الفصل الثامن

رمسيس الثاني وحروبه الدفاعية: الأسرة التاسعة عشرة (١٣٠٤–١١٩٥ق.م)

(١) رمسيس الأول

كان رمسيس الأول زميلًا لحور محب ووزيره الأول، وهو أول ملوك الأسرة التاسعة عشرة، ومنشؤُه في مدينة صان الحجر (تانيس) بشمال الدلتا.

وأهم عمل لرمسيس الأول أن بدأ في إنشاء بَهْو الأعمدة العظيم بالكرنك الباقي إلى الآن شامخًا في مكانه، والذي يُعد نسيج وحده بين آثار الفراعنة.

ولكنه لم يتمَّه، وترك إتمامه لابنه سيتي الأول وحفيده رمسيس الثاني.

ولم يعتزم رمسيس الأول امتشاق الحسام وتجريد جيشٍ لمحاربة الحيثيين أعداء مصر الذين كانوا يتحرشون بها ويغتصبون أملاكها، ولم يحرك ساكنًا لضعفه واعتلال صحته وتقدُّمه في السن وقِصَر مدة حكمه.

وترك هذه المهمة لخلفائه من بعده، ومات قبل أن يتمَّ عامين ونصفًا في الحكم.

وترجع شهرته إلى شخصيته، وإلى أنه أنجب سلسلة من الفراعنة العظام الذين كان لهم الشأن الكبير في تاريخ مصر القديمة، وهم:

(٢) سيتي الأول

هو ابن رمسيس الأول، وقد بدأ يستعيد بعض ما فقدته مصر في فلسطين وسورية، وكانت مملكة خيتا (الحيثيين) هي العدو اللدود لمصر في تلك الجهات.

وقد ظلت مصر تبسط سيادتها عليها، منذ منتصف القرن الخامس عشر ق.م في عهد تحوتمس الثالث حتى القرن الثاني عشر، أي إن سلطان مصر ظلَّ مَبسوطًا على سورية وفلسطين زُهاءَ أربعة قرون.

جهَّز سيتي الأول جيشًا لمحاربة الحيثيين، واستعاد أكثر من ثلث أملاك مصر الآسيوية ودانَتْ له فلسطين وفينيقية وجنوب سورية، ولم يكن يحارب الأهلين فيها، بل كان يحارب جنود خيتا (الحيثيين) وأعوانهم.

وعاد سيتي إلى مصر بعد انتصاره في الأقاليم الآسيوية فاستقبلته البلاد استقبال الظاهر، وذهب رجال الحكومة لمقابلته في مدينة ثارو (القنطرة)، واجتمعوا على رأس الجسر المشيَّد على القناة العذبة الموصلة النيل بالبحيرات المرة، وهناك شاهدوا الجنود المصريين العائدين من القتال يعلو وجوهَهم الغبار، وتبدو عليهم علامات التعَب يتقدمهم سيتي راكبًا مركبته الحربية، فهتف الجميع بحياته، ولما وصل إلى طيبة أقيمت له احتفالات عظيمة أخرى.

وانتهى الصراع بينه وبين الحيثيين بعقد معاهدة صداقة بينهما، ظلت مرعية الجانب حتى وفاة سيتي.

وكان حد الدولة المصرية الذي يفصلها عن مملكة خيتا عند نهر الكلب شمال بيروت.

وصد هجومًا لليبيين على حدود مصر الغربية، وانتصر عليهم.

وسار سيرة عدل وإصلاح، ونشطت في عهده الفنون والعمارة، واستمرَّ في العمل الذي بدأ به رمسيس الأول في تشييد بَهْو الأعمدة العظيم في الكرنك.

وقضى في الحكم نحو تسعة عشر عامًا.

(٣) رمسيس الثاني، أو الأكبر: حكم ٦٧ عامًا (من سنة ١٢٩٠ إلى ١٢٢٣ق.م)

يُعدُّ رمسيس الثاني من أعظم ملوك مصر، ويلي تحوتمس الثالث في المكانة والشهرة.

قضى في الحكم سبعة وستين عامًا، أي قرابة ثلاثة أرباع قرن، فهو من أطول الملوك عهدًا بالحكم، وقد ساعده ذلك على ذيوع شهرته بين ملوك مصر والعالم.

وهو ابن سيتي الأول، تولى الحكم وهو في نحو العشرين من عمره.

