الفصل الرابع عشر

الوعي وميكانيك الكَم

Consciousness and Quantum Mechanics

«لا يمكن التعبير عن الوعي بالمصطلحات الفيزيائية؛ فالوعي أساسيٌّ على نحوٍ مطلَقٍ لا يمكن التعبير عنه بأي مصطلحٍ آخر.»

أروين شرودنجر

(١) الوعي Conciousness

لقد نشأَت علاقةٌ وثيقةٌ بين ميكانيك الكَم منذ نشأته والوعي من خلال موضوعة «تأثير المراقب» على تطوُّر الحالة الكمومية (Li et al., 2019; Theise & Kafatos, 2013; Stapp, 1991). الوعي يتضمَّن الإدراك وهو الخبرة الموضوعية للعالم الداخلي والخارجي. وهذا يشمل الإحساس بالنفس والمشاعر والاختيار والسيطرة على السلوك الإرادي والذاكرة والتفكير واللغة والتأمُّل وتكوين الصور والأنماط المجسمة. وهكذا تتأسَّس نظرتنا إلى حقيقة الكون، ووجودنا على الوعي، لكن حقيقة الوعي وآليات عمله تبقى غير معروفة (Hameroff & Penrose, 2014).
يُعتبر الوعي من بين أهم المواضيع التي شغلَت وما زالت تشغل الفلاسفة والعلماء بمختلف التخصصات والناس العاديين جميعًا، والذي لم يتم فهمه بشكلٍ دقيق (Smit, 2018). واعتبر الفيزيائي المعروف، ميشيو كوكو، أن العقل والكون هما أعظم سِرَّين من أسرار الطبيعة كلها (Kaku, 2014).
الفلاسفة المثاليون يعتبرون الوعي هو الذي يحدِّد الواقع، بينما يرى الماديون أن الواقع موجود بغض النظر عن وجود الوعي به. مع ذلك يعتبر الفيلسوف عمانوئيل كانْت (Immanuel Kant) أن وعينا محدَّد بحواسنا، والتي قد لا تنقل لنا الواقع كما هو بالضبط، وإنما بالقَدْر الذي تتمكَّن من توصيله. وهكذا اختط ما يُعرف بفلسفة الشك. في حين يرى الماديون الجدليون أن التجربة هي الحكم الفاصل في صدقية وعيِنا، أو كما يقول غوته على لسان فاوست: أن شجرة الفلسفة رماديةٌ لكن شجرة الحياة هي الخضراء؛ فنجاح العلماء في إرسال المركبة الفضائية أبولُّو١١ سنة ١٩٦٩م إلى القمر، ونزول رُوَّاد الفضاء عليه، ورجوعهم إلى أرض الوطن سالمين، يؤكِّد أن قوانينَ نيوتن في الحركة وحسابات العلماء والمهندسين صحيحة. واكتشاف جُسيمات بوزونات هيغز (Higgs Bosons) سنة ٢٠١٢م، في مختبرات سيرن والموجات الثقالية سنة ٢٠١٦م، يؤكِّد صدقية نظرية بيتر هيغز والنسبية العامة لآينشتاين وهكذا. لكن الحيوانات سبقَت الإنسان في إدراك هذه العلاقة؛ فنجاح الكلب في التقاط العظم قبل وصوله الأرض بدقةٍ نقطوية، دليلٌ على إدراكه لعلاقات الكتلة والجاذبية والحركة. وما كانت الأسود والحيوانات المُفترِسة تعيش لولا وعيُها بالسرعة والخطوط والزوايا. واطَّلعنا في الفصل التاسع على استخدام الطيور للبوصلة الكمومية في الهجرة عَبْر البحار.
ما الذي جعل النباتات تَفرِد أوراقها لتستقبل أكبر كمية من ضوء الشمس وتُزيِّن أزهارها بالألوان والعطور؟ وكيف تمكَّن النبات الطُّفيلي دغل الساحرة (Striga asiatica) من ابتكار تقنية الرادار الجُزيئي لتحديد موقع أقرب الجذور للنبات العائل لغرض إصابته؟ (شريف، ٢٠١٢م). وما هو وراء سلوك الفطر المُمرِض للإنسان المشهور Candid albicans الذي يمتلك كل الجينات اللازمة لتكوين أبواغٍ جنسية لكنه لا يفعل تفاديًا لاكتشافه من قِبل جهاز المناعة؟ (شريف، Forche et al., 2008; 2012 a). وكيف يتمكَّن فطر الصدأ Puccinia graminis من العثور بأقصرِ الطرق على الثغور في سطح ورقة النبات النجيلي من خلال تلمس الخيوط الفطرية لبروزات جدران الخلايا لسطوح الأوراق؟ (شريف، Deacon, 2003; 2012 b). وهل غَير إدراك الواقع خلف قدرة الفطر الهلامي polycephalum Physarum على الوصول الذكي للمادة الغذائية في متاهةٍ معقدة؟ (شريف، Nakagaki et al., 2004a; 2004b; 2012 c). وكيف تتمكَّن الأحياء الوحيدة الخلية مثل البراميسيوم واليوغلينا من إيجاد شريكها في التزاوُج والتقاط المواد الغذائية والابتعاد عن الحواجز بعددٍ قليلٍ من المحاولات؟ كما أن البكتيريا المُتحرِّكة تتوجَّه إلى المواد الغذائية وتنفرُ من المناطقِ الضارة، وثمَّة الكثير ما يمكن قولُه في هذا المجال عن البكتيريا. المثير للدهشة أن بعض الفايروسات على الأقل تستخدم نظام التحسُّس الجمعي، مع أن الفايروسات هي أشكالٌ حيةٌ غير خلوية؛ فجُسيمة الفايروس تتألَّف من علبةٍ بروتينيةٍ تحتضن بداخلها جينات الفايروس، والتي تكون بهيئة RNA أو DNA وبعضها يحصُل على غلاف من الخلية العائلة، كما أن البعض من أنواع الفايروسات يمكن أن يحتوي على عددٍ قليلٍ من البروتينات أو الإنزيمات. لاحظ هنا أن الفايروس لا يمتلك مئات آلاف الإنزيمات والبروتينات والتراكيب المعقدة وسلاسل التفاعُلات المحرِّرة والمحوِّلة للطاقة، إنها مادةٌ عضويةٌ معقدة لا فعالية حيوية لها أبدًا، وهي خارج الخلايا. ويمكن أن تفقد حيويتها وقدرتها على الإصابة على السطوح خارج الخلايا بعد أيامٍ أو أسابيع (Firquet et al., 2015). لكنها تُظهِر الفعاليات الحيوية عندما تكون بتماسٍ مع الخلية الحية وبداخلها؛ أي إننا هنا مع كائنٍ يُظهِر شيئًا من «الوعي» وهو على حواف المواد الحية وغير الحية.
بل أعتقد أنني قد لا أبتعد كثيرًا عن الحقيقة حين أُبرِز ما قاله أحد الباحثين من أن الذرة تُخاطِب العالم بواسطة الفوتونات. حيث إن تعرُّض الذرة لفوتون يؤدي إلى تهيُّج إلكترون، لينطلق إلى مدارٍ أبعدَ عن النواة، وعندما تقل طاقة الإلكترون ينزل إلى مدارٍ أقرب للنواة، ويُطلِق فوتونًا إلى العالم. ويمكن أن أُضيف بأن الذرة تتعامل أيضًا من خلال الإلكترونات في مداراتها الخارجية مع تأثيرٍ معين لبروتونات النواة، فتنشأ الأواصر مع ذراتٍ أخرى لتُشكِّل الجُزيئات. وهكذا ثمَّة مُدخَلات إلى منظومة الذرة ومعالجة (تغيُّرات داخلية) ومُخرجات تُمثِّل تأثيراتها في العالم المحيط. وعلى حد تعبير Lloyd (2006) فإنك إن فهمتَ لغة الذرات وجُسيماتها، فإنك ستتمكَّن من التعامل معها في بناء الكومبيوتر الكمومي. الفكرة التي أريد أن أُبرِزها هنا، أن «بذرة» الوعي نبعَت من الذرة، وكبرَت عَبْر الجُزيئات وتعقدَت وتنوعَت مع الأحياء البدائية، لتتطور بتصاعُد في الأحياء المعقدة وصولًا إلى الحيوان، وبلغَت قمتها في الإنسان حيث نتجَت عنها أنماطٌ غاية في التعقيد. هذا الرأي يستند إلى مبدأ أن موضوعات الوعي الأساسية هي المعلومات (Information)، والمعلومة هي ناتج التقابُل بين حالتَين مختلفتَين؛ مشحون-غير مشحون، شحنة سالبة-شحنة موجبة، برم مغزلي (Spin) أعلى-برم مغزلي أسفل، جسيم-موجة، طاقة عالية-طاقة منخفضة، جسيم موجود-جسيم مفقود وهكذا، كل هذا موجود في الذرات. ألا يكفي لأن تكون بذرة «الوعي» في الكون؟ الذي فاجأني، وبعد كتابة هذه السطور، علمتُ أن ثمَّة من سبقَني إلى هذا الاستنتاج بأن الوعي خاصية جميع المواد؛ الذرات والجسيمات الذرية تمتلك عناصر الوعي. هذا ما قاله الفيلسوف باروخ اسبينوزا في القرن السابع عشر Spinoza (1677) والعالم رينج في أواسط القرن العشرين Rensch (1960) (Hameroff, 1994). وحسب تعبير Tarlaci (2010) لا يمكن فصل الوعي والعقل عن المادة. ويذهب Scaruffi (2001) إلى أن الوعي صفةٌ فيزيائيةٌ جوهرية وليس ناتجًا عن فعل مكوِّناتٍ فيزيائيةٍ أخرى. ويُعزِّز رأيه بنظرة أحد مؤسِّسي نظرية الكَم نيلز بور من أن دالَّة الموجة الكمومية للمادة تُمثِّل ملمحَ وعيها؛ حيث إن موجة الإلكترون تُكافئ عقل المادة. كما يمكن اعتبار ازدواجية الموجة-الجسيم، يمكن أن تُفسِّر ازدواجية العقل والمادة.
