الفصل الثاني

الثورة الاجتماعية في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد

تولت الأسرة السادسة الحكم سنة ٢٤٢٠، واستمرت حتى سنة ٢٢٨٠ قبل الميلاد.

(١) بيبي الأول

وهو من الملوك النابهين الذين تولوا الحكم، وقضى فيه نحو ربع قرن.

(١-١) الحملة في فلسطين وسورية

وفي عهده سارت في أوائل القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد حملة برية وبحرية إلى فلسطين وسورية.

وقاد هذه الحملة قائد قدير هو «أوني» Uni قائد الجيش في عهد بيبي الأول.

حارب «أوني» البدوَ على حدود مصر الشرقية، ثم حارب في جهة الكرمل بفلسطين الأعداء القادمين من بلاد الرافدين (دجلة والفرات).

واشترك في هذه الحرب الجيش والأسطول، فقد سار الجيش برًّا، وسارت الحملة البحرية محاذية سواحل فلسطين الجنوبية وأنزلتْ جنودها هناك، فهزموا أعداءهم وتعقَّبوهم حتى جبال فلسطين الشمالية.

ويُعتبر هذا المكان أقصى ما وصل إليه النفوذ المصري في عهد الدولة القديمة، وامتد هذا النفوذ على الساحل الفينيقي.

ولعل هذه الحملة كانت الأولى من نوعِها في العالم، اشترك فيها الجيش والأسطول معًا، ودلَّت على كفاية المصريين من قديم الأزَل في خوض الحمَلات فوق ظهر البحار.

fig9
شكل ٢-١: بيبي الأول.

(٢) مرن رع Merenra

وقد خلف بيبي الأول ابنه مرن رع وكان صبيًّا، ولم يطُلْ حكمه أكثر من سبع سنوات.

(٣) بيبي الثاني: أطول حكم في التاريخ

بعد وفاة «مرن رع» تولى الحكم أخوه «بيبي الثاني»، وكان لم يزل صبيًّا مثله وتولت أمه الوصاية عليه، وحكم حوالي أربعة وتسعين عامًا.

فعهده يُعد أطول حكمٍ في التاريخ.

واستمرَّ القائد «أوني» صاحب النفوذ في الحكومة على عهد مرن رع وجزء من عهد بيبي الثاني.

ومن ملوك هذه الأسرة مرن رع الثاني، ثم الملكة نيتوكريس.

(٤) الرحالة حرخوف

اهتمَّتْ مصر القديمة بكشف المناطق الجنوبية في عهد الأسرة الخامسة والأسرة السادسة.

وامتاز الرحالة «حرخوف» بالكشف عن المناطق الجنوبية في النوبة والسودان في عهد الملك مرن رع، ثم في عهد بيبي الثاني.

وكان حرخوف هذا حاكمًا لإلفنتين (أسوان)، وقد قام بثلاث رحلات في عهد مرن رع، أما رحلته الرابعة ففي عهد الملك بيبي الثاني، وقد وصل إلى مناطق لم يكتشفها أحد من قبل واستمر في رحلاته نحو سبع سنوات.

يقول الأستاذ سليم حسن عن حرخوف إنه كان كاشفًا عظيمًا في عصره، ويُعد أول من فتح الطريق للكاشفين والرواد العظام في عصرنا للتوغُّل في مجاهل إفريقية، وإنه جلب الخيرات منها لمليكه «مرن رع»، وسهَّل سبيل التجارة بين مصر وتلك الأقطار.١
ويقول الدكتور أحمد فخري: «قام المصريون بتلك الرحلات في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، ليكشفوا قلب القارة الإفريقية، قبل أن يُولد ستانلي ولفنجستون وغيرهما من الرحالة الحديثين بأكثر من أربعة آلاف ومائتَي عام.»٢

(٥) الأسرات السابعة إلى العاشرة

اضطربت الأحوال الداخلية منذ أواخر عهد بيبي الأول لضعفه واستفحال سلطة الكهنة وحكام الأقاليم، واستمر الاضطراب في عهد خلفائه، وتعاقب على العرش ملوك ضعفاء حكموا مددًا وجيزة.

وزادت الحالة سوءًا والجبهة الداخلية تفكُّكًا في عهد الأسرات السابعة إلى العاشرة، وانتهت الدولة القديمة بسقوط الأسرة العاشرة.

