الاجْتِماعيَّات

(١) حريق ميت غمر (نشرت في ٧ مايو سنة ١٩٠٢م)

سائِلوا اللَّيْلَ عنهمُ والنَّهارا
كيف باتَتْ نِساؤُهُمْ والعَذارى
كيف أمْسَى رَضيعُهُمْ فَقَدَ الأُمْـ
ـمَ وكيفَ اصطلى مع القَوْمِ نارَا
كيف طاحَ العَجوزُ تحتَ جدارٍ
يَتَداعى وأسْقُفٍ تَتجارى
رَبِّ إنّ القضاءَ أنْحى عليهم
فاكشف الكَربَ واحجُبِ الأقْدارَا
ومُرِ النَّارَ أنْ تَكُفَّ أذاها
ومُرِ الغَيْثَ أنْ يَسيلَ انْهِمارا
أينَ طوفانُ صاحِبِ الفُلْكِ يَرْوي
هذه النّارَ؟ فهي تَشكو الأُوَارا
أشْعَلَتْ فحْمَةَ الدَّياجي فباتَتْ
تَملأ الأرْضَ والسَّماءَ شَرارا
غَشِيَتْهُمْ والنَّحْسُ يَجري يَمينًا
ورَمَتْهُمْ والبُؤْسُ يَجري يَسارا
فأغارَتْ وأوْجُهُ القَومِ بيضٌ
ثمّ غارَتْ وقد كَسَتْهُنَّ قارا
أكَلَتْ دُورَهُمْ فلمّا استَقَلَّتْ
لم تُغادِرْ صِغارَهُمْ والكِبارَا
أخْرَجَتْهُمْ من الدِّيارِ عُراةً
حَذَرَ المَوْتِ يَطْلُبونَ الفِرارا
يلْبَسونَ الظَّلامَ حتّى إذا ما
أقْبَلَ الصُّبْحُ يَلْبَسون النَّهارا
حُلَّة لا تَقيهِمُ البَرْدَ والحَرْ
رَ ولا عَنْهُمُ تَرُدُّ الغُبارا
أيُّها الرَّافِلون في حُللِ الوَشْـ
ـيِ يَجرُّونَ للذُّيولِ افْتِخارا
إنّ فوْقَ العَراءِ قومًا جِياعًا
يَتوارَوْنَ ذِلَّةً وانكِسارا
أيُّهذا السَّجينُ لا يَمْنَع السِّجْـ
ـنُ كَريمًا مِنْ أنْ يُقيلَ العِثارا
مُرْ بألْفٍ لهم وإنْ شئْتَ زِدْها
وأجِرْهُمْ كما أجَرْتَ النَّصارى
قد شَهِدْنا بالأمْسِ في مِصْرَ عُرْسًا
مَلأ العَيْنَ والفُؤادَ ابْتِهارا
سالَ فيه النُّضارُ حتّى حَسِبْنا
أنّ ذاك الفِناءَ يَجري نُضارا
باتَ فيه المَنَعَّمُونَ بلَيْلٍ
أخْجَلَ الصُّبْحَ حُسْنُه فتَوارَى
يَكْتَسون السُّرورَ طَوْرًا وطَوْرًا
في يَد الكَأْسِ يَخْلَعُون الوَقارا
وسَمِعنا في (ميت غَمْرٍ) صِياحًا
مَلأ البَرَّ ضَجّةً والبِحارا
جَلَّ مَنْ قَسَّمَ الحُظوظ فهذا
يَتَغَنَّى وذاكَ يَبْكي الدِّيارا
رُبَّ ليْلٍ في الدَّهْرِ قَدْ ضَمَّ نَحْسًا
وسُعودًا وعُسْرةً ويَسارا

(٢) إلى الأرض (بركان مارتنيك سنة ١٩٠٢م)

ألْبَسوكِ الدِّماءَ فوْقَ الدِّماءِ
وأرَوْكِ العِداءَ بعْدَ العِداءِ
فلَبِسْتِ النَّجيعَ من عَهْدِ قابيـ
ـلَ وشاهَدْتِ مَصْرَعَ الأبْرياءِ
فلَكِ العُذْرُ إنْ قَسَوْتِ وإنْ خُنْـ
ـتِ وإنْ كُنْتِ مَصْدَرًا للشَّقاءِ
غَلِطَ النّاسُ، ما طغي جَبَلُ النَّا
رِ بإرْسالِ نَفْثَةٍ في الهواءِ
أحْرَجُوا صَدْرَ أمِّه فأراهُمْ
بعضَ ما أضْمَرَتْ مِنَ البُرَحاءِ
أسْخَطوها فصابَرَتْهمُ زَمانًا
ثمّ أنْحَتْ عليهمُ بالجَزاءِ
أيّها الناسُ إنْ يَكُنْ ذاك سُخْطُ الـ
ـأرْضِ، ماذا يكونُ سُخْطُ السَّماءِ؟
إنّ في عُلْوُِ مَسْرَحًا للمَقاديـ
ـرِ وفي الأرضِ مَكْمَنًا للقَضاءِ
فاتَّقوا الأرْضَ والسَّماءَ سَواءً
واتَّقوا النّارَ في الثَّرَى والفَضاءِ

(٣) اللغة العربيّة تنعِي حظّها بين أهلها (نُشرت في سنة ١٩٠٣م)

رَجَعْتُ لنَفسي فاتَّهَمْتُ حَصاتي
ونادَيْتُ قَوْمي فاحْتَسَبْتُ حَياتي
رَمَوْني بعُقْمٍ في الشَّبابِ وليْتَني
عَقِمْتُ فلمْ أجْزَعْ لقَوْلِ عُداتي
وَلَدْتُ ولمَّا لم أجِدْ لعَرائسي
رِجالاً وأكْفاءً وأدْتُ بَناتي
وسِعْتُ كِتابَ اللهِ لَفْظًا وغايةً
وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضيقُ اليومَ عن وَصْفِ آلةٍ
وتَنْسيقِ أسماءٍ لمُخْتَرعاتِ
أنا البَحْرُ في أحشائه الدُّرُّ كامِنٌ
فهل سَألوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتي
فيا وَيْحَكُمْ أبلى وتَبْلى مَحاسِني
ومنكمْ وإنْ عزَّ الدواءُ أُساتي
فلا تَكِلوني للزّمانِ فإنّني
أخافُ عليكمْ أنْ تحينَ وَفاتي
أرى لرِجالِ الغَرْبِ عِزًّا ومَنْعَةً
وكم عَزَّ أقوامُ بعِزِّ لُغاتِ
أتَوْا أهْلَهُمْ بالمُعجزِاتِ تَفَنُّنًا
فيا لَيْتكُمْ تأتونَ بالكَلِماتِ
أيُطْرِبُكُمْ من جانِبِ الغَرْبِ ناعِبٌ
يُنادي بوأْدي في ربيع حياتي
ولو تَزْجُرونَ الطَّيْرَ يومًا عَلِمْتُمُ
بما تحتَه من عَثْرَةٍ وشَتاتِ
سَقَى اللهُ في بطْنِ الجزيرةِ أعْظُمًا
بما تحتَه من عَثْرَةٍ وشَتاتِ
سَقَى اللهُ في بطْنِ الجزيرةِ أعْظُمًا
يَعِزُّ عليها أن تَلينَ قَناتي
حَفِظْنَ وِدادي في البِلى وحَفِظْتُه
لهنّ بقلْبٍ دائمِ الحَسَراتِ
وفاخَرْتُ أهل َالغَرْبِ والشَّرقُ مُطْرِقٌ
حَياءً بتلكَ الأعْظُمِ النَّخِراتِ
أرى كلَّ يومٍ بالجَرائِد مَزْلَقًا
مِنْ القبْرِ يُدنيني بغَيرِ أناةِ
وأسْمَعُ للكُتابِ في مِصْرَ ضَجّةً
فأعْلَمُ أنّ الصّائحينَ نُعاتي
أيَهْجُرُني قوْمي — عفا اللهُ عنهُمُ —
إلى لُغَةٍ لم تَتّصِلْ برُواةِ
سَرَتْ لُوثَةُ الإفْرَنْجِ فيها كما سَرَى
لُعابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فجاءَتْ كثَوْبٍ ضمَّ سَبْعين رُقْعَةً
مُشكَّلَةَ الألْوانِ مُخْتَلِفاتِ
إلى مَعْشَرِ الكُتّابِ والجَمْعُ حافِلٌ
بَسَطْتُ رَجائي بعْدَ بَسْطِ شَكاتي
فإمّا حَياةٌ تَبْعَثُ المَيْتَ في البِلى
وتُنْبِتُ في تِلْكَ الرُّمُوسِ رُفاتي
وإمّا مَماتٌ لا قيامَةَ بَعْدَهُ
مَماتٌ لَعَمْري لم يُقَسْ بَمماتِ

(٤) زواج الشيخ علي يوسف صاحب (المؤيّد) (نشرت في سبتمبر سنة ١٩٠٤م)

قالها ينعي فيها على المصريين بعض العيوب الاجتماعيّة، وما يراه من فوضى الرأي وقلّة الثبات عليه

حَطَمْتُ اليَراعَ فلا تَعْجَبي
وعِفْتُ البيانَ فلا تَعْتُبِي
فما أنتِ يا مصرُ دارَ الأديب
ولا أنتِ بالبَلَدِ الطَّيِّبِ
وكم فيكِ يا مصرُ من كاتِبٍ
أقالَ اليَراعَ ولمْ يَكْتُبِ
فلا تَعْذُليني لهذا السُّكوت
فقد ضاقَ بي منكِ ما ضاقَ بي
أيُعْجِبُني منك يومَ الوِفاق
سُكوتُ الجَمادِ ولَعْبُ الصَّبي؟
وكَمْ غَضب الناسُ من قَبْلِنا
لسَلْبِ الحُقوقِ ولمْ نَغْضَبِ
أنابِتَةَ العَصْرِ إنّ الغريب
مُجِدٌّ بِمصْرَ فلا تَلْعَبي
يقولون: في النَّشْءِ خيرٌ لنا
ولَلنَّشْءُ شَرٌّ من الأجْنَبي
أفي (الأزْبَكِيّةِ) مَثْوى البَنين
وبَيْنَ المَساجِدِ مَثْوى الأبِ؟
(وكم ذا بمِصْرَ من المُضْحِكات)
كما قال فيها (أبو الطَّيِّبِ)
أمُورٌ تَمُرُّ وعَيْشٌ يُمِرّ
ونحن مِن اللَّهْوِ في مَلْعَبِ
وشَعْبٌ يَفِرُّ من الصالِحات
فِرارَ السَّليمِ من الأجْرَبِ
وصُحْفٌ تَطِنُّ طَنينَ الذُّباب
وأخْرى تَشُنُّ على الأقْرَبِ
وهذا يَلوذُ بقَصْرِ الأمير
ويَدعو إلى ظِلِّه الأرْحَب
وهذا يَلوذُ بقصْرِ السَّفير
ويُطْنِبُ في وِرْدِهِ الأعْذَبِ
وهذا يَصيحُ معَ الصائحين
على غيرِ قَصْدٍ ولا مَأْرَبِ
وقالوا: دخيلٌ عليه العَفاء
ونِعْمَ الدَّخيلُ على مَذْهَبي
رآنا نِيامًا ولمّا نُفِقْ
فشَمَّرَ للسَّعْي والمَكْسَبِ
وماذا عليه إذا فاتَنا
ونَحْنُ على العَيْشِ لم نَدْأَبِ
ألِفْنا الخُمولَ ويا لَيْتَنا
ألِفْنا الخُمولَ ولم نَكْذِبِ
وقالوا: (المؤيَّدُ) في غَمْرَةٍ
رَماهُ بها الطَّمَعُ الأشْعَبي
دَعاهُ الغرامُ بسِنِّ الكُهول
فجُنَّ جُنونًا ببِنْتِ النَّبي
فضَجَّ لها العَرْشُ والحامِلُوه
وضَجَّ لها القَبْرُ في يَثْرِبِ
ونادى رجالٌ بإسقاطِه
وقالوا: تَلوَّنَ في المَشْرَبِ
وعدُّوا عليه من السَّيِّئات
ألوفًا تَدورُ مع الأحْقُبِ
وقالوا لَصيقٌ ببَيْتِ الرَّسول
أغارَ على النَّسَبِ الأنْجَبِ
وزَكّى (أبو خَطْوَةِ) قَولَهُمْ
بحُكْمٍ أحدَّ من المَضْرِبِ
فما للتّهاني على دارِه
تَساقَطُ كالمَطَرِ الصَّيِّبِ؟
وما للوُفُودِ على بابِه
تَزُفُّ البشائرَ في مَوْكِبِ؟
وما للخَليفةِ أسْدى إليه
وِسامًا يَليقُ بصَدْرِ الأبي؟
فيا أمّةً ضاقَ عن وَصْفِها
جَنانُ المُفَوَّهِ والأخْطَبِ
تَضيعُ الحقيقةُ ما بَيْننا
ويَصْلَى البَريءُ مع المُذْنِبِ
ويُهْضَمُ فينا الإمامُ الحكيمْ
ويُكرَمُ فينا الجَهُولُ الغَبي
على الشَّرْقِ منّي سَلامُ الوَدُود
وإنْ طأطأ الشَّرْقُ للمَغْرِبِ
لقد كان خِصْبًا بجَدْبِ الزَّمان
فأجْدَبَ في الزَّمَنِ المُخْصِبِ

(٥) إلى رجال الدنيا الجديدة (في ٢٦ مايو سنة ١٩٠٦م)

أنشدها في الحفل الذي أقامته كلّيّة البنات الأمريكيّة بمصر لتوزيع الشهادات على خرّيجاتها

أيْ رِجالَ الدُّنيا الجديدَةِ مُدُّوا
لرجالِ الدُّنيا القديمةِ باعَا
وأفِيضوا عليهمُ من أياديـ
ـكُمْ عُلومًا وحِكْمةً واختراعا
كلَّ يوْمٍ لكم روائِعُ آثا
رٍ تُوالُونَ بينَهُنَّ تباعا
كم خَلَبْتُمْ عُقولَنا بعَجيبٍ
وأمَرْتُمْ زَمانَكُمْ فأطاعا
وبَذَرْتُمْ في أرْضنا وزَرَعْتُمْ
فرأيْنا ما يُعْجِبُ الزُّرّاعا
ولَمَحْنا من نُورِكُمْ في نواصي
حَفْلَة اليَوْمِ لمْعَةً وشُعاعا
وشَهِدْنا من فَضْلِكُمْ أثرًا فيـ
ـها يَروقُ العُيونَ والأسْماعا
لَيْتَنا نَقْتَدي بكُمْ أو نُجاريـ
ـكُمْ عسى نَسْتَرِدُّ ما كان ضَاعا
إنّ فينا — لَوْلا التَّخاذُلُ — أبْطا
لا إذا ما هُمُ استَقَلُّوا اليَراعا
وعُقولاً لولا الخُمولُ تَوَلا
ها لفاضَتْ غرابَةً وابتِداعا
ودُعاةً للخَيْرِ لو أنْصفوهُمْ
مَلئوا الشَّرْقَ عِزّةً وامتِناعا
كاشِفَ الكَهْرباءِ ليْتَكَ تُعْنَى
باختراعٍ يَروضُ منّا الطِّباعا
آلةٍ تَسْحَقُ التَّواكُلَ في الشَّرْ
قِ وتُلْقي عنِ الرِّياءِ القِناعا
قد مَلِلْنا وُقوفَنا فيه نَبكي
حَسَبًا زائِلاً ومَجْدًا مُضاعا
وسَمِعْنا مَقالَهُمْ: كان زَيْدٌ
عَبْقَريًّا وكان عَمْرٌو شُجاعا
لَيْتَ شِعْري مَتى تُنازعُ مِصْرٌ
غَيْرَها المَجْدَ في الحياةِ نِزاعا
ونراها تُفاخِرُ الناسَ بالأحْـ
ـياءِ فَخْرًا في الخافِقَيْنِ مُذاعَا
(أرض كُولُمْبَ) أيّ نَبْتَيْكِ أغْلى
قيمةً في المَلاَ وأبْقى مَتاعا
أرِجالٌ بهمْ مَلَكْتِ المَعالي
أمْ نُضارُ به مَلَكْتِ البِقاعا
لا عَداكِ السَّماءُ والخِصْبُ والأمْـ
ـنُ ولا زِلْتِ للسَّلامِ رِباعا
طالِعي الكَوْنَ وانظُري ما دَهاهُ
إنّ رُكْنَ السَّلامِ فيه تَداعَى

