مُقدِّمة

الطبيعة في كوكب الأرض على الأقل ميَّزَت المواد إلى مجموعتَين؛ هما المواد غير الحية، والكائنات (المواد) الحية، وهكذا تميَّزَت العلوم الطبيعية إلى علومٍ فيزيائية، شملَت الفيزياء والكيمياء وعلم الأرض (الجيولوجي) والتي تدرُس بالأساس الموادَّ غير الحية، وعلوم الحياة التي تدرُس الحياة والكائنات الحية. هذا إضافةً إلى الرياضيات التي وفَّرَت الوسائل لضبط القياس والكميَّات، وإحداثيات المكان، والتعبير التجريدي للعلاقات بين المتغيِّرات وغيرها، وصارت اللغة الدقيقة للعلوم. وحيث إن ظاهرة الحياة قد انبثقَت من تعقُّد وتطوُّر المواد غير الحية وهي في حالة تفاعلٍ دائمٍ معها، كان لا بد أن تعتمد علوم الحياة على مُنجَزات علوم الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا. وهكذا تَبلوَر مفهوم الخلية من خلال مُشاهدتِها لأول مرة من قِبَل روبرت هوك، سنة ١٦٦٥م، باستخدام المِجهَر المركَّب. كما أن التعرُّف على تركيب جُزيئة اﻟ DNA تم باستخدام التصوير بالأشعة السينية، واختراع المِجهَر الإلكتروني الذي مكَّن من مشاهدة الفايروسات والتراكيب الخلَوية، وهي تطبيقاتٌ لقوانينَ فيزيائية في البصريات. كما أن التعرُّف على تراكيب وفعاليات الأحياء لم يكن ممكنًا دون معرفة خواصِّ العناصر والتفاعلات الكيميائية وطُرق التحليل الكيميائي. وقدَّمَت الجيولوجيا معلوماتٍ مهمةً عن تشكُّل الأرض، والدهور، والمُتحجِّرات، والدور التحفيزي للمعادن وغيرها. وبذلك فإن تطوُّر علوم الحياة ارتبط ارتباطًا وثيقًا بتطوُّر هذه العلوم والتقنيات العلمية الناتجة عن تطبيقاتها.

تطوُّر علم الفيزياء قاد إلى تَبلوُر ميكانيك نيوتن، والديناميكا الحرارية، والنظرية النسبية، أو ما صار يُعرف بالفيزياء التقليدية، والتي تدرُس سلوك الطاقة والمادة على المدَيات المكانية والزمانية المنظورة والكبيرة، وميكانيك الكَم الذي يدرُس الطاقة والمادة على المستويات المِجهَرية تحت الذرية والذرية والجزيئية.

بطريقةٍ مناظرة تقريبًا، يدرُس علم الحياة ظاهرةَ الحياة والكائنات الحية بمدَياتها المنظورة، التي تخضع لقوانين الفيزياء التقليدية، وكذلك مستوياتها المِجهَرية بما فيها التراكيب الجُزيئية، والذرية، وتحت الذرية، وهذه تخضع جزئيًّا للفيزياء التقليدية أيضًا (الديناميكا الحرارية) وميكانيك الكَم.

تتميَّز الفيزياء التقليدية بالاختزالية، والحتمية، ودقَّة القياس، وثبات الحقيقة، بينما تتميَّز فيزياء الكَم باعتماد التجزُّؤية، واحتمالية الحقيقة وارتباطها بعملية القياس ومبدأ عدم الدقَّة.

وفي الوقت الذي تنسجم فيه قوانينُ ومبادئُ الفيزياء التقليدية مع البديهة البشرية؛ كونها تتعامل مع الأشياء والظواهر التي يتعامل معها الإنسان يوميًّا، فإن الظواهر الكمومية كثيرًا ما تبدو غير مألوفة بل منافية للبديهة؛ كالتراكُب، والتسرُّب، والتشابُك، والتي لا يتحسَّسها الإنسان.

الكائنات الحية هي الأخرى تُظهِر هذه المفارقة؛ كون أجسامها من الأشجار الضخمة، والحيتان إلى البكتيريا التي تقع ضمن أبعاد العالم الكبير أو المرئي، لكنها مبنيةٌ من تراكيبَ خلَوية، وتحت خلوية، جُزيئية وذرية، وتحت ذرية. كما أنها تُظهِر خواصَّ مألوفة؛ كونها تتألَّف من العناصر الكيميائية نفسها للمواد غير الحية. وتخضع للجاذبية وقوانين الحركة ذاتها، وفي الوقت نفسه تُظهِر خواصَّ غريبةً عن المواد غير الحية، كالتحسُّس والنمو والتكاثر. هذه المسألة تفسِّر سبب عمل الفيزياء التقليدية والفيزياء الكمومية في الأحياء.