(٥-١) الثورة الاجتماعية الأولى

أخذت الأحوال تسوء منذ أواخر عهد الأسرة السادسة، فإن حكام الأقاليم والكهنة أنشئُوا نظامًا إقطاعيًّا، واقتطعوا كثيرًا من سلطة الملك واستفحل طغيانهم، وضعفت رقابة الملك عليهم، فانحرفوا عن الحق والعدل في سيرتهم، واستبدوا بالأمر، واستغلوا السلطة لمصلحتهم أو مصالح ذويهم، وكثرت المظالم وتضاءل العدل، وانتشرت الفوضى.

فلم يقبل الشعب الهادئ الوديع الصبرَ على هذه المظالم طويلًا، وقام منذ عدة آلاف من السنين بأول ثورة شعبية، واستمرَّتْ حالة الثورة أكثر من قرنين من الزمان.

كان هدف الثورة تحقيق العدل بين الناس ومحاربة نظام الإقطاع وفساد الحكام، وإقرار العدالة الاجتماعية، ورفع مستوى موظفي الدولة عامة إلى المكان اللائق، بحيث ينظرون إلى المواطنين نظرة عدل وإنصاف ورعاية لمصالحهم.

فالظلم وانتشار الفوضى، وفساد الحكم، كل ذلك أهم أسباب هذه الثورة.

قامت الثورة ضد الهيئة الحاكمة وضد الإقطاعيين معًا؛ إذ تعاون الفريقان على إهدار مصالح الشعب.

وفي ذلك يقول الدكتور أحمد بدوي: «كان لا بد للأمور من نتيجتها الطبيعية وهي الثورة والانحلال السياسي، فالدولة المصرية كانت قد شاخت وشاخ من حولها الزمان، وسياسة البلاد كانت تسير على نهج أعوج لا يكاد يستقيم؛ لأن الحكومة كانت تأخذ من الفقراء لتملأ خزائن الأغنياء، وتُشبع الأغنياء من قوت الجائعين والفقراء، وتسعد المترفين على حساب المعوزين، وتحُول بين خطوة المظلوم وصوته وسمع السلطان وبصره، وليس أصعب من وصول كلمةِ الحق إلى ساحة الملوك والأمراء، البطانة تتلقاها فتحجبها، والمكر يتحداها فيطمسها، ونفاق البلاط يبتلعها ويقتلها، وقليل من ملوك الدهر من يستطيع أن يصل ببصره إلى ما وراء البطانة أو يمد سمعه إلى ما وراء أستار العرش، بل قليل من ملوك الدهر مَن يستطيع أن يلتوي على نفاق رجال القصر أو يغلب مكر البطانة. أخذت بواكير الثورة تتراءى من كل حدب وصوب، بينما انطوى شيخ القصر على نفسه لا يكاد يعرف من أمر ذلك شيئًا، وانصرف حكام الأقاليم إلى مصالحهم الذاتية، وباتوا يرقبون بعين الحذر ما تطالعهم به الأيام، وأخذ كل منهم يتربَّصُ بصاحبه الدوائر، وأخذ الدهر يدس لهم قضاءه بين ثنايا الأيام وطيات الليالي حتى دهمهم بخيله ورجاله، فحِيلَ بينهم وبين القصر، وحيل بين القصر وبين كل سلطان، وهبَّ الشعب بثورته الاجتماعية الطاحنة التي اندلَعتْ نارها في البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وغادرت الأيام «منف»، وأضحى القصر عاريًا من ثياب الملك، عطلًا من زينة السلطان، وزال نفوذه وتعطلت حقوقه، وتعطلت معها الحقوق المدنية والدينية جميعًا، وتحلَّلت الدنيا من كل قيد، وانطلق الناس من عقالهم، وقد أخذ بعضهم يومئذٍ يموج في بعض، واختفى الضمير الإنساني الحي، وارتفع عن الناس برقع الحشمة فتجرَّدوا من ثياب الوقار، وساد في البلاد قانون الفوضى — إن صح أن يكون للفوضى قانون — فنادى داعي الفوضى في الناس يغريهم بكل شيء ويبشِّر فيهم بدستور الثورة ومنطقها، إن صح أن يكون للثورة دستور ومنطق.»٣
وقال الدكتور أحمد فخري في هذا الصدد: «كانت هذه الثورة الاجتماعية ثورة الشعب على من ظلموه، ومهما كانت نتائجها المخربة وقت حدوثها، فإنا نحمد لها ما بعثته في الشعب المصري من آراء جديدة، أهمها الإعلاء من شأن الفرد، وأن كل إنسان مسئول عما قدَّمت يداه من خير أو شر، بل عن حسن نيته أو سوئها، وأنه سيحاسب وسيجازى أمام الإله الأعظم على ذلك، دون نظر إلى فقره أو غناه، ودون نظر إلى قبر يشيده أو أوقاف يتركها ليستغلَّها الكهنةُ عندما يتلُون الصلوات أو يقدمون لروحه قرابين صورية يستفيدون منها دون غيرهم، عرفت مصر قيمة الفرد وعمله في هذا الوقت المبكر من تاريخ البشرية قبل أن يصل إليه غيرهم بقرون كثيرة.»٤

