الفصل الثالث

الدولة الوسطى

إن الدولة الوسطى وخاصةً من عهد الأسرة الثانية عشرة قد سارت بالبلاد قُدُمًا إلى الأمام، وفي عهدها خطَتِ الحركة القومية والحضارة المصرية خطوات واسعة نحو الكَمال، وفي ذلك يقول المؤرخ «برستد»: «بقي علينا الآن أن نتفقد الحوادث لنعرف إذا كان اضمحلال الدولة القديمة وانفراط عقدها استمرَّ حتى أفسد النخوة القومية، أو أن هذا الانقلاب كان حادثًا عرضيًّا فقط، عالجته أذهان وأيدي رجال مصر العاملين، فأرجعوا المياه إلى مجاريها وساعدوا بلدهم على التقدم والرقيِّ حتى أدهشوا العالم.»١

(١) الأسرة الحادية عشرة (سنة ٢١٣٤–١٩٩١ قبل الميلاد): بداية الدولة الوسطى

هي أسرة من طيبة، وقد اتخذتها عاصمة للدولة.

ومؤسس هذه الأسرة هو «أنتف» Antef وكان ملِكًا حازمًا عاملًا على إنهاض البلاد، ثم أعقبه ابنه «أنتف الثاني» ثم الثالث.

(١-١) منتوحتب الثاني وإعادة الوحدة القومية

وتلاه ابنه منتوحتب الأول Mentoheteb فمنتوحتب الثاني.

وهو من أهم ملوك هذه الأسرة، وقد بقي في الحكم نحو نصف قرن، وعمل على رَأْبِ الصَّدْع وتثبيت سلطة العرش، وقد نجَحَ في إعادة الوحدة القومية بعدما اعتراها من التفكُّكِ والتخاذل وسُمي موحدَ الأرضين، وكان انتصاره على معارضيه وتوحيد مصر جميعها تحت سلطانه بدايةَ مرحلة جديدة في تاريخ مصر القديم، وكانت مدة ملكه عهد استقرار وطمأنينة ونهضة.

وتلاه منتوحتب الثالث، ثم منتوحتب الرابع فالخامس،٢ وهو آخر ملوك هذه الأسرة، وكان وزيره «أمنمحات» الذي أسَّس الأسرة الثانية عشرة.

وأهم عمل للأسرة الحادية عشرة أنها عملت على توحيد البلاد ثانيةً، بعد أن كانت مفككة الأوصال.

ولكنها لم تصل إلى هذا التوحيد كاملًا إذ كان حُكَّام الأقاليم ينازعونها السلطة، وظلت الأمور غير مستقرة، ولعل عهدها كان تمهيدًا للأسرة الثانية عشرة التي استقرت في عهدها إعادةُ الوحدة القومية.

(٢) الأسرة الثانية عشرة: أسرة أمنمحات (سنة ١٩٩١–١٧٧٨ قبل الميلاد)

أسرة أمنمحات هي من أعظم الأسرات في تاريخ مصر القديمة ومن أجلِّها شأنًا.

أسسها أمنمحات الأول، وكان كما أسلفنا رجلًا عصاميًّا برز من صفوف الشعب، وأوصلته مواهبه وحكمته إلى منصب الوزارة في عهد منتوحتب الخامس، وتولى العرش بعد وفاة هذا الأخير.

وتمتاز أسرة أمنمحات عامة بأنها نزلت قليلًا عن السلطة القدسية التي كانت لملوك الدولة القديمة.

وتقربت إلى الشعب بإقامتها منار العدل، وبالعديد من الإصلاحات والأعمال الاقتصادية والعمرانية التي زادتْ من رخاء الشعب، وتجلت هذه الناحية في تاريخ أمنمحات الأول والثاني والثالث.

وميزة أخرى لهذه الأسرة، وهي أنها قضَتْ على حكم الإقطاع في الأقاليم وجعلتْ ولاتها عمالًا خاضعين لسلطة الملك بعد أن كانوا منذ أواخرِ عهد الدولة القديمة شبه ملوك مستقلين.

وفي عهد أسرة أمنمحات — أي في مدَى مائتَي عام تقريبًا — تقدمت البلاد تقدُّمًا عظيمًا في شتى النواحي.

