنفس والأموال، وأن نرى مصر عاجزة أو بخيلة لا تستطيع أو لا تريد أن تنفق على عشرة من أبنائها يدرسون العلم فيما وراء البحر؟ ولكن ماذا ينفع الحزن والأسى، وماذا يجدي اللوم والتقريع؟ لا بد مما ليس منه بد. عد إلى مصر فأنت مضطر إلى أن تعود، ولأبق أنا في فرنسا، فأنا مكره على أن أبقى، وسنرى أيتاح لنا أن نلتقي، وأين يتاح لنا أن نلتقي!

وداعًا أيها الصديق وإن لم يكن بيننا لقاء.

٢٠

وأعود إلى باريس بعد ثلاثة أشهر قضيتها في القاهرة فأرى صاحبي، ولكني لا أكاد أعرفه لولا صوته الذي لم يتغير ولولا ضحكاته العراض التي لم تهذبها الإقامة في باريس، فأما غير ذلك من أطوار نفسه فقد تغير حتى أنكرته أشد الإنكار، فصاحبي محزون مغرق في الحزن، حتى ليفسد عليك رأيك في الحياة إن لقيته في هذا الطور. وصاحبي مسرور مغرق في السرور، حتى ليثير في نفسك الإشفاق عليه من هذا الإغراق في السرور إن لقيته في هذا الطور أيضًا، وصاحبي ينتقل من الحزن إلى السرور ومن السرور إلى الحزن فجأة في غير تهيؤ ولا تدرج ولا انتظار لهذا الانتقال. وإنما أنت مع رجل بائس يائس، سيئ الرأي في الحياة والأحياء، قد أظلم كل شيء في وجهه وفي نفسه، فلست تسمع منه إلا شرًّا ونكرًا. وإذا أنت ترى هذا الرجل قد وثب فجأة من نقيضٍ إلى نقيض وأصبح فرحًا مرحًا، منطلق اللسان بالثناء على كل أحد وعلى كل شيء، ممتلئ الفم بهذا الضحك المزعج العريض، لا يتكلم هادئًا ولا يتحرك هادئًا، وإنما هو عنيف في لفظه، عنيف في حركته، عنيف في كل شيء، حتى إنه ليلفت إليه وإليك الناس، وحتى إنه ليخيفك من أن ينكروا مكانكما ويدعوكما إلى الصمت وإلى إيثار الهدوء.

وصاحبي إن حزن لا يعدل بالكتاب شيئًا، وصاحبي إن سر لا يعدل بالشراب شيئًا. وهو مسرفٌ في صحبة الكتاب يأخذ المجلد الضخم فلا يكاد ينصرف عنه حتى يزدرده ازدرادًا، وصاحبي مسرفٌ في الشراب إذا أقبل الليل عليه لم تكفه الزجاجة ولا الزجاجتان من معتق النبيذ، وإنما يشرب حتى يعجز عن الشرب. وهو لا يعجز عن الشرب إلا حين تعجز يده عن تناول الزجاجة وصب شيء من روحها في القدح، وإذا انتهى العجز بصاحبي إلى هذا الحد لبث مكانه لا يريم، نائمًا كالمستيقظ، ومستيقظًا كالنائم حتى تنجلي عنه الغمرة بعد ساعات. وصاحبي يختلف إلى السوربون قليلًا ولا يكاد يختلف إلى القهوة، ولكنه يلزم بيته في أكبر الوقت، وقد يستخفي اليوم أو الأيام لا نعلم أين هو، ثم نلقاه فنسأله فينبئنا بأنه كان مع إلين. ولم يتح لأحد أصحابه ولم يتح لي بالطبع أن نرى إلين هذه أو نسمع منها أو نتحدث إليها، حتى لقد كان يخيل إلينا أنها شخص من أشخاص الأساطير قد خلقه صاحبنا لنفسه خلقًا في وقتٍ من أوقات سكره ولهوه، ولكنه كان يحدثنا عنها فيطيل الحديث، وكانت أحاديثه لا تصور شخصًا مخترعًا، وإنما تصور شخصًا حيًّا يذهب ويجيء، ويعبث ويلهو ويعين على العبث واللهو، ويدفع إليهما أحيانًا. وكثيرًا ما ألححنا على صاحبنا في أن يعرفنا إلى إلين أو يعرفها إلينا، فلم نكن نلقى منه إلا إباء وإعراضًا، وكان يقول: إن حب الاستطلاع إثم، فما تريدون من إلين؟ إني أحدثكم من أمرها بما يعنيكم وما لا يعنيكم، وإلين صاحبتي أنا لا صاحبتكم أنتم، ولن يكون لكم منها إلا هذا الذي تسمعون عنها، وإنه لكثيرٌ أكثر مما ينبغي، وكثيرًا ما جد بعض أصحابنا في تتبعه والبحث عن إلين فلم يظفر بطائل، ولولا أني رأيت إلين بعد ذلك لما شككت في أنها كانت شخصًا من أشخاص الخيال.