إن انبثاقَ الوعيِ في الدماغ والخلايا الحية يمكن أن يرجعَ إلى تراكُم التراكيب الجُزيئية خلال التطوُّر والناشئة عن خواصَّ جديدةٍ يمكن أن تُظهِرها الموادُّ وهي في الحالة المجهرية أو خلال أحداثٍ على المستوى الكمومي؛ ومن ثَم تُبدِيها بالشكل العياني التقليدي؛ فخواص التوصيل الفائق (Superconductivity) حيث تكون المقاومة لمرور التيار صفرًا، والميوعة الفائقة (Superfluidity) حيث تصبح اللزوجة صفرًا، تنشأ نتيجة وصول ذرات هذه المواد إلى مستوًى عالٍ من التماسُك الكمومي في درجات الحرارة الواطئة التي تقترب من الصفر المطلَق. كما أن وجود المواد بحجومٍ نانوية يُكسِبها خواصَّ عيانيةً تقليدية متميزة عديدة. ويرى بعض الباحثين مثل Hunt & Schooler (2019) أن الاشتراك برنينٍ متزامنٍ هو مفتاح الوعي، وأن السرعة العالية لتبادل المعلومات والتي تتم بواسطة انتقالات أطوار مسالك الطاقة المختلفة في النُّظم البيولوجية، تمكِّن الحياة من تحقيقِ تراكيب رنينٍ على المستوى الكبير؛ وبالتالي تراكيب وعيٍ كبيرة لا تتمكَّن من تحقيقها التراكيب أو المنظومات غير الحية.
هذه أمثلةٌ قليلة جدًّا عن قدرة الأحياء على الإدراك والوعي بدءًا من الفايروس والبكتيريا وصولًا إلى الإنسان. إن المنظومات البيولوجية تحتاج إلى تحسُّس ومعالجة المعلومات من البيئة من أجل اتخاذ القرار الحيوي لنموها وبقائها (Lan & Tu, 2016).
لكن من الواضح أيضًا أن مجال الوعي وقدرته تختلف مع درجة تعقيد الأحياء التي يتربَّع على قمتها الوعي البشري. إن قمة الوعي المستندة إلى جهازٍ عصبي متزايد التعقيد امتلكَتْها الحيوانات. وهذا الجهاز يتألف من خلايا عصبيةٍ متخصصةٍ كثيرة العدد ومترابطة مُكوِّنة ما يُعرف بالشبكة العصبية. غير أن الأحياء الأخرى غير الحيوانية لا تمتلك خلايا عصبية؛ وعليه يمكننا تمييز وعيٍ يستند إلى جهازٍ عصبي متصاعد التعقيد وآلياتٍ غير عصبية بسيطة التركيب نسبيًّا. هذا ينسجم مع مقولة جارلس دارون «إن الوظائف البيولوجية تختلف جوهريًّا في الشكل وليس في النوع» (Lyon, 2015)؛ وعليه فإن دراسة الوعي في مستوياته المختلفة، يمكن أن تُساعد في فهمه.
تعيش الأحياء عادةً في بيئاتٍ معقدة متغيرة تعجُّ بالأحياء الأخرى المُفترِسة أو المنافسة. وهي مُجبَرة على تبادل المواد والطاقة والمعلومات مع البيئة والتعامل مع الأحياء الأخرى باعتبارها جزءًا من البيئة. وهكذا فهي حسب Baluška & Levin (2016) عليها اتخاذ الكثير من القرارات عند القيام بفعالياتها المختلفة. مع النمو التطوُّري، دفع الضغط الانتخابي إلى نمذجة اتخاذ القرار بطريقةٍ لا فرار منها، وإلى ابتداع وتطوير آليات تحسُّس المؤشرات البيئية؛ كدرجات الحرارة والرطوبة والضوء والمواد الغذائية وغيرها. وهذا ربما تأسَّس على خواصِّ الجسيمات والذرات والجُزيئات التي تتكوَّن منها الخلايا الحية؛ فالتنافر أو التجاذب بين الجسيمات المشحونة، والميل إلى أو النفور من جُزيئات الماء أو الدهون، والتفاعل بين الذرات والجُزيئات، وتغيُّر مستويات الطاقة، وتأثيرات المجالات الكهرومغناطيسية، أوجد العلاقة بين المؤثِّرات والاستجابات وقاد إلى القدرة على التعرُّف (Recognition) ومن ثَم التمييز بين الذات (Self) وغير الذات (Non-self) الذي تكلَّل بتكوين البروتينات السكَّرية على أغشية الخلايا والمستقبلات. ومن خلال تجارب الخطأ والصواب دُفعَت الأحياء إلى استثمار تأريخِ تجاربها، فكان نشوء الذاكرة، والذي مهَّد إلى معالجة المعلومات فيما يُشكِّل الحوسبة من أجل تلبية الاحتياجات والتنبُّؤ بالظروف المستقبلية اعتمادًا على قضيةٍ مركزيةٍ هي المحافظة على حالة التوازُن الداخلي (Homeostasis). وهكذا، يمكن التعبير عن كل هذه الآليات وغيرها من اكتساب المعلومات وخزنها ومعالجتها واستخدامها على مختلف مستويات التنظيم البيولوجي بالوعي.
تلعب الذاكرة دورًا مركزيًّا في عملية الوعي والإدراك؛ فبدون الذاكرة، يكون الإحساس بالتغيير مستحيلًا. وبدون القدرة على تحسُّس التغيير يكون قرار تغيير السلوك عشوائيًّا. وفي غياب الذاكرة، يصبح التعلُّم أيًّا كان مستحيلًا (Lyon, 2015).
ويمكن تعريف الذاكرة حسب Baluška & Levin (2016) على أنها تحويرٌ في البناء الداخلي المُعتمِد على التجربة بطريقة خصوصية المحفز، والتي تغيِّر الطريقة التي تستجيب بها المنظومة للمحفِّزات في المستقبل كدالةٍ للماضي. وللحفاظ على معلومات الذاكرة، لا بد من أن تُخزَّن على موادَّ حساسةٍ لكنها مستقرة مثلما تُخزَّن المعلومات في الكومبيوتر على قرصٍ صلب (Disc). وهنا يمكن أن يلعب الهيكل الخلَوي المؤلَّف من الأُنيبيبات الدقيقة (Microtubules) والتي تتألَّف بدورها من سلاسل بروتين التيوبيولين (Tubulin) والتي تتخلَّل فضاء الخلية دورًا أساسيًّا في حفظ واسترداد المعلومات. الهيكل الخلَوي يُعتبر من عُضَيَّات الخلية؛ وبالتالي يكون وجوده مقتصرًا على الخلايا الحقيقية النواة. ومع أن وجوده لم يؤكَّد فعلًا في البكتيريا، إلا أن وجود الجين ftsZ (الخويط الحساس للحرارة Z) في البكتيريا Escherichia coli الذي يشفر لبروتين له طيَّة تيوبيولين (Bermudes et al., 1994). وإن الإنزيم FtsZ GTPase يُكوِّن أُنيبيباتٍ بقُطر ١٤–٢٠ن م تتألَّف من ١٢-١٣ من اللُّيَيفات كثير الشبه بأُنَيبيبات التيوبيولين في الأحياء الحقيقية النواة (Thompson, Bramhill & 1994). ويؤكِّد الباحثون وجود جميع مكوِّنات الهيكل الخلَوي في الخلايا البكتيرية؛ بما فيها التيوبيولين البكتيري FtsZ والأكتين البكتيري MreB وبروتينات الخويطات الوسطية IF والتي يمكن أن تكون المصدر التطوُّري للتيوبيولين في الأحياء الحقيقية النواة (Graumann, 2007; Cabeen & Jacobs-Wagner, 2010; Pilhofer et al., 2011). إن تحديث أوضاع المنظومة على أساس تكوُّن الذاكرة الحسية يُعبَّر عنه بالحوسبة.
يمكن تعريف الإدراك البيولوجي على أنه الآلياتُ الحسية وغيرُها من آليات معالجة المعلومات التي يتعود عليها الكائن الحي مستقبلًا؛ كالتقييم والتآثُر مع البيئة لتلبية حاجاته الوجودية، وعلى رأسها النمو والتكاثر من أجل البقاء (Lyon, 2014). ولتحقيق هذه الإمكانية، لا بد من امتلاك الأحياء لمجموعاتِ وسائلَ (Toolkits) تتمثَّل بالآتي:
التحسُّس/الفهم (Sensing/Perception): القدرة على تحسُّس وتمييز الخواص الوجودية البارزة في البيئة المحيطة.
التقييم (Valence): القدرة على تقدير قيمة لملخَّص المعلومات عن الأشياء المحيطة في لحظةٍ معيَّنة نسبة إلى حالته الحاضرة.
السلوك (Behavior): قدرة الكائن الحي على التكيُّف مع بيئته الداخلية أو الخارجية من خلال تغيير العلاقات التركيبية والوظيفية والمكانية له.
الذاكرة (Memory): القدرة على حفظ المعلومات حول الماضي المباشر أو ربما البعيد، وتضبيط الإحساس الذاتي بناءً على هذه المعلومات من خلال تضخيم الإشارة مثلًا.
التعلُّم (Learning): القدرة على تكييف السلوك حسب التجربة الماضية؛ ما يمكِّن من الاستجابة الأسرع.
الحَدْس أو التوقُّع (Anticipation): القدرة على التنبؤ بما يرجَّح أن يحدُث تاليًا أثَر محفِّز حصل.
التكامُل الإشاري أو اتخاذ القرار (Signal integration-Decision making): القدرة على ربط المعلومات من مصادرَ متعددة؛ حيث إن جميع الأحياء كما يبدو تتمكَّن من تحسُّس أكثر من شيءٍ في اللحظة المعيَّنة. ويبدو أن بعض أنواع البكتيريا مؤهَّلة لتحسُّس دزائن من الحالات المختلفة معًا.
الاتصالات (Communication): القدرة على التفاعل المُثمِر مع أفراد النوع (وبعض الأنواع الأخرى) بما في ذلك القيام بفعلٍ جماعي يمكن أن يتضمَّن أو لا يتضمَّن طريقةً لتمييز «نحن» من «هم» (Lyon, 2015).