(٦) مدرسة مصطفى كامل

أنشدها في الحفل الذي أقامته المدرسة لتوزيع الجوائز على المتقدّمين من تلاميذها في ٣٠ نوفمبر سنة ١٩٠٦م

سَمِعْنا حَديثًا كقَطْرِ النَّدى
فجَدَّد في النَّفْسِ ما جَدَّدا
فأضْحَى لآمالِنا مُنْعِشًا
وأمْسى لآلامِنا مُرْقِدا
فَدَيْناكَ يا شَرْقُ لا تَجْزَعَنْ
إذا اليومُ وَلَّى فراقِبْ غَدَا
فكم مِحْنَةٍ أعْقَبَتْ مِحْنَةً
ووَلَّتْ سِراعًا كَرَجْعِ الصَّدى؟!
فلا يُيْئِسَنَّكَ قِيلُ العُداة
وإنْ كان قيلاً كحَزِّ المُدَى
أتُودَعُ فيكَ كُنوزُ العُلوم
ويَمْشي لكَ الغَرْبُ مُسْتَرْفِدا؟
وتُبْعَثُ في أرْضِكَ الأنْبياء
ويأتي لك الغَرْبُ مُسْتَرْشِدا؟
وتَقْضي عليكَ قُضاةُ الضَّلال
طِوالَ اللَّيالي بأنْ تَرْقُدا؟
أتَشْقَى بعَهْدٍ سَما بالعُلوم
فأضحَى الضَّعيفُ بها أيِّدا؟
إذا شاء بَزَّ السُّها سِرَّه
وأدْرَكَ مِنْ جَرْيِه المَقْصِدا
وإنْ شاءَ أدْنَى إليه النُّجوم
فناجَى المَجَرَّةَ والفَرْقَدا
وإنْ شاءَ زَعْزَعَ شُمَّ الجِبال
فخَرَّتْ لأقدامِه سُجَّدا
وإنْ شاءَ شاهَدَ في ذَرَّةٍ
عوالِمَ لمْ تَحْيَ فيها سُدَى
زمانٌ تُسَخَّرُ فيه الرِّياح
ويَغْدُو الجَمادُ به مُنْشِدا
وتَعْنُو الطَّبيعةُ للعارِفين
بمَعْنَى الوُجودِ وسِرِّ الهُدى
إذا ما أهابُوا أجابَ الحَديد
وقامَ البُخارُ له مُسْعِدا
وطارَتْ إليهمْ مِنَ الكَهْرَبا
بُروقٌ على السِّلْكِ تَطْوي المَدَى
أيَجْمُلُ مِن بَعْدِ هذا وذاك
بأنْ نَسْتَكينَ وأنْ نَجْمُدا
وها أمَّةُ (الصُّفْرِ) قد مَهَّدَتْ
لنا النَّهْجَ فاستَبَقوا المَوْرِدا
فيأيُّها الناشِئُون اعمَلوا
على خَيْر مِصْرٍ وكونوا يَدَا
سَتُظْهِرُ فيكمْ ذواتُ الغُيوب
رِجالا تكونُ لمصرَ الفِدا
فيا ليتَ شِعْري مَنْ مِنْكُمُ
إذا هيَ نادَتْ يُلبِّي النِّدا
لكَ اللهُ يا (مُصْطفى) مِن فتًى
كثيرِ الأيادي، كثيرِ العِدا
إذا ما حَمِدْتُكَ بين الرِّجال
فأنتَ الخَليقُ بأنْ تُحْمَدا
سَيُحْصِي عليكَ سِجِلُّ الزَّمان
ثَناءً يُخَلَّدُ ما خُلِّدا
ويَهتِفُ باسمِكَ أبناؤُنا
إذا آن للزَّرْعِ أن يُحْصَدا

(٧) إلى ناظر المعارف سعد زغلول باشا (نشرت في ١٣ديسمبر سنة ١٩٠٦م)

مالي أرى بَحْرَ السِّيا
سَةِ لا يَني جَزْرًا ومَدَّا
وأرى الصَّحائِفَ أيْبَسَتْ
ما بَيْنَنا أخْذًا ورَدَّا
هذا يَرى رأيَ العَميـ
ـدِ وذا يَعُدُّ عليه عَدَّا
وأرى الوزارةَ تَجْتَني
مِنْ مُرِّ هذا العَيْشِ شُهدا
نامَتْ بمِصْرَ وأيْقَظَتْ
لحوادِثِ الأيّامِ (سَعْدا)
فطَرَحْتُها وسألْتُ عنـ
ـهُ فقيل لي: لم يأْلُ جُهْدا
يا (سعْدُ) أنتَ (مَسيحُها)
فاجعل لهذا المَوْتِ حَدّا
يا (سَعْدُ) إنّ (بمِصْرَ) أيْـ
ـتامًا تُؤَمِّلُ فيكَ سَعْدا
قد قامَ بينهمُ وبيْـ
ـنَ العِلْمِ ضيقُ الحالِ سَدَّا
ما زِلْتُ أرجو أنْ أرا
كَ أبًا وأنْ ألقاكَ جَدّا
حتّى غَدَوْتَ أبًا له
أضْحَتْ عِيالُ القُطْرِ وُلْدا
فاردُدْ لنا عَهْد (الإما
مِ) وكُنْ بنا الرَّجُلَ المُفَدَّى
أنا لا ألومُ المُسْتَشا
رَ إذا تَعَلَّلَ أوْ تَصدَّى
فسَبيلُهُ أنْ يَسْتَبِدْ
دَ وشأنُنا أنْ نَسْتَعِدّا
هي سُنةُ المُحْتَلِّ في
كُلِّ العُصور وما تَعَدَّى

(٨) الحثّ على تعضيد مشروع الجامعة (نشرت في ١٩ مارس سنة ١٩٠٧م)

أنشدها في الحفل الذي أقامه محفل الصدق الماسوني في دار التمثيل العربيّ، وخصّص إيراده لمشروع الجامعة المصريّة

إنْ كُنْتُمُ تَبْذُلونَ المالَ عن رَهَبِ
فنحْنُ نَدْعوكُمُ للبَذْلِ عن رَغَبِ
ذر الكَتاتيبَ مُنْشيها بلا عَددٍ
ذَرَّ الرَّمادِ بعَيْنِ الحاذِقِ الأرِبِ
فأنْشَئوا ألْفَ كُتّاب وقد عَلِموا
أنّ المصابيحَ لا تُغْني عن الشُّهُبِ
هَبوا الأجيرَ أو الحَرّاثَ قد بَلَغا
حَدَّ القِراءَةِ في صُحْفٍ وفي كُتُبِ
مَنِ المُداوي إذا ما عِلَّةٌ عَرَضْتْ
مَنِ المُدافِعُ عَنْ عِرْضٍ وعَنْ نَشَبِ
ومَنْ يَروضُ مياةَ النِّيل إنْ جَمَحَتْ
وأنْذَرَتْ مِصْرَ بالوَيْلاتِ والحَرَبِ
ومَنْ يُوَكَّلُ بالقِسْطاسِ بيْنَكُمُ
حتّى يُرى الحقُّ ذا حَوْلٍ وذا غَلَبِ
ومَنْ يُطِلُّ على الأفلاكِ يَرْصُدُها
بين المَناطِقِ عن بُعْدٍ وعن كَثَبِ
يَبيتُ يُنْبِئُنا عمّا تَنِمُّ به
سرائِرُ الغَيْبِ عنْ شَفَّافَةِ الحُجُبِ
ومَنْ يَبُزُّ أديمَ الأرْضِ ما رَكَزَتْ
فيها الطَّبيعةُ مِنْ بِدْعٍ ومِنْ عَجَبِ
يَظَلُّ يَنْشُدُ منْ ذرّاتِها نَبَأً
ضَنَّتْ به الأرضُ في ماضٍ من الحُقُبِ
ومَنْ يُميطُ ستارَ الجَهْلِ إنْ طُمِسَتْ
مَعالمُ القَصْدِ بين الشَّكِّ والرِّيَبِ
فما لَكُمْ أيُّها الأقوامُ جامِعَةٌ
إلا بجامِعَةٍ مَوْصولة السَّبَبِ
قد قامَ (سعْدُ) بها حِينًا وأسْلَمَها
إلى (أمينٍ) فلمْ يُحْجِمْ ولم يَهَبِ
فعاوِنُوه يُعاوِنْكُمْ على عَمَلٍ
فيه الفَخارُ وما تَرْجُونَ مِنْ أرَبِ
وبَيِّنوا لرجالِ الغَرْبِ أنّكُمُ
إذا طَلَبْتُمْ بَلَغْتُمْ غايَةَ الطَّلَبِ
لا تَلْجَئوا في العُلا إلاّ إلى هِمَمٍ
وثّابَةٍ لا تُبالي هِمّةَ النُّوَبِ
فإنّ تأميلَكُمْ في غَيْرِكُمْ وَهَنٌ
في النَّفْسِ يُرْخي عِنانَ السَّعْيِ والدَّأَبِ
إنْ قامَ مِنّا مُنادٍ قال قائلُهُمْ
لا تَصْخَبوا فهلاكُ الشَّعْبِ في الصَّخَبِ
أو نابَنا حادِثٌ نَرْجُو إزالَتَه
قال: استَكينوا وخَلُّوا سَوْرَةَ الغَضَبِ
فما سَمَوْنا إلى نَجْدٍ نُحاوِلُه
إلاّ هَبَطْنا إلى غَوْرٍ من العَطبِ
يا مِصْرُ هل بَعْدَ هذا اليأس مُتَّسَعٌ
يَجْري الرَّجاءُ به في كلِّ مُضْطَرَبِ
لا نَحْنُ موْتى ولا الأحياءُ تُشْبِهُنا
كأنّنا فيكِ لم نَشْهَدْ ولم نَغِبِ
نَبكي على بَلَدٍ سالَ النُّضارُ به
للوافِدين وأهْلوه على سَغَبِ
متى نَراهُ وقد باتَتْ خَزائِنُه
كَنْزًا من العِلمِ لا كَنْزًا من الذَّهَبِ
هذا هو العَمَلُ المَبْرورُ فاكتَتِبُوا
بالمالِ إنّا اكتَتَبْنا فيه بالأدَبِ

(٩) سورية ومصر (نشرت في ٢٥ مارس سنة ١٩٠٨م)

أنشدها في الحفل الذي أقامه لتكريمه جماعةٌ من السوريّين بفندق شبرد

لمِصْرَ أم لرُبوعِ الشَّامِ تَنْتَسِبُ
هُنا العُلا وهُناكَ المَجْدُ والحَسَبُ
رُكنانِ للشَّرْقِ لا زالَتْ رُبوعُهُما
قَلْبَ الهِلالِ عليها خافِق يَجِبُ
خِدرانِ للضّادِ لم تُهْتَكْ سُتورُهُما
ولا تَحَوَّل عن مَغْناهُما الأدبُ
أمُّ اللُّغاتِ غَداةَ الفَخْرِ أمُّهُما
وإنْ سألْتَ عن الآباءِ فالعَرَبُ
أيَرْغَبانِ عن الحُسنى وبَيْنَهُما
في رائِعاتِ المَعالي ذلك النَّسَبُ
ولا يَمُتّانِ بالقُرْبى وبَيْنَهُما
تلكَ القرابةُ لم يُقْطَعْ لها سَبَبُ؟
إذا ألَمَّتْ بوادي النِّيلِ نازِلَةٌ
باتَتْ لها راسِياتُ الشّامِ تَضْطَرِبُ
وإنْ دعا في ثَرى الأهْرامِ ذو ألَمٍ
أجابَهُ في ذُرا لُبْنانَ مُنْتَحِبُ
لو أخْلَصَ النِّيلُ والأرْدُنُّ وُدَّهما
تَصافَحَتْ منهما الأمْواهُ والعُشُبُ
بالوادِيَيْنِ تَمشَّى الفَخْرُ مِشْيَتَه
يَحُفُّ ناحيَتَيْه الجُودُ والدَّأبُ
فسالَ هذا سخاءً دونَه دِيَمٌ
وسالَ هذا مَضاءً دونَه القُضُبُ
نسيمَ لُبنانَ كم جادَتْكَ عاطِرَةٌ
من الرِّياضِ وكَمْ حيّاك مُنْسَكِبُ
في الشَّرْقِ والغَرْبِ أنْفاسٌ مُسَعَّرَةٌ
تَهْفو إليكَ وأكبادُ بها لَهَبُ
لولا طِلابُ العُلا لم يَبْتَغُوا بَدَلاً
من طِيبِ رَيّاكَ لكنّ العُلا تَعَبُ
كمْ غادَةٍ برُبُوعِ الشّامِ باكيَةٍ
على أليفٍ لها يَرْمي به الطَّلَبُ!
يَمْضي ولا حيلَةُ إلاّ عَزيمَتُه
ويَنْثَني وحُلاهُ المَجْدُ والذَّهَبُ
يَكُرُّ صَرْفُ اللَّيالي عنه مُنْقَلِبًا
وعَزْمُه ليس يَدْري كيفَ يَنْقَلِبُ
بأرْضِ (كُولُمْبَ) أبطالٌ غَطارِفةٌ
أسْدٌ جِياعٌ إذا ما وُوثِبُوا وَثَبُوا
لم يَحْمِهمُ عَلَمٌ فيها ولا عُدَدٌ
سوى مَضاءٍ تَحامَى وِرْدَهُ النُّوَبُ
أسْطولُهُمْ أمَلٌ في البَحْرِ مُرْتَجلٌ
وجَيْشُهُمْ عَمَلٌ في البَرِّ مُغْتَرِبُ
لهمْ بكلِّ خِضَمٍّ مَسْرَبٌ نَهَجٌ
وفي ذُرا كُلِّ طَوْدٍ مَسْلَكٌ عَجَبُ
لم تَبْدُ بارِقَةٌ في أفْقِ مُنْتَجَعٍ
إلا وكان لها بالشامِ مُرتَقِبُ
ما عابَهُمْ أنّهم في الأرْضِ قد نُثِرُوا
فالشُّهْبُ مَنْثُورَةٌ مُذْ كانت الشُّهُبُ
ولَمْ يَضِرْهُمْ سُراءٌ في مَناكِبِها
فكلُّ حَيٍّ له في الكَوْنِ مُضْطَرَبُ
رادُوا المَناهِلَ في الدُّنيا ولو وَجَدوا
إلى المَجَرَّةِ رَكْبًا صاعِدًا رَكِبوا
أو قيلَ في الشمسِ للرّاجينَ مُنْتَجَعٌ
مَدُّوا لها سَبَبًا في الجوِّ وانتدَبوا
سَعَوْا إلى الكَسْبِ مَحْمُودًا وما فَتِئَتْ
أمُّ اللُّغاتِ بذاكَ السَّعْي تَكْتَسِبُ
فأينَ كان الشَّامِيُّون كان لها
عَيْشٌ جَديدٌ وفَضْلٌ ليس يَحتْجِبُ
هذي يَدي عن بَني مِصْرٍ تُصافِحُكُمْ
فصافِحُوها تُصافِحْ نَفْسَها العَرَبُ
فما الكِنانَةُ إلا الشامُ عاجَ على
رُبوعِها من بَنيها سادَةٌ نُجُبُ
لولا رِجالٌ تَغالَوْا في سياسَتِهِمْ
منّا ومنْهُمْ لمَا لُمْنا ولا عَتَبوا
إنْ يَكْتُبوا ليَ ذَنْبًا في مَوَدَّتِهِمْ
فإنَّما الفَخْرُ في الذَّنْبِ الذي كَتَبُوا