تمثلت هذه الثورة في الانتفاض على الهيئة الحاكمة، والخروج على تقاليد الخضوع لها، والهجوم على مخازن الحكومة ومكاتبها، وعلى قصور الإقطاعيين الذين استغلوا السلطة، فتقاسموا والحكام خيرات البلاد.

ولم يعالج هذه الثورةَ حاكم حازم يوقف الحكام والإقطاعيين عند حدِّهم ويعيد الأمن ويقر النظام ويرفع منار العدل والقانون بين الناس، وتعاقبت على البلاد الأسرات السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، والبلاد تتردى في هُوَّة الانحدار والتفكك والفوضى، حتى انقرضت الدولة القديمة، واستمرَّت البلاد نحو ثلاثة قرون في ظلام حالك.

(٥-٢) سبعون ملكًا في سبعين يومًا

ويقول مانيتون عن الأسرة السابعة إن عدد ملوكها سبعون ملكًا وإنهم حكموا البلاد مدى سبعين يومًا.

ومعنى هذا أن الملك كان يحكم يومًا واحدًا، وهذا أفظع مظهر للفوضى التي عمت البلاد وقتئذٍ.

وقد تحقَّقَ أخيرًا هدف الثورة على يدِ رجُل برز من صفوف الشعب، واعتلى عرش الملك، وهو «أمنمحات» الأول الذي أسَّس الأسرة الثانية عشرة.

وجاءت أسرة «أمنمحات» من خير الأسرات التي تولَّتِ الحكم، فأنقذت البلاد من الفوضى، وضربت على أيدي حكام الأقاليم الظلمة المستبدين والإقطاعيين، وأشاعت العدل بين المواطنين، وسنَّتْ قوانين عادلة لمصلحتهم، ورفعت من مستوى الموظفين وجعلتهم خُدَّامًا للشعب، هذا إلى ما قامت به من المشروعات العمرانية التي عادت على البلاد وأهلها بالخير والرفاهية.

فانتهاء الدولة القديمة، وتأسيس الأسرة الثانية عشرة في أوائل عهد الدولة الوسطى هو من نتائج تلك الثورة الشعبية.

ولم تعُد مقاطعات الدولة ملكًا لحكام الأقاليم السابقين، وتضاءلت العائلات الكبيرة التي كانت تتصل بالملوك بروابط القرابة أو المصاهرة، وصار حكام الأقاليم موظفين لدى الملك، فأصبحت المقاطعات قومية بعد أن كانت ملكية.٥ وفي عهد «سنوسرت الثالث» خضعت أرستقراطية الحكام والكهنة للنظام، ولم يعُد هناك فارق كبير بين أبناء النبلاء وأبناء الطبقات المتواضعة، وسادت المساواة الجميع أمام القانون، وتطلعت الطبقات الشعبية إلى المناصب الرفيعة، وكان هذا من نتائج الثورة الاجتماعية، وانتقلت إلى الشعب حقوق الطبقة الأرستقراطية، حتى الحقوق الدينية التي كانت وقفًا على الكهنة الوراثيين.

ومن نتائج هذه الثورة ظهور الطبقة المتوسطة من الصناع والتجار وأرباب الحِرَف في المدائن والقرى، واقتداء أفرادها بالطبقة العليا، ومعظمهم من غير موظفي الحكومة؛ ولذلك سموا أنفسهم «أهل البلد»، وتغيرت معالم الحياة عما كانت عليه في عهد الدولة القديمة، وارتقت الطبقة المتوسطة من الشعب، وبعد الطبقة المتوسطة أتت طبقة العمال، وجرت العادة وقتئذٍ أن يرسل هؤلاء العمال إلى معاهد خاصة ليتعلموا الصناعات المتنوعة.