وكانت مملكة خيتا (الحيثيين) في عنفوان قوتها، لم تحترم المعاهدة التي أُبرمت بينها وبين سيتي الأول، بل اتخذتها ذريعة لتحصين ما وضعت يدَها عليه من الأقاليم السورية.

وزحف «موتللي» ملكها على وادي نهر العاصي، واستولى على «قادش» مركز النفوذ في سورية منذ عهد تحوتمس الثالث.

وصارت هذه المملكة خطرًا على مصر، وخاصةً بعد أن تم لها التغلبُ على مملكة ميثاني في أعالي الفرات.

تولى رمسيس الثاني الحكم، ورأى الحيثيين واضعين أيديهم على معظم الأقاليم السورية، يتحدون مصر ويناصبونها العداء، فجرَّد جيشًا لمحاربتهم.

واتبع رمسيس الثاني طريقة تحوتمس الثالث.

fig33
شكل ٨-١: رمسيس الثاني، أو الأكبر، في عنفوان شبابه، عن تمثاله الموجود بمتحف تورين بإيطاليا، ويُعتبر أجمل تمثال يزين هذا المتحف.

لم يكن رمسيس يحارب أهل هذه البلاد، بل كان يحارب ملك خيتا الذي استعبد أهلها، كانت حروبه ضد الحيثيين لا ضد السوريين مثلما كان يفعل تحوتمس الثالث في حروبه الآسيوية، فقد كانت مشبوبة على بقايا الهكسوس لا على المواطنين.

فبدأ أولًا بإخضاع الشاطئ البحري ليتخذه قاعدة حربية لحركاته؛ لأن المواصلات البحرية كانت أسهل وأسرع من البرية.

ثم زحف بجيشه من مدينة ثارو (القنطرة شرق)، وتولى بنفسه قيادة فيلق «آمون» في مقدمة الجيش، تتلوه فيالق: رع، وبتاح، وسوتخ، على التعاقب.

وكان يحتذي حذو تحوتمس الثالث، فسار في الطريق القديم الذي سلَكَه تحوتمس، ووصل إلى بلاد كنعان، واتجهَ شمالًا متِّبعًا الشاطئ حتى شمالي بيروت، ومن هناك توغَّل في الداخل حتى بلغ وادي نهر العاصي.

(٣-١) معركة قادش

التقى رمسيس الثاني بجيش الحيثيين في العام الخامس من حكمه بالقرب من «قادش» على نهر العاصي، وتُقدَّر قوات الجيش المصري بنحو عشرين ألف مقاتل عدا الجنود المرتزقة، وجيش «موتللي» ملك الحيثيين بمثل هذا العدد، وكلاهما عدد لا يستهان به في ذلك العصر.

وكانت المعركة في المرحلة الأولى منها نصرًا للحيثيين، ذلك أن رمسيس لم يكُن المكان الذي حشد فيه موتللي جنوده، ولم يخبره أحدٌ من ضُبَّاطه بهذا المكان، وصدَّق ما قاله بدوِيَّان جاسوسان ادَّعيا أنهما هرَبَا من جيش الحيثيين وزَعَما أن «موتللي» قد انسحب بجيشه شمالًا إلى حَلَب.

والواقع أن هذه القصة كانت خديعة لاستدراجِ رمسيس إلى التقدُّم شمالًا.

فاعتزم رمسيس أن يسرع خلف عدوه، وعبر على عجل، ولم ينتظر حتى تتجمَّعَ بقية جيشه، وسار لفتح قادش مطمئنًّا إلى خلوها من الحيثيين، وتقدَّم مصحوبًا بحرَسه الخاص وحده تاركًا خلفه فيلقَ آمون يتبعه، وكانت الفيالق المصرية الأخرى لا تزال متفرقة على مسافة ثمانية أو عشرة أميال من الطريق.

وعلم رمسيس أخيرًا أن «موتللي» حشد قواته خلف قادش، في الوقت الذي كانت قوات رمسيس لم تعبر بعد نهر العاصي.

وعبر «موتللي» النهر جنوبي قادش، قائدًا جيشه اللجب، فشطر فيلق رع شطرين.

وكانت قوات «موتللي» راكبة مركباتها الحربية التي تزيد على الألفين وخمسمائة مركبة، بينما كان فيلق رع مكونًا من المشاة فقط.