وقد أنفقنا عامًا دراسيًّا كاملًا على هذا النحو، ألقى صاحبي بين حينٍ وحين فأنكر من أمره أكثر مما أعرف، ولا تتصل بينه وبيني تلك الأحاديث التي كانت تتصل بيننا في القاهرة والتي كانت لا تنقضي، وإنما تلتوي وتعوج، وتخرج بنا من موضوعٍ إلى موضوع ومن رأيٍ إلى رأي، حتى أضرع إليه في أن يقفها لأنه أعياني وأجهدني حقًّا.

لم تكن تتصل بيننا هذه الأحاديث في باريس، إنما كان يلم بحديثٍ عن السوربون قليلًا ويطيل الحديث عن إلين، مثنيًا عليها حينًا، شاكيًا منها حينًا آخر، واصفًا محاسن جسمها ومحاسن نفسها دائمًا.

ثم يفرق الصيف بيننا، فأذهب أنا إلى الجبل، ويقيم هو في باريس لا يكاد يفارقها إلا إلى ضاحية من الضواحي أو غابة من الغابات ينفق فيها النهار أو بعض النهار مع إلين.

ثم أعود إلى باريس آخر الصيف وقد قدمت إليه النبأ بعودتي فإذا بلغتها لم ألقه، فإذا انتظرته لم يسع لي، ولكن صاحبة الباب تصعد إليَّ ذات صباح وتدفع إليَّ قطعة من الورق ما أشك في أنها قد اقتطعت من علبة من علب السجائر وقد كتب عليها بخطٍّ مضطرب هذه الكلمات: «صديقك مريض ينتظر عيادتك.»

فأسرع إليه فأراه، ويا شر ما أراه! أرى صاحبي مريضًا لا تظهر عليه آثار المرض، ولكنه مؤمن كل الإيمان بأنه مريض، لا يشكو شيئًا، ولكنه واثق كل الثقة بأنه مريض. قد عرض على الأطباء فلم ينكروا من صحته شيئًا، ولكنه مقتنع كل الاقتناع بأنه مريض وبأن الأطباء مخطئون، ولا أكاد أتحدث إليه وأتبسط معه في الحديث حتى أستيقن أنا أيضًا أنه مريض وأن مرضه أخطر جدًّا مما يظن ومما كنت أقدر، فقد انتهى إلى الجنون الذي كان يخشاه أو إلى شيءٍ قريب جدًّا من هذا الجنون.

كان يتحدث إليَّ في أمر السوربون أو في أمر إلين فيستقيم الحديث استقامة حسنة، ولكنه لا يكاد يسمع في الجو أزيز الطيارة — وما كان أكثر ما يسمع أزيز الطيارات في باريس — حتى ينهض بل يثب ويهم بالخروج، سألته ما خطبه؟ فأجاب: ألست تسمع أزيز هذه الطيارة فإنه دعاء لي إلى الخروج.