ويُعرف هذا العصر عند الأثريين بعصر «الآداب» لأنها بلغت فيه أعظم شأوه، فالشعر والنثر بلَغَا الذروة من حيث المتانة والجودة، وارتقى فن الحفر والعمارة بدرجة تسترعي النظر، وفاقَت المصنوعات الفنية مثيلاتها في العصور الغابرة.

وزادت خيرات البلاد كثيرًا لعناية الحكومة بشئون ضبط النيل وإقامتها مشروعات الري في الفيوم، واستصلاحها أقاليم شاسعة من الأراضي الزراعية، مما عاد على البلاد بالخير العميم.

وكانت مصر في عهدها أقوى دولة في الشرق الأدنى.

(٢-١) أمنمحات الأول

كانت أمه من أصل نوبي، وكان ملكًا عادلًا خيِّرًا، حكيمًا حازمًا، أعاد الأمن والنظام والطمأنينة إلى البلاد ونظَّم أمورها الداخلية، وتحبب إلى الشعب بأعماله العمرانية، فاهتمَّ بإقليم الفيوم لتنظيم الريِّ والاستفادة من بحيرة موريس (بحيرة قارون)، وإن كان الفضل في تنفيذ مشروعات الري في الفيوم يرجع إلى أمنمحات الثالث.

وبذل همته في استغلال المناجم والمحاجر، وتسهيل وسائل التجارة، ووضع حد لغارات البدو على الحدود الشرقية والحدود الغربية.

وبنى سلسلة من التحصينات في كلتيهما، ونقل عاصمة البلاد إلى مقربة من منف، ووجَّه عنايته إلى بلاد النوبة وعمِل على ضمِّها إلى مصر، وأخضع حكام الأقاليم وأخذهم بالحزم والحكمة فأبقى منهم أكثرهم ولاءً له واتباعًا لأوامره، فتمكَّن بهذه السياسة الرشيدة من جعلهم معاونين له ومساعدين، ولما تقدمت به السن أشرك معه في إدارة شئون الدولة ابنه «سنوسرت»، وظل يحكم البلاد نحو ثلاثين عامًا.

قال الدكتور أحمد بدوي في صدد سيرته: «ولما تقدمت السن بالرجل، وكان قد أمضى على عرش البلاد قرابة عشرين عامًا، بدأ يحس بحاجته الملحَّة إلى مُعين، فأشرك معه في إدارة البلاد بكر أولاده الأمير سنوسرت (سنوسرت الأول فيما بعد) وأسند إليه إمارةَ الجيش، واستَطَاع بذلك أن يؤمِّن سلطان القصر وأن يصل ماضيه بحاضره، ثم وُفق في استئناف جهاده في سبيل تطهير البلاد وإضعاف شوكة الحكام من أمراء الأقاليم الذين كانوا يبذلون غاية الجهد في الدفاع عن استقلال أقاليمهم والمحافظة على سلطانهم، والواقع أن تلك الخطوة قد أعانت الرجل على التدخل في شئون أولئك الأمراء كلما وجد إلى ذلك سبيلًا، وكان من نتيجة ذلك كله أَنْ آل إلى القصر حق تولية الموظفين الذين يديرون شئون الأقاليم وحق عزلهم، ولم يكن ذلك قبل أيامه من حق الملوك، وبذلك استطاع أمنمحات أن يسترد ما كان للقصر من سلطان مفقود، ولم يكتفِ أمنمحات بتلك الخطوة في سبيل تأييد العرش وتنظيم شئون الحكم، وإنما جعل على رأس الإدارة وزيرًا شدَّ به أزره، وأشركه في أمره، كي يسهل عليه تسيير الأمور في سبيلٍ سهلةٍ لا عُسر فيها ولا توقُّف، وليس من شك في أن ذلك النظام قد أراح البلاد من تلك الفوضى التي غمرتها أيام الإقطاع فأتعبت حكامها ودفعتهم إلى الخصام والحرب، وأتعبت من ورائهم ذلك الشعب المسكين فأشقته وأضنته وكلفته الشطط وأرهقته من أمره عسرًا. بمثل هذه الخطوات الحازمة التي قدَّمنا، وضع أمنمحات حجر الأساس في بناء تلك النهضة الجديدة، فمهَّد لخلفائه من بعده سبيل السير بها إلى أبعد غايات السمو، وسجَّلها لتاريخ مصر في صحائف من ذهب. على أن أعمال الرجل لم تقفْ عند حد ما ذكرنا من إصلاح زراعي وإداري، وإنما الراجح أنها أكثر من ذلك، فقد نظر الرجل إلى واحة الفيوم من وراء قصره وأخذ يفكر في استغلالها، وإلى أيامه يعزو بعض المؤرخين أول تفكير في إصلاح تلك البقعة من الأرض؛ إذ كان هو أول من فكَّر في إنشاء ذلك الخزَّان الذي تمَّ على عَهد أمنمحات الثالث وسمَّاه المؤرخون في عصر اليونان «بحيرة موريس».»٣