وحيث نشأ علم الحياة سويةً مع نشوء العلوم الفيزيائية في القرن السابع عشر، فقد اعتمد في تفسير الفعاليات والحركيات البيولوجية على مبادئ ميكانيك نيوتن، واستمر في ذلك حتى بعد اكتمال فيزياء الكَم في الربع الأول من القرن العشرين. وأول بادرة للبحث عن دور ميكانيك الكَم في ظاهرة الحياة أُطلقَت سنة ١٩٤٣م، من قِبَل P. Jordan واستخدم مصطلَح البيولوجيا الكمومية. بعد ذلك بسنة، بحث الفيزيائي النظري المعروف، وأحد مؤسسي نظرية الكَم أروين شرودنجر دَوْر ميكانيك الكَم في وراثة الكائنات الحية وأدواره المُحتمَلة في النظام الأحيائي.

إن نشوء علم الحياة الجُزيئي في النصف الثاني من القرن العشرين سلَّط الضوء على التراكيب والفعاليات الجزيئية، ومكَّن من نشوء التقنية الحيوية والتقارُب أكثر فأكثر مع العلوم الفيزيائية؛ لتنشأ التقنية النانوية وتبرُز الحاجة إلى ميكانيك الكَم في تفسير الظواهر البيولوجية، حيث تَعجز الفيزياء التقليدية عن تفسيرها.

تضمَّن الفصل الأول مدخلًا لتكوين نظرةٍ علميةٍ شاملة لعمل الطبيعة، من خلال نظرية التعقيد والتفكير المنظومي؛ فمن خلال الوحدة والتباين، الحركة والتآثر وهي خواصُّ أساسية، تنتظم جميع الأشياء في الطبيعة في منظوماتٍ متصاعدة التعقيد. هذه النظرة تؤكِّد على ترابُط جميع الأشياء في الكون على الرغم من تمايُز المنظومات المختلفة. ومن أهم خواصِّ الحياة أنها تنبثق في منظوماتٍ معقَّدةٍ مفتوحة، بعيدة عن حالة التوازُن، وهي بذلك تكون قادرةً على تصحيح الأخطاء.

في الفصل الثاني تَمَّ التعريف بميكانيك الكم ونشوئه والمبادئ التي يرتكز عليها كالتجزُّؤية والطبيعة الموجية للأشياء والاحتمالية، وعدم الدقَّة والتماسُك، ودَور عمليات القياس في فك التماسُك. ويتضمَّن الفصل الظواهر الكمومية كثنائية الموجة الجسيمة والتماسُك، وفك التماسُك والتراكُب والتسرُّب والتشابُك.

يتناول الفصل الثالث علم الحياة الكمومي، نُشوءَه، ودَورَه في تعميق فهم الظواهر البيولوجية، وعلاقته بالعلوم الأخرى، كما يُبرِز علم الحياة الكمومي الخصوصية المميزة للكائنات الحية، باعتبارها منظوماتٍ معقدةً مفتوحة، بعيدة عن حالة التوازُن ما يمكِّن من عمل الظواهر الكمومية في ظروف درجات الحرارة العالية، والاكتظاظ الجُزيئي، وضوضاء البيئة. هذا ما لم يألفه الفيزيائيون، حيث إن دراسة الظواهر الكمومية على المواد غير الحية تتطلَّب عزلًا تامًّا عن البيئة، وظروفًا خاليةً تمامًا من وجود أية جُسَيمات أو ذرَّات (فراغ تام) وفي درجات حرارة تقترب من الصفر المطلَق. وهكذا يُقدِّم علم الحياة الكمومي نموذجًا مختلفًا يُسهِم في فهم وتطوير تقنيات البحث العلمي ليس في علوم الحياة فحسب، بل وفي الفيزياء والكيمياء والحواسيب الكمومية.

يتضمَّن الفصل الرابع عرضًا مختصرًا لأساسيات علم الحياة، والتي تُساعِد في فهم مواضيع الكتاب. هذا يشمل تركيب المادة والعناصر الطبيعية والتفاعلات الكيميائية والمواد ذات الأهمية البيولوجية وتركيب الخلية وتكاثُر الأحياء وتقسيمها.

ويستعرض الفصل الخامس دَوْر ميكانيك الكَم في نشوء الطفرات التلقائية والمستحثَّة في جُزيئة اﻟ DNA، بعيدًا عن تأثير العوامل الخارجية المُسبِّبة للطفرات. وهكذا يعمل ميكانيك الكَم أخطر الأدوار مع أهم التراكيب البيولوجية، والتي تمكِّن من تطوُّر الأحياء.
يتناول الفصل السادس عمل الإنزيم DNApolymerase المسئول عن تضاعُف جُزيئة اﻟ DNA ودقَّته وسرعة ذات الملامح الكمومية، وحفظ المعلومات، بالإضافة لما هو مخزون في اﻟ DNA.