وكان قد استقر في نفسه أن الصحف الفرنسية كلها مجمعة على مقته وبغضه والكيد له، وكان يشتري منها أكثر ما يستطيع شراءه، وينفق في قراءتها أكثر وقته ليتبين هذا الكيد الذي تكيده له، وهذا المكر الخبيث الذي تمكره به، ولم يكن يلقى في ذلك كبير جهد، فقد كان هو ألمانيًّا، وكان كل ما تذكره الصحف عن ألمانيا موجهًا إليه ومنصبًّا عليه انصبابًا، وكان يؤذيه من أمر هذه الصحف أنها لا تعرف له حبه لفرنسا ووفاءه لباريس وإقامته فيها حين تفرق عنها الناس، وما أشد جحود الفرنسيين للجميل وكفرهم لصداقة الصديق!

ثم يعظم الأمر قليلًا قليلًا، وإذا الحلفاء جميعًا يمكرون به ويكيدون له ويدبرون له السوء، ولم لا؟ أليس الحلفاء يحاربون ألمانيا وهو ألمانيًّا! وأصبح ذات يوم مرتاعًا حقًّا، فقد جاءه النبأ — ولست أدري كيف جاءه ولا من أين جاءه — بأن الحلفاء يأتمرون به لينفوه إلى المغرب الأقصى، وهو ينبئني بأنه قد جد في السعي لصرف الحلفاء عن هذا الإثم العظيم والظلم القبيح، فكتب إلى جماعة من أساتذة السوربون وإلى جماعة من كبار الساسة في مجلس النواب والشيوخ يقص عليهم القصة ويستعينهم على اتقاء هذه الكارثة، وهو ينتظر ردهم عليه، ولكنه ضيق بباريس هذه الخائنة الماكرة التي لا تعرف جميلًا، ولا ترعى حقًّا، ولا تحفظ ود الصديق، والتي هي في حقيقة الأمر صورة صادقة لهذه الفتاة الخائنة التي كانت تسمى إلين والتي قد جحدت حقه ونسيت مودته وأعرضت عن حبه إعراضًا، وأخذت تكيد له مع الكائدين وتمكر مع الماكرين. وهو يلح عليَّ في أن يفارق باريس وينتظر الرد على كتبه في مدينة أخرى أقل خيانة وغدرًا من هذه المدينة الخائنة الغادرة التي يسكنها الخونة الغادرون، والطبيب الذي يعوده لا يرى بأسًا بأن يفارق باريس ويقيم في مكانٍ معتدل الهواء كثير الشجر، وما هي إلا أن يستقر صاحبي في أحد الفنادق غير بعيد من باريس في طرف غابة من الغابات، ومن هذا الفندق تصدر رسائله التي لا تنقضي إلى أساتذة السوربون وإلى رجال وزارة الخارجية وإلي أنا. ويا لها من كتب تلك التي كانت تنتهي إليَّ في الصباح والمساء من كل يوم! حسبي أن أثبت منها هذا الكتاب القصير:

نوفمبر في …

لم يبقَ لي أمل ولا شيء يشبه الأمل أيها الصديق، فقد أجمع الحلفاء أمرهم وأمضوا عزيمتهم لا يقبلون في ذلك مراجعة ولا شفاعة، بل هم قطعوا على الشفاعة كل طريق، فأفسدوا عليَّ حتى أساتذة السوربون الذين كانوا يحبونني ويؤثرونني أشد الإيثار، فهؤلاء الأساتذة يتلقون رسائلي فلا يردون عليها، وأكبر الظن أنهم قد عرفوا خطي فهم لا يقرأون كتبي إذا انتهت إليهم، والغريب أن أحدهم فلانًا … كان قد امتلأ قلبه حبًّا لي وإعجابًا بي حتى قبل ما عرضت عليه حين خطبت إليه ابنته، وهذه الخطبة هي التي غاظت إلين فصرفتها عني ولست أدري من أبلغها أمر هذه الخطبة التي كانت سرًّا، إلا أن يكون هذا الصديق الماكر الذي تعرفه، فقد شربت معه ذات ليلة وتبسطت في الحديث، فلما أصبحت انتهت إليَّ رسالة القطيعة من إلين.