(١٠) في الحثّ على تعضيد مشروع الجامعة

أنشدها في الحفل الذي أقيم في «تياترو برنتانيا» في ٨ مايو سنة ١٩٠٨م

حَيّاكُمُ الله أحْيُوا العِلْمَ والأدَبا
إنْ تَنْشُروا العِلْمَ يَنْشُرْ فيكُم العَرَبا
ولا حياةَ لكمْ إلاّ بجامِعَةٍ
تكونُ أمًّا لطُلابِ العُلا وأبَا
تَبْني الرِّجالَ وتَبْني كلَّ شاهِقَةٍ
مِنَ المَعالي وتَبْني العِزَّ والغَلَبا
ضَعُوا القُلوبَ أساسًا لا أقولُ لكمْ
ضَعُوا النُّضارَ فإنِّي أُصْغِرُ الذَهَبا
وابنُوا بأكْبادِكُمْ سُورًا لها ودَعُوا
قيلَ العَدُوِّ؛ فإنِّي أعْرِفُ السَّبَبا
لا تَقْنَطُوا إنْ قرأتُمْ ما يُزَوِّقُه
ذاكَ العَمِيدُ ويَرْميكُمْ به غَضَبا
وراقِبوا يومَ لا تُغْني حَصائِدُه
فكلُّ حَيٍّ سيُجْزَى بالّذي اكتَسَبا
بَنَى على الإفْكِ أبْراجًا مُشَيَّدَةً
فابنُوا على الحَقِّ بُرْجًا يَنْطَحُ الشُّهُبا
وجاوِبُوه بفِعْلٍ لا يُقَوِّضُه
قَوْلُ المُفَنِّدِ أنَّى قال أو خَطبا
لا تَهْجَعُوا إنَّهم لنْ يَهْجَعُوا أبدًا
وطالِبُوهُمْ ولكنْ أجْمِلوا الطَّلَبا
هل جاءكمْ نَبأ القَوْمِ الألَى دَرَجوا
وخَلَّفوا للوَرى منْ ذِكْرِهِمْ عَجَبا
عَزتْ (بقُرْطاجَةَ) الأمْراسُ فارتُهِنَتْ
فيها السَّفينُ وأمْسى حَبْلُها اضطَرَبا
والحَرْبُ في لَهَبٍ والقَوْمُ في حَرَبٍ
قد مَدَّ نَقْعُ المَنايا فوقَهُمْ طُنُبا
وَدُّوا بها وجَوارِيهِمْ مُعَطَّلةٌ
لو أنّ أهْدابَهُمْ كانتْ لها سَبَبا
هُنالِكَ الغِيدُ جادَتْ بالّذي بَخِلَتْ
به دَلالاً فقامَتْ بالّذي وَجَبا
جَزَّتْ غَدائِرَ شَعْرٍ سَرَّحَتْ سُفُنًا
واستَنْقَذَتْ وَطَنًا واستَرْجَعَتْ نَشَبا
رأتْ حُلاها على الأوْطانِ فابتَهَجَتْ
ولم تَحَسَّرْ على الحَلْيِ الّذي ذَهبا
وزادها ذاكَ حُسْنًا وهْي عاطِلَةٌ
تُزْهَى على مَنْ مَشى للحَرْبِ أو رَكِبا
و(برثران) الّذي حاكَ الإباءُ له
ثَوْبًا من الفَخْرِ أبْلى الدَّهْرَ والحِقَبا
أقام في الأسْرِ حينًا ثمّ قيل له:
ألَمْ يئِنْ أنْ تُفَدِّي المَجْدَ والحَسَبا
قُلْ واحْتَكِمْ أنْتَ مُخْتارٌ، فقال لهم:
إنّا رجالٌ نُهينُ المالَ والنَّشَبا
خُذوا القناطيرَ من تِبْرٍ مُقَنْطَرَةً
يَخُورُ خازِنُكُمْ في عَدِّها تَعَبا
قالوا: حَكَمْتَ بما لا تستطيعُ له
حَمْلا نَكادُ نَرَى ما قُلْتَه لَعِبا
فقال: واللهِ ما في الحَيِّ غازِلَةٌ
من الحِسانِ تَرَى في فِدْيَتي نَصَبا
لو أنّهم كَلَّفوها بَيْعَ مِغْزَلِها
لآثَرَتْني وصَحَّتْ قُوتَها رَغَبا
هذا هُوَ الأثَرُ الباقي فلا تَقِفوا
عند الكلامِ إذا حاوَلْتُمُ أرَبا
ودُونَكُمْ مَثلاً أوْشَكْتُ أضْرِبُهُ
فيكمْ وفي مِصْرَ إنْ صِدْقًا وإنْ كَذِبا
سَمِعْتُ أنّ امرَءًا قد كانَ يَألَفُهُ
كَلْبٌ فعاشا على الإخْلاصِ واصطَحَبا
فمَرَّ يوْمًا به والجوعُ يَنْهَبُهُ
نَهْبًا فلم يُبْقِ إلا الجِلْدَ والعَصبا
فظَلَّ يبكي عليه حينَ أبْصَرَه
يَزولُ ضَعْفًا ويَقضي نَحْبَه سَغَبا
يَبكي عليه وفي يُمْناهُ أرْغِفَةٌ
لو شامَها جائعٌ من فَرْسَخٍ وَثَبا
فقال قَوْمٌ وقد رَقُّوا لذي ألَمٍ
يَبْكي، وذي ألَمٍ يَسْتَقْبِلُ العَطَبا
ما خَطْبُ ذا الكَلْبِ؟ قال: الجُوع يَخْطِفُه
مِنِّي ويُنْشِبُ فيه النابَ مُغْتَصِبا
قالوا وقد أبْصَروا الرُّغْفانَ زاهِيَةً:
هذا الدَّواءُ فهلْ عالَجْتَه فأبى؟
أجابَهُمْ ودواعي الشُّحِّ قد ضَرَبتْ
بين الصَّديقينِ من فَرْطِ القِلَى حُجُبا
لذلكَ الحَدِّ لم تَبْلُغْ مَوَدَّتُنا
أما كَفى أنْ يَراني اليومَ مُنْتَحِبا
هذي دُموعي على الخَدَّيْنِ جارِيةً
حُزْنًا وهذا فؤادي يَرْتَعي لَهَبا
أقْسَمْتُ باللهِ إنْ كانت مَوَدَّتُنا
كصاحِبِ الكَلْبِ ساءَ الأمْرُ مُنْقَلَبا
أعيذُكُمْ أن تكونوا مِثْلَه فنَرَى
منكمْ بُكاءً ولا نُلْفي لكم دَأبا
إن تُقْرِضُوا اللهَ في أوْطانِكُمْ فلَكُمْ
أجْرُ المُجاهِدِ، طُوبَى للّذي اكتَتَبا

(١١) رعاية الأطفال

أنشدها في الحفل الذي أقامته هذه الجمعيّة في الأوبرا في ٨ أبريل سنة ١٩١٠م

شَبَحًا أرى أمْ ذاكَ طَيْفُ خَيالِ
لا، بلْ فَتاةٌ بالعَراءِ حِياليِ
أمْسَتْ بمَدرَجَةِ الخُطوبِ فما لها
راعٍ هُناكَ وما لها مِنْ والي
حَسْرى، تَكادُ تُعيدُ فَحْمَة لَيْلِها
نارًا بأنّاتٍ ذَكَيْنَ طِوالِ
ما خَطْبُها، عَجَبا، وما خَطْبي بها؟
مالي أشاطِرُها الوجيعَةَ مالي؟
دانَيْتُها ولِصَوْتها في مسْمَعي
وَقْعُ النِّبالِ عَطَفْنَ إثْرَ نِبالِ
وسَألْتَها: مَنْ أنْتِ؟ وهي كأنّها
رَسْمٌ على طَلَلٍ من الأطلالِ
فتَمَلْمَلَتْ جَزَعا وقالت: حامِلٌ
لم تَدْرِ طَعْمَ الغَمْضِ مُنْذُ لَيالي
قد ماتَ والدُها، وماتَتْ أمُّها
ومضى الحِمامُ بعَمِّها والخالِ
وإلى هنا حَبَس الحياءُ لسانَها
وجَرَى البُكاءُ بدَمْعِها الهَطَّالِ
فعَلِمْتُ ما تُخْفي الفتاةُ وإنّما
يَحْنُو على أمْثالها أمْثالي
ووقَفْتُ أنظُرُها كأنِّي عابِدٌ
في هَيْكَلٍ يَرْنو إلى تِمْثالِ
ورأيتُ آياتِ الجمالِ تَكَفَّلَتْ
بزوالِهنَّ فوادِحُ الأثْقالِ
لا شيءَ أفْعَلُ في النُّفوسِ كقامَةٍ
هَيْفاءَ روَّعَها الأسى بهُزالِ
أو غادَةٍ كانتْ تُريكَ إذا بدَت
شَمْسَ النَّهارِ فأصْبَحَتْ كالآلِ
قلتُ: انهَضي، قالت: أيَنْهَضُ مَيِّتٌ
من قَبرِه ويَسيرُ شَنٌّ بالي
فحَمَلْتُ هَيْكَلَ عَظْمِها وكأنّني
حُمِّلْتُ حينَ حَمَلْتُ عُودَ خِلالِ
وطَفِقْتُ أنْتَهِبُ الخُطا مُتَيَمِّمًا
باللَّيلِ (دارَ رِعايَةِ الأطفالِ)
أمْشِي وأحْمِلُ بائِسَيْنِ: فطارِقٌ
بابَ الحَياةِ ومُؤْذِنٌ بزَوالِ
أبْكيهِما وكأنَّما أنا ثالِث
لهُما من الإشفاقِ والإعْوالِ
وطَرَقْتُ بابَ الدارِ لا مُتَهَيِّبًا
أحَدًا ولا مُتَرقِّبًا لسُؤالِ
طَرْقَ المُسافِرِ آبَ مِنْ أسْفارِهِ
أو طَرْقَ رَبِّ الدارِ غيرَ مُبالي
وإذا بأصواتٍ تَصيحُ: ألا افتَحوا
دَقّاتُ مَرْضى مُدْلِجِينَ عِجالِ
وإذا بأيْدٍ طاهِراتٍ عُوِّدَتْ
صُنْعَ الجميلِ تَطَوَّعَتْ في الحالِ
جاءَتْ تُسابقُ في المَبَرَّةِ بَعْضُها
بعضًا لوَجْهِ اللهِ لا للمالِ
فتناوَلَتْ بالرِّفْقِ ما أنا حامِلٌ
كالأمِّ تَكْلأُ طِفْلَها وتُوالي
وإذا الطبيبُ مُشَمِّرٌ وإذا بها
فوقَ الوَسائِدِ في مكان عالي
جاءُوا بأنواعِ الدَّواءِ وطَوَّفوا
بسريرِ ضَيْفَتِهِمْ كبعْضِ الآلِ
وجَثا الطَّبيبُ يَجُسُّ نَبْضًا خافِتًا
ويَرودُ مَكْمَنَ دائِها القَتَالِ
لم يَدْرِ حينَ دَنَا ليَبْلو قَلْبَها
دَقّاتِ قلْبٍ أمْ دَبيبَ نِمالِ
ودَّعْتُها وتَرَكْتُها في أهلِها
وخَرَجْتُ مُنْشَرِحًا رَضيَّ البالِ
وعَجَزْتُ عَنْ شُكْرِ الذين تَجَرَّدوا
للباقِياتِ وصالِحِ الأعْمالِ
لم يُخْجِلوها بالسُّؤالِ عن اسمِها
تِلك المُروءَةُ والشُعورُ العالي
خيرُ الصَّنائِعِ في الأنامِ صنيعةٌ
تَنْبو بحامِلِها عن الإذْلالِ
وإذا النَّوالُ أتَى ولم يُهْرَقْ له
ماءُ الوُجُوهِ فذاكَ خَيْرُ نَوالِ
مَنْ جادَ مِنْ بَعْدِ السؤالِ فإنّه
— وهو الجَوادُ — يُعَدُّ في البُخّالِ
للهِ دَرُّهُمُ فكَمْ مِنْ بائسٍ
جَمِّ الوَجيعةِ سيِّئِ الأحوالِ
تَرْمي به الدُّنيا، فمِنْ جُوعٍ، إلى
عُرْيٍ، إلى سُقْمٍ، إلى إقْلالِ
عَيْنٌ مُسَهَّدَةٌ وقَلْبٌ واجِفٌ
نَفْسٌ مُرَوَّعَةٌ وجَيْبٌ خاليِ
لم يَدْرِ ناظِرُه أعُريانًا يَرَى
أمْ كاسيًا في تِلْكُمُ الأسْمالِ
فكأنّ ناحِلَ جِسْمِه في ثَوْبه
خَلْفَ الخُروقِ يُطِلُّ من غِرْبالِ
يا بَرْدُ، فاحمِلْ، قد ظَفِرْتَ بأعْزَلٍ
يا حَرُّ، تلكَ فريسَةُ المُغْتالِ
يا عَيْنُ سُحِّي، يا قُلوبُ تَفطَّري
يا نَفْسُ رِقِّي يا مُروءَةُ والي
لولاهُمُ لَقَضى عليه شَقاؤُه
وخَلا المَجالُ لخاطِفِ الآجالِ
لولاهُمُ كان الرَّدى وَقْفًا على
نَفْسِ الفقيرِ ثَقيلَة الأحمالِ
للهِ دَرُّ الساهِرينَ على الألى
سَهِروا مِنَ الأوْجاعِ والأوْجالِ
القائمين بخَيرِ ما جاءَتْ به
مَدَنيّةُ الأدْيانِ والأجْيالِ
أهْلِ اليتيمِ وكَهْفِه وحُماتِهِ
وربيعِ أهل البُؤْسِ والإمْحالِ
لا تُهْمِلوا في الصّالحاتِ فإنّكم
لا تَجْهَلونَ عواقِبَ الإهْمالِ
إنِّي أرى فُقَراءَكُمْ في حاجَةٍ
— لو تَعلَمُونَ — لقائِلٍ فَعّالِ
فتَسابَقُوا الخَيْراتِ فهيَ أمامَكُمْ
مَيْدانُ سَبْقٍ للجَواد النّال
والمُحْسِنُون لهمْ على إحسانِهِمْ
يومَ الإثابَةِ عَشْرَةُ الأمْثالِ
وجَزاءُ رَبِّ المُحْسنينَ يَجِلُّ عنْ
عَدٍّ وعَنْ وَزْنٍ وعن مِكْيالِ