هذه الخواصُّ والفعاليات موجودة في البكتيريا وهي موجودةٌ على نحوٍ أكثر تعقيدًا وتطورًا في الأحياء الأخرى الحقيقية النواة، والتي تشير إلى أن الوعي قد تطوَّر مع تطوُّر الكائنات الحية. والتطوُّر يفضي بالضرورة إلى التعقيد وما ينتج عنها من توسيع وتعميق الإمكانات.

صحيح أن التطوُّر ينتُج عن تعرُّض الكائن الحي بغَض النظر عن درجة تعقيده إلى تحدياتٍ مرجعها تغيُّر العوامل البيئية، وكذلك الممكنات الداخلية، إلا أن هذا لا يتم بشكل آليٍّ بحت وسلبيةٍ من قِبل الكائن الحي وإنما بتفاعُل الكائن الحي مع الحدث. وهذا الرأي ينطلق من حقيقة أن الكائن الحي وبغَض النظر عن درجة تطوُّره، هو منظومةٌ معقَّدة متكيِّفة مفتوحة لها هدف (انظر الفصل الأول). ولتحقيق الهدف لا بد من الإدراك والوعي.

اعتبر بعض الباحثين أن السلوك يُعتبر على العموم ذكاءً عندما يتمكَّن الفردُ من الكائنات الحية الذي يعيش في ظروفٍ شديدة المنافسة ومهدِّدة، من تغيير سلوكه لتحسين فُرص بقائه. مثل هذه الظروف تعانيها النباتات وجميع الكائنات الحية الأخرى التي تعيش في بيئاتٍ بَرِّية حقيقيةٍ حيث يكون فيها تهديد البقاء شائعًا جدًّا (Calvo et al., 2019; Gilbert, 2001; Trewavas, 2003).
أورَد Baluška (2010) عددًا من الخواص الخلوية المشتركة بين الخلايا العصبية والخلايا النباتية بضمنها عدم ارتباط عمل جهاز كولجي بالجسم المركزي والنمو الطرفي للخلية العصبية والخلية النباتية ومحور جهد الفعل الكهربائي وغيرها. وأبرز قولُ جارلس دارون وفرانسيس دارون من أن أطراف جذور النباتات تمثل القطب الأمامي العصبي لأجسام النباتات. كما تشارك الخلايا العصبية الخيوط الفطرية في النمو الطرفي كما في الأوكسونات وطريقة التفرُّع للنتوءات والتشجُّرات. وفي دراسة مقارنة، بيَّن Etxebeste & Espeso (2016) وجود ارتباطاتٍ مدهشة في آليات الاتصالات الخلوية على مسافاتٍ بعيدةٍ بين النواة وطرف الخيط الفطري والنواة وطرف المحور (Axon) في الخلية العصبية.
fig147
شكل ١٤-١: بروتينات Gag Arc/dArc1 الشبيهة ﺑ Gypsy تتجمَّع بشكلٍ يشبه الكابسيد الفايروسي لتنقل arc/darc1mRNAs إلى مواقع بعد المشبك (A). بروتينات Gag الرتروفايروسية تمكِّن من تكوين الكابسيد لرزم ونقل جينومات الفايروس إلى سايتوبلازم الخلايا الحديثة الإصابة. (B) تتجمَّع بوليمرات بروتينات Arc الفأر وArc1 (dArc1) الدروسوفيلا بشكلٍ مشابهٍ للكابسيد الفايروسي. تتحرَّر كابسيدات Arc/dArc1 من الخلايا العصبية في حويصلات خارج خلوية وتنقل قريباتها من جُزيئات mRNA (الخضراء) وممكن غيرها من جزيئات RNA (الحمراء، الزرقاء) في المشبك أو الروابط العصبية العضلية. مُحوَّر عن: Parrish & Tomonaga (2018).
المعروف أن الجينَ Arc يلعب دورًا أساسيًّا في خزن المعلومات الطويلة الأمد في دماغ اللبائن، ويسير مختلف أشكال المرونة المشبكية وله دَور في اضطرابات النمو العصبي. لقد بيَّن عددٌ من الباحثين Pastuzyn et al., (2018) وAshley et al., (2018) وParrish & Tomonaga (2018) أن بروتينات Arc تتشكل تلقائيًّا بهيئةٍ شبيهةٍ بعلب (كابسيدات) جُسيمات الفايروس، والتي تغلِّف جُزيئات RNA. بروتينات Arc الداخلية تُحرَّر من الخلايا العصبية في حويصلات خارج خلوية من أجل نقل جُزيئات mRNA لبروتين Arc إلى خلايا مستهدفةٍ جديدة، والتي يمكن أن تقوم بالترجمة المرتبطة بالفاعلية (شكل ١٤-١). هذه النتائجُ تبيِّن أن بروتينات Arc تُظهِر خواصَّ جُزيئيةً مشابهة لبروتينات Gag الرتروفايروسية. ويشير التحليل التطوري، إلى أن الجين Arc كان قد نشأ من خط فقاريات للجينات القافزة القهقرية (Retrotransposons) Ty3/gypsy والتي هي بدَورها جَدٌّ للفايروسات القهقرية (Retroviruses). وهكذا يبدو أن بروتينات Gag قد كُيِّفَت خلال التطور لتسيير الاتصالات ما بين الخلايا في الجهاز العصبي.
ويستعرض Baluška et al., (2016) أهمية عملية التخدير (Anesthesia) في عموم الأحياء، بدءًا من البكتيريا، مرورًا بالطحالب والفطريات والحيوانات الابتدائية والنباتات والحيوانات، وصولًا إلى الإنسان. كما أن عُضيَّات الخلية، مثل الميتاكوندريا والبلاستيدات والهيكل الخلوي، حساسة أيضًا للتخدير. هذا قاد العالم Claude Bernard ومن خلال تجاربه الكثيرة إلى القول «إن الحياة تُعرف بحساسيتها للتخدير». ومنذ اكتشاف التخدير في الإنسان من قِبل William T. Morton سنة ١٨٤٦م، باستخدام الإيثر (Ether)، ظهرَت ثلاثُ نظرياتٍ لتفسير آليةِ عملِ مواد التخدير آخرها تقول بوجود مُستقبِلاتٍ بروتينية لمادة التخدير. وكان Sonner & Cantor (2013) قد اقترحا وجود موادِّ مخدِّرة داخلية المصدر تكيِّف وعي الكائن الحي؛ فثمَّة عددٌ من المركَّبات الأيضية التي تسبِّب فقدان الوعي إن وُجدَت بتراكيزَ كافية؛ مثل الأمونيا والأسيتون و-hydroxybutyric acid وPropionic acid.
تُنتِج الطحالب والنباتات تحت ظروف الإجهاد الكثير من المواد الطيارة ذات الفعل التخديري العام؛ مثل الكلوروفورم والإثيلين والكحول وغيرها، كما تُنتِج موادَّ ذات تأثيرٍ تخديريٍّ موضعي؛ مثل الكوكائين والثايمول واليوجينول (Tsuchiya, 2017). وتستخدم النباتات مثل هذه المواد لكسر سُبات البذور. كما تُنتِج البكتيريا والفطرياتُ الإثيلين تحت ظروف الإجهاد. وبيَّن Barodka et al. (2006) التأثير المثبِّط لمادة التخدير آيزوفلوران على نمو وتكاثر الفطر المُمرِض للإنسان Candida albicans. وتتوفَّر عددٌ من المعطَيات عن تكوين مواد تخدير داخليًّا في الحيوانات والإنسان؛ ففي الأمراض الفسلجية في الإنسان يتراكم عددٌ من الأيضات ذات التأثير التخديري بتراكيزَ يمكن أن تُحدِث فقدان وعيٍ مؤقتًا أو دائميًّا كما في حالات الإغماء أو الغشاوة الناتجة عن حالات الإجهاد بسبب التعرُّض للجروح العميقة أو لإجهادٍ عاطفيٍّ قوي. ويبدو أن فقدان الوعي المؤقَّت يُخفِّف من المبالغات الحسية ويساعد على البقاء كآليةٍ دفاعية. وليس بعيدًا عن ذلك لجوء الإنسان منذ عهودٍ قديمةٍ إلى تناول المشروبات الكحولية ذات المصدر النباتي أو الميكروبي من أجل التخفيف من الإجهادات النفسية.

مما سبق نخلُص إلى أن الوعي والإدراك صفةٌ بيولوجيةٌ عامة، لها دورٌ أساسي في البقاء ولا تقتصر على الإنسان والحيوانات. من هنا تعدَّدَت النظريات التي تفسِّر طبيعة وآليات الوعي والإدراك؛ فثمَّة النظرية القديمة والشائعة والتي تعتمد مبدأ تفسير الوعي على أساسِ عملِ الخلايا العصبية من خلال تناوُب جهد الفعل الكهربائي ودَور بعض القنوات الأيونية والمواد الكيميائية التي تعمل كنواقل عصبية عَبْر شبكةٍ عصبيةٍ مترابطة من خلال قوانين الفيزياء التقليدية. أنهم ينظرون إلى الجهاز العصبي على أنه منظومةٌ خطية شبيهة بالحاسبة الاعتيادية تُعالِج المُدخَلات والمُخرَجات، المؤثِّرات والاستجابات بطريقةٍ حتمية.

وحيث إن معظم الدراسات المتعلقة بالوعي ستُركِّز على دماغ الحيوانات المتطورة والإنسان، لا بد من عرض مُكوِّنات الدماغ وآليات عمله كما تَعرِضه الكتب المتخصِّصة.

يبدأ عمل الدماغ بتلقي الإشارات (المعلومات) البيئية المؤثِّرة في حياتية الحيوان أو الإنسان عَبْر حواسِّه المتعدِّدة التي تتألَّف أساسًا من خلايا عصبية، ثم الاستجابة لها بعد معالجة المعلومات في الدماغ من خلال خلايا عصبيةٍ حركية تتصل بالعضلات والغُدد.

يتألَّف الجهاز العصبي من خلايا عصبية (Neurons) وخلايا مساعدة (Supporting cells). تقوم الخلايا العصبية الحسية (الموردة Afferent) بحمل الإشارات (النبضات) العصبية من المستقبِلات الحسية إلى الجهاز العصبي المركزي (CNS) (Central Nervous System). تقوم الخلايا العصبية الحركية (المصدرة Efferent) بنقل النبضات من الجهاز العصبي المركزي إلى العضلات والغُدد. ثمَّة نوعٌ ثالث من الخلايا العصبية تُسمَّى المشاركة تشترك في عمل الدماغ والحبل الشوكي في التعلم والذاكرة. الخلايا العصبية الحسية والخلايا العصبية الحركية تُشكِّل الجهاز العصبي المحيطي (PNS) (Peripheral Nervous System). الخلايا العصبية الحركية التي تحفِّز تقلُّص العضلات الهيكلية تُسمَّى خلايا عصبيةً حركيةً جسمية، بينما تلك التي تحفِّز العضلات الملساء وعضلات القلب والغُدد فتُسمَّى الخلايا العصبية الحركية الذاتية.
تشترك الخلايا العصبية المختلفة بالتركيب الوظيفي نفسه؛ فهي تتألف من جسمٍ شبه كروي يحتوي على السايتوبلازم والنواة والعُضيَّات الخلوية الأخرى، ولها امتداداتٌ تُسمَّى التشجُّرات (Dendrites). كما يخرج من الخلية العصبية امتدادٌ طويلٌ يُسمَّى المحور (Axon) ويمكن أن يحتوي المحور في نهايته على تفرُّعاتٍ لتحفيز خلايا عصبيةٍ أخرى. يقوم غشاء الخلية العصبية بمكاملة المعلومات المتكوِّنة على التشجُّرات وعند تعدِّيها عتبةً معيَّنة تُنقل عَبْر المحور. ثمَّة خلايا مساندةٌ للخلايا العصبية تُسمَّى الخلايا الدبقية (Neuroglia) والتي تزيد عن عدد الخلايا العصبية بعشرة أضعاف، وتقوم بتوفير المواد الغذائية وتصريف المواد الضارة وغيرها.