وقد تُوفِّي أمنمحات الأول سنة ١٩٦١ق.م.

(أ) خلفاء أمنمحات الأول: سنوسرت الأول Senousret

هو ابن أمنمحات الأول، وفي عهده توسعت مصر في بلاد النوبة.

fig10
شكل ٣-١: سنوسرت الأول، من أسرة أمنمحات (الأسرة الثانية عشرة) ومشيد مسلة عين شمس.

وعُني عناية كبيرة باستغلال المناجم في الصَّحراء يستخرجون منها الذهبَ والنحاس، ويستخرجون من محاجر النوبة الأحجارَ الممتازة.

وكان ملِكًا حازمًا يحب العدل، وإداريًّا يقظًا، يراقب رجاله مراقبة شديدة يضمن بها استقامتَهم ورعايتهم للصالح العام.

كتب «أميني» أحد رجاله يصف مسلكه في حكم مقاطعة الغزال، ويمتدح العدالة الاجتماعية التي كان ينشدها الناس وعلى رأسهم سنوسرت الأول قائلًا: إني لم أسئ معاملة بنت أي رجل ولم أظلم أية أرملة، ولا يوجد فلاح احتقرته ولا راعٍ أقصيته، ولا رئيس عمال قد سخَّرت عماله، ولا يوجد بائس في بلدي ولا جائع في عهدي، وعند حلول سِنِي القحط كنت أحرث كل حقول مقاطعة الغزال إلى حدودها الجنوبية والشمالية، وبذلك حافظت على حياة أهلها، مقدمًا لهم الطعام حتى لم يبقَ فيها جائع، وأغدقت على الأرملة والمتزوجة الخيرات على السواء، ولم أميز العظيم على الصغير في كل ما أعطيت، وبعد ذلك كان يأتي نيل يحمل الحبوب وكل الأشياء، ومع ذلك فإني لم أحصِّل المتأخر على الحقول.٤

ولا شك أن هذه التصريحات تعبِّر عن المثل الأعلى في الحكم والاستمساك بالعدالة الاجتماعية ورعاية الفقراء والحدب عليهم، ومهما قيل عنها من المبالغة في الوصف والإطناب في محامد أميني، فإنها تدل على أن مثل هذا التقرير يقيد في السجلات العامة ويطَّلع عليه الملك، فواضعه وكاتبه قد اختار الصفات التي ترتاح إليها نفس الملك العادل وتطمئنُّ إليها نفوس المواطنين.

جامعة عين شمس

كانت مدينة «أون» — عين شمس — وقتًا ما مدينة العلم والنور، كانت عاصمة البلاد الفكرية والدينية.

جاءها أفلاطون لينهل من علومها وفلسفتها، وينقل من علومها.

ويقول المؤرخ بتلر: إن استرابون لما زار مصر دله الناس على المواضع التي كان أفلاطون يتلقى فيها العلم من قبل.٥
وقد سمَّاها الدكتور عبد المنعم أبو بكر «جامعة هليوبوليس».٦

وكانت هذه المدرسة الجامعة أشهر مدارس مصر القديمة كمدرسة منف ومدرسة طيبة.

مسلة عين شمس

ومن أعمال هذا الملك عدا إنشاء جامعة عين شمس إقامتُه مسلَّة عين شمس المشهورة ﺑ «المطرية» والباقية إلى الآن، ويبلغ ارتفاعها ٦٦ قدمًا، وهي قطعة واحدة من الجرانيت الأحمر، وقد أقامها في مدخل المعبد والمدرسة الجامعة اللذين بناهما في عين شمس (التي يسميها اليونانيون هليوبوليس)، وهي أقدم مسلة قائمة في مكانها الأصلي.٧

وقضى سنوسرت في الحكم نحو أربعة وأربعين عامًا، وهو من أعظم ملوك مصر.

fig11
شكل ٣-٢: مسلة سنوسرت الأول بعين شمس.

