كلمة العريف

لم أستطع أن أنطق مع أن فمي كان غير مطبق، وراح يقصف أذني بمحاضرة ختمها بقوله: «نعم، إن هذا ضروري، ولكن من الواضح أن ليس في قدرتك دفع ثلاثمائة دولار.» ثم عاد فمزَّق بعينيه أثوابي العتيقة من جديد.

ولقد كنت في حياتي مرارًا كثيرةً هدفًا للؤم في الكلام والنظرات، غير أن كلماته هذه ونظراته سجَّلت في مضمار الخسَّة رقمًا قياسيًّا جديدًا.

كان ذلك شهر نيسان من سنة ١٩٤٥ في «مانيلا» عاصمة الفلبين. وكان المحاضر الدكتور «كروس» يطوف بين أسناني فيما أنا فاتح بوابة فمي. ونحن كنا قد نجونا من جهنم حرب احتجنا خلالها إلى كل شيء: إلى المال، إلى الطعام، إلى معجون ينظف الأسنان وفرشاة، فأصبح عاج أسناني بما انبث فيه من تفتت وفساد كأنه النظام السائد في لبنان.

فلما زرت الدكتور «كروس» أراد أن يتصيد الثلاثمائة دولار، فتحدى كبريائي بكلامه، مشيرًا إلى أن أسناني كلها يجب أن تغادر فمي.

وما كنت لأعترض لولا حنين للعودة إلى بلادي، وعزم على أن أقتلع نفسي من مغتربي من غير أن تُقْتلع أسناني من فمي؛ فلقد كنت أتحرق على أن أرجع لأقوم بأعمال كبيرة أحدها الخطابة.

وليست الأسنان كل الخطابة، ولكنها بعض العتاد؛ لذلك عصيت الطبيب — وكان غير صادق — ورجعت إلى وطني متوهمًا أن في فمي وقلبي معدات المنابر مستكملةً، فكان كتاب «سيداتي سادتي».

ولكن ما الخطابة؟

في رأيي إنها إقناع أو اقتلاع.

فالخطيب الناجح هو الذي يمحو من أفكار مستمعيه ما يود أن يقتلع، أو هو الذي يعزز في أذهانهم ما يرغب أن يبشِّر به. وما هو بالناجح من سرى له صيت أنه «خطيب مفوَّه» عظيم من غير أن يفوز منهم بغير الإعجاب.

وإن الناس متى أجمعوا تتدنى نفسيتهم فتدنو إلى الغريزة الحيوانية؛ فلا يعود بالصعب على من تخدر ضميره أن يطلق من رئتيه أرياحًا تلولب فراشة لسانه بسرعة تثير عواصف التصفيق. ومن كان هذا همه سهلت مهمته فنشر أمام النظارة قوس قزح يبهر، أو وضع في أيديهم مسابح للتسلية، أو بث في القاعة مخدرات من دخان الأفيون.

وما هو بالعسير على من يريد أن يبحث الخطابة أن يأتي بمختلف الوصفات والتعاليل، وقد تكون كلها صادقةً أو كلها كاذبةً؛ لذلك أقتصر الكلام على اختباراتي الشخصية، وما علمتني التجارب على المنابر، وما درست على الجماهير.

فإني قبل أن ألقي الخطاب أتحرى أبدًا أن أزور المكان أو القاعة حيث دُعِيت إلى الكلام، فما أبقى غريبًا ترعشني الرهبة في يوم الحفلة. وللمكان علاقة بالخطاب خفية لا أقدر أن أصفها، ولكنها موجودة.

وأجهد ألا أجلس على المنبر مواجهًا الجمهور قبل إلقاء الخطاب. هكذا يبقى في النظارة تشوُّق للمفاجأة الجسدية التي تُمْحى إذا ما استعرضوا الخطباء على المنبر قبل أن يتناوبوا الكلام.