وإلين من غير شك هي التي أفسدت عليَّ قلوب الحلفاء وصورتني لهم في صورة العدو المخيف، وهي التي زينت لهم نفيي إلى المغرب الأقصى، يا لغيرة النساء! ويا لكيد النساء! ويا لضعف الرجال! ويا لسذاجة الرجال! وإن كانوا أساتذة في السوربون أو ساسة محنكين. لم يبقَ لي أمل في عفو الحلفاء، عفوهم عن ماذا؟ وهل جنيت عليهم ذنبًا أو اقترفت في ذاتهم إثمًا؟ لقد كنت أدافع عنهم في كل فرصة وأذود عن حقوقهم بالقلم واللسان، ولكنهم قد أجمعوا أمرهم على نفيي، وأنت وحدك القادر على حمايتي ووقايتي من هذا النفي، وماذا تريد أن أصنع في المغرب الأقصى، أليست مصر أولى بي؟! أوَلست أنا أولى بمصر؟! إن في مصر حميدة وإن في فرنسا إلين، وجوار حميدة على بغضها لي أهون من جوار إلين، فإن حميدة لم تؤلب عليَّ، ولم تكد لي، وإنما تلقت إساءتي إليها بالصبر والعفو، أما إلين فقد تلقت إحساني إليها بالجحود والعقوق، فلا مقام لي في هذا البلد، ولا سبيل إلى الرحيل إلا أن تعينني عليه وأن تحكم تدبيره إحكامًا، فعيون الحلفاء يقظة لا تنام، وجواسيسهم منبثة في المحطات والثغور. ولست أدري كيف تريد أن تدبر الأمر، ولكني معتمد عليك في إخراجي من هذه الأرض، وأنا مستعد للتنكر فيما شئت من الاشكال والأزياء حتى أبلغ مصر، فإذا وضعت الحرب أوزارها وتبين للحلفاء أنهم قد ظلموني حين أساءوا الظن بي وسمعوا فيَّ وشاية الوشاة، فمن يدري! لعلي أعود إلى فرنسا فأتم درسي في السوربون وأقترن إلى هذه الفتاة التي أحبها حبًّا لا حد له، والتي قد رضيني أبوها لها زوجًا، والتي كنت أسعد بزواجها لولا إلين ولولا وشاية هذا الصديق الخائن. صدقني إن من ضعف الرأي وفساد العقل أن تطمئن إلى هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أصدقاء.

٢١

وتحمل إليَّ صاحبة الباب ذات مساء حقيبة ضخمة ومعها هذا الكتاب:

سيدي

أنت تعرفني من غير شك، فكثيرًا ما حدثك عني صديقك … وكثيرًا ما حدثني عنك، وقد صورك لي دائمًا على أنك أحب أصدقائه إليه، وأوفاهم له، وأحفظهم لسره، فأنا أحمل إليك هذه الحقيبة بعد أن احتفظت بها عامًا كاملًا، لا لأني كنت أنتظر أن يعود صاحبها إليَّ، فقد أيأسني الأطباء من شفائه، بل لأني كنت أجد الجهد كل الجهد في فراقها، وفي فراق ما يتصل به من الكتب والمتاع، ولكن هذه الأعوام التي نحياها قد علمتنا الإذعان للقضاء والخضوع لما ليس منه بد، فإليك هذه الحقيبة يا سيدي، فإن لصاحبها من أبناء وطنه أهلًا وأصدقاء هم أحق مني بما فيها وأجدر أن يفهموه ويقدروه.

وفي بيتي غرفة مغلقة منذ عام فيها كتبٌ كثيرة جدًّا ومتاع ليس بذي بال، فهذه الغرفة طوع أمرك متى شئت أقبلت فأخذت ما فيها ووجهته حيث أحببت.

ولك يا سيدي تحية ملؤها الحزن الذي ما أظن أنه سينقضي أو تهدأ لوعته قبل زمنٍ طويل.

وقد حفظت هذه الحقيبة بضعة عشر عامًا لا أعرف من أمرها إلا أنها مملوءة بالأوراق، فلما أتاح الظالمون لي شيئًا من فراغ، نظرت في هذه الأوراق فإذا أدب رائع حزين صريح، لا عهد للغتنا بمثله فيما يكتب أدباؤها المحدثون، وقد هممت بنشره وقدمت بين يديه هذا الكتاب، ولكن هل تسمح ظروف الحياة الأدبية المصرية بإذاعة هذه الآثار يومًا ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