(٢-٢) أمنمحات الثاني

هو ابن سنوسرت الأول، وكانت أيامه أيام هدوء وطمأنينة، وقد أرسل البعوث الاقتصادية إلى سيناء والنوبة في مناطق التعدين وإلى الصُّومال (بلاد بونت) للتجارة، وكان الوصول إلى هذه البلاد أمرًا شاقًّا عسيرًا في ذلك العصر لبُعد المسافات بينها وبين مصر، وهذا يدلنا على الهمة ومَضَاء العزيمة في النهوض باقتصادياتِ البلاد.

(٢-٣) سنوسرت الثاني

لم يزد حكمه على تسعة أعوام، وامتاز عهده بحُسنِ العلاقات بين مصر والأقاليم الآسيوية.

(٢-٤) سنوسرت الثالث٨

هو الفاتح الكبير، زادت مدة حكمه على ثمانية وثلاثين عامًا، وامتاز عهده بقضائه التام على نفوذ حكام الأقاليم وعلى نظام الإقطاع، ثم بأعماله الحربية في النوبة وفي فلسطين وسورية.

fig12
شكل ٣-٣: سنوسرت الثالث.

وقد عمل منذ توليه الملك على ضمِّ النوبة نهائيًّا إلى مصر، فشقَّ لأسطوله طريقًا بين صخور الشلال الأول، وأنشأ مهندسوه هذا الطريق المائي في أصعب مناطق الشلال الجرانيتية لمسافة مائتَين وستين قدَمًا بعرض أربعةٍ وثلاثين قدمًا وعمق ستة وعشرين قدمًا، وحمل على النوبة عدة حملات وُطِّدت فيها السلطة المصرية.

وشيد حصنين متقابلين في آخر الحدود الجنوبية للدولة على شاطئ النيل، أحدهما في «سمنة» والآخر في «قمَّة» (انظر موقعهما على الخريطة المنشورة شكل ٦-٢).
يقول المؤرخ برستد: «ولا تزال آثار هذين الحصنين باقية للآن تشهدُ لمصر في تلك الأوقات بالبراعة الحربية والكفاية في اختيار مَواقع الدفاع الحصينة، والمقدرة على تشييد الحصون المنيعة.»٩
وعلى الحدود الجنوبية (في سمنة) نصب سنوسرت الثالث لوحتَه المشهورة التي يتحدث فيها إلى المصريين عن الكفاح الوطني ويحثُّهم عليه، قال في هذا الصدد: «ولقد جعلت تخوم بلادي أبعدَ مما وصل إليه أجدادي وزدت في مساحتها على ما ورثته، وإني ملك يقول وينفِّذ، وما يختلج في فؤادي تفعله يدي، وإني طموح إلى السيطرة وقوي لأحرز الفوز، ولست بالرجل الذي يرضى بالتقاعس عندما يُعتدى عليه، أهاجم من يهاجمني حسبما تقتضيه الأحوال فإن الرجل الذي يركن إلى الدعة بعد الهجوم عليه يقوِّي قلب العدو، والشجاعة هي مضاء العزيمة، والجبن هو التخاذل، وإن من يرتد وهو على الحدود جبان حقًّا.»١٠

(أ) قناة سنوسرت الثالث التي تصل النيل بالبحر الأحمر

يرجع إلى سنوسرت الثالث عمل من أجلِّ الأعمال العمرانية، وهو وصل النيل بالبحر الأحمر بواسطة قناة مائية تيسر المواصلات التجارية.

وهذه القناة قد أعاد حفرها الملك «نيخاو» الثاني، ثم الإمبراطور الروماني تراجان.

ورُدمت بعد ذلك إلى أن أعاد حفرها عمرو بن العاص بأمر الخليفة عمر بن الخطاب، وسُميت «خليج أمير المؤمنين».

ففي عهد سنوسرت الثالث اتصل النيل لأول مرة في التاريخ بالبحر الأحمر، وعُرفت هذه القناة في التاريخ بترعة سيزوستريس، وهو الاسم الذي أطلقه الإغريق على سنوسرت، أو ترعة الفراعنة.