وينبغي أن يُحْترم الفن المسرحي؛ فأنا بدين طويل، إذن فإني أبدًا أحرص على أن يكون أمامي طاولة تحجب ضخامة جسدي حتى لا يشرف على الجمهور إلا الرأس والصدر، ولو أني قصير لرقيت ما يجعلني أطل على الجمهور فارعًا.

وإن أكثر حفلاتنا تزدحم بالخطباء؛ فزملاؤك على المنبر يخلقون جوًّا يلائمك أو يزعجك. فإني قبل أن أقبل دعوةً أبدًا أتثبت من رفقائي مَن هم. وليس من رفيق أشد خطرًا على الخطيب من الخطيب الشاعر، فموسيقاه أبدًا تطمس نثر الكلام، فاجهد ألَّا تعتلي منبرًا عليه شاعر.

أما الموضوع الذي يجب أن تطرقه، فهنالك آفاق لا تحد. إنها تجارب الحياة، وصفو الدراسات، وخلجات القلب، ونداءات المجتمع، وكياسة المناسبات؛ كلها تفرض وتوحي.

وأما صياغة الكلام فيجب أن تتوافق مع المعاني وتتموسق مع الأنفاس. أنا قصير النفس، فعباراتي بحكم الطبع قصيرة. هذا ما لا ينتبه إليه الكثيرون؛ إذ هم يدبِّجون خطبهم، لا فرق بين تركيبها وبين صياغة مكتوب تعزية أو مقال في جريدة.

وأهم ما في صياغة الخطاب وضوحه وتبلور معانيه في كلمات نافذة؛ حتى ليفهمه كشَّاش الحمام، ويستهوي أساتذة الجامعة. ويجب أن يكون وحدةً ليُمسي رسالةً. ومن المباح، بل من المستحب أن تلجأ إلى صناعة التجميل وحيل البيان، فلا بأس من سجعة بعد سجعة. ومن المحتم أن تشرئب اللغة بنهوض الفكرة، وتعصف الكلمات حين استثارة العاطفة. والترجيع — سر أكثر فنون الأدب — يجب استعماله في الخطابة، فإنما الخطابة هي أحد فروع المسرحية.

والإلقاء كيف يجب أن يكون؟ قراءةً، أم بعد حفظ؟

يقول لي الأستاذ إنعام رعد — وهو، في رأيي، اليوم قيدوم الخطباء في لبنان: إنه إنْ دوَّن خطابه أعياه إلقاؤه. فهو يرتجل أفصح مما يقرأ؛ لذلك أعتقد أنه من الصعب أن نطلق قاعدةً تنطبق على كل الخطباء. وبعد، فالخطابة فن لا قدرة لنا على أن نقيده أو نقوننه. للنابغ — إنعام رعد مثلًا — أن يقف على قدميه ويطلق لسانه بالفصيح والمقنع والطريف، ولكن سائرنا ما أعطوا هذه المواهب. والمعترف به أن أفعل أنواع الإلقاء هو ورقة تقرأ منها ولا تقرؤها. وأنت تقرأ منها إذا استظهرت بعضها لا كلها، فلا مفر من التمرُّن على الإلقاء طويلًا قبل الصعود إلى المنبر. ولكن أن يتملك الخطيب كلماته ويسيطر عليها بحيث يبغبغها، فلا إجادة حينئذ في الإلقاء؛ إذ يصعب على الكلمات إن لم تفعل في نفس القائل أن تفعل في نفس السامع.

والنكتة؟

هذه لا يصح أن تأتي إلا في البداية، ولا بأس أن ينتهي بها الخطاب. أما ما بينهما فمن الخطر أن يتفكه بنكتة أو يتزين بطرافة. والنكتة على المنبر هي أكبر مغامرة، خصوصًا وأن مكانها صدر الخطاب. وليس من منظر أدعى للإشفاق من رجل فاه بين جمع بما توهمه فكاهةً وعجز عن استثارة ضحكة أو ابتسامة. خلِّ عنك إن حسبوا «النكتة» سماجةً.