وقد ظفر «موتللي» بالقسم الجنوبي من هذا الفيلق، أما جنود القسم الآخر فارتدُّوا إلى معسكر رمسيس ودخلوه مبهوتين من المفاجأة، ثم اقترب الحيثيون من المصريين واتسعت مقدمتهم حتى طوَّقت المعسكر المصري تمامًا.

fig34
شكل ٨-٢: خريطة معركة قادش، مقتبسة من خريطة برستد.

وفي المرحلة الثانية من المعركة تحوَّل الموقف، وكان النصر حليف رمسيس ذلك أنه على عِظم الخطر الذي أحدق بجيشه وبُعْد المسافة بينه وبين بقية هذا الجيش، فقد هجم بشجاعة نادرة على الحيثيين المتدفقين عليه وركز هجومَه على القسم الشرقي من قُوَّات الأعداء فأوقع في قلوبهم الرعب، وألقاهم في النهر تحت أعين موتللي الذي وقف على الشاطئ المقابل مصحوبًا بثمانية آلاف من مُشاته.

وساق القدر إلى رمسيس حادثًا رجَّح كفته في ميدان المعركة؛ ذلك أن الحيثيين الذين أحاطوا بالمصريين من الجنوب والغرب لم يتابعوا هجومهم لاشتغالهم بالنَّهب والسلب، فقد أخذوا يسلبون ما وصلت إليه أيديهم من مُهمَّات المصريين ومتاعهم، بدلًا من الاستمرار في تعقُّبهم، واتفق في وقت اشتغالهم بالنهب أن وصلت إمدادات حربية مصرية آتية من الشاطئ، وهي غير الفيالق التي يتكون منها جيش رمسيس، فانقضَّت هذه الإمدادات على الحيثيين على غِرة وأبادتهم عن آخرهم.

فكان ثبات رمسيس الثاني أمام المفاجأة الأولى وشجاعته في صدِّ هُجوم الحيثيين، ووصول هذه الإمدادات واشتراكها في القتال، كل هذه الأسباب قد جعلت المعركة في مرحلتها التالية نصرًا مؤزَّرًا للجيش المصري.

قال برستد في سياق وصفه للمعركة: «والمعروف أن المصريين دافعوا عن أنفسهم دفاع الأبطال حتى اضطرَّ «موتللي» أن يمد جنده بآخر رديف، وهو المكون من ألف مركبة حربية مسلحة، وبالرغم من هجوم رمسيس على أعدائه ست مرات؛ فإن «موتللي» لم يرسل جنده المشاة الثمانية آلاف الذين كانوا معه على الشاطئ الشرقي لنهر العاصي؛ ولذلك لم يحارب من الحيثيين إلا قسم المركبات الحربية، أما المشاة فلم يشتركوا في الكفاح، ويلاحظ أن مقاومة رمسيس دامت حوالي ثلاث ساعات كان يراقب بلَهْفةٍ في أثنائها، وصول قواته الجنوبية التي لم تكن عبرت النهر بعد، ولما مالت الشمس للمغيب لاحتْ في أفق السماء رءوس حراب فيلق بتاح لامعة مسرعة مكفهرة، فابتسم لها محيَّا رمسيس؛ إذ علم بقرب نجاته. فوقع الحيثيون بين قوتين مصريتين، واضطروا أن ينسحبوا إلى قادش بعدما تكبدوا خسائر جسيمة.»١

وإذ أدرك ملك الحيثيين عِظم الخسارة لحقت بجيشه، فقد أرسل إلى رمسيس خطابًا يطلب فيه الصلح، فوافق رمسيس على هذا الطلب، ووقف القتال.

لم تكن معركة قادش معركة فاصلة، ولم يستطع رمسيس أن يستولي على قادش ذاتها، واتفق الطرفان على أن يحترم كل منهما حدود الآخر، وهذا يدلك على قوة مملكة الحيثيين.

وعاد رمسيس إلى مصر، واقتصرت الدولة المصرية في آسيا على فلسطين ولبنان وجزء صغير من سورية.

(٣-٢) معاهدة صلح وعدم اعتداء بين مصر وخيتا (سنة ١٢٨٠ق.م)

وثابر رمسيس على حروبه في آسيا عدة أعوام، ثم تُوفِّي موتللي ملك الحيثيين فخلفه أخوه «خوتوسيل»، ورأى من الحكمة أن يحارب مطامع آشور، فآثر التحالف مع مصر، وعقد مع رمسيس معاهدة صلح وعدم اعتداء.