وكانت هذه القناة تبدأ عند ضواحي بوبسطة، وتأخذ مياهها من فرع النيل التانيسي (نسبة إلى مدينة تانيس وهي صان الحجر الحالية)، وتصل إلى البحيرات المرَّة ثم إلى خليج السويس.

ويقول موريه:١١ إن هذه القناة أُنشئت في عهد سنوسرت الثالث، وقد حفرها في شرق الدلتا، واتصل النيل بواسطتها بخليج السويس عن طريق وادي الطميلات والبحيرات المرة، وتُعد أقدم طريق مائي يصل النيل بالبحر الأحمر، وإن هذه أول تجربة لوصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر بواسطة النيل.

(ب) مصر والبلاد الآسيوية

وفي عهد سنوسرت الثالث غزا المصريون الشام، وقد اصطحب قائده «سبك خو» Sebek Khu في هذا الغزو حيث هزم الآسيويين، ومن يومئذٍ وصلت سلطة مصر إلى هذه الأصقاع، ومارست السيادة على الساحل الفينيقي وعلى فلسطين وقسم كبير من سورية.

وسنوسرت الثالث يشبه في مواهبه الحربية «تحوتمس الثالث» الذي سيردُ الكلام عنه في الفصل السادس.

(٢-٥) أمنمحات الثالث

هو ابن سنوسرت الثالث وأعظم ملوك الأسرة، ومن أعظم الملوك في تاريخ مصر القديمة.

ومن أعماله الهامة مشروعات الري العظيمة التي نفذها، والتي عادت على البلاد بالرخاء والرفاهية.

كان محبًّا لصالح الشعب بمختلف طبَقَاته، ولما تولى الملك وسَّع نطاق المناجم في سيناء لاستخراجِ كنوزها، وذلَّل عقبات كئودًا كان يشكو منها العمال هناك وأهمها أمور سكناهم، فقد أسَّسَ لهم بيوتًا ثابتة بدل المساكن المؤقتة التي كانوا يأوون إليها بحيث لا تبقى أكثر من بضعة أشهر.

وانصرفت جهوده إلى مختلف نواحي الإنشاء والتعمير، فأرسل عدة بعثات إلى سيناء لاستخراج المعادن منها.

fig13
شكل ٣-٤: أمنمحات الثالث، صاحب مشروعات العمران الجليلة.

(أ) أعمال الري والعمران

كان أمنمحات الثالث أكثر ملوك مصر اهتمامًا بشئون الري وضبط مياه النيل وخاصةً مشروعات الفيوم.

وقد بدأ التفكير في هذه المشروعات في عهد أمنمحات الأول، ولكن تنفيذها كان على يد أمنمحات الثالث.

وأنشأ مقياسًا للنيل في «سمنة» بالنوبة عند الشلال الثاني، لتسجيل ارتفاع النيل وليطمئن على حالة الفيضان، وكانت أنباء مقاسات هذا المقياس ترسل لموظفي مكتب الوزير بالوجه البحري، وكانوا يقدِّرون كمية الحبوب التي يمكن إنتاجها على ضوء هذه البيانات في السنة المقبلة.

(ب) خزان بحيرة موريس

وأنشأ سدًّا للمياه ذا فتحات على بحيرة موريس الكائنة بالجزء الشمالي الغربي لإقليم الفيوم، ليُنتفع بالبحيرة كخزان لحماية البلاد من الفيضانات العالية، ولتؤخذ منها المياه لتحسين الملاحة، ولري أراضي الوجه البحري، والاستفادة منها وقت التحاريق (انظر الخريطتين شكل ٣-٥ وشكل ٣-٦).

وهذه الفكرة شبيهة بالفكرة التي أدَّتْ إلى إنشاء خزان أسوان في العصر الحديث.

وتفصيل ذلك أن مياه النيل كانت تتدفَّقُ في بحيرة «موريس» قرابةَ ستة أشهر في العام.

وكان بحر يوسف كفرع من فروع النيل القديمة يصب فيها.

وكانت توجد فتحة بسلسلة جبال ليبيا بجهة الفيوم، تصل النيل بإقليم الفيوم المنخفض عن سطح البحر، وتُسمَّى هذه الفتحة «ممر اللَّاهون».