الفصل السابع يستعرض عمل الإنزيمات المعتمد على التسرُّب الكمومي للإلكترونات والبروتونات أيضًا.

في الفصل الثامن تَمَّ تناوُل عمل القنوات الأيونية والاتصالات الخلَوية. وتضمَّن تفسير الانتخابية العالية وكفاءة القنوات الأيونية في نقل الأيونات على أساس التماسُك الكمومي والرنين لجُزيئات البروتين المكوِّن للقنوات. إضافةً إلى الاتصالات الخلَوية المعتمدة على الجُزيئات والجُزيئات الإشارية ثمَّة اتصالاتٌ خلَوية تتم بواسطة الإشارات الكهرومغناطيسية التي تتسم بالسرعة الفائقة، وتُعالج باستخدام الظواهر الكمومية. والاتصالات بين أجزاء الخلية وبينها والخلايا الأخرى تتم أيضًا بواسطة الفوتونات الحيوية المتماسكة كُموميًّا.

الفصل التاسع يناقش الملاحظات غير المتوقَّعة والمثيرة للجدل فيما يُعرف بذاكرة الماء؛ فجُزيئات الماء النقي المستحصلة من نموات الأحياء الدقيقة أو محاليل جزيئات اﻟ DNA وتحت تأثير الموجات الكهرومغناطيسية ذات التردُّد الضعيف من البيئة، تتمكَّن من حفظ ونقل المعلومات الجُزيئية بما في ذلك معلومات اﻟ DNA عن طريق المجالات المتماسكة التي تنشأ وهي بأبعادٍ نانوية.

الفصل العاشر عرضٌ للآليات الجُزيئية لعملية الشم في الحيوانات، والتي وجدَت تفسيرها الأفضل على أساس التسرُّب الكُمومي غير المَرِن للإلكترون.

الفصل الحادي عشر يُقدِّم آلية تحديد الاتجاهات في عملية هجرة الحيوانات، ويعرض دَور التشابُك الكُمومي بين أزواج الجذور في بروتينات عيون الطيور والحشرات وغيرها من الحيوانات، ودَورها في تحديد الاتجاهات أثناء الهجرة بتأثير المجال المغناطيسي للأرض.

الفصل الثاني عشر يناقش عملية الرؤية في الأحياء، ودَور البروتينات الصبغية مثل الرودوبسين والراتينال والآليات الكُمومية المسيِّرة لها.

الفصل الثالث عشر يتناول أهمية الظواهر الكُمومية؛ كالتراكُب والتشابُك والتي تتجلَّى في أهم عمليةٍ بيولوجيةٍ هي التركيب الضوئي، التي يتم فيها اقتناص طاقة الضوء بكفاءةٍ تقترب من الكمال في عملياتِ أكسدةِ اختزالٍ تنتهي بتكوين المركَّبات العضوية.

الفصل الرابع عشر يناقش مسألة الوعي في الأحياء والإنسان ودَور الظواهر الكُمومية في نشوئه عَبْر ثلاث آلياتٍ مقترحة، تتمثَّل بدور الأُنيبيبات الدقيقة والفسفور وجُزيئات بوزنر والقنوات الأيونية تحت تأثير تماسُك المجال المغناطيسي.

الفصل الخامس عشر يبحث مسألةَ نشوء الحياة على الأرض، ودَور ميكانيك الكَم في تشكُّلها.

الفصل السادس عشر يعرض دَور علم الحياة الكُمومي كمنطلقٍ لإيجاد موادَّ وأجهزةٍ جديدةٍ عَبْر التقنية النانوية الأحيائية والهندسة؛ عن طريق محاكاة التراكيب والفعاليات البيولوجية المعتمِدة على ميكانيك الكَم والمُنطلِقة من اكتشافات علم الحياة الكُمومي.

إن علم الحياة الكُمومي علمٌ صاعد، سريع التطوُّر من خلال الأبحاث المتلاحقة التي لا تشمل المواضيع التي تطرَّق إليها هذا الكتاب فحسب، وإنما قد تشمل موضوعاتٍ أخرى، كنقل الإلكترونات عَبْر جُزيئات البروتين واﻟ DNA، وكذلك البروتينات المتألِّقة، وعمل المستقبلات الخلَوية والأدوية والآليات المناعية، والمتحسِّسات والمواد المحفِّزة، والوقاية الضوئية، وتوليد الضوء، وغيرها.

الكتاب موجَّه بالأساس للباحثين والطلبة في كليات العلوم، والكليات الطبية والهندسية، وكذلك لعُموم القُراء الذين يتُوقون إلى معرفة كيف تتشكَّل الأشياء من الفوضى، وما هي الحياة وكيف نشأَت على الأرض، وكيف تعمل الظواهر الحياتية، وكيف يتكوَّن الوعي الذي نعرف به كل ذلك.

فياض محمد شريف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