(٢) كيف يعمل الجهاز العصبي How Nervous System Works

كما في الخلايا الأخرى والميتاكوندريا يكون تركيز الأيونات الموجبة (أيونات الصوديوم) على السطح الخارجي لغشاء الخلية أعلى من تركيزها على السطح الداخلي للغشاء عن طريق مضخَّاتٍ تضُخ الأيونات. هذا سيخلُق فرقَ جهدٍ كهربائي يجعل الخلية تعمل كبطارية. يكون فرقُ جهد الخلية العصبية حوالي ٠٫٠١ فولت. وهذا الرقم يُعتبر كبيرًا حيث إن سُمك الغشاء حوالي ١٠ن م، وعند تسوية الوحدات فإنه يساوي مليون فولت/م، أو ما يساوي ١٠٠٠٠ فولت/سم، هذا يقارب فرق الجهد للقادح الذي يولِّد الشرارة التي تحرقُ الوقود في محرِّك السيارة.

fig148
شكل ١٤-٢: ترسل الأعصاب إشاراتٍ كهربائيةً من جسم الخلية العصبية عَبْر المحور إلى نهاية العصب؛ حيث يسبِّب تحرير ناقلٍ عصبيٍّ في المشبك. يُلتقط الناقل العصبي من قِبل جسم الخلية العصبية التالية محفزةً إياها على الإطلاق، وبذلك تُنقل الإشارة العصبية من خليةٍ عصبيةٍ إلى أخرى. محوَّر عن: Johnjoe & Al-Khalili (2014).
fig149
شكل ١٤-٣: انتقال جهود الفعل على طول محور العصب عَبْر فعل القنوات الفولتية البوابات في أغشية الخلية العصبية. خلال حالة الراحة للغشاء يكون عدد الأيونات الموجبة على سطحه الخارجي أكثر من عددها على سطحه الداخلي. لكن تغير في الفولتينة ينتُج عن جهد فعل أعلى التيار (قبله) سيقدح فتح القنوات الأيونية واندفاع أيونات الصوديوم الموجبة الشحنة (جهد فعل) إلى الداخل ويعكس مؤقتًا فولتية الغشاء. هذه النبضة الكهربائية ستقدح فتح القنوات الأيونية والنبضات الكهربائية أسفل التيار بطريقةٍ مشابهةٍ للتساقُط المتتالي لأحجار الدومينو، والتي ستنتقل حتى تصل إلى نهاية العصب حيث تقدح تحرير ناقلٍ عصبي. وبعد مرور جهد الفعل تُرجِع القنوات الأيونية الغشاء إلى حالة الراحة الاعتيادية له. مُحوَّر عن: Johnjoe & Al-Khalili (2014).
لنتابع عمل الخلايا العصبية كما في الشكل ١٤-٢. لا يُظهِر الشكل العمليات الأولى في تكوين وانتقال الإشارات العصبية. تبدأ الخطوات الأولى بتلقي الخلايا العصبية الحسية في الحواس الخمسة للإشارات البيئية؛ كالضوء والصوت … إلخ. وتنتقل بالتتابع إلى الدماغ حيث تتم معالجتها باستخدام الذاكرة ونقل الإشارة منه إلى الخلايا العصبية الحركية بالتتابُع حيث ترتبط تشجُّرات الخلية العصبية الحركية مع نهايات محور الخلية العصبية التي قبلها في مناطق المشبك كما في الشكل ١٤-٢. وعلى أثَر جهد الفعل (Action potential) في الخلية العصبية العليا ستُحرر جُزيئات ناقلٍ عصبي في منطقة المشبك. هذا سيؤدي إلى فتح عددٍ من القنوات الأيونية في غشاء جسم الخلية العصبية الحركية. هذا يُنتِج تدفُّق الأيونات الموجبة من خارج الخلية إلى داخلها مسببًا هبوطًا حادًّا في جهد الغشاء. مستوى الهبوط في فرق الجهد يتناسب مع تركيز الناقل العصبي الذي تُحرِّره الخلية السابقة لها الذي يؤدي إلى فتح المزيد من القنوات الأيونية لغشاء الخلية العصبية؛ حيث يمكن أن يهبط فرق الجهد إلى −٠٫٠٤ فولت. عند هذا المستوى ستنفتح القنوات الأيونية الفولتية البوابات. هذه القنوات لا تكون حسَّاسة للنواقل العصبية وإنما لفرق الفولتية عَبْر غشاء الخلية. وستدخل المزيد من الأيونات الموجبة إلى داخل الخلية، وتفتح المزيد من القنوات الفولتية البوابات، وينتج عن ذلك حالة إزالة الاستقطاب؛ حيث يصبح داخل الخلية موجب الشحنة، عكس حالة الراحة قبل تأثير النواقل العصبية. إزالة الاستقطاب هذه تُحفِّز عددًا من القنوات الأيونية الفولتية البوابات القريبة على المحور على الفتح وتُدخل الأيونات الموجبة، وهكذا تسري ما يشبه الموجات من النبضات على طول المحور، كما في الشكل ١٤-٣. وتُحرِّر نهايات المحور نواقلَ عصبية في المشبك لتحفِّز حصول جهد الفعل في الخلايا العصبية التالية، وهكذا لحين وصول التحفيز إلى الخلايا العصبية المتشابكة مع الخلايا العضلية أو الغُدية، والتي تؤدي إلى الحركة أو إفراز الغدة. أن الخلية العصبية الحركية ترتبط بمئات وآلاف الخلايا العصبية، والتي تؤدي إلى فتح القنوات الأيونية أو غلقها. وهكذا فإن الخلية العصبية تعمل كبوابةٍ منطقيةٍ (Logic gate) كما في الحاسوب، وحيث إن الدماغ يتألَّف من مليارات الخلايا العصبية المترابطة فإنه يمكن أن يعمل كحاسوب (Johnjoe & Al-Khalili, 2014).

ومريدو هذه النظرية لا يرون وجود حاجة لعمل الظواهر الكمومية، ويستبعدون دورها بسبب الفكرة الشائعة أيضًا من أن هذه الظواهر لا يمكن أن تحدث في منظوماتٍ معقدةٍ مكتظة بالجُزيئات المختلفة وبدرجاتِ حرارةٍ عالية (درجات الحرارة الفسلجية) وبارتباطٍ وثيقٍ مع البيئة. وحتى عند حصول مثل هذه الأحداث، فتكون عابرةً ويتم تلاشيها.

غير أن المعطَيات الحديثة والمتزايدة بيَّنَت أن الجهاز العصبي هو منظومةٌ ديناميكيةٌ معقدة لا خطية. وهكذا قد تكون تلك النظرة غير صائبة في المنظومات المعقدة غير الخطية، كما هو الحال في النُّظم البيولوجية؛ فهذه النُّظم تكون حسَّاسة للغاية للشروط الأولية حيث يمكنها تضخيم التقلُّبات المجهرية لتُؤثِّر في المنظومة كلها (انظر الفصل الأول). وهكذا يمكن للتقلبات الكمومية أن تُؤثِّر في الحوسبة العصبية. ومن خلال تراكُم المعطيات عن المنظومات غير العصبية، يبدو أن التطوُّر قادر على توظيف الاحتمالات الكمومية، كما تم عرضُه، بخصوص عمل الإنزيمات واﻟ DNA وعمل القنوات الأيونية والاتصالات الخلوية وحاسَّة الشم، وتحسُّس المغناطيس الأرضي في هجرة الحيوانات والتركيب الضوئي وغيرها. وبذلك يمكن أن يلعب ميكانيك الكَم دورًا غير عابرٍ في واحدة من أهم الظواهر البيولوجية (Jedlicka, 2017). كما يرى الباحث Stapp (1995) أن الميكانيك التقليدي ليس مناسبًا لفهم الوعي.

إن مُجمَل الفعاليات الحيوية في الكائنات الحية، تستند إلى توليد وتوصيل الطاقة، والتي يكون مصدرها الأيض الخلوي. توظيف الأيض للآليات الكمومية يعظِّم من كفاءته، ويفسِّر القدرات غير العادية في فسلجة الخلايا ومنها الخلايا العصبية.

(٣) الأيض الكمومي Quantum Metabolism

حسب Demetrius (2008) فإن معدَّل الأيض الأساس للكائن الحي هو معدَّل الحالة المستقرة لإنتاج الحرارة تحت مجموعة من الظروف القياسية. ثمَّة ارتباطٌ بين خواصِّ فسلجة الكائن الحي وحجم (كتلة) جسمه. الآليات الجُزيئية التي تعتمد عليها هذه القواعد، يمكن فهمُها بلغة الأيض الكمومي، والتي تنطلق من حركيات نقل الطاقة ضمن أغشية العُضيَّات الخلوية المُوصلَة للطاقة.

العلاقة التي تربط معدل الأيض مع حجم الجسم تتمثل في العلاقة التالية:

حيث إن P هو معدَّل الأيض القياسي، وW هو حجم الجسم. التي تمثِّل التغير الجزئي في معدل الأيض نسبة إلى التغير في حجم الجسم، وتساوي ٢ / ٣ في الحيوانات الصغيرة، و٣ / ٤ في الحيوانات الكبيرة، و١ في النباتات. أما فتمثِّل معدَّل صرف الطاقة لوحدة الكتلة. قيمة تختلف كثيرًا بين الأنواع، حيث تكون أعلى بكثيرٍ في الحيوانات ذوات الدم الحار مقارنةً مع الحيوانات ذوات الدم البارد.
إن معدل الأيض تحكمه آلياتٌ جُزيئية على المستوى الخلوي؛ حيث إن النشاط الأيضي داخل الكائن الحي ينشأ من عمليات توصيل الطاقة في الأغشية الخلوية؛ الغشاء البلازمي في الأحياء الأحادية الخلية، الغشاء الداخلي للميتاكوندريا في الحيوانات، وغشاء الثالوكويد في النباتات. توصيل الطاقة في الأغشية الحيوية يتم من خلال الربط الكيموأزموزي بين محرِّكين جُزيئيَّين هما: سلسلة نقل الإلكترون بين مراكز الأكسدة-الاختزال في الغشاء الحيوي ومحرك ATP-ase الذي يعمل في فسفرة ADP إلى ATP. ويعتمد نموذج الحركيات الجُزيئية على ربط توصيل الطاقة الكيموأزموزي مع فرضية Frӧhlich (1968b) التي تقول بأن الطاقة المتولِّدة عن تفاعُلات الأكسدة-اختزال يمكن أن تُختزن بشكل أنماطِ تذبذُبٍ متماسكةٍ للمذبذبات الجُزيئية الموجودة في الأغشية الحيوية. هذا ما يُسمِّيه Demetrius (2008) بالأيض الكمومي؛ حيث إن أنماط التذبذُب للمذبذبات الجُزيئية تكون كمومية (Quantized). ويوازي الباحث بين الأيض الكمومي والطرق المستخدمة في النظرية الكمومية للمواد الصلبة، لاشتقاق مجموعة العلاقات بين معدَّل الأيض الخلوي وزمن الدورة؛ أي متوسِّط زمن تفاعُلات الأكسدة-الاختزال في الخلية. وهكذا يمكن تحديد زمن الدورة τ مع حجم الخلية Wc، ليحصل على:
كما بينَّا أعلاه، يتم إنتاج الجُزيئات الخازنة للطاقة ATP من خلال ربط مسارَين جزيئيَّين هما: سلسلة الأكسدة الاختزال (Redox chain) حيث تنتقل الإلكترونات بين مُستقبِلات الإلكترون في سلسلة نقل الإلكترون، ومحرِّك ATP-ase الذي يتضمن فسفرة جُزيئات ADP إلى جُزيئات ATP. هذان المساران يرتبطان من خلال آليتَين هما: الفسفرة التأكسدية، وهي عمليةٌ كهربائيةٌ وفسفرة المادة الأساس وهي عمليةٌ كيميائيةٌ صِرفة. الزمن الانتقالي في هذه العملية الدورية يُحدِّد الدفق الأيضي الكلي؛ أي عدد شحنات البروتونات المتحرِّرة من تفاعلات الأكسدة-الاختزال. هذا الزمن الانتقالي الذي يُرمز له بالحرف T يلعب دورًا أساسيًّا؛ ففي الفسفرة التأكسُدية التي تحدُث في الميتاكوندريا، يتم ربط انتقال الإلكترون بين المستقبِلات مع ضخ البروتونات إلى الخارج عَبْر غشاء الميتاكوندريا؛ حيث يتولَّد تدرُّجٌ كيموكهربائي؛ والذي يُسمَّى القوة الدافعة للبروتون Δp. أما فسفرة المادة الأساس، التي تتم في السائل الخلوي فتسير بواسطة مجموعة من الإنزيمات، والتي تربط فسفرة جُزيئات ADP مع سلسلة نقل الإلكترون. النموذج الجُزيئي الديناميكي الذي يبحث هذا الربط الكهربائي الكيميائي، يفترض أن الطاقة المتحرِّرة من تفاعُلات الأكسدة-الاختزال يمكن أن تُخزنَ بشكل أنماطٍ تذبذبيةٍ متماسكة لمذبذبات الإنزيمات المرتبطة بعُضيَّات الخلية. الأيض الكمومي يستند إلى فكرة أن الذبذبات الإنزيمية في عُضيَّات الخلية والمذبذبات المادية في المواد الصلبة البلورية يمكن أن تُعالَج بالشكل الرياضي نفسه؛ الذي استخدمه Debye في النظرية الكمومية للمواد الصلبة. المتغيِّرات الرئيسة في هذه النظرية هي الحرارة النوعية وإنتروبي جبز-بولتزمان  (Gibbs–Boltzmann) ودرجة الحرارة المطلَقة T. وتكون الوحدة الأساسية للطاقة E 1/4 kBT، وهي الطاقة الحرارية النموذجية لكل جُزيئة. المتغيِّرات الفعَّالة في نظرية الأيض الكمومي هي المعدَّل الأيضي، ومعدل تكوين الإنتروبي ومتوسط الزمن الدوري. وهكذا، تكون الوحدة الأساسية للطاقة: . هنا تعتمد قيمة على ما إذا كانت آلية ربط سلسلة نقل الإلكترون مع فسفرة ADP تكون كهربائيةً أو كيميائية. وحيث إن التعامل مع المنظومة الفيزيائية هنا في حالة التوازُن الديناميكي الحراري، فإنها تتضمَّن متغيراتٍ ديناميكيةً حرارية. أما المنظومات البيولوجية فهي بعيدة عن حالة التوازُن الديناميكي الحراري كما هو معلوم؛ لهذا ستتضمَّن المتغيِّرات الطاقية التدفُّقات؛ أي معدَّلات التغيُّر في القيم الطاقية.
كمومية الطاقة الأيضية ترجع إلى الأعداد الصحيحة ﻟﻠ ATP المتكوِّنة في الميتاكوندريا، وإلى محتواها المنخفض نسبيًّا من الطاقة مقارنةً بعمليات فيزياء الكم. أن تخليق جُزيئات ATP في الميتاكوندريا أو البلاستيدات الخضراء يحتاج إلى ٦٠ك ج/مول من الطاقة، والتي تنتُج من تفاعلات نقل الإلكترون أو امتصاص الفوتونات، على التوالي. أما تحلُّل ATP فيُنتِج ٣٠٫٥ك ج/مول من الطاقة الحرة، والتي يمكن اعتبارها كَم (quantum) طاقة بيولوجية. إن مبدأ ثنائية الجسيم-الموجة يشير إلى أن طول الموجة للطاقة الكهرومغناطيسية المكافئة ﻟ كم الطاقة البيولوجية E يمكن تقديره كما يلي:
اللافت أن طول الموجة هذا قريبٌ جدًّا من معدَّل أبعاد الخلية الحية؛ أي بحدود ٩مك. ومن المثير أيضًا تقدير درجة حرارة Debye لكَم الطاقة البيولوجية مفترضين أن التفاعُلات الإنزيمية المتضمِّنة تكوين ATP، تحصُل بطريقةٍ دوريةٍ لكن متناسقة في شبكةٍ مشابهةٍ للمواد الصلبة ﻟ Debye. وجد الباحثون أن:
وحيث إن درجة الحرارة الفسلجية هي: T0 = 300K، يظهر أن T0/TD < 1 وهذا يعني من الناحية الإحصائية أن الأيض الخلوي يعمل بالنظام الكُمومي. ومن المعلوم أن الفعاليات الحيوية المختلفة، بما فيها عمل الدماغ، تعتمد على الأيض وبالتالي على الآليات الكمومية. اللافت، أن هذا الموضوع يتوضَّح من خلال قابلية الدماغ الهائلة في معالجة المعلومات التي تصل إلى ١٠٢٠ تقلبات (Flop) مع استهلاكٍ منخفضٍ للقدرة الكهربائية حيث تكون بحدود ٢٥ واط، مقارنة مع الحاسوب الفائق الذي يعالج ١٠١٥ تقلبًا بينما يستهلك مليون واط. ويتساءل الباحثون ألا تفسِّر هذه المقارنة عمل الدماغ البشري بالحوسبة الكمومية بدل الحوسبة الرقمية أو التناظُرية التقليدية (Hameroff et al., 2014).
في الواقع وكما ذكر Meijer & Raggett (2014) لا تُوجد نظريةٌ واحدة عن الدماغ أو العقل الكمومي، لكن ثمَّة عددٌ من النماذج المطروحة التي لكلٍّ منها قوَّتُها ونقاطُ ضعفِها.

يمكن استعراض ثلاثِ نظرياتٍ في تفسير الوعي بالآليات الكمومية؛ الأولى تتمحور حول دور الهيكل الخلوي والأُنيبيبات الدقيقة، والثانية تُبرز دَور البرم المغزلي النووي لذرات النتروجين في عمل الخلايا العصبية، والثالثة تؤكِّد دَور المجال الكهرومغناطيسي في ضبط التماسُك الكمومي في عمل الشبكة العصبية.