وقبل حكم الأسرات الملكية كان فيضان النيل يغمر إقليم الفيوم محوِّلًا إياه إلى بحيرة كبيرة.

fig14
شكل ٣-٥: بحيرة موريس القديمة. مقتبسة من كتاب «بحيرة موريس واللَّاهون»، للعالم المهندس علي شافعي، مفتش عام ري الصحارى سابقًا.

فلما جاء ملوك الأسرة الثانية عشرة فطِنوا إلى تخزين كميةٍ عظيمة من المياه في تلك البحيرة، وتصريفها وقت التحاريق.

فشيدوا على الفتحة سالفة الذكر سدًّا عظيمًا مزوَّدًا بفتحات لخزن المياه في بحيرة موريس، تاركين في الوقت نفسه مساحة كبيرة من الأرض للزراعة.

وقد بدأ الملوك الأُوَل من الأسرة الثانية عشرة في تصميم هذا المشروع، ولكن الفضل الأكبر في تنفيذه يرجع إلى أمنمحات الثالث الذي نظَّمَ السدَّ العظيم، ووفر مياه الري لأراضي الوجه البحري.

fig15
شكل ٣-٦: موقع خزان بحيرة موريس. كما رسمه العالم المهندس علي شافعي في كتابه «بحيرة موريس واللَّاهون». وترى في الرسم هرم أمنمحات الثالث وقصر اللابيرنت.
يقول السير «وليم ويلككس» الذي كان وقتًا ما مديرًا عامًّا للخزانات بمصر في محاضرة له ألقاها سنة ١٩٠٤م عن بحيرة موريس: «إنه كان يوجد في زمن الملك «مينا» اتصال بين النيل والمكان الذي فيه هذه البحيرة، إلا أنه لم يوسع الترعة الموصلة بين النيل والبحيرة إلا الملك أمنمحات الثالث الذي جعل البحيرة التي كانت لا قيمةَ لها في عصر الملك مينا بحرًا خضمًّا واقعًا في وسط الأرض يحفظها من غوائل الفيضانات العالية، ولعمري لقد كان أولئك الفراعنة القدماء جبابرة في علم الري، كما كانوا حكماء وذوي جراءة وإقدام.»١٢
وقال: «إنه كانت هناك قناطر موازنة قائمة عند مدخل ومخرج بحيرة موريس في الممر الذي يوصل البحيرة بنهر النيل، فالقنطرة الأولى واقعة عن جسر اللاهون الحالي، والثانية عبارة عن ترعة متسعة منحدرة من الصخر المنحوت بمنسوب موافق لمرور مياه الفيضانات العالية، حيث يوجد الآن بحر يوسف الحالي، وكان في نهايتها سد ضخم قائم على رأس وادي «البطس» الضيق، وكان هذا السد يُزال في أيام الفيضانات العالية الخطيرة، وبجوار قنطرة الموازنة الثانية قرية «هوارة المقطع» الحالية أو «هابوار» القديمة.»١٣

وقال في موضع آخر: «ولعمر الحق إن الأسرات الملكية الفرعونية التي جاهدت في سبيل حماية البلاد من عدويها اللدودين «الشَّرَق والفيضان»، وكفلت سعادة رعاياها في تلك الأزمان لجديرة بالثناء العاطر والذكر المجيد.»

ويقول المؤرخ برستد: «إن الزائر لمنطقة هذا السد العظيم يقدِّر جلال المجهود الإنساني الذي رفع من شأن الأراضي المنخفضة التي غمرتها المياه قديمًا.»١٤

ويقول «هيرودوت» الذي زار مصر حوالي سنة ٤٤٥ قبل الميلاد في عهد الاحتلال الفارسي: إن فيضان النيل كان يغمُر تلك البحيرة العظيمة عن طريق الفتحة الموجودة بجبال ليبيا، وإن المصريين كانوا يروون أرضهم زمن التحاريق من مياه هذه البحيرة الواسعة.

وشاهد «استرابون» محال مراقبة المياه الداخلة والخارجة من إقليم البحيرة المذكورة.