وتُعد هذه المعاهدة أقدم وثيقة من نوعها في تاريخ الشرق القديم، بل في التاريخ الدولي العام.

وتوثقت الصداقة بين مصر وخيتا وقتًا ما.

وأكدتها صلة المصاهرة، فقد زوَّج ملك خيتا «خاتوسيل» ابنتَه لرمسيس الثاني، وجاء زائرًا لمصر ومعه ابنتُه، وحضر الاحتفال البهيج في طيبة بتأهيلها لرمسيس.

على أن رمسيس في حروبه الآسيوية لم يصِلْ إلى ما بلغه تحوتمس الثالث.

وبالرغم من هجوم سيتي الأول، وحروب رمسيس الثاني، لم تُجاوزْ حدود مصر الآسيوية فلسطين وسورية الجنوبية، واستحال على المصريين أن يحكموا سورية ثانيةً حكمًا مستمرًّا.

ويبدو الفرق جليًّا بين رمسيس الثاني وتحوتمس الثالث، فتحوتمس الثالث كان من أبطال الحرب والكفاح، على حين كان رمسيس أميل إلى السلم، ولم يكن على كفاءة تحوتمس في قيادة المعارك، فإن تسرُّعَه في معركة قادش كاد يورده مورد الهلاك لولا تدخُّل القدر في المعركة.

وقد تزوج رمسيس الثاني في حياته الطويلة بزوجات كثيرات، عدا المحظيات والزوجات الثانويات، كما تزوج من ثلاث من بناته، ورُزق بأولاد بلغ عددهم ٧٩ من الذكور و٥٩ من البنات، فزاد أولاده وبناته على ذرية أي ملك مصري آخر.٢

وعظم النفوذ السامي بمصر وقتئذٍ، ثم ظهر الأوربيون لأول مرة في تاريخ مصر القديمة، فأنزلوا جنودهم على ساحل غربي الدلتا، واتحدوا مع الليبيين على اقتحام الوجه البحري، فصدَّهُم جيش «منفتاح» وأبعدَهم إلى بلادهم الأصلية كما سيرد ذلك في الفصل التاسع، ثم اضطربت أحوال القطر المصري بعد ذلك فسقطت الأسرة التاسعة عشرة.

وكانت طيبة عاصمة العالم المتمدن في ذلك العصر، وشغلت هذا المركز قبل روما بألف عام.٣

(٣-٣) ثورة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢م (تكريم رمسيس الثاني)

في سنة ١٩٥٥م نقلت حكومة الثورة تمثال رمسيس الثاني الضخم الذي كان ملقى على الثرى في ميت رهينة منذ آلاف من السنين، وأقامته على قاعدة جرانيتية فخمة وسط ميدان من أكبر ميادين العاصمة، وهو ميدان باب الحديد، وأسمته ميدان رمسيس، وأسْمَت الشارع المؤدِّيَ له شارع رمسيس، فصار هذا التمثال رمزًا لعظمة مصر القديمة، يشاهده القادمون إلى العاصمة من داخل القطر وخارجه.

وإن في إقامته في هذا المكان تكريمًا وتقديرًا لرمسيس العظيم.

(٣-٤) أمجاد رمسيس الثاني البنائية

إنها منشآت ضخمة شيَّدَها رمسيس الثاني في مناطق عديدة بالوجه القبلي والوجه البحري، والنوبة.

ولا يوجد ملك من ملوك مصر له مثل هذا العدد من العمائر الشاهقة، ولعلها كانت ولم تزَلِ السببَ في ذيوع اسمه ورفعة شأنه بين ملوك مصر قاطبة.

فقد أسس مدينة «بر رمسيس» بشمال الدلتا، ومكانها الآن على أرجح الآراء في «قنتيرة» الحالية بمركز فاقوس الآن.

fig35
شكل ٨-٣: معبد الرمسيوم بالقرنة (بالبر الغربي للنيل).

وحسبنا أن نذكر معابدَه العديدة التي شيَّدَها، تلك المعابد التي هي من مفاخر مصر القديمة، وكان لها الفضل الأكبر في تخليد اسم رمسيس، وهي رمزٌ خالد لِما كانت عليه مصر من حضارة وعظمة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.