(١٢) مدرسة البنات ببورسعيد

أنشدها في حفل أقيم ببورسعيد في ٢٩ مايو سنة ١٩١٠م لإعانة تلك المدرسة

كم ذا يُكابِدُ عاشِقُ ويُلاقي
في حُبِّ مِصْرَ كثيرَةِ العِشّاقِ
إنِّي لأحْمِلُ في هواكِ صَبابَةً
يا مِصْرُ قد خَرَجَتْ عن الأطواقِ
لَهَفي عليك متى أراك طَليقَةً
يَحمي كريمَ حِماكِ شَعْبٌ راقي
كَلِفٌ بمَحْمودِ الخِلال مُتَيَّمٌ
بالبَذْلِ بين يديْكِ والإنْفاقِ
إنّي لتُطْرِبُني الخِلالُ كريمَةً
طَرَبَ الغَريبِ بأوْبَةٍ وتَلاقي
وتَهُزُّني ذِكْرى المُروءَةِ والنَّدى
بين الشمائلِ هزَّةَ المُشتاقِ
ما البابليّة في صَفاءِ مِزاجها
والشَّرْبُ بيْنَ تَنافُسٍ وسِباقِ
والشمسُ تبدو في الكُئوس وتَختَفي
والبَدْرُ يُشْرِقُ من جَبينِ السَّاقي
بألَذَّ من خُلُق كريمٍ طاهِرٍ
قد مازَجَتْهُ سَلامَةُ الأذْواقِ
فإذا رُزِقْتَ خَليقةً مَحْمودةً
فقد اصطفاكَ مُقَسِّمُ الأرزاقِ
فالناسُ هذا حَظُّه مالٌ، وذا
عِلْمٌ، وذَاكَ مَكارِمُ الأخْلاقِ
والمالُ إنْ لم تَدَّخِرْهُ مُحَصَّنًا
بالعِلْم كانَ نهايَةَ الإمْلاقِ
والعِلْمُ إنْ لم تَكْتَنِفْه شمائِلٌ
تُعْليه كان مَطيَّةَ الإخْفاقِ
لا تَحْسَبَنَّ العِلْمَ يَنْفَعُ وَحْدَهُ
ما لمْ يُتَوَّجْ رَبُّه بخَلاقِ
كم عالمٍ مَدَّ العُلومَ حَبائلاً
لوقيعةٍ وقطيعةٍ وفِراقِ
وفَقيهِ قوْمٍ ظَلَّ يَرْصُدُ فِقْهَهُ
لمَكيدَةٍ أو مُسْتَحَلِّ طَلاقِ
يَمشي وقد نُصِبَتْ عليه عِمامَةٌ
كالبُرْجِ لكنْ فوْقَ تلِّ نِفاقِ
يَدْعونَه عند الشِّقاقِ وما دَرَوْا
أنَّ الّذي يَدْعونَ خِدْنُ شِقاقِ
وطبيبِ قَوْمٍ قد أحَلَّ لطبِّهِ
ما لا تُحِلُّ شريعَةُ الخَلاّقِ
قَتَل الأجِنَّةَ في البُطونِ وتارةً
جَمَعَ الدَّوانِقَ من دَمٍ مُهْراقِ
أغْلى وأثْمَنُ من تجارِبِ عِلْمِه
يومَ الفَخارِ تجارِبُ الحَلاّقِ
ومُهَنْدِسٍ للنِّيلِ باتَ بكفِّه
مِفْتاحُ رِزقِ العامِلِ المِطْراقِ
تَنْدى وتَيْبَسُ للخَلائِق كفُّه
بالماءِ طَوْعَ الأصْفَرِ البَرَّاقِ
لا شيءَ يَلْوي من هَواهُ فحَدُّه
في السَّلْبِ حَدُّ الخائنِ السَّرَّاقِ
وأديبِ قوْمٍ تَسْتَحِقُّ يَمينُه
قَطْعَ الأنامِلِ أو لَظى الإحْراقِ
يَلْهُو ويَلعَبُ بالعُقولِ بيانُه
فكأنّه في السِّحرِ رُقْيَةُ راقي
في كفِّه قلَمٌ يَمُجُّ لُعابُه
سُمًّا ويَنْفُثُه على الأوْراقِ
يَرِدُ الحقائقَ وهي بيضٌ نُصَّعٌ
قُدْسِيّةٌ عُلْوِيّةُ الإشْراقِ
فيَرُدُّها سودًا على جَنَباتها
من ظُلْمة التَّمْويه ألْفُ نِطاقِ
عَرِيَتْ عن الحَقِّ المُطَهَّرِ نَفْسُه
فحياتُه ثِقْلٌ على الأعْناقِ
لو كان ذا خُلُقٍ لأسْعَدَ قَوْمَهُ
ببَيانِه ويَراعِه السَّبّاقِ
مَنْ لي بتَرْبيةِ النِّساء فإنّها
في الشَّرقِ عِلّةُ ذلكَ الإخْفاقِ
الأمُّ مَدْرَسَةٌ إذا أعْدَدْتَها
أعْدَدْتَ شعْبًا طيِّبَ الأعْراقِ
الأمُّ رَوْضٌ إنْ تَعَهَّدَه الحَيا
بالرِّيِّ أوْرَقَ أيَّما إيراقِ
الأُمُّ أُسْتاذُ الأساتِذَة الأُلَى
شَغَلَتْ مآثِرُهُمْ مَدَى الآفاقِ
أنا لا أقولُ دَعُوا النِّساءَ سَوافِرًا
بين الرِّجالِ يَجُلْنَ في الأسواقِ
يَدْرُجْنَ حيثُ أرَدْنَ لا مِنْ وازعٍ
يَحْذَرْنَ رِقْبَتَه ولا مِنْ واقي
يَفْعَلْنَ أفْعالَ الرِّجالِ لواهِيًا
عَنْ واجِباتِ نَواعِسِ الأحْداقِ
في دُورهِنّ شُئونُهُنَّ كثيرةٌ
كشئون رَبِّ السَّيْفِ والمِزْراقِ
كلاَّ ولا أدْعوكُمُ أنْ تُسْرِفُوا
في الحَجْبِ والتَّضْييقِ والإرْهاقِ
ليْسَتْ نِساؤُكُمُ حُلًى وجَواهِرًا
خَوْفَ الضَّياعِ تُصانُ في الأحْقاقِ
لَيْسَتْ نساؤكُمُ أثاثًا يُقْتَنَى
في الدُّورِ بيْنَ مَخادِعٍ وطِباقِ
تَتَشَكَّلُ الأزْمانُ في أدْوارِها
دُوَلاً وهُنَّ على الجُمودِ بَواقِي
فَتَوَسَّطوا في الحالَتَيْنِ وأنْصِفوا
فالشَّرُّ في التّقييد والإطْلاقِ
رَبُّوا البَناتِ على الفضيلة إنّها
في المَوْقِفَيْنِ لهُنّ خيرُ وَثاقِ
وعليكُم أنْ تَسْتَبينَ بناتُكُمْ
نورَ الهُدى وعلى الحَياءِ الباقي

(١٣) ملجأ رعاية الأطفال (نشرت في أوّل فبراير سنة ١٩١١م)

أنشدها في حفل أقامته جماعة رعاية الأطفال بالأوبرا، وقد استهلها بوصف القطار

صَفْحَةُ البَرْقِ أوْمَضَتْ في الغَمامِ
أمْ شِهابٌ يَشُقُّ جَوْفَ الظَّلامِ
أمْ سَليلُ البُخارِ طارَ إلى القَصْـ
ـدِ فأعْيا سَوابِقَ الأوْهامِ
مَرَّ كاللَّمْحِ لم تَكَدْ تَقِفُ العَيْـ
ـنُ على ظِلِّ جِرْمِه المُتَرامي
أو كَشَرْخِ الشَّبابِ لم يَدرِ كاسيـ
ـهِ تَولَّى في يَقْظةٍ أو مَنامِ
لا يُبالي السُّرى إذا اعتكَرَ اللَّيْـ
ـلُ وخانَتْ مَواقِعُ الأقْدامِ
يَقْطَعُ البِيدَ والفَيافي وحيدا
لم تُضَعْضِعْه وَحْشَةُ الإظْلامِ
ليسَ يَثْنيه ما يُذيبُ دِماغَ الضْـ
ـبِّ يومَ الهَجير بينَ المَوامِي
لا ولا يَعْتَريه ما يُخْرِس النا
بِحَ في الزَّمْهَريرِ بين الخيامِ
هائِمٌ كالظَّليمِ أزْعَجَهُ الصَّيْـ
ـدُ وراعَتْه طائشاتُ السِّهامِ
فهو يَشْتَدُّ في النَّجاءِ ويَهْوي
حَيْثُ تُرْمَى بجانِبَيْه المَرامي
يا حَديدًا يَنْسابُ فوقَ حَديدٍ
كانسيابِ الرَّقْطاءِ فَوْقَ الرَّغامِ
قد مَسَحْتَ البلادَ شرْقًا وغَرْبًا
بذِرَاعَيْ مُشَمِّرٍ مِقْدامِ
بين جَنْبَيْكَ ما بجَنْبَيَّ لكنْ
ما بِجَنْبَيَّ مُسْتَديمُ الضِّرامِ
أنت لا تعرِفُ الغَرامَ وإنْ كنْـ
ـتَ تُرينا زَفيرَ أهْلِ الغَرامِ
أنتَ لا تَعْرِفُ الحنينَ إلى الإلْـ
ـفِ فما هذه الدُّموعُ الهَوامي
أنتَ قاسي الفؤادِ جَلْدٌ على الأيْـ
ـنِ شديدُ القُوى شديدُ العُرامِ
لا تُبالي أرُعْتَ بالبَيْنِ أحْبا
بًا وأسْرَفْتَ في أذى المُسْتَهامِ
أمْ جَمَعْتَ الأعداءَ فوقَ صعيدٍ
وخَلَطْتَ الأسُودَ بالآرامِ
إنّني قد شهِدْتُ فيكَ عَجيبًا
ضاقَ عَنْ وَصْفِه نِطاقُ الكَلامِ
جَزْتَ يومًا بنا ونَحْنُ على الجِسْـ
ـرِ قِيامٌ واللَّيْلُ ليْلُ التّمامِ
وإذا راكِبٌ إلى الجِسْرِ يَهْوي
بين صفَّيْنِ من مَماتٍ زُؤامِ
مَرَّ كالسَّهْمِ بين تِلْكَ الحَنايا
قد رَماهُ من المقادير رامي
فتَردَّى في الماءِ والماءُ غَمْرٌ
يَتَّقيه القضاءُ والنهرُ طامي
وإذا سابِحٌ قد انقَضَّ في الما
ءِ انقِضاضَ العُقابِ فوقَ الحَمامِ
غاصَ في لُجّةِ الحُتُوفِ بعَزْمٍ
لم يَعْوَّدْ مَواقِفَ الإحْجامِ
غابَ فيها وعاد يَحْمِلُ جِسْمًا
سَلَّه من يَدِ الهَلاكِ اللِّزامِ
كافَحَ المَوْجَ، صارَعَ الهَوْلَ، أبْلى
كَبلاءِ المُهَنَّدِ الصَّمْصامِ
وانْثَنى راجِعًا إلى شاطئ النَّهْـ
ـرِ رُجوعَ الكَمِيِّ غِبَّ اغْتِنامِ
وقَفَ الناسُ ذاهلينَ وصاحوا
تلك إحدى عَجائبِ الأيّامِ
أنَجاةٌ من القِطارِ، مِنَ الجِسْـ
ـرِ، مِنَ النَّهْرِ، جَلَّ رَبُّ الأنامِ
وإذا صَيْحَةٌ عَلَتْ مِنْ فتاةٍ
بَرَزَتْ من صُفوفِ ذاكَ الزِّحامِ
وقَفَتْ مَوْقِفَ الخطيبِ ونادَتْ
تلكَ عُقْبَى رِعايَةِ الأيْتامِ
بَسَطَتْ تحتَه أكُفًّا تَلَقَّتْـ
ـهُ وحاطَتْهُ رَغْمَ أنْفِ الحِمامِ
دَعْوَةُ البائِس المعذَّبِ سورٌ
يَدْفَعُ الشَّرَّ عن حِياضِ الكِرامِ
وهي حَرْبٌ على البَخيلِ وذي البَغْـ
ـيِ وسيْفٌ على رِقابِ اللِّئامِ
إنَّ هذا الكريمَ قد صانَ عِرْضي
وحماني من عادِيات السِّقامِ
عالَ طِفْلي وعالَني وحَباني
بكِساءٍ وبَدْرَةٍ وطَعامِ
وهو من مَعْشَر أغاثُوا ذَوي البُؤْ
سِ وقامُوا في اللهِ خَيْرَ القِيامِ
وأقامُوا للبرِّ دارًا فكانت
خَيْرَ وِرْدٍ يَؤُمُّه كلُّ ظامي
مُلِئتْ رَحمةً وفاضَتْ حَنانًا
فهي للبائساتِ دارُ السَّلامِ
زُرْتُها والشَّقاءُ يَجْري وَرائي
وشُعاعُ الرَّجاءِ يَسْري أمامي
لمْ يقولوا: مَنِ الفتاةُ؟ ولكنْ
سألوني هُناكَ عن آلامي
ثمّ أهْوَتْ إلى الغَريقِ تُواسيـ
ـهِ بأحْلى من مُنْعِشاتِ المُدامِ
قبَّلَتْ راحَتَيْه شُكْرًا وصاحَتْ
قد نَجَا صاحِبُ الأيادي العِظامِ
قد نَجا المُنْعِمُ الجَوادُ من المَوْ
تِ بفضْلِ الزَّكاةِ والإنْعامِ
فأطَفْنا بها وقد مَلأ الأنْـ
ـفُسَ منّا جَلالُ ذاكَ المَقامِ
وشَهِدْنا ثَغْرَ الوَفاءِ تَجلَّى
إذ تجلَّى في ثَغْرِها البَسّامِ
ورأيْنا شَخْصَ المُروءَةِ والبِرْ
رِ تَبَدّى في شَخْصِ ذاكَ الهُمامِ
وعَلِمْنا أنَّ الزَّكاةَ سبيلُ اللـ
ـه قَبْلَ الصَّلاةِ قبْلَ الصِّيامِ
خَصَّها الله في الكِتابِ بذكْرٍ
فهيَ رُكْنُ الأرْكانِ في الإسلاْمِ
بَدأتْ مَبْدأ اليقين وظلَّتْ
لحياةِ الشُّعوب خيرَ قِوامِ
لو وَفى بالزَّكاةِ مَنْ جَمَعَ الدُّنْـ
ـيا وأهْوى على اقتِناء الحُطامِ
ما شكَا الجُوعَ مُعْدِمٌ أو تَصَدَّى
لرُكوبِ الشُّرورِ والآثامِ
راكِبًا رأسَه طريدًا شريدًا
لا يُبالي بشِرْعَةٍ أو ذِمامِ
سائلاً عنْ وَصيّةِ اللهِ فيه
آخِذًا قُوتَه بحَدِّ الحُسامِ
لم أقِفْ مَوْقِفي لأُنْشِدَ شِعْرًا
صُبَّ في قالَبٍ بَديعِ النِّظامِ
إنّما قُمْتُ فيه والنَّفْسُ نَشْوى
من كُئوسِ الهُمومِ والقَلْبُ دامي
ذُقْتُ طَعْمَ الأسى وكابَدْتُ عَيْشًا
دُونَ شُرْبي قَذاهُ شُرْبُ الحِمامِ
فتَقَلَّبْتُ في الشَّقاءِ زمانًا
وتَنَقَّلْتُ في الخُطوبِ الجِسامِ
ومَشى الهَمُّ ثاقِبًا في فؤادي
ومَشى الحُزْنُ ناخِرًا في عِظامي
فلهذا وَقَفْتُ أسْتَعْطِفُ النا
سَ على البائسين في كلِّ عامِ