(ﺟ) قصر اللابيرنت

وأنشأ أمنمحات الثالث في الجهة البحرية للفتحة الموصلة لأرض الفيوم قصرًا ضخمًا يبلغ طوله حوالي ألف قدم، وعرضه ثمانمائة قدم، اتخذه معبدًا دينيًّا ومقرًّا إداريًّا للحكومة، وحوى نحو ثلاثة آلاف غرفة، وفي هذا القصر كانت تجتمع هيئة الحكومة أحيانًا، وقد بقيت آثاره واضحة حتى وصفه «استرابون» الذي شاهده، وأُطلق على هذا القصر في العهد الروماني اسم «لابيرنتا» Labyrinth أي (التيه) لكثرة ما حواه من غُرف وأبهاء وممرات.

وقد شاهد «هيرودوت» هذا القصر وقال عنه: إنه يفوق الوصف وإن عمارته منقطعة النظير، ولا يفضل عليه عمارة الهرم الأكبر.

وظل أمنمحات الثالث على العرش قرابة خمسين عامًا، كانت من خير السنين في تاريخ مصر القديمة.

(٢-٦) أمنمحات الرابع

وقد خلفه على العرش ابنه أمنمحات الرابع، ولم يكن على غرار أسلافه في الهمة والكفاية، وحكم نحو تسع سنوات.

(٢-٧) الملكة سبك نفرو

وكان آخر ملوك هذه الأسرة الملكة «سبك نفرو» ابنة أمنمحات الثالث، وقد حكمت نحو ثلاثة أعوام، ثم انقطع نسل هذه الأسرة، وهوى نجمها.

(٣) الأسرتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة

بعد أن انتهى حكم الأسرة الثانية عشرة خلفتها الأسرة الثالثة عشرة، وكانت عاصمة ملكها «منف».

وفي عهدها ضعفت الجبهة الداخلية لتنازع الطامعين في الحكم.

وتدهورت الحالة الاقتصادية في البلاد.

فبعد أن كان نظام الري يُنفَّذ في أنحائها تحت إشراف الملك، انعدم نظامه واضطربت شئونه، فقلَّت الحاصلات والمصنوعات، ثم عمد حكام الأقاليم إلى استعمال الشدة والظلم مع المواطنين. ففرضوا عليهم الضرائب والإتاوات الباهظة وأثقلوا كاهلهم، وجاءت هذه الأحداث هادمة لنهضة البلاد ورخائها اللذين كانا مبعث عناية أسرة أمنمحات في مدى مائتَي سنة تقريبًا.

وليس معروفًا على وجه التحقيق كيف تبوأت الأسرة الثالثة عشرة عرش مصر، وقد يكون للضعف الذي أصاب جبهتها الداخلية دخل في قيامها.

(٤) الأسرة الرابعة عشرة

وأعقبتها الأسرة الرابعة عشرة، وكلتا الأسرتين تخاذلت أمام الغزو الهكسوسي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.

١  برستد، المرجع السابق، ص٩٣.
٢  موريه: مصر الفرعونية، المرجع السابق، ص٢٢٧.
٣  أحمد بدوي: في موكب الشمس، ج٢، ص١٠٠.
٤  سليم حسن: مصر القديمة، ج٣، ص٢٨٥؛ وج١٠، ص١٤٤.
٥  بتلر: فتح العرب لمصر، ص٥٠١.
٦  عبد المنعم أبو بكر: إخناتون، ص٦٣.
٧  يقول الدكتور أحمد بدوي في كتابه «موكب الشمس، ج٢، ص١٣٠»: إن مسلة عين شمس إحدى خمس مسلات ما زالت في مكانها الأصلي، وأما باقي مسلات الفراعنة فقد نقلها الضعف والهوى السياسي إلى ما وراء البحار إلى لندن وباريس ونيويورك وروما واستانبول، وفي روما وحدها مسلات تسع.
٨  يسميه هيرودوت: سيزوستريس.
٩  برستد: تاريخ مصر من أقدم العصور، المرجع السابق، ص١١٩.
١٠  سليم حسن: مصر القديمة، ج٣، ص٢٨؛ وج١٠، ص١٤٤.
١١  موريه Moret: مصر الفرعونية، ص٢٥٩.
١٢  عن محاضرة ألقاها السير وليم ويلككس عن «خزان أسوان وبحيرة موريس»، ص٣.
١٣  عن محاضرة ألقاها السير وليم ويلككس «خزان أسوان وبحيرة موريس»، ص٣ و١٤.
١٤  برستد: تاريخ مصر من أقدم العصور، المرجع السابق، ص١٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