(٣-١) دَور الأُنيبيبات الدقيقة Role of Microtubules

تؤلِّف الأُنيبيبات الدقيقة الهيكلَ الخلَوي لخلايا الأحياء الحقيقية النواة، وتكون بشكل شبكة مع بروتيناتٍ مرافقة. الأُنيبيبات تتألَّف من جُزيئات بروتين التيوبيولين (Tubulin) وكل جزيئةٍ تتشكَّل من وحدتَين كلٌّ منها بشكل حبَّة الفول السوداني، ويُشار إليهما تيوبيولين ألفا وتيوبيولين بيتا ثنائية القطب (Dipole) مضفية على الأُنيبيبات خاصية عفوية الاستقطاب (Ferroelectric). تتركب هذه الجزيئات تلقائيًّا، لتُشكِّل أسطواناتٍ مجوَّفة، قطرها الخارجي ٢٥ن م، وقطرها الداخلي ١٥ن م، وبأطوالٍ مختلفةٍ تتراوح بين مئاتٍ قليلة من النانومترات إلى أمتارٍ كما في إكسونات الخلايا العصبية. تترتَّب وحدات التيوبيولين في الأُنيبيبة في خويطاتٍ أولية، من ١٣ وحدة؛ حيث تكون اتصالاتها الجانبية نوعَين من التركيب الشبكي هما شبكة-A وشبكة-B. تنحرف الخويطات نسبةً إلى جوارها مؤديةً إلى علاقاتٍ مختلفة بين كل جُزيئة تيوبيولين وجوارها الستة الأقرب. وتلتف الخويطات بشكلٍ لولبيٍّ محقِّقة تعاقُب Fibonacci: ٣، ٥، ٨، ١٣ (تعاقُب Fibonacci يتمثَّل بسلسلة من الأرقام المتتالية؛ حيث إن كل رقمٍ هو حاصل جمعِ الرقمَين السابقَين له، وهي ظاهرةٌ رياضية موجودة في الطبيعة؛ كما في عدد بتلات الأزهار، وترتيب حبوب عبَّاد الشمس، وغيرها كثير) (شكل ١٤-٤).
حسب Cantero et al., (2018) تُشكِّل الأُنيبيبات الدقيقة حزمًا تتوضَّح خصوصًا في الخلايا العصبية؛ حيث تميِّز المحاور (Axons) والتشجُّرات (Dentrites). وهي بمثابة ترانزستراتٍ (Transistors) كهروكيميائيةٍ حيوية تكون خطوطَ نقلٍ كهربائية لا خطية. وبين الباحثون أن حزَم الأُنيبيبات الدقيقة في الدماغ تولِّد تلقائيًّا ذبذباتٍ كهربائية واندفاعاتٍ لنشاطٍ كهربائي مشابهٍ لجهد الفعل. وتحت ظروفٍ مشابهة لداخل الخلية، أظهرَت حزَم الأُنيبيبات الدقيقة المثبتة للجهد ذبذباتٍ كهربائية بتردُّدٍ أساسيٍّ بارز، قيمته ٣٩ هيرتز سارت خلال أنظمةٍ دوريةٍ مختلفة. تمثِّل الذبذبات الكهربائية في المتوسط تغيُّر ٢٥٨٪ في التوصيل الأيوني لتراكيب الأُنيبيبات الدقيقة. ومن المثير أن البروزات العصبية المثبتة للفولتية للخلايا العصبية تحت المهاد المزروعة من الفئران، تتمكَّن أيضًا من توليد الذبذبات الكهربائية، وتوصيل الإشارات الكهربائية على طول التركيب. وهذا قاد الباحثين إلى الاستنتاج أن الذبذبات الكهربائية خاصيةٌ جوهرية في حزَم الأُنيبيبات الدقيقة للدماغ، والتي قد يكون لها استخداماتٌ مهمةٌ في مختلف الوظائف العصبية، بضمنها فتحُ وتنظيمُ القنوات الأيونية المرتبطة بالهيكل الخلوي، وكذلك النشاط الكهربائي الذي يساعد ويمتد إلى وظائف الدماغ العليا؛ مثل الذاكرة، والوعي.
fig150
شكل ١٤-٤: تركيب الأُنيبيبة الدقيقة. يمين: A. ثلاثي الأبعاد. B. مقطع عرضي في الأُنيبيبة يبيِّن الخويط ذا ١٣ وحدة والذي يكون جدار الأُنيبيب. C. منظرٌ سطحيٌّ للأُنيبيب يُظهِر الترتيب المحتمل لوحدات البروتين. يسار: رسمٌ تخطيطيٌّ لتموضع وحدات البروتين في الأُنيبيبة وتركيب جُزيئة بروتين التيوبيولين المؤلَّف من وحدتَي و . عن Henry et al., (2011).
fig151
شكل ١٤-٥: تكامل وإطلاق الخلية العصبية للدماغ، وأجزاء من خلايا عصبيةٍ أخرى مع الأُنيبيبات الدقيقة موضَّحة بشكلٍ تخطيطي. في التشجُّرات (Dendrites) وجسم الخلية (يسار) المشتركَين في التكامل، تكون الأُنيبيبات الدقيقة متقطعةً وذات قطبيةٍ مختلطة ومترابطة بواسطة بروتيناتٍ مرافقةٍ للأُنيبيبات الدقيقة (MAPs) في شبكاتٍ دورية (الدائرة العلوية، يمين). تكامُل التشجُّرات-جسم الخلية (مع مساهمة عمليات الأُنيبيبات الدقيقة) يمكن أن يقدح إطلاقات المحور إلى المشبك التالي. الأُنيبيبات الدقيقة في المحورات تكون أحاديةَ القطب ومستمرة. المفاصل الخلوية (Gap junctions) تُزامِن أغشية التشجُّرات ويمكن أن تمكِّن من التشابُك الكمومي والتكامُل الشامل بين الأُنيبيبات الدقيقة في الخلايا العصبية المتجاورة (الدائرة السفلية، يمين). حسب نظرية Orch OR تحصُل الحوسبة الكمومية في الأُنيبيبات الدقيقة خلال تكامُل التشجُّرات/جسم الخلية، والنتائج المنتخبة تنظِّم إطلاقاتِ المحور والتي تحكُم السلوك. مُحوَّر عن: Hameroff & Penrose (2014).
حسب Henry et al., (2011) تقوم الأُنيبيبات الدقيقة (MT) بنقل إشارة الجهد البيولوجي بشكل تياراتٍ أيونية، بواسطة التسرُّب من حدةٍ بروتينيةٍ إلى أخرى. يعمل التركيب الثنائي الوحدة كثنائي القطب (دايود Diode). وحسب Cantero et al., (2019) فإن ترتيب وحدات التيوبيولين في MT يكون بشكل موزائيك بزوايا تُشكِّل قنواتٍ نانويةً مميزة، يمكن أن تعمل بما يشبه القنوات تدعم حركةً لا خطية للأيونات. كما أن التركيب الصفائحي الثنائي الأبعاد والحزم ﻟﻠ MT تولِّد ذبذباتٍ كهربائية، يعتمد مقدارها على المجال المغناطيسي خلال السطح والقوة الأيونية للوسط. وهي تعمل كمقاومةٍ ذاكرية (Memristor) والتي تتمثَّل بوجود عنصرٍ له طرفان، تتغيَّر مقاومته مع تغيُّر الجهد، لكنه يحتفظ بمقاومته الأخيرة بعد انقطاع التيار الكهربائي ما يعطيه صفة الذاكرة. وهذا يجعلها مناظرةً للوصلة العصبية في الدماغ. وتثبت تجريبيًّا إطلاق المقاومة الذاكرية لموجةٍ كهربائيةٍ مماثلة لما يحصُل في الخلايا العصبية.
ترتبط في مواقعَ معيَّنة من شبكة الأُنيبيبات بروتيناتٌ تُسمَّى البروتينات المرتبطة بالأُنيبيبات MAPs وتربطها بالأُنيبيبات الأخرى لتُشكِّل الهيكل الخلوي. من بين MAPs بروتين تاو (Tau) حيث إن فقدانه يسبِّب مرض ألزهايمر. ومن أنواع MAPs أيضًا، البروتينات المحركة داينين (Dynein) وكاينسين (Kinesin) والتي تتحرَّك بسرعة على طول الأُنيبيبات الدقيقة ناقلةً شحنات الجزيئات؛ حيث تقوم بروتينات تاو بتوجيهها إلى مواقع نقل الشحنات.
في كل خليةٍ عصبيةٍ وبشكلٍ دائمٍ يُوجد ١٠٩ أُنيبيبات، بينما في الخلايا الأخرى التي تعاني انقساماتٍ خلويةً يتم بشكلٍ دوريٍّ تجميعُ الأُنيبيبات؛ لغرضِ تكوين الخيوط المغزلية التي تُسهِم في فصل الكروموسومات أثناء الانقسام، وتُحدِّد استقطابية الخلية ومعماريتها، ثم تفكيكها لغرض استغلال البروتينات في وظائف الخلية المختلفة.