(١٤) إلى الخديوي عبّاس

قالها عند عودة سموّه من دار الخلافة وقد عرض ليها لِمَا كان في مصر من الخلاف بين المسلمين والأقباط في سنة ١٩١١م

كَمْ تَحتَ أذْيالِ الظَّلامِ مُتَيَّمُ
دامي الفؤادِ ولَيْلُهُ لا يَعْلَمُ
ما أنتَ في دُنْياكَ أوّلُ عاشِقٍ
راميهِ لا يَحْنُو ولا يَتَرَحَّمُ
أهْرَمْتَني يا لَيْلُ في شَرْخِ الصِّبا
كَمْ فيكَ ساعاتٍ تُشيبُ وتُهْرِمُ
لا أنتَ تَقْصُرُ لي ولا أنا مُقْصِرُ
أتْعَبْتَني وتَعِبْتَ، هلْ مَنْ يَحْكُمُ؟
للهِ مَوْقِفُنا وقد ناجَيْتُها
بعَظيمِ ما يُخْي الفؤادُ ويَكْتُمُ
قالتْ: مَنِ الشاكي؟ تُسائِلُ سِرْبَها
عَنِّي، ومَنْ هذا الّذي يَتظَلَّمُ؟
فأجَبْتَها وعَجِبْنَ كيف تجاهَلَتْ:
هو ذلكَ المُتَوَجِّعُ المُتَألِّمُ
أنا مَنْ عَرَفْتِ ومَنْ جَهِلْتِ ومَنْ له
— لولا عُيونُكِ — حُجَةُ لا تُفْحَمُ
أسْلَمْتُ نفسي للهوى وأظُنَّها
مِمَّا يُجَشِّمُها الهَوى لا تَسْلَمُ
وأتَيْتُ يَحدو بي الرَّجاءُ ومَنْ أتَى
مُتَحرِّمًا بفنائكُمْ لا يُحْرَمُ
أشْكو لذاتِ الخالِ ما صَنَعَتْ بنا
تِلْكَ العُيونُ وما جَناهُ المِعْصَمُ
لا السَّهْمُ يَرفُقُ بالجَريح ولا الهوى
يُبقي عليه ولا الصَّبابَةُ تَرْحَمُ
لو تَنْظُرينَ إليه في جَوْفِ الدُّجى
مُتَمَلْمِلاً من هَوْلِ ما يَتَجشَّمُ
يَمشي إلى كَنَفِ الفِراشِ مُحاذِرًا
وَجِلا يُؤَخِّرُ رِجْلَهُ ويُقَدِّمُ
يَرمي الفراشَ بناظِرَيْه ويَنْثَني
جَزِعًا ويُقدِمُ بعد ذاك ويُحْجِمُ
فكأنّه — واليأسُ يُنْشِفُ نَفْسَه —
للقَتْل فوقَ فراشِه يَتَقدَّمُ
رُشِقَتْ به في كلِّ جَنْبٍ مُدْيةُ
وانسابَ فيه بكلِّ رُكْنٍ أرْقَمُ
فكأنّه في هَوْلِه وسَعيرِهِ
وادٍ قد أطَّلَعَتْ عليه جَهَنَّمُ
هذا وحَقِّكَ بعضُ ما كابَدْتُه
من ناظِرَيْكَ، وما كتَمْتُكَ أعْظَمُ
قالوا: أهذا أنتَ! وَيْحَكَ فائتِدْ
حَتّامَ تُنجِدُ في الغَرامِ وتُتْهِمُ؟
كم نَفْثَةٍ لكَ تَسْتَثيرُ بها الهَوى
(هارُوتُ) في أثنائها يَتكلَّمُ
إنّا سَمِعْنا عنكَ ما قد رابَنا
وأطالَ فيكَ وفي هواكَ اللُّوَّمُ
فاذهَبْ بسحْرِكَ قد عَرَفْتُكَ واقتَصِدْ
فيما تُزَيِّنُ للحِسانِ وتُوهِمُ
أصْغَتْ إلى قَوْلِ الوُشاةِ فأسْرَفَتْ
في هَجْرها وجَنَتْ عليَّ وأجْرَمُوا
حتّى إذا يَئِسَ الطَّبيبُ وجاءَها
أنِّي تَلِفْتُ تَنَدَّمَتْ وتَنَدَّمُوا
وأتَتْ تَعُودُ مَريضَها لا بَلْ أتَتْ
مِنِّي تُشَيِّعُ راحِلاً لو تَعْلَمُ
أقْسَمْتُ (بالعَبّاسِ)، إنِّي صادِقُ
فمُريهِمُ بجَلاله أنْ يُقْسِموا
تِلك عَدَوْتُ على الزّمان بحَوْلِه
وغَدَوْتُ في آلائِه أتَنَعَّمُ
النَّجْمُ مِنْ حُرّاسه، والدَّهْرُ مِنْ
خُدّامِه، وهو العزيزُ المُنْعِمُ
هَلَّلْتُ حينَ رأيتُ رَكْبَكَ سالِمًا
ورأيتُ (عَبّاسًا) به يَتَبَسَّمُ
وحَمِدْتُ ربِّي حينَ حَلَّ عَرينَه
مُتَجَدِّدَ العَزَماتِ ذاكَ الضَّيغَمُ
خَفَقَتْ قُلوبُ المُسلمين وأشْفَقَتْ
دارُ الخِلافةِ والمَليكُ الأعْظمُ
ودعا لك البيْتُ الحرامُ فأمَّنَتْ
بَطْحاءُ مكَّةَ والحَطيمُ وزَمْزَمُ
ودَوى بمِصْرَ لكَ الدُّعاءُ فنِيلُها
وسُهولُها وفَصيحُها والأعْجَمُ
ومَشى الصَّغيرُ إلى الكبير مُسائلاً
يَتَسقَّطُ الأخْبارَ أو يَتَنسَّمُ
حتّى اطمأنّتْ بالشِّفاء نُفوسُهُمْ
وطلَعْتَ بالسَّعْدِ العَميمِ عليهِمُ
مَوْلايَ أمَّتُكَ الوديعَةُ أصْبَحَتْ
وعُرا المَوَدَّةِ بينَها تَتَفَصَّمُ
نادَى بها القِبطِيُّ مِلْءَ لَهاته
أنْ لا سَلامَ وضاقَ فيها المُسْلِمُ
وَهْمُ أغارَ على النُّهى وأضَلَّها
فجَرى الغَبِيُّ وأقْصَرَ المُتَعَلِّمُ
فَهِمُوا مِن الأدْيانِ ما لا يَرْتضي
دِينُ ولا يَرْضى به مَنْ يَفْهَمُ
ماذا دَها قِبْطِيَّ مِصْرَ فصدَّه
عَنْ وُدِّ مُسْلِمِها وماذا يَنْقِمُ؟
وعَلامَ يَخشى المُسْلمين وكَيْدَهُمْ
والمُسْلِمون عن المكايِدِ نُوَّمُ
قد ضَمَّنا ألمُ الحياةِ وكلُّنا
يَشكو، فنحنُ على السَّواءِ وأنتُمُ
إنِّي ضَمينُ المُسْلمينَ جميعُهمْ
أنْ يُخْلِصوا لكم إذا أخْلَصْتُمُ
رَبَّ الأريكةِ، إنّنا في حاجةٍ
لجَميلِ رأيكَ والحوادِثُ حُوَّمُ
فأفِضْ علينا من سَمائِكَ حِكْمَةً
تأسُو القُلوبَ فإنّ رأيَكَ أحْكَمُ
وأجمَعْ شتاتَ العُنْصُرَيْنِ بعَزْمَةٍ
تأتي على هذا الخِلاف وتَحْسِمُ
فكِلاهُما لعزيزِ عَرْشِكَ مُخْلِصُ
وكِلاهُما برضاكَ صَبُّ مُغْرَمُ

(١٥) محاورة بين حافظ وخليل مطران في حفل أقامته جمعيّة رعاية الطفل بالأوبرا (نشرت في ٣١ مارس سنة ١٩١٣م)

حافظ :
هذا صبيٌّ هائمٌ
تحتَ الظَّلامِ هُيامَ حائِرْ
أبْلَى الشَّقاءُ جديدَه
وتَقلَّمَتْ منه الأظافِرْ
فانظُرْ إلى أسْمالِه
لم يَبقَ منها ما يُظاهرْ
هُوَ لا يُريدُ فِراقَها
خَوْفَ القوارِسِ والهَواجِرْ
لكنّها قد فارَقَتْـ
ـهُ فِراقَ مَعْذورٍ وعاذِرْ
إنِّي أعُدُّ ضُلوعَه
مِنْ تحتها واللَّيلُ عاكِرْ
أبْصَرْتُ هَيْكَلَ عَظْمِه
فذكَرْتُ سُكّانَ المقابِرْ
فكأنّما هُوَ ميِّتٌ
أحياهُ (عِيسى) بعْدَ (عازَرْ)
قد كان يَهْدِمُه النَّسيـ
ـمُ وكاد تدْرُوه الأعاصِرْ
وتَراهُ من فَرْطِ الهُزا
لِ تكادُ تَثْقُبُه المَواطِرْ
عَجَبًا أيَفْرِسُه الطَّوى
في قَلْبِ حاضِرَةِ الحَواضرْ
وتغُولُه البُؤْسَى وطَرْ
فُ (رِعايَةِ الأطفالِ) ساهِرْ!
كم مِثلِهِ تحتَ الدُّجى
أسْوانَ بادي الضُّرِّ طائِرْ
خَزْيانَ، يَخرُجُ في الظَّلا
مِ خروجَ خُفّاشِ المَغاوِرْ
مُتَلَفِّعًا جِلْبابَه
مُتَرَقِّبًا مَعْروفَ عابِرْ
يَقْذَى برُؤْيَتِه فلا
تَلْوي عليه عَيْنُ ناظِرْ
ومنها:
قَعَدَتْ شُعوبُ الشَّرْقِ عَنْ
كَسْبِ المَحامِدِ والمَفاخِرْ
فوَنَتْ وفي شَرْعِ التَّنا
حُرِ مَنْ وَنَى لا شَكَّ خاسِرْ
تَمْشي الشُّعوبُ لقَصْدها
قُدُمًا وشَعْبُ النِّيلِ آخِرْ
كم في الكِنانة مِنْ فَتًى
نَدْبٍ وكَمْ في الشَّأم قادِرْ
لكنّهمْ لم يُرْزَقُوا
رأْيًا ولم يَرِدوا المَخاطِرْ
هذا يَطيرُ مع الخَيا
لِ وذاكَ يَرْتَجِلُ النَّوادِرْ
جَهِلوا الحياةَ وما الحيا
ةُ لغَيْرِ كَداحٍ مُغامِرْ
يَجْتاب أجْوازَ القِفا
رِ ويَمْتَطي مَتْنَ الزَّواخِرْ
لا يستَشيرُ سوى العزيـ
ـمَةِ في المَوارِدِ والمَصادِرْ
يَرْمي وراءَ الباقِيا
تِ بنَفْسِه رَمْيَ المُقامِرْ
ما هَدَّ عَزْمَ القادِرِيـ
ـنَ بمصْرَ إلاّ قوْلُ: (باكِرْ)
كمْ ذا نُحيلُ على غَدٍ
وغدٌ مَصيرَ اليوْمِ صائِرْ
خَوَتِ الدِّيارُ فلا اختِرا
عَ ولا اقتصادَ ولا ذَخائِرْ
دَعْ ما يُجَشِّمُها الجُمو
دُ وما يَجُرُّ مِنَ الجَرائِرْ
في الاقتصادِ حَياتُنا
وبقاؤُنا رَغْمَ المُكابِرْ
تَرْبُو به فينا المصَا
نِعُ والمَزارِعُ والمَتاجِرْ
سَلْ (حِشْمَتًا) عنه فهـ
ـذا (حِشْمَتٌ) في الجَمْعِ حاضِرْ
أحْيا الصِّناعةَ والتِّجا
رَةَ مِثْلَما أحْيا الضَّمائِرْ
مطران :
عَجَبًا تُعَرِّفُني به
وأنا بهِمَّتِه أفاخِرْ!
لي فيه ما لَكَ فيه منْ
أمَلٍ على الأيّامِ كابِرْ
أنَسيتَ (مُوجَزَ الاْقتصا
دِ) وفَضْلَه أمْ أنْتَ ذاكِرْ
أو لم يكنْ هذا الوَزيـ
ـرُ بذلك التَّعْريبِ آمِرْ
أنَسيتَ ما عانَيْتَه
واللَّفْظُ مُسْتَعْصٍ ونافِرْ
حافظ :
لمْ أنْسَ ما سالَتْ به
منْ خاطِري تلكَ المَقاطِرْ
مطران :
لمْ أنْسَ إدْلالَ الكَلا
مِ وذِلّتي بين المحَابِرْ
حافظ :
لم أنْسَ نَحْتي لاصْطِلا
حٍ دونَه نَحْتُ المحَاجِرْ
مطران :
لم أنْسَ تَشْذيبَ الفُضو
لِ ومَقْرِضُ التَّثْقيفِ دائِرْ

(١٦) دعوة إلى الإحسان (نشرت في سنة ١٩١٥م)