ولقد شيد لنفسه معبدًا ضخمًا رائعًا بالبرِّ الغربي للنيل بطيبة يُعرف بالرمسيوم (شكل ٨-٣)، وصرحًا شامخًا بمعبد القصر.
وأتم تشييد البهو الكبير ذي العمد العظيمة في معبد الكرنك، وهو الذي بدأ إنشاؤه في عهد رمسيس الأول ثم سيتي الأول، وأتمه رمسيس الثاني، ويُعد من أعظم عمائر العالم القديمة والحديثة، والباقي إلى اليوم، ويبلغ ارتفاع أوسط هذا البهو أربعة وعشرين مترًا، وسقفه مرفوع على عمد ضخمة عددها ١٣٤ عمودًا يتجاوز قطر الواحد منها عشرة أمتار (انظر شكل ٨-٤).
fig36
شكل ٨-٤: البهو الكبير ذو العمد العظيمة بالكرنك، ويبلغ ارتفاع الأعمدة العظيمة المحلاة تيجانها بأكمام الزهر ٨٠ قدمًا، ومحيطها ٣٣ قدمًا، أما الأعمدة الواطئة المنحوتة تيجانها على هيئة البراعم (زهر النبات قبل أن يتفتح)، فيبلغ ارتفاعها نحو ٤٣ قدمًا.
يقول «برستد» يصف بهو الأعمدة الكبير بالكرنك: «إن هذه الساحة أعظم العمارات تأثيرًا في النفوس، وقد وافق على هذا الأستاذ رسكن Ruskin حيث قال: «إن أقل ما يقال عن هذه الساحة أنها ضخمة شاهقة لدرجة تؤثِّرُ كثيرًا في نفس ناظرها، فإذا وقفت بجوار عُمُدها وألقيتَ بنظرك على تلك العمد العديدة الشامخة المعتبرة أعظم أعمال البشر، وأمعنت في رءوسها الباسقة الحاملة لصحن المعبد، نقول: إذا لاحظت أن مسطح قمة كل عمود يسع ما يقرب من مائة رجل، وأن جُدُر هذه الساحة تسع فيما بينها كنيسة نوتردام Notre Dame بباريس ويبقى منها مكان فسيح، وإذا نظرت إلى باب ذلك المعبد العظيم البالغ طول عتبته أربعين قدمًا وزنتها مائة وخمسين طنًّا تقريبًا. إذا تأملت كل ذلك لا يسعك إلا الإعجاب والإشادة بأعمال ذلك العصر الذي شيد رجاله أعظمَ ساحةٍ ذات عمد أقامها البشرُ على ظهر البسيطة إلى الآن.٤ وإذا كان تأثر السائح من ضخامة هذه الساحة أكثر من تأثره بجمالها ورونقها، فليذكر أن العمال الذين شيَّدُوها قد شيدوا أيضًا معبد رمسيس المعروف بالرمسيوم الذي لا يقل في الجمال والكمال عن أحسن عمارات الأسرة الثامنة عشرة.»٥

(أ) معبدا أبو سمبل

وشيد رمسيس الثاني معابد في النوبة.

أهمها معبدا «أبو سمبل»٦ أعظم وأجمل آثار رمسيس الثاني بالنوبة، وقد نُحتا في الصخر الذي يتكون منه الجبل بدلًا من إقامتهما من الحجر، فجاءا آية في الروعة والضخامة والخلود على الزمن، ويقعان على شاطئ النيل.
fig37
شكل ٨-٥: التمثالان الهائلان لرمسيس الثاني جالسًا، بمدخل معبد «أبو سمبل» الكبير، ارتفاع كل منهما عشرون مترًا (انظر صورة مدخل المعبد بتماثيله الأربعة شكل ٨-٦).
fig38
شكل ٨-٦: واجهة معبد «أبو سمبل» الكبير، وعلى كل جانب من مدخل المعبد تمثالان هائلان لرمسيس الثاني جالسًا.
وعلى مدخل المعبد الكبير من اليمين تمثالان هائلان لرمسيس الثاني جالسًا، يبلغ ارتفاع كل منهما عشرين مترًا (شكل ٨-٥)، وفي الجانب الأيسر من مدخل المعبد تمثالان هائلان آخران بنفس الارتفاع، أحدهما قد كُسر جزؤه العلوي (شكل ٨-٦).

وقد بناه رمسيس لعبادة المعبود «حور أختي»، ويبلغ ارتفاع واجهة هذا المعبد ٣٣ مترًا، وفوق بوابة المعبد نُحت تمثال المعبود «حور أختي»، وبجانب أرجل التماثيل الهائلة الأربعة على المدخل أو بينها، توجد تماثيل لعائلة رمسيس الثاني، كأمه وزوجته المفضلة نفرتاري، وبعض بناته وأبنائه.