(٣-٢) نظرية الاختزال الموضوعي المنسق Orchestrated Objective Reduction

وحسب Hameroff & Penrose (2014) فإن ترتيب الأُنيبيبات الدقيقة في الأوكسونات والخلايا غير العصبية يكون بشكلٍ شعاعي متصل، بينما ترتيبها في جسم الخلية العصبية والتشجُّرات يكون بشكل تجمعاتٍ متقطِّعة، وبقطبيةٍ مختلطةٍ تُشكِّل شبكاتٍ دورية مناسبة للتعلم ومعالجة المعلومات. كما أن وجود MAPs يحول دون تفكُّكها ويمكِّنها من العمل كمشفِّر للمعلومات وتكوين الذاكرة الطويلة الأمد (شكل ١٤-٥).
حسب تفسير عالم الرياضيات الإنكليزي روجر بنروز Penrose (1989, 1994) فإن فك التماسُك يُنتِج أحداث الوعي مستخدمًا مفهوم الاختزال الموضوعي (Objective Reduction OR). واقتَرح أن الأُنيبيبات الدقيقة في الخلايا العصبية توفِّر للدماغ التراكيب القادرة على تنسيق انهيار دالَّة الموجة من خلال معالجة المعلومات الكمومية. وقد تكاملَت هذه الفكرة مع أفكار عالم التخدير الأمريكي، ستيوارت هاميروف (S. Hameroff) ليُنتِجا نظرية «الاختزال الموضوعي المنسق» Orchestrated Objective Reduction (Orch OR) (Hameroff & Penrose, 2014).
fig152
شكل ١٤-٦: الأُنيبيبة الدقيقة وهي شبكةٌ من بروتينات التيوبيولين ومؤشَّر فيها زوجٌ من وحدات التيوبيولين (يسار). كل وحدة تيوبيولين المرتبطة بزوجٍ من الإلكترونات المترابطة كموميًّا في جيبٍ كاره للماء يمكن أن تتخذ اثنتَين من الوضعيات التقليدية (أعلى يمين)، أو تكون في حالة تراكُبٍ كموميٍّ لكلتا الوضعيتَين (أسفل). وهكذا يُمكِن للتيوبيولين أن يعمل ﮐ بت تقليدي (أعلى) أو ﮐ بت كمومي «كيوبت». مُحوَّر عن: Hameroff et al., (2002).
fig153
شكل ١٤-٧: أعلى: صورةٌ مبدئية مفترضة لحدث وعي بواسطة الحوسبة الكمومية في واحدةٍ من عددٍ هائل من الأُنيبيبات الدقيقة تعمل كلها بصورةٍ متماسكة بحيث يكون ثمَّة إزاحةٌ كافية لتحقق Orch OR. بروتينات التيوبيولين في الحالة التقليدية (صفراء أو زرقاء)، أو في حالة تراكُبٍ كموميٍّ لكل ثنائي القطب (رمادي). يتطوَّر التراكُب الكمومي/الحوسبة الكمومية خلال أطوار التكامل (١–٣) في التكامل والإطلاق للخلايا العصبية مؤدية إلى زيادة التراكُب الكمومي EG (تيوبيولينات رمادية) لحين بلوغ عتبة في زمن τ ≈ h/E¯G حيث تتحقَّق لحظة الوعي وتنتخب حالات التيوبيولين التي تنظِّم الإطلاق، وتضبط السلوك الواعي. الوسط: منحنياتُ الزمكان المتراكبة المناسبة تصل إلى العتبة في لحظة OR وينتخب منحنى زمكانٍ واحد. الأسفل: مخطَّط حدث Orch OR يُظهِر تطوُّر التراكُب الكمومي بما يشبه حرف U ويزيد EG حتى الوصول إلى عتبة OR وتحصُل لحظة الوعي في زمن τ ≈ h/E¯G. مُحوَّر عن: Hameroff & Penrose (2014).
تعتمد النظرية على فكرة عمل الأُنيبيبات الدقيقة كحواسيبَ كموميةٍ في الخلايا العصبية للدماغ؛ حيث تكون وحدات البروتين المكوِّن للأُنيبيب «تيوبيولين Tubulin» في حالة تراكُبٍ كموميٍّ لاثنين أو أكثر من الحالات (أي بشكل كيوبتات qubits) (شكل ١٤-٦). وحسب نظرية Orch OR فإن كيوبتات التيوبيولين وهي في حالة التراكُب الكمومي تتآثَر/تحوسب مع التيوبيولينات الأخرى المتراكبة كموميًّا في شبكات الأُنيبيبات الدقيقة، بواسطة التشابك الكمومي، تُختزل («تنهار») إلى حالاتٍ تقليديةٍ معينة بعد ٢٥ ميلي ثانية أو نحو ذلك (في ٤٠ هيرتز مثلًا). اختزالاتُ الحالة الكمومية تُنتِج الإحساسات الواعية والاختيارات الإرادية، والتي ستحكُم الأفعال العصبية. وحسب الباحثين، فهذه النظرية تتضمن نفس الفكرة التي تستند إليها تقنية معالجة المعلومات الكمومية، عدا كون الكيوبتات المفترضة في Orch OR هي هيئات بروتين التيبيولين وأن الاختزال/الانهيار يحصل بسبب عتبةٍ موضوعيةٍ خصوصية (اختزال موضوعي) وليس بسبب التآثُر مع البيئة (شكل ١٤-٧). الفرضية المركزية التي تستند عليها نظرية Orch OR حسب مُطلِقيها، هي أن موضع الوعي هو الأُنيبيبات الدقيقة في الدماغ، والتي تعمل في خط تلاقي الفسلجة العصبية التقليدية وقوى الجاذبية الكمومية (Hameroff, 1998).
من العوامل التي تدعم نظرية Orch OR في تفسير الوعي، هو الدور الذي يلعبه الهيكل الخلوي والأُنيبيبات الدقيقة في الوعي غير العصبي الذي تُظهِره جميع الأحياء الحقيقية النواة غير الحيوانية وحتى البكتيريا؛ فقد اعتَبَر عددٌ من الباحثين (Albrecht-Buehler, 1985; Craddock et al., 2010; Sahu et al., 2013; Baluška & Levin, 2016) أن أفضل آليةٍ مرشَّحةٍ لمعالجة المعلومات في الأحياء الأحادية الخلية هو الهيكل الخلوي؛ فهذا يُلبِّي كل متطلبات ذلك، من خلال تركيبه المعقَّد والكبير وقابليته للتحوير بمختلف المسالك الجُزيئية (تسجيل المعطيات) والتفسير بواسطة الكثير من المحرِّكات البروتينية وغيرها (قراءة المعطيات) وتوظيف مجموعةٍ كبيرة من الحالات الانتقالية المفردة ما يوفِّر عمليات الحوسبة.
حظِيَت نظرية Och OR بقبول الكثير من الباحثين ونشر العديد من الأبحاث التي تُعالِج الكثير من مواضيعها، والتي تم التطرُّق إلى بعضها خلال ما سبق عرضُه. لكن ثمَّة الكثير من المنتقدين لهذه النظرية، ومن بينهم Tegmark (2000) وBaars & Edelman (2012) وMcFadden & Al-Khalili (2014) وتتركَّز انتقاداتهم على الحجم الكبير للأنابيب الدقيقة ودرجات الحرارة العالية والاكتظاظ الجُزيئي، وهي عواملُ كما يعتقد الكثير من الباحثين أنها لا تسمح بالوقت الكافي لحصول التماسُك الكمومي والظواهر الكمومية، بسبب سرعة فك التماسك. لكن عدا الحجم الكبير، فإن الحُجج الأخرى لا تستقيم مع ما تم إثباته من حصول التماسُك الكمومي في العديد من الظواهر البيولوجية، التي تم عرضها والتي تحصل في درجات الحرارة الفسلجية والجُزيئات المكتظَّة. كمثال فإن حسابات Tegmark (2000) لفك التماسُك في Orc OR هي ١٠−١٣–١٠−٢٠ ثانية، وهي فترةٌ قصيرة جدًّا لا تمكِّن من التماسُك الكمومي. لكن Meijer & Raggett (2014) يعرضان رأي Georgiev الذي يرى أن ما يُسجِّله علماء الأعصاب من حصول العمليات العصبية في مديات الميلي ثانية، هو في الواقع زمن العمليات العصبية بين تلقِّي الإشارات ومعالجتها وتوصيل الإيعازات إلى الخلايا العضلية، بينما يمكن أن تتم المعالجة العصبية في مدَيَات البيكوثانية. هنا ينطلق Georgiev من حالة مرضى عمَى الزمن (Time agnosia) حيث يقومون بعددٍ من العمليات الذهنية بإحساس حصولها في زمنٍ تلقائي. كما يُشبِّه الباحث المسألة بالحاسوب الشخصي؛ حيث تكون فعاليات الشاشة (إعادة التنشيط Refresh) خلال ١٠ ملي ثانية، بينما المعالجة الحاسوبية تحصل في مدَيَات البيكوثانية. إضافةً إلى ذلك، فإن إعادة حساب فك التماسُك من قِبل Hagan et al., (2001) لتكون ١٠−٤–١٠−٥ ثوانٍ يفنِّد انتقاد Tegmark (Adams & Petruccione, 2019). يرى بعض الباحثين مثل Georgiev (2002) أن ثمَّة تماسُكًا كموميًّا عيانيًّا (Macroscopic quantum coherence) وهو الحالة الكمومية التي تسير بدالةِ مَوجةٍ عيانية (Macroscopic wavefunction)، والتي تشترك بها العديد من الجُزيئات. هذه الحالة تشمل التنظيمَ الزمكاني للمنظومة المتعددة الجسيمات، وهي شديدة القرب مما يُعرف بتكاثُف بوز-آينشتاين (Bose-Einstein condensation). ومن أمثلة ذلك التماسُك الكمومي في المنظومات العيانية العديدة الجُسيمات كالميوعة الفائقة والتوصيل الفائق والليزر  (Laser). المنظومتان الأولى والثانية تمثِّلان منظوماتٍ في حالة توازُن، بينما منظومة الليزر تمثِّل منظومةً مفتوحةً تحقِّق التماسُك الكمومي بواسطة ضخ الطاقة، وهي تعمل في درجة حرارة الغرفة كما النُّظُم البيولوجية.
حسب Craddock et al., (2014) فإن التجارب الحديثة والتحليلات النظرية تُظهِر أن الطاقة الحرارية يمكن أن تُساعِد على التماسُك الكمومي بدلا من أن تُبطِله، خاصة في دواخل الجُزيئات الحيوية «الجافة» الكارهة للماء؛ فوحدات بروتين التيوبيولين المكوِّنة للأُنيبيبات الدقيقة كما هي معقدات التركيب الضوئي تُظهِر معمارية الحوامل الصبغية، وبالتحديد الأحماض الأمينية العطرية، بضمنها التربتوفان، قدرةً على دعم التماسُك الكمومي في نقل الطاقة. وبيَّن الباحثون عَبْر دِراسةٍ حوسبية، تقل الطاقة بين الأحماض الأمينية لحاملات الصبغة للتيبيولين، من خلال إثارات ثنائية القطب المرتبطة مع البيئة الحرارية المحيطة ودَور ميكانيك الكَم فيها. وكما يرى Hameroff et al. (2014) يمكن أن تكون المنظومات البيولوجية تعمل بنُظُمٍ تقليدية ما عدا بعض نماذج السلوك الخصوصية الهندسة التي تتفادى فك التماسُك الكمومي بسبب البيئة. ويطرح Vattay et al., (2014) نظرية لتفسير زمن التماسك الكمومي الطويل في النظم البيولوجية، على أساس المستوى المناسب من التعقيد بين الفوضى والنظام، يمكن أن يزيد من زمَن التماسُك الكمومي بعدة مرات. وحسب هؤلاء الباحثين فإن النظم التي هي قرب فوضى كمومية حرجة أو انتقالية المعدن-العازل يمكن أن يكون لها زمنُ تماسكٍ طويلٌ وانتقالٌ متماسكٌ في الوقت نفسه.