أجادَ (مَطْرانُ) كعاداتِه
وهكذا يُؤْثَرُ عن (قُسِّ)
فإنْ أقِفْ من بَعْدِه مُنْشِدًا
فإنّما من طِرْسِهِ طِرْسي
وإنْ رأيْتُمْ في يَدي زَهْرةً
فإنّها من ذلك الغَرْسِ
رَثَى (حَبيبًا) ورثَى بَعْدَه
لذلكَ المُوفي على الرَّمْسِ
كانا إذا ما ظَهَرا مِنْبَرًا
حَلاَّ منَ السّامِعِ في النَّفْسِ
فأصْبَحَا هذا طَواهُ الرَّدى
وذاكَ نَهْبٌ في يَدِ البُؤْسِ
لولا (سليمٌ) لم يَقُلْ قائِلٌ
ولم يَجُدْ مَنْ جادَ بالأمْسِ
للهِ ما أشْجَعَه إنّه
ذُو مِرَّةٍ فينا وذُو بأْسِ
يَقومُ في مَشروعِه نافِذًا
كأنّه (عَنْتَرَةُ العَبْسي)
تَلقاهُ في الجِدِّ كما تَبتغي
وتارةً تَلقاهُ في (الهَلْسِ)
(سرْكيسُ) إنْ راقَكَ ما قُلْتُه
في مَعْرِضِ الهَزْلِ فَقُلْ «مِرْسي»
أقْسِمُ باللهِ وآلائِه
بعَرْشه باللَّوْحِ بالكُرْسي
بالخُنَّسِ الكُنَّسِ في سَبْحِها
بالبَدْرِ في مَرْآهُ بالشَّمْسِ
بأنّ هذا عَمَلٌ صالحٌ
قامَ به هذا الفتى القُدْسي
ذَكَّرَنا والمَرْءُ من نَفْسه
وعَيْشِه في شاغِلٍ يُنْسي
بالواجِبِ الأقْدَسِ في حَقِّ مَنْ
باعَتْه مصرٌ بَيْعَةَ الوَكْسِ
هذا (أبو العَدْلِ) فمَنْ خالَه
حَيًّا فما خالَ سِوَى العَكْسِ
كانت له في حَلْقِه ثرْوَةٌ
من نَبْرَةٍ تُشْجِي ومنْ جَرْسِ
فغالها الدَّهْرُ كما غالَه
حتّى غَدا كالطَّلَلِ الدَّرْسِ
فاكتَسِبوا الأجْرَ ولا تَبْتَغُوا
شِراءَه بالثَّمَنِ البَخْسِ
إنِّي أرى التَّمْثيلَ في غَمْرةٍ
غامِرَةٍ تَدْعُو إلى اليأْسِ
لم يَرْمِه في شَرْخِه ما رَمَى
لو كان مَبْنِيًّا على أُسِّ
أكُلَّما خَفَّتْ به صَحْوَةٌ
من دائه عُوجِلَ بالنَّكْسِ
إنْ تُغْفِلوا دارِسَ آثارِه
عَفَّى عليْها الدَّهْرُ بالطِّمْسِ
أعْجَزَها النُّطْقُ فجاءَتْ بنا
تَنُوبُ عنْ ألْسُنِها الخُرْسِ

(١٧) العدوّ والصديق ترجمة عن ڤولتير (نشر هذا البيت في ١٥يناير سنة ١٩١٦م)

لا أبالي أذَى العَدُوِّ فحُطْني
أنتَ يا رَبِّ مِنْ وَلاءِ الصَّديقِ

(١٨) جمعيّة الاتّحاد السوريّ

أنشدها في حفل خيريّ أقامته هذه الجماعة في الأوبرا السلطانيّة لإعانة الطلبة الشاميّين بالأزهر ليلة الثلاثاء ١٥ يناير سنة ١٩١٦م

أيُّها الوَسْمِيُّ زُرْ نَبْتَ الرُّبَا
واسبِق الفَجْرَ إلى رَوْضِ الزَّهَرْ
حَيِّه وانثُرْ على أكْمامِه
مِنْ نِطافِ الماءِ أشْباهَ الدُّرَرْ
أيُّها الزَّهْرُ أفِقْ مِنْ سِنَةٍ
واصطَبِحْ من حَمْرة لم تُعْتَصَرْ
مِنْ رَحيقٍ أُمُّه غدِيَةٌ
ساقَها تحتَ الدُّجى رَوْحُ السَّحَرْ
وانفَحِ الرَّوْضَ بنَشْرٍ طَيِّبٍ
عَلَّه يوقِظُ سُكّانَ الشَّجَرْ
إنّ بي شَوْقًا إلى ذي غُنَّةٍ
يُؤْنِسُ النَّفْسَ وقد نامَ السَّمَرْ
إيهِ يا طَيْرُ ألا مِنْ مُسْعِدٍ؟
إنّني قد شفَّني طولُ السَّهَرْ
قُمْ وصَفِّقْ واستَحِرْ واسجَعْ ونُحْ
وارْوِ عَنْ إسحاقَ مأْثُورَ الخَبَرْ
ظَهَرَ الفَجْرُ وقد عَوَّدْتَني
أنْ تُغَنِّيني إذا الفجرُ ظَهَرْ
غَنِّني كمْ لك عِنْدي من يَدٍ
سَرَّتِ الأشْجانَ عنِّي والفِكَرْ
إخْرِق السَّمْعَ سوى مِنْ نَبَإ
خَرَق السَّمعَ فأدْمَى فوَقَرْ
كلَّ يوْمٍ نَبْأَةٌ تَطْرُقُُنا
بعَجيبٍ من أعاجيبِ العِبَرْ
أمَمٌ تَفْنَى وأركانٌ تَهي
وعُروشٌ تَتهاوَى وسُرُرْ
وجُيوشٌ بجُيوشٍ تَلْتقي
كسُيولٍ دَفَقَتْ في مُنْحَدَرْ
ورجالٌ تَتبارى للرَّدى
لا تُبالي غابَ عنها أم حَضَرْ
مَنْ رآها في وَغَاها خالَها
صِبْيَةً خَفَّتْ إلى لِعْبِ الأكَرْ
وحُروبٌ طاحِناتٌ كلَّما
أطْفِئَتْ شَبَّ لظاها واستَعَرْ
ضَجَّتِ الأفْلاكُ من أهْوالِها
واستَعاذَ الشمسُ منها والقَمَرْ
في الثَّرى، في الجَوِّ، في شُمِّ الذُّرَا
في عُبابِ البَحْرِ، في مَجْرى النَّهَرْ
أسْرَفَتْ في الخَلْقِ حتّى أوْشَكُوا
أنْ يَبيدوا قَبْلَ مِيعادِ البَشَرْ
فاصْمِدوا ثمّ احْمَدوا اللهَ على
نِعْمَةِ الأمْنِ وطيبِ المُسْتَقَرّ
نعْمَة الأمْنِ وما أدْراكَ ما
نِعْمَة الأمْن إذا الخَطْبُ اكْفَهَرّ
واشكُروا سُلْطانَ مِصْرٍ واشكُروا
صاحِبَ الدَّوْلَة مَحْمُودَ الأثَرْ
نحن في عَيْشٍ تَمنَّى دونَه
أمَمٌ في الغَرْبِ أشقاها القَدَرْ
تَتَمَنّى هَجْعَةً في غِبْطَةٍ
لم تُساوِرْها اللَّيالي بالكَدَرْ
إنّ في الأزْهَرِ قَومًا نالَهُمْ
مِنْ لَظَى نيرانها بعْضُ الشَّرَرْ
أصبَحُوا — لا قَدَّر اللهُ لنا —
في عَناءٍ وشقاءٍ وضَجَرْ
نُزَلاءُ بينَنا إنْ يُرْهَقُوا
أو يُضاموا إنّها إحْدى الكَبَرْ
فأعِينُوهُمْ فهُمْ إخْوانُكُمْ
مَسَّهُمْ ضُرٌّ ونابَتْهُمْ غِيَرْ
أقْرِضوا اللهَ يَضاعِفْ أجْرَكُمْ
إنّ خَيْرَ الأجْرِ أجْرٌ مُدَّخَرْ

(١٩) الجمعيّة الخيريّة الإسلاميّة (نشرت في ٢٨ مارس سنة ١٩١٦م)

أنشد هذه القصيدة بين يدي المغفور له السلطان حسين كامل في ليلة أحيتها الجمعيّة الخيريّة بالأوبرا السلطانيّة. وقد قالها على لسان صنيعة من صنائع الجمعيّة كان يتيمًا بائسًا، فكفلته الجمعيّة حتّى اكتمل عقلا وعِلمًا.

قَضَّيْتُ عَهْدَ حَداثتي
ما بيْنَ ذُلٍّ واغْترابْ
لم يُغْنِ عَنّي بيْنَ مَشْـ
ـرِقِها ومَغْرِبها اضْطرابْ
صَفِرَتْ يدي فخَوى لها
رأسي وجَوْفي والوِطابْ
وأنا ابنُ عَشْرٍ ليس في
طَوْقي مُكافَحةُ الصِّعابْ
لم يَبْقَ مِنْ أهْلي سوى
ذِكْرٍ تَناساهُ الصِّحابْ
أمْشي يُرَنِّحُني الأسى
والبُؤْسُ تَرنيحَ الشَّرابْ
فلكمْ ظَلِلْتُ على طوًى
يومي وبِتُّ على تَباتْ
والجُوعُ فرّاسٌ له
ظُفْرٌ يَصولُ به ونابْ
فكأنّه في مُهْجَتي
نَصْلٌ تَغَلْغَلَ للنِّصابْ
ولَكَمْ صَحِبْتُ الأبْيَضَيْـ
ـنِ فأبْلَيا بُرْدَ الشَّبابْ
فإذا ظَفِرْتُ بكِسْرَةٍ
فإدامُها مِنِّي لُعابْ
وعَلَيَّ طِمْرٌ لو هَفَتْ
ريحُ الشَّمالِ به لَذابْ
فخُروقُه ومَصائبي
في العَدِّ يُخْطِئُها الحِسابْ
ما زِلْتُ أُوسِعُ مِحْنَتي
صَبْرًا وأحْتَمِلُ العَذابْ
حتّى تَنفَّسَ صُبْحُ إقـ
ـبالي ونَجْمُ النَّحْسِ غابْ
ولكلِّ سيْفٍ مُصْلَتٍ
لحَوادِثِ الدُّنيا قِرابْ
والعَيْشُ في إقباله
شُهدٌ وفي الإدْبارِ صابْ
فتلقَّفَتْني فِتْيَةٌ
رُحْبُ الشَّمائِلِ والجَنابْ
مَهَدُوا لأنْفُسِهِمْ بما
صنعوه زُلْفى واحْتِسابْ
وعَدَوْا إلى الحُسْنى كما
تَعْدُو المُطَهَّمَةُ العِرابْ
كم أُسْرَةٍ ضاقَ الرَّجا
ءُ بها وأعْياها الطِّلابْ
دَقُّوا عليها بابَها
واللَّيْلُ مَسْدولُ النِّقابْ
وتَعاهَدوها مِثْلما
يَتعاهَدُ النَّبْتَ السَّحابْ
وجَمالُ صُنْعِ البِرِّ ألْـ
ـلا يُسْتَشَفّ له حِجابْ
فتَحوا المَدارِسَ حِسْبَةً
وتَنظَّروا حُسْنَ المآبْ
فيها تبيَّنْتُ الهُدى
وقرأْتُ (فاتِحَة الكِتابْ)
وبها صَدَفْتُ عن الضَّلا
لة واهْتَديْتُ إلى الصَّوابْ
وغَدَوْتُ إنْسانًا تُجَمْـ
ـمِلُه الفضائِلُ لا الثِّيابْ
مُتَبَصِّرًا ذا فِطْنَةٍ
تَنْفي القُشورَ عن اللُّبابْ
(جمعِيّةٌ خَيْريّةٌ)
قامَتْ لتَخْفيفِ المُصابْ
قد كان فيها (عبدُه)
غَوْثًا يُلبِّي مَنْ أهابْ
لم يَدْعُ مِسْماحًا إلى
إنِعاشِها إلاّ أجابْ
ما غابَ عنها مَرّةً
حتّى تَغيَّبَ في التُّرابْ
و(لِعاصِمٍ) أثَرٌ بها
باقٍ وذِكْرٌ مُسْتَطابْ
قد كان يحميها كما
تحمي مجاثِمَها العُقابْ
ثَبَتَتْ وكان ثَباتُها
يَدعو إلى العَجَبْ العُجابْ
والشَّرْقُ أوْرَثَ أهْلَه
حُبَّ التَقَلُّب والخِلابْ
فينا على كَرَمِ الطِّبا
عِ ونُبْلِها طَبْعٌ يُعابْ
داءُ التَّواكُلِ وهْوَ في الـ
ـعُمْرانِ داعِيةُ الخَرابْ
ثَبَتَتْ لأنّ لها إلى
أعْتابِ مَوْلانا انْتِسابْ
لولا (حُسَيْنٌ) لم تَدُمْ
إلاّ كما دامَ الحَبابْ
اللهُ أدْرَكَها به
بَحْرًا مَوارِدُه عِذابْ
يا واهِبَ الآلافِ كَمْ
طوَّقْتَ بالمِنَنِ الرِّقابْ
لكَ ساحَةٌ عَلوِيّةٌ
ما أمَّها أمَلٌ وخابْ
مَهَّدْتَ للأخْيارِ مَيْـ
ـدانَ السِّباقِ إلى الثَّوابْ
لا زِلْتَ في القُطْرَيْنِ مَحْـ
ـروسَ الأريكَةِ والرِّكابْ

(٢٠) جمعيّةُ إعانة العميان

قالها في حفل أقامته الجمعيّة لبناء مدرسة للعميان الأحداث بالأوبرا في ١٩ديسمبر سنة ١٩١٦م ونشرت في اليوم التالي

إنّ يومَ احْتِفالِكُمْ زادَ حُسْنًا
وجَلالاً بيوْمِ عيدِ الجُلوسِ
فاقترانُ اليوْمَيْنِ رَمْزٌ إلى يُمْـ
ـن وبُشْرى تَسُرُّ رَهْنَ الحُبُوسِ
فكأنّي أشيمُ عاطِفةَ البرْ
رِ عِيانًا تجولُ بيْنَ الجُلوسِ
وأرى في الوُجوهِ سِيَما ارتياحٍ
وابتهاجٍ لسَعْيِ تِلْكَ العَروسِ
إنّ حَقَّ الضَّريرِ عند ذوي الأبْـ
ـصارِ حَقُّ مُسْتَوْجِب التَّقْديسِ
لم يَضِرْه فُقْدانُه نُورَ عَيْنَيْـ
ـهِ إذا اعْتاضَ عَنْهُما بأنيسِ
أنِسوا نَفْسَه إذا أظْلَمَ العَيْـ
ـشُ بعِلْمٍ فالعِلْمُ أُنْسُ النُّفوسِ
وجِّهُوه إلى الفَلاحِ يُفِدْكُمْ
فوقَ ما يَستَفيدُه من دُروسِ
أكْمِلوا نَقْصَه يَكُنْ عَبْقَريًّا
مِثْلَ (طه) مُبَرِّزًا في الطُّروسِ
كَمْ رأيْنا من أكْمَهٍ لا يُجارَى
وضريرٍ يُرْجَى ليَوْمٍ عَبُوسِ
لم تَقِفْ آفةُ العُيونِ حِجازًا
بيْنَ وَثْباتِه وبيْنَ الشُّموسِ
عَدِمَ الحِسَّ قائدًا فحَداه
هَدْيُ وِجْدانِه إلى المَحْسوسِ
مِثْلُ هذا إذا تَعَلَّمَ أغْنى
عنْ كثيرٍ وجاءَنا بالنَّفيسِ
ذاك أنّ الذَّكاء والحِفْظَ حَلاّ
في جوارِ النُّهَى بتلْكَ الرُّءوسِ
فعلى كلِّ أكْمَهٍ وبصيرٍ
شُكْرُ أعضائِكُمْ وشُكْرُ الرَّئيسِ