وعندما يدخل الزائر مدخل المعبد يشاهد صالة الأعمدة الضخمة التي تحتوي على ثمانية أعمدة، على الوجه الأمامي لكل منها تمثال ضخم لرمسيس الثاني.

أما سقف الصالة فمُزيَّن تارةً بالصقر المجنَّح وتارةً بالنجوم، وعلى جدران صالة الأعمدة مناظر معركة «قادش» التي نشبت بين رمسيس والحيثيين، ويشاهد الجيش المصري وهو يزحف نحو المدينة، والمعسكر المصري وقد اكتظَّ بالجند والمركبات الحربية، ومنظر الأسيرين اللذين أمسكت بهما القوات المصرية وهما يُجلدان ليَعترفا بمواقع جيش الحيثيين، ثم رمسيس الثاني وهو يعقد مجلس الحرب، ثم التحام الجيشين، وانقضاض رمسيس الثاني بمركبته الحربية على العدو الذي أحاط به، كما يشاهد الزائر مدينة قادش والجيش الحيثي وهو يتقهقر.

ويلي صالة الأعمدة صالة أخرى تحتوي على أربعة أعمدة مربعة، وفي جوانب هذه القاعة عدة غُرَف لحفظِ القرابين، ويلي ذلك قدس الأقداس حيث تشاهد في نهايته التماثيل الأربعة لبتاح وآمون ورمسيس وحور أختي، وتبلغ المسافة بين هذه التماثيل ومدخل المعبد ٦٣ مترًا.

fig39
شكل ٨-٧: واجهة معبد «أبو سمبل» الصغير.
fig40
شكل ٨-٨: معبد «أبو سمبل» الكبير والصغير، على شاطئ النيل، الصغير إلى اليمين والكبير إلى اليسار.
أما المعبد الصغير فقد بناه رمسيس لعبادة المعبودة «حتحور»، ويُعرف بالمعبد الصغير أو معبد نفرتاري، وتقع على مسافة نحو ١٥٠ مترًا من شمال المعبد الكبير، وقد نحته رمسيس الثاني أيضًا في الصخر، ويزين واجهة هذا المعبد ستة تماثيل، أربعة منها لرمسيس الثاني، والاثنان الآخران لزوجته المُفضَّلة الملكة نفرتاري (شكل ٨-٧).

وقد استرعت هذه الآثار الخالدة أنظارَ العالم، وبخاصة بعد أن تقرر إنفاذ مشروع السدِّ العالي، ويؤدي هذا المشروع أن تغمر مياه النيل مساحات واسعة من الأراضي، ومنها البلاد القائمة فيها هذه الآثار، فاهتمَّت الهيئات العلمية في مختلف البلدان بضرورة العمل على إنقاذ تلك الآثار؛ لأنها ليست ملكًا لمصر وحدها بل تخصُّ التراث الحضاري للإنسانية جمعاء.

fig41
شكل ٨-٩: الملكة نفرتاري، زوجة رمسيس الثاني المفضلة، كما تبدو منقوشة على جدران معبد «أبو سمبل» الكبير.

وكان رمسيس يعامل العمال الذين اشتغلوا في إقامة هذه المباني الضخمة معاملة إنسانية نعموا في خلالها برغد العيش، وعاشت طبَقَات الشعبِ في عهده عيشة رخاء.

وتُوفِّي رمسيس الثاني حوالي سنة ١٢٢٥ق.م، وقد بلَغَ من العُمر نيفًا وتسعين سنة، وكانت وفاته في السنة السابعة والستين من حُكمه، وقد استمرَّ عشرة فراعنة يسمُّون أنفسهم باسمه بعد وفاته.

fig42
شكل ٨-١٠: صخور النوبة على شاطئ النيل.
١  برستد: تاريخ مصر من أقدم العصور، المرجع السابق، ص٢٩٨.
٢  أحمد فخري: مصر الفرعونية، ص٣٥٦.
٣  موريه Moret: مصر الفرعونية، ص٣٦٩.
٤  برستد: تاريخ مصر من أقدم العصور، المرجع السابق، ص٣٠٣.
٥  برستد: تاريخ مصر من أقدم العصور، المرجع السابق، ص٣٠٣.
٦  على بُعد ٢٨٠ كيلومترًا جنوبي أسوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