وقد اعترف المؤرخون الأجانب بهذه الثورة فيما كتبوه عنها، فقال عنها «موريه» Moret: إنها ثورة اجتماعية وسياسية، وإنها استهدفت محاربة الأوضاع القائمة في أواخر عهد الأسرة السادسة.٦
وقال «جون ويلسن» John Wilson: إن منزلة الملك نزلت إلى مستوى البشر العاديين، وكانت الفكرة المميزة للدولة الوسطى أن الملك راعٍ يقِظٌ يسهر ضميره للمحافظة على الأمة، وكان الاتجاه الثقافي الحديث يدعو إلى حقوق الأفراد.٧

(٦) انتهاء الدولة القديمة

انقضى عهد الدولة القديمة في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد.

ومن الحق أن نذكر أنها في الجملة قد نهضت بمصر وحضارتها واحتفظت بمكانتها في العالم، ويكفينا أن نذكر ما قاله عنها مؤرخ منصف وهو العلَّامة برستد Breasted إذ يقول عنها: «وقبل الفراغ من الكلام على تاريخ الدولة القديمة، يجدر بنا أن نشيد بأعمال ملوكها العظام الذين حكموا القطر مدة ألف سنة تقريبًا، والذين يرجع إليهم فضل توطيد المملكة، وجمع قوتها وتوجيه مجهوداتها نحو النافع المثمر العائد بالخير والرفاهية، ولا تزال آثار هؤلاء القوم كالمعابد والأهرام المنتشرة على طول القطر لعدة أميال تلقي في نَفْس مَن يراها الإعجاب والدهشة، وقد شُيدت معظم هذه الآثار على سلسلة جبال ليبيا بحافَة الصحراء الغربية، وهذه الآثار تشهد لأصحابها إلى الآن بتوقُّد الذهن، وعِظم الجهد، والبراعة في الأعمال الآلية (الميكانيكية)، والأنظمة الداخلية، وبناء السفن لعبور البحار، وارتياد البلاد للكشف، والحق يقال: إن هؤلاء القوم هم الذين ربطوا التجارة المصرية مع البلاد الأجنبية السحيقة حتى أواسط إفريقية، وحسَّنوا فني الحفر والنقش، ونهضوا بفن العمارة فشيَّدوا العُمد العظيمة الشاهقة، والمباني الضخمة ذات العمد، وبرعوا في سياسة البلاد داخليًّا وخارجيًّا فسنوا قانونًا متينًا عادلًا وأنجبوا رجالًا متضلِّعين في القضاء، وقد اعتنى أهل الدولة القديمة بديانتهم كثيرًا لشدة اعتقادهم أنهم في الحياة الأخرى محاسبون على أعمالهم، وهم للآن أقدم أناس معروفين اعتقدوا بالبعث بعد الموت، وأن الثواب في الآخرة على قدر الحسنات في الدنيا. وجملة القول أن أعمال هؤلاء القوم ومدنيتهم انتشرت في العالم، فأُعجب بها الخلق أكثر من إعجابهم بأي شعب آخر.»٨
١  سليم حسن: مصر القديمة، ج١، ص٣٨٤.
٢  أحمد فخري: مصر الفرعونية، ص١٥٨.
٣  أحمد بدوي: في موكب الشمس، ج١، ص٢٠٤.
٤  أحمد فخري: تاريخ الحضارة المصرية، العصر الفرعوني، ص٦٠٣.
٥  موريه Moret: مصر الفرعونية L’Egypte Pharaonique، ص٢٤٤. وكان موريه مديرًا لمدرسة الدراسات العليا بباريس وهو من علماء الآثار المصرية المعدودين.
٦  موريه Moret: مصر الفرعونية، المرجع السابق، ص١٩٥ وما بعدها.
٧  تاريخ الحضارة المصرية لجون ويلسن، تعريب الدكتور أحمد فخري، ص٢٠٢ و٢١٢ و٢٢٦.
٨  برستد: تاريخ مصر من أقدم العصور، المرجع السابق، ص٩٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