ويكاد يكون من المستحيل التنبؤ بتجاوب الجماهير؛ فلقد سمعتهم يقهقهون بعبارة حسبت أنها توحي كل شيء إلا الضحك، ورأيتهم يستقبلون بالصمت ما توهمت أنه فكاهة، غير أن على الموهوبين ألا يطغى إضحاكهم الجماهير على سائر عناصر الخطاب؛ مخافة أن يصبحوا ندامى ومرفهين لا خطباء مرشدين.

وفي الخطب التي ستقرؤها لا تجد أكثر النكات التي أفتتح بها خطاباتي؛ ذلك أنني أتناول الموضوع من المكان الذي أنا فيه ومن الحالة الراهنة؛ ففي إحدى الحفلات مثلًا وقد أجلسونا على منبر؛ نواجه فيه النظارة، ورحت على عادتي أدخن السيكارة تلو السيكارة مما استلفت النظر، وقفتُ وقلت: «سيكون خطابي قصيرًا، لا لأنني أكره الكلام، بل لأن الكلام يمنعني عن التدخين.»

وفي موقف آخر، قدمني عريف اشْتُهر عنه أنه صديق لي حميم، وقبل أن ينتهي من الكلمة التي قدمني بها شرب من الكأس التي توضع عادةً على المنابر، فافتتحت خطابي بقولي: «إن العريف شرب من الكأس حتى يؤكد لي أنها غير مسمومة.» وملأت الكأس وشربت منها. وفي الموقفين كانت النكتة ناجحةً.

أما الجمهور، فهو على أشد جموده متى احتشد ﺑ «علية القوم»؛ فهؤلاء في غالب الأحيان يذيعون تفوقهم وعلية قومهم بوقار لا يغوص في الأرض ثقلًا؛ لأنه مرتفع إلى السماء السابعة ببالون رأس نفَخته غازات التفكير. وهم يجلسون وكأن الخطيب ماثل بين أيديهم يدافع عن نفسه بتهمة الخيانة العظمى.

وفي هذه البلاد مناطق حيوية لعل أشدها فورانًا مدينة طرابلس، ومناطق جمود لعل أشدها صقيعًا رأس بيروت.

وعلى الخطيب أن يحترم سامعيه، ويكسب ودَّهم، بأن يخاطبهم جميعًا، فلا يركز نظره على فئة واحدة منهم، بل يجول بنظره فيهم جميعًا، فيشعر كل واحد أن الكلام موجه إليه. يساعد الخطيب أن يكون له في القاعة أصدقاء وأنصار، على ألا يتكلف هؤلاء التحبيذ والتصفيق.

وأسرع الطرق إلى الانتحار أن يكثر الخطيب من وقفاته، أو يعتاد الناس إلى دعوته «إلى كلمة تليق بالمقام» في كل مناسبة، وبعد كل وليمة، وفي كل عرس، وعلى رأس كل ميت.

هذه هي بعض نواحي الخطابة الإيجابية على ما علمتني إياه التجارب، وقد أغفلت الناحية السلبية، فمن البديهي أن الانفعال الذي يسيطر على المدرسة القديمة يجب أن نقلع عنه. كذلك ما اعتاد الكثيرون أن يغنوا خطاباتهم أو يزولفوها أو يزمروها أو يصفروها أو يطبلوها.

وكذلك يجب أن ننقطع عن الرياء في تملق القرية أو المدينة التي نخطب فيها، وأن نقلع عن عادة التغني بأشخاص محليين أو رسميين.

ومن المستحيل أن نصِفَ كتابةً كيف يجب أن يكون الإيماء. وكالعادة، فأساطين الفن يخلقون القواعد أكثر مما يطبقونها.

ولعل أنفع ما اصطحب الخطيب إلى المنبر اسم كبير وشهرة تتقدمه …

سعيد تقي الدين

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