(٢١) ملجأ الحرّيّة (نشرت في ١٩ مايو سنة ١٩١٩م)

أيَّها الطِّفْلُ لكَ البُشْرى فقد
قَدَّرَ اللهُ لنا أنْ نُنْشَرَا
قَدَّرَ اللهُ حَياةً حُرَّةً
وأبى سُبْحانَه أنْ تُقْبَرا
لا تَخَفْ جُوعًا وعُرْيًا ولا
تَبْكِ عَيْناكَ إذا خَطْبٌ عَرا
لكَ عند البرِّ في مَلْجَئِه
حيثُ تأوي خاطِرٌ لنْ يُكْسَرا
حيثُ تَلقَى فيه حَدْبًا وتَرى
بين أتْرابِكَ عَيْشًا أنْضَرا
لا تُسئ ظنًّا بمُثْرينَا فقَدْ
تابَ عنْ آثامِه واستَغْفَرا
كان بالأمْسِ وأقْصى هَمِّه
إنْ أتى عارِفةً أن يَظْهَرا
فغدا اليومَ يُواسي شَعْبَه
وهْو لا يَرْغَبُ في أنْ يُشْكَرا
نَبَّهَتْ عاطِفةَ البرِّ به
مِحْنَةٌ عَمّتْ ومِقدارٌ جَرى
جَمَعَتْنا في صعيدٍ واحِدٍ
وأرادَتْنا على أنْ نُقْهَرا
فتَعاهدْنا على دَفْعِ الأذى
بركوبِ الحَزْمِ حتّى نَظْفَرا
وتَواصَيْنا بصَبْرٍ بيْنَنا
فغَدَوْنا قُوّةً لا تُزْدَرى
أنْشَرَتْ في مِصْرَ شعْبًا صالِحًا
كان قَبْلَ اليوْمِ مُنْفَكَّ العُرَا
كم مُحِبٍّ هائِم في حُبِّها
ذادَ عنْ أجْفانِه سَرْحَ الكَرى
وشَبابٍ وكُهولٍ أقْسَموا
أنْ يَشِيدُوا مَجْدَها فوْقَ الذُّرَا
يا رِجالَ الجِدِّ هذا وقْتُه
آنَ أنْ يَعمَلَ كلٌّ ما يَرَى
مَلْجَأ أو مَصْرِفًا أو مَصْنَعًا
أو نِقاباتٍ لزُرّاعِ القُرى
أنا لا أعْذِرُ منكمْ مَنْ ونَى
وهو ذُو مَقْدرَةٍ أو قَصَّرا
فابدَءوا بالمَلْجَإ الحُرِّ الّذي
جئْتُ للأيْدي له مُسْتَمْطِرا
واكفُلوا الأيْتامَ فيه واعلَموا
أنّ كلَّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفَرا
أيُّها المُثْري ألا تَكْفُلُ مَنْ
باتَ مَحْرومًا يتيمًا مُعْبِرا
أنتَ ما يُدْريكَ لو أنْبَتَّه
ربّما أطْلَعْتَ بَدْرًا نَيِّرا
ربّما أطْلَعْتَ (سَعْدًا) آخًرًا
يُحْكِمُ القَوْلَ ويَرْقَى المِنْبَرا
ربّما أطْلَعْتَ منه (عَبْدَه)
مَنْ حَمَى الدِّينَ وزانَ (الأزْهَرا)
ربّما أطْلَعْتَ منه شاعِرًا
مِثلَ (شَوْقي) نابهًا بيْنَ الوَرى
ربّما أطْلَعْتَ منه فارِسًا
يَدْخُلُ الغِيلَ على أُسْدِ الشَّرى
كم طَوَى البُؤْسُ نُفوسًا لو رَعَتْ
مَنْبتًا خِصْبًا لكانت جَوْهَرا
كم قَضَى العُدْمُ على مَوْهِبَة
فتوارَتْ تحتَ أطْباقِ الثَّرى
كلُّ مَنْ أحْيا يَتيمًا ضائِعًا
حَسْبُه مِنْ ربِّه أنْ يؤْجَرَا
إنّما تُحْمَدُ عُقْبَى أمْرِه
مَنْ لأخْراهُ بدُنْياهُ اشتَرى

(٢٢) جمعيّة الطفل

أنشدها في الحفل الذي أقامته هذه الجمعيّة في يوم الثلاثاء أوّل مايو سنة ١٩٢٨م

أيُّها ا لطِّفْلُ لا تَخَفْ عَنَتَ الدَّهْـ
ـرِ ولا تَخْشَ عادِياتِ اللَّيالي
قَيَّضَ اللهُ للضَّعيفِ نُفوسًا
تَعْشَقُ البِرَّ من ذَواتِ الحِجالِ
أيْ ذَواتِ الحِجال عِشْتُنَّ للبِرْ
رِ ودُمْتُنَّ قُدْوَةً للرِّجالِ
لم يَكونوا ليُدْرِكُوا المَجْدَ لولا
كُنّ أو يَسْلُكوا سبيلَ المَعالي
بَسمَةٌ تَجْعَلُ الجَبانَ شُجاعًا
وتُعيدُ البَخيلَ أكْرَمَ نالِ
وعِظامُ الرِّجالِ من كلِّ جِنْسٍ
في رضاكُنّ أرْخَصوا كلَّ غالي
راعَني من نُفوسِكُنّ جَمالٌ
يَتَجَلَّى في هالةٍ مِنْ جَلالِ
وجَمالُ النُّفوسِ والشِّعْرِ والأخْـ
ـلاقِ عِنْدي أسْمى مجالي الجَمالِ
قُمنَ عَلِّمْنَنا المُروءَةَ والعَطْـ
ـفَ على البائسين والسُّؤَّالِ
قُمْنَ عَلِّمْنَنا الحَنانَ على الطِّفْـ
ـلِ شريدًا فريسةَ المُغْتالِ
قد أجْبْنا نِداءَكُنَّ وجِئْنا
نَسألُ القادِرين بعضَ النَّوالِ
لو مَلَكْنا غيرَ المَقالِ لجُدْنا
إنّ جُهْدَ المُقِلِّ حُسْنُ المَقالِ
أنْقِذُوا الطِّفْلَ إنّ في شِقْوَةِ الطِّفْـ
ـلِ شقاءً لنا على كلِّ حالِ
إنْ يَعِشْ بائِسًا ولم يَطْوِه البُؤْ
سُ يَعِشْ نَكبَةً على الأجْيالِ
رُبَّ بُؤْسٍ يُخَبِّثُ النَّفْسَ حتّى
يَطْرَحُ المَرْءَ في مهاوي الضَّلالِ
أنْقِذوهُ فربَّما كان فيه
مُصْلِحٌ أو مُغامِرٌ لا يُبالي
ربّما كان تحتَ طِمْرَيْهِ عزْمٌ
ذو مَضاء يَدُكُّ شُمَّ الجِبالِ
رُبَّ سِرٍّ قد حلَّ جِسْمَ صغيرٍ
وتَأبَّى على شديدِ المِحالِ
فخِفافُ الأفيالِ أرْفَقْ وَقْعًا
لو تَبيَّنْتَ من دبيبِ النِّمالِ
شاعَ بُؤْسُ الأطْفالِ والبُؤْسُ داءٌ
— لو أُتيحَ الطَّبيبُ — غيرُ عُضالِ
أيِّدوا كلَّ مَجْمَع قام للبرْ
رِ بجاهٍ يُظِلُّه أو بمالِ
كم يَتيْمٍ كادتْ به البَأْ
ساءُ لولا (رعايةُ الأطفالِ)
ورجالُ الإسعافِ أنْبَلُ — لولا
شَهْوَةُ الحَرْبِ — من رجال القِتالِ
يَسْهَرونَ الدُّجَى لتَخْفيفِ وَيْلٍ
أو بَلاءٍ مُصَوَّبٍ أو نَكالِ
كم جَريحٍ لولاهُمُ ماتَ نَزْفًا
في يَدِ الجَهْلِ أو يَدِ الإهْمالِ
كم صريعٍ من صدْمَةٍ أو صريعٍ
من سُمومِ مُخََّدرِ الأوْصالِ
كم حريقٍ قد أحْجَمَ الناسُ فيه
عن ضحايا تَئِنُّ تحتَ التِّلالِ
يَترامَوْنَ في اللَّهِيبِ سِراعًا
كتَرامي القَطا لوِرْدِ الزُّلالِ
لا لشيءٍ سوى المُروءَةِ يَحْلو
طَعْمُها في فَمِ المَريءِ المُوالي
فاصنَعُوا البرَّ مُنْعِمينَ وجُودُوا
أيُّها القادِرونَ قبلَ السُّؤالِ
لانْتِشارِ العُلومِ أو لانْطواءِ الـ
ـبُؤْسِ والشَّرِّ أو لِتَرْفيهِ حالِ

(٢٣) كلّيّة البنات الأمريكيّة (نشرت في ٢٦ مايو سنة ١٩٢٨م)

قالها في الحفل الذي أقامته الكلّيّة لتوزيع الشهادات والجوائز على الفائزات

أيْ رجالَ الدُّنيا الجديدَةِ مَهْلاً
قد شأوْتُمْ بالمُعْجِزاتِ الرِّجالاَ
وفَهِمْتُمْ مَعْنَى الحَياةِ فأرْصَدْ
تُمْ عليها لكلِّ نَقْصٍ كَمالاَ
وحَرَصْتُمْ على العُقول فحرَّمْـ
ـتُمْ عصيرًا يَراه قوْمٌ حَلالا
وقدَرْتُمْ دقيقةَ العُمْر حِرْصًا
وسِواكُمْ لا يَقْدُرُ الأجْيالاَ
كم أحالُوا على غَدٍ كلَّ أمْرٍ
ومُحيلُ الأمورِ يَبغي المُحالاَ
قد تَحدَّيتُمُ المَنيَّةَ حتّى
هَمَّ أنْ يَغْلِبَ البَقاءُ الزَّوالاَ
وطَوَيْتُمْ فراسِخَ الأرْضِ طيًّا
ومَشَيْتُمْ على الهواءِ اختِيالاَ
ثمّ سَخَّرْتُمُ الرِّياحَ فسُسْتُمْ
حَيْثُ شِئْتُمْ جَنُوبَها والشَّمالاَ
تُسْرِجُونَ الهواءَ إنْ رُمتُم السَّيْـ
رَ وفي الأرْضِ مَنْ يَشُدُّ الرِّحالاَ
وتَخِذْتُمْ مَوْجَ الأثيرِ بريدًا
حينَ خِلْتُمْ أنَّ البُروقَ كُسالى
ثمّ حاوَلْتُمُ الكَلامَ مع النَّجْـ
ـمِ فحَمَّلْتُم الشُّعاعَ مَقالاَ
ومَحا (فُورْدُ) آيةَ المَشْي حتّى
شَرَعَ النّاسُ يَنبِذونَ النِّعالاَ
وانتَزَعْتُمْ من كلِّ شبْرٍ بظَهْرِ الـ
ـأرْضِ أو بَطْنِها المُحَجَّبِ مالاَ
وأقَمْتُمْ في كلَِّ أرْضٍ صُروحًا
تَنْطَحُ السُّحْبَ شامِخاتٍ طوالاَ
وغَرَسْتُم للعِلْمِ رَوْضًا أنيقًا
فوقَ دُنيا الوَرَى يَمُدُّ الظِّلالاَ
وحَلَلْتُمْ بأرْضِنا فَعَرَفْنا
كيف تُنْمونَ بيْنَنا الأطْفالاَ
ورَأيْنا البناتِ كيفَ يُثَقَّفْـ
ـنَ بعِلْمٍ يزيدُهُنَّ جَمالاَ
ليتَ شِعْري متى أرى أرْضَ مِصْرٍ
في حِمَى اللهِ تُنْبِتُ الأبطالاَ
وأرى أهْلَها يُبارُونَكُمْ عِلْـ
ـمًا ووَثْبًا إلى العُلا ونِضالاَ
قد نَفَضْنا عنّا الكَرى وابتَدَرْنا
فُرَصَ العَيْشِ وانتَقَلْنا انتِقالاَ
وعَلِمنا بأنَّ غَفْلَةَ يوْمٍ
تَحْرِمُ المَرْءَ سَعْيَهُ أحْوالاَ
فشَقَقْنا إلى الحياةِ طريقًا
وأصَبْنا على الزِّحامِ مَجالاَ
ونَهَضْنا في ظلِّ عَرْشِ (فؤادٍ)
ورَفَعْنا لعَهْدِه تِمْثالاَ
قد أبى اللهُ أنْ نَعيشَ على النا
سِ — وإنْ ضاقَت الوجوه — عِيالاَ

(٢٤) الأزبكيّة

كم وارِثٍ غَضِّ الشَّبابِ رَمَيْتِه
بغَرامِ راقِصةٍ وحبّ هَلوكِ
ألْبَسْتِهِ الثَّوْبَيْنِ في حالَيْهِما
تيهَ الغَنيِّ وذِلَّةَ المَفْلوكِ

(٢٥) نشيد الشبّان المسلمين

أَعِيدوا مَجْدَنا دُنيا ودِينَا
وذُودُوا عن تُراثِ المُسلِمينا
فمَن يَعْنُو لغَيْرِ اللهِ فينا
ونحنُ بَنُو الغُزاةِ الفاتحينا
مَلَكْنا الأمْرَ فوق الأرضِ دَهْرًا
وخَلَّدنا على الأيّامِ ذِكْرى
أتى (عُمَرٌ) فأنْسى عَدْلَ (كِسْرى)
كذلك كان عَهْدُ الرَّاشدينا
جَبَيْنا السُّحْبَ في عَهْدِ الرَّشيدِ
وباتَ النّاسُ في عَيْشٍ رَغيدِ
وطوَّقَت العَوارِفُ كلَّ جِيدِ
وكان شِعارُنا رِفْقًا ولِينَا
سَلُوا (بَغْدادَ) والإسلام دين
أكانَ لها على الدُّنيا قَرينُ
رِجالُ للحَوادِثِ لا تَلينُ
وعِلْمٌ أيَّد الفَتْحَ المُبينا
فلسنا منهمُ والشَّرْقُ عاني
إذا لم نَكْفِه عنَتَ الزَّمانِ
ونَرْفَعُه إلى أعْلى مَكانِ
كما رَفَعُوه أو نَلْقى المَنُونا

(٢٦) غلاء الأسعار

أيُّها المُصْلِحُونَ ضاقَ بنا العَيْـ
ـشُ ولم تُحْسِنوا عليْه القِيامَا
عَزَّت السِّلْعَةُ الذَّليلَةُ حتّى
باتَ مَسْحُ الحِذاءِ خَطْبًا جُسامَا
وغَدا القوتُ في يَدِ النّاسِ كاليا
قُوتِ حتّى نَوَى الفقيرُ الصِّياما
يَقطَع اليومَ طاوِيًا ولّدَيْه
دُونَ ريحِ القُتارِ ريحُ الخُزامَى
ويَخالُ الرَّغيفَ في البُعْدِ بَدْرًا
ويَظُنُّ اللُّحُومَ صَيْدًا حَرامَا
إنْ أصابَ الرَّغيفَ مِنْ بَعْدِ كَدٍّ
صاحَ: مَنْ لي بأنْ أُصيبَ الإدامَا؟
أيُّها المُصْلِحونَ أصْلَحْتُمُ الأرْ
ضَ وبِتُّمْ عن النُّفوس نِياما
أصْلِحوا أنفُسًا أضَرَّ بها الفَقْـ
ـرُ وأحيا بمَوْتها الآثاما
ليس في طَوْقها الرَّحيلُ ولا الجِدْ
دُ ولا أنْ تُواصِلَ الإقْداما
تُؤْثِرُ المَوْتَ في رُبا النِّيل جُوعًا
وتَرَى العارَ أنْ تَعافَ المُقاما
ورِجالُ الشَّآمِ في كُرَةِ الأرْ
ضِ يُبارُونَ في المَسيرِ الغَماما
رَكِبوا البَحْرَ، جاوَزوا القُطْبَ، فاتُوا
مَوْقِعَ النَّيِّرَيْنِ خاضُوا الظَّلاما
يَمْتَطون الخُطوبَ في طَلَبِ العَيْـ
ـشِ ويَبْرونَ للنِّضال السِّهاما
وبَنو مِصْرَ في حِمَى النِّيلِ صَرْعَى
يَرْقُبونَ القضاءَ عامًا فعاما
أيُّها النِّيلُ كيف نُمْسي عِطاشًا
في بلادٍ رَوَّيْتَ فيها الأناما
يَرِدُ الواغِلُ الغَريبُ فيَرْوَى
وبَنوكَ الكِرامُ تَشكو الأُواما
إنَّ لينَ الطِّباعِ أوْرَثَنا الذُّلْـ
ـلَ وأغْرى بنا الجُناة الطَّغاما
إنَّ طيبَ المُناخِ جَرَّ علينا
في سبيلِ الحياةِ ذاكَ الزِّحاما
أيُّها المُصْلِحونَ رِفْقًا بقَوْمٍ
قيَّدَ العَجْزُ شيْخَهُمْ والغُلاما
وأغِيثُوا من الغَلاء نُفوسًا
قد تَمنَّتْ مع الغَلاء الحِماما
أوْشَكَتْ تأكُلُ الهَبِيدَ من الفَقْـ
ـرِ وكادَتْ تَذُودُ عنه النَّعاما
فأعيدوا لنا المُكُوسَ فإنَّا
قد رأينا المُكُوسَ أرْخَى زِماما
ضاقَ في مِصْرَ قِسْمُنا فاعذِرونا
إنْ حَسَدْنا على الجَلاءِ الشَّآما
قد شَقينا — ونحنُ كرَّمَنا اللـ
ـهُ — بعَصْرٍ يُكَرِّمُ الأنْعامَا

(٢٧) أضرحة الأولياء

أحياؤُنا لا يُرْزَقونَ بدِرْهَمٍ
وبألْفِ ألْفٍ تُرْزَقُ الأمواتُ
مَنْ لي بحَظِّ النائمين بحُفْرَةٍ
قامَتْ على أحْجارِها الصَّلواتُ
يَسعى الأنامُ لها، ويَجري حَوْلَها
بَحْرُ النَّذورِ، وتُقْرَأ الآياتُ
ويُقالُ: هذا القُطْبُ بابُ المُصْطفى
ووسيلةٌ تُقْضَى بها الحاجاتُ

وقال على لسان طفلة:

أخْشى مُرَبِّيَتي إذا
طَلَعَ النَّهارُ وأفْزَعُ
وأظَلُّ بين صواحِبي
لعِقابِها أتَوَقَّعُ
لا الدَّمْعُ يَشْفَعُ لي ولا
طُولُ التَّضَرُّعِ يَنْفَعُ
وأخاف والِدتي إذا
جَنَّ الظَّلامُ وأجْزَعُ
وأبيتُ أرْتَقِبُ الجَزا
ءَ وأعْيُني لا تَهْجَعُ
ما ضَرَّني لو كنتُ أسْـ
ـتَمِعُ الكَلامَ وأخْضَعُ
ما ضَرَّني لو صُنْتُ أثْـ
ـوابي فلا تَتَقطَّعُ
وحَفِظْتُ أوراقي بمَحْـ
ـفَظتي فلا تَتَوزَّعُ
فأعيشُ آمِنَةً وأمْـ
ـرَعُ في الهناءِ وأرْتَعُ

(٢٨) إلى باني الهرم

من شاعر مصر الكبير حافظ إبراهيم إلى فرعون مصر العظيم، باني الهرم ومسخّر الملايين.

من الشاعر في عهد الحرّيّة الشخصيّة وحكم الديمقراطيّة، إلى فرعون في عهد الملوك الآلهة والرعايا العبيد.

من ابن مصر في القرن العشرين بعد الميلاد، إلى سيّد مصر في القرن العشرين قبل الميلاد.

(٢٩) البلاغ الأسبوعي

سَخَّرَ العلْمَ ليَبْني آيةً
فوق شطِّ النيلِ تَبدو كالعَلَمْ
هي ذكرٌ خالدٌ لكنّه
عابسُ الوجهِ إذا الذِّكرُ ابتسمْ
كلُّ ما فيها على إعجازها
أنها قبرٌ لجبَّارٍ حُطَمْ
ليتَه سخَّر ما في عهدِهِ
من قُوًى في غير تقديس الرِّمَمْ
من فنونٍ أعْجَزَتْ أطواقَنا
وعلومٍ عندها الفكرُ وَجَمْ
وبَنانٍ مبدعاتٍ صَوَّرَتْ
أوْجُه العُذْرِ لعُبَّادِ الصَنَمْ
أبْدَعَتْ ما أبْدَعَتْ ثمّ انطَوتْ
وعلى أسرارِها الدهرُ خَتَمْ

(٣٠) من شاعر مصر إلى أبناء مصر

قيلت بعد ائتلاف حزبي الوفد والأحرار الدستوريّين البلاغ الأسبوعي ٢٦ نوفمبر سنة ١٩٢٦

قد غَفَوْنا وانْتَبَهْنا فإذا
نحن غَرْقَى، وإذا الموتُ أمَمْ
ثمّ كانت فترةٌ مقدورةٌ
غرَّ فينا الدهرَ ضعفٌ فَهَجَمْ
فتماسَكْنا فكانت قوّةٌ
زَلْزَلَتْ ركنَ الليالي فانْهَدَمْ
كان في الأنفس جُرحٌ من هوًى
نَظَر اللهُ إليه فالتأمْ
فنَشدْنا العيْشَ حُرًّا طلَقًا
تحت ظلّ اللهِ لا ظلِّ الأممْ
وحقيقٌ أن يُوَفَّى حَقَّهُ
مَنْ بحَبْلِ اللهِ والصبرِ اعتصمْ
آفةُ المرءِ إذا المرءُ وَنَى
آفةُ الشعبِ إذا الشعبُ انقسمْ
ليس منَّا مَنْ يَني أو يَنْثَني
أو يَعُقُّ النيلَ في رَعيِ الذممْ
نشءَ مصرٍ، نَبِّئوا مصرًا: بكَمْ
تشترون المقصِدَ الأسمى، بكَمْ؟
بنضالٍ يُصْقَلُ العزمُ به
وسُهادٍ في العُلا حلوِ الألمْ
أنا لا أفخرُ بالماضي، ولا
أحْسَبُ الحاضرَ يُطرَى أو يُذَمْ
كلُّ هَمّي أن أراكم في غدٍ
مثلَ ما كنتم أُسُودًا في أجَمْ
فالفتى كلُّ الفتى مَنْ لو رأى
في اقتحامِ النارِ عِزًّا لاقتحمْ
لا تَظُنُّوا العيشَ أحلامَ المنى
ذاك عهدٌ قد تَوَلَّى وانصرمْ
هو حربٌ بين فقرٍ وغنًى
وصراعٌ بين بُرءٍ وسَقَمْ
هو نارٌ ووقُودٌ فإذا
غَفَلَ الموقِدُ فالنارُ حَمَمْ
فانفُضُوا النومَ وجِدُّوا للعُلا
فالعُلا وقفٌ على مَنْ لم يَنَمْ
ليس يَجني مَنْ تَمَنَّى وصلَها
وانيًا أو وادِعًا غيرَ الندمْ
والأماني شرُّ ما تُمْنَى به
همَّةُ المرءِ إذا المرءُ اعتزم
تُحْمِدُ العَزمَ وتَثْني حَدَّهُ
فهْي كالماء لإخمادِ الضَّرمْ
وانظروا اليابانَ في الشَّرقِ وقد
رَكَّزَتْ أعْلامَها فوقَ القِمَمْ
حارَبوا الجهلَ وكانوا قبلنا
في دُجَى عَمْيائِه حتّى انهزمْ
فاسألوا عنها الثُّريَّا لا الثرى
إنها تحتلُّ أبراجَ الهممْ
هَممٌ يمشي بها العِلْمُ إلى
أنبلِ الغاياتِ لا تدري السَّأمَ
فهي أنَّى حاوَلَتْ أمْرًا مَشَتْ
خلْفَهَا الأيّامُ في صفِّ الخدمْ
لا تُبالي زُلْزِلَتْ من تحتِها
أمْ عليها النجمُ بالنجمِ اصطدمْ
تَخِذَتْ شمسَ الضُّحى رَمْزًا لها
وكفى بالشمسِ رَمْزًا للعِظَمْ
فهي لا تَألو صُعودًا تَبتغي
جانبَ الشمسِ مكانًا لم يُرَمْ

(٣١) التبّرع للتعليم

.أقامت نقابة المعلّمين حفلاً في دار الجامعة المصريّة مساء الجمعة ٢٩ من أكتوبر سنة ١٩٢٠ تكريمًا لمحسني المنوفيّة: حسنين عبد الغفّار وعبد العزيز حبيب ومحمود السيّد أبي حسين لتبرّعهم بسبعين فدّانًا من أطيانهم في المنوفيّة أوقفوها على التعليم.

ودُعي حافظ للاشتراك في تكريمهم، فألقى هذه القصيدة:

ثلاثَةٌ من سَراةِ النيلِ قد حَبَسوا
على مدارِسنا سبعين فدّانا
أحْيوا بها أملا قد كان يخنُقُه
بُخْلُ الغنيِّ وجَهْلٌ قد تَغشَّانا
وخالَفوا سُنَّةً في مصر شائعةً
جَرَّتْ على العِلْمِ والآدابِ خُسرانا
فإن هَمَّ سراةِ النيلِ أن يَقِفوا
على القبور وإن لم تَحْوِ إنسانا
فكم ضريحٍ خلاءٌ لا رُفاتَ به
تَرى له في مناحي النيل «أطيانا»
وكم حبوسٍ على الموتى، وغَلّتُها
يَشري الجُباةُ به خوصًا وريحانا
والعلمُ في حسرةٍ، والعقلُ في أسفٍ
والدِّينُ في خجلٍ ممّا تَولاَّنا
ما كان ضَرَّ سراةَ النيلِ لو فعلوا
شَرْواكُم، فبَنَوْا للعلمِ أركانا
تَقْذَى عيونٌ بني مصرٍ بمظهرِهم
في «الرملِ» حينًا، وفي «حلوانَ» أحيانا
يَبغون أن تَحتوي الدنيا خزائِنُهم
ويَزرعوا فلواتِ اللهِ أقطانا
وليس فيهم أخو نفعٍ وصالحةٍ
ولا ترى لهمُ برًّا وإحسانا
يا مصرُ حتّامَ يشكو الفلُ في زمنٍ
يُجنى عليه ويُمسي فيك أسوانا
قد سالَ واديك خِصْبًا ممتِعًا فمتى
تسيلُ أرجاؤه عِلْمًا وعِرفانا

(٣٢) إلى الدكتور طه حسين

عندما أصدر الدكتور طه حسين مؤلّفه «في الشعر الجاهليّ» شنَّ عليه جامدو الفكر حملة بتكفيره وبخروجه على الإسلام، وتغالى بعضهم فطالبوا بإهدار دمه، وكان منهم المرحوم الدكتور عبد الحميد سعيد الذي كان عضوًا بمجلس النّواب ورئيسًا لجمعيّة الشبّان المسلمين وقتئذٍ فقال حافظ:

إن صحَّ ما قالوا، وما أرْجَفُوا
وألصقوا زورًا بدين العميدْ
فكُفْرُ «طه» عند دَيَّانِهِ
أَحَبُّ من إسلامِ عبدِ الحميدْ

(٣٣) من حافظ إلى الشيخ عبد الرحيم الدمرداشي

لمّا ترجم حافظ كتاب البؤساء لفيكتور هوجو، أقبل الفضلاء على تعضيده بالاشتراك في أعداد من نسخ الكتاب، عدا شيخ الطريقة الدمرداشيّة وكان من أغنى أغنياء البلاد.

فلّما انتهى طبع الكتاب، أرسل إليه حافظ نسخة هديّة، وكتب عليها إهداءه:

هدّيةٌ من شاعرٍ بائسٍ
إلى الدمرداشي وليِّ النِّعَمْ
يُشْرِكُ باللهِ ولا يَشْتَرِكْ
في نسخةٍ فيها ضروبُ الحِكَمْ

(٣٤) مداعبة لحافظ

كان حافظ مدعوَّا لإلقاء قصيدة في حفل جمعيّة رعاية الأطفال بحديقة الأزبكيّة. وعند دخوله أراد المشرف أن يداعبه، فطلب منه التذكرة، فقال له إنّه حافظ إبراهيم، وجاء للمشاركة في الاحتفال السنويّ كعادته بقصيدة، فزعم المشرف أنّه لا يعرفه، وعليه أن يثبت شخصيّته ببيتين يرتجلهما.

فضحك حافظ وقال له: لم أرَ أخبث منك مشرفًا … وارتجل هذين البيتين:

رياضُ الأزبكيّةِ قد تَحَلَّتْ
بأنْجابٍ كرامٍ أنت مِنْهُمْ
فهَبْها جَنَّةً فُتِحَتْ لخيرٍ
وأدْخِلْنا معَ المَعْفوِّ عنهم

وضحك المشرف وقال: تفضَّل يا حافظ بك …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