(٤) البرم المغزلي النووي والوعي Nuclear Spin and consciousness

أطلق فكرة دَور البرم المغزلي النووي في الوعي، الباحثان Hu & Wu (2004)؛ حيث اقترحا أن البرم المغزلي النووي للهيدروجين والنتروجين والفسفور في مكوِّنات الخلايا العصبية، وكذلك البرم المغزلي للإلكترونات لجُزيئات الأوكسجين وأوكسيد النتريك في الدماغ يمكن أن تُسيِّر الوعي.
وطوَّر Fisher (2015) فكرة البرم المغزلي النووي كركيزة تفسر عمِّل الدماغ، بخزن ومعالجة المعلومات الكمومية بتحفيز من آلية عمل الليثيوم كمادةٍ فعالة في معالجة بعض الأمراض النفسية، والتي أظهرَت التجارب السلوكية على الفئران تأثيراتٍ عصبيةً له، وتعتمد حسب تحليله على البَرم المغزلي النووي (Fisher, 2017). كما انطلَق الباحث من دَور الظواهر الكمومية في التطبيقات المعروفة في علم الأعصاب، كالتصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) (Magnetic Resonance Imaging)، والتي تعتمد على البَرم المغزلي النووي. علمًا بأن هذه التقنية تعتمد أساسًا على البرم المغزلي لنواة الهيدروجين H1 وهو العنصر الأكثر وجودًا في الدماغ وعموم الجسم في جُزيئات الماء وغيرها من الجُزيئات. كما يُوجد في الدماغ أيضًا عنصر الفسفور الذي له لفٌّ مغزليٌّ نووي وتُستخدم معه تقنياتُ طيف الرنين المغناطيسي (MRS) (Magnetic Resonance Spectroscopy)، وتصوير طيف الرنين المغناطيسي (MRSI). ويعتمد نموذج Fisher على البَرم المغزلي النووي لعنصر الفسفور.
وحيث إن البرم المغزلي النووي بأنواعه يمكن أن يُستخدم كبتاتٍ كمومية (Vandersypen et al., 2001) بما فيها البرم النووي المغناطيسي للجُزيئات المُفرَدة في المحلول المائي. وهكذا يُستخدم في هذا النموذج من المعالجة الكمومية في الدماغ البرم المغزلي النووي للفسفور؛ حيث يعمل ﮐ كيوبت أو كيوبت عصبي بينما يكون أيون الفوسفات PO4−− هو الناقل المُحتمل للكيوبت (شكل ١٤-٨).
يُوجد الفسفور في جميع أنواع الخلايا؛ بما فيها الخلايا العصبية بشكل فوسفات لا عضوي والجُزيئات الخازنة والمحرِّرة للطاقة الواسعة الانتشار ATP وADP وAMP وفي الشحوم الفوسفاتية المكوِّنة لأغشية الخلايا والعُضيَّات الخلوية.
fig154
شكل ١٤-٨: في جزيئة الفوسفات PO43− ترتبط ذرة P مع ٤ أيونات أوكسجين بشكل هرمٍ رباعي. في درجة الحموضة الفسلجية pH=7 يرتبط بروتونٌ واحد أو اثنان مع أيون الفوسفات. يتآثَر البَرم المغزلي النووي للبروتون المرتبط مع البرم المغزلي النووي لذرة 31P ويفك تماسُكه. عن: Fisher (2017).
تلعب جُزيئات الفوسفات والبايروفوسفات أدوارًا مهمة. تتحلَّل البايروفوسفات مائيًّا لتعطي اثنتَين من جُزيئات الفوسفات؛ حيث يكون البرم المغزلي لنواة ذرة الفسفور في الجزيئتَين متشابكًا كموميًّا بالحالة المنفردة (Singlet) بغَض النظر عن المسافة بينهما (شكل ١٤-٩).
fig155
شكل ١٤-٩: البايروفوسفات (PPi) هي فوسفات ثنائي الوحدة تحتوي على ذرة 31P ذات لفٍّ مغزلي نووي في حالتَي المفردة (Singlet) والثلاثية (Triplet) (مشابهة لحالتَي para/ortho في ذرة الهيدروجين). يقوم الإنزيم Pyrophosphatase (PPA) بالتحليل المائي للبايروفوسفات حيث يشطرها إلى أيونَي فوسفات. يبقى البرم المغزلي لهذَين الأيونَين متشابكًا كموميًّا حتى عند انفصالهما. مُحوَّر عن: Fisher (2017).
fig156
شكل ١٤-١٠: في جُزيئة بوزنر Ca9(PO4)6، تقع ٨ من أيونات الكالسيوم (الأزرق) على حواف المكعَّب والتاسع في المركز، بينما تقع ٦ من أيونات الفوسفات (ذرات الفسفور باللون البنفسجي محاطة بأربع من ذرات الأوكسجين باللون الأحمر) على الوجوه الستة للمكعَّب. عن: Fisher (2017).
كما تم تشخيص Ca9(PO4)6 (جُزيئة بوزنر) (شكل ١٤-١٠) كجُزيئةٍ وحيدةٍ يمكنها حماية كيوبتات الخلية العصبية لفتراتٍ زمنيةٍ طويلة جدًّا، وبذلك تعمل كذاكرةٍ كُموميةٍ تشغيلية. جُزيئات بوزنر المتكوِّنة من ارتباط أزواج الفوسفات مع أيونات الكالسيوم الخارج خلوية سترِثُ تشابُك البرم النووي.
وحيث إن التشابُك الكمومي هو متطلَّبٌ مركزيٌّ في عملية المعالجة الكمومية، فقد اعتقد الباحث أن الإنزيم الذي يحفِّز التفاعل الكيميائي الذي يشطر أيون البايروفوسفات (Pyrophosphate) إلى أيونَي فوسفات يمكن أن يُشابِك كموميًّا زوجًا من الكيوبتات (شكل ١٤-١١).
ومن أجل أن تعمل أيونات الفوسفات في المعالجة الكمومية للخلايا العصبية، يجب أن تُنقل إلى تلك الخلايا؛ لتُسهِم في التفاعلات الكيموحيوية التي ترتبط بتحرير النواقل العصبية، مثل الحامض الأميني الكلوتاميك وما ينتُج عنه من إطلاقاتِ ما بعد التشابُك في مجموعةٍ من الخلايا العصبية. العوامل التي تقوم بنقل أيوناتِ الفوسفاتِ هذه هي جُزيئات بوزنر؛ فأيونات الفوسفات المتشابكة كموميًّا والمتضمَّنة في جُزيئات بوزنر، ستُشابك هذه الجُزيئات وتُستخدم في خزن ومعالجة المعلومات الكمومية في الخلايا العصبية. حسب Weingarten et al., (2016) تُحافِظ جزيئاتُ بوزنر على التشابُك الكمومي لأيونات الفوسفات لكون المكوِّنات الأخرى للجزيئة؛ كأيونات الكالسيوم والأوكسجين، لا تمتلك لفًّا مغزليًّا نوويًّا، ولحركتها السريعة في المحلول. وهكذا يبقى التشابُك الكمومي لأيونات الفوسفات ليومٍ واحدٍ أو أكثر، وبذلك تكون جُزيئات بوزنر قادرةً على العمل كذاكرةٍ كمومية (شكل ١٤-١٢).
fig157
شكل ١٤-١١: بعد التحلُّل المائي لجُزيئات البايروفوسفات، يمكن لأيونات الفوسفات (بالبرم المغزلي النووي المتشابك لأزواجها) أن تتحد مع أيونات الكالسيوم لتكوين جُزيئات بوزنر. هذا يمكن أن يُوجِد لفًّا مغزليًّا نوويًّا متشابكًا كموميًّا ضمن وما بين الجُزيئات. مُحوَّر عن: Fisher (2017).
fig158
شكل ١٤-١٢: مع بطء الدوران، ينفك زوج جُزيئتَي بوزنر المرتبطتَين بسهولة أكثر (في بيئةٍ حامضيةٍ قليلًا) من الجُزيئات المفردة، وهكذا يتحلَّل زوج بوزنر إلى مكوِّناته من أيونات الكالسيوم والفوسفات. أيونات الكالسيوم المتحرِّرة يمكن أن تقدح عملياتٍ كيموحيويةً لتوصيل الوضع الكمومي إلى كيموحيوي. عن: Fisher (2017).
fig159
شكل ١٤-١٣: زوج من جُزيئات بوزنر المتشابكة في (a). الخطوط المتقطِّعة البنفسجية تمثِّل الحالة المنفردة (Singlet) للفِّ المغزليِّ النووي المتشابك للفسفور. معقدٌ من جُزيئات بوزنر عالي التشابك في (b). مع زوجَين من جُزيئات بوزنر المتشابكة موسمة (a, a’) و(b, b’) كما في (c) ارتباطٌ كيميائيٌّ بين واحد من كل زوجٍ مع الآخر — المستطيل الأسود الذي يربط (a, b) — يمكن أن يغيِّر احتمالية الارتباط التالي لفردَي الزوج الآخرين (a’, b’). إذا ارتبطَت جُزيئات بوزنر كيميائيًّا بعد انتقالها إلى اثنَين من الخلايا العصبية قبل المشبك كما في (d) فستكونان عُرضةً للتفكُّك محرِّرتَين أيوناتِ الكالسيوم المصاحبة لهما في السايتوبلازم، وهذا يحفِّز تحرُّر ناقلٍ عصبي، وبذلك تُحفِّز إطلاق متشابكٍ كموميًّا للخلية العصبية بعد المشبك. عن: Fisher (2015).
fig160
شكل ١٤-١٤: يكون أيون الليثيوم في المحلول المائي معقدًا رباعي السطوح Li+(H2O)4. يقع أيون الليثيوم (بنفسجي) في المركز ويُحاط بأربعة جُزيئات ماء. الأوكسجين (أحمر) والهيدروجين (أبيض). مُحوَّر عن: McCoss (2917) https://chem.libretexts.org.
الارتباط الكيميائي بين جُزيئتَي بوزنر يعتمد على البَرم المغزلي النووي، مؤديًا إلى حالة التشابُك بينهما، وهذا سيكون بمثابة «قياس» لحالات البَرم المغزلي. مع استمرار زوج جُزيئات بوزنر المرتبطان بالدوران حول بعضهما تتعزَّز حالة تشابُك البرم المغزلي النووي بينهما، لكن عند توقُّف الدوران يحصُل المزيد من «قياس» حالة البَرم المغزلي. وهنا تكون أزواج جُزيئات بوزنر عُرضةً ﻟ «هجوم البروتون» وتُعاني تحلُّلًا محرِّرةً أيونات الكالسيوم إلى السايتوبلازم (شكل ١٤-١٢). هذا سيغيِّر تركيز أيونات الكالسيوم ويحفِّز تحرير حامض الكلوتاميك من الخلايا العصبية قبل المشبك (شكل ١٤-١٣).
يتم نقل جُزيئات بوزنر المتشابكة بواسطة الحُويصلات الناقلة لحامض الكلوتاميك (VGLUT) (Vesicular Glutamate Transporter) من خارج الخلايا حيث تكوَّنَت إلى سايتوبلازم الخلايا العصبية المختلفة قبل المشبك. هذا يحصُل عن طريق الإدخال الخلَوي ثم تفكُّك الجُزيئات وإعادة تكوينها. في المحصِّلة، ستُوجد جُزيئات بوزنر المتشابكة كموميًّا في سايتوبلازم العديد من الخلايا العصبية قبل المشبك، والتي يمكن أن تؤدِّي إلى إطلاقٍ متناسقٍ كموميًّا خلال هذه الخلايا العصبية بعد المشبك.
حسب Fisher (2015) فإن اثنَين من أيونات الليثيوم 6Li يمكن أن تعوِّض ذرة الكالسيوم في جُزيئة بوزنر. هذا يمكن أن يغيِّر من البرم المغزلي النووي للفسفور في الجُزيئة، ويُحوِّر المعالجة الكمومية العصبية، وقد يقدِّم تفسيرًا لآلية عمل الليثيوم (والفرق مع نظيره الآخر 7Li) في علاج بعض الاعتلالات العصبية.
ثمَّن Gambini & Pullin (2019) نموذج Fisher في وصف مبادئِ وآلياتِ عمل الدماغ كموميًّا اعتمادًا على البرم المغزلي النووي للفسفور ودَور جُزيئات بوزنر. كما أشارا إلى إشادة Halpern & Crosson (2019) بنموذج Fisher باعتباره يُلبِّي معظم متطلَّبات مواصفات DiVincenzo (2000) للحوسبة الكمومية. بينما يقلِّل Player & Hore (2018) من زمن التماسُك والتشابُك الكمومي لجُزيئات بوزنر التي يعرضها نموذجُ Fisher إلى أقل من ٣٧ دقيقة أو حتى أقل من ذلك، وبالتالي يُشكِّك في قدرة هذا النموذج على تفسير الوعي الكمومي.
وتأثُّرًا بنموذج Fisher ونموذج Penrose & Hameroff قدَّم McCoss (2017) نموج البرم المغزلي النووي لأيونات الليثيوم 6Li والحوسبة الكمومية الثلاثية حيث تستخدم الكيوترت (qutrit) بدل الكيوبت.
الكيوترت هو وحدةُ معلوماتٍ كمومية تتحقَّق بواسطة المنظومة الكمومية متمثلة بالتراكُب الكمومي لثلاث حالاتٍ كموميةٍ متعامدة تلقائيًّا. كما أبرز الوقت الطويل لتماسُك البرم المغزلي النووي لأيونات الليثيوم في المحلول المائي حيث تُحاط بأربعة جُزيئات من الماء توفِّر له العزل الكافي عن المحيط (شكل ١٤-١٤).

(٥) الوعي: المجال الكهرومغناطيسي وميكانيك الكم

Consciousness: Electromagnetic Field and Quantum Mechanics
يتألَّف الحاسوب الرقمي من عدة ملايين من المفاتيح الكهربائية التي عند غلقها (توصيل) ستُمرِّر وعند فتحها (قطع التوصيل) ستُوقِف التيار الكهربائي، وبالتالي ستُوجِد بتًا (bit) واحدًا يمثل حالة تقابُل بين نعم/لا أو ٠ / ١. مجاميع من مثل هذه المفاتيح ترتَّب بطريقةٍ معينةٍ لتُشكِّل بواباتٍ منطقية ودوائرَ منطقية وتمكِّن من تنفيذ التعليمات التي يُزوَّد بها الجهاز بشكل برامج من خلال وحدة المعالجة المركزية (CPU) (Central Processing Unit) والذاكرة. وتتمكَّن الحواسيب الرقمية المتطورة من القيام بمئات مليارات العمليات الحسابية والمنطقية خلال ثوانٍ قليلة. وبذلك فهي تتفوق على الدماغ البشري في هذا المجال. لكن هذه الحواسيب لا تتمكن من الإدراك الذي يتمتع به الدماغ. صحيحٌ ثمَّة تشابُه بين المنظومتَين؛ فالجهاز العصبي يتألف من مليارات الخلايا العصبية التي تقابل الترانسترات في الحاسوب؛ باعتبارهما يمثِّلان بواباتٍ منطقية، وفي الحالتَين تتصل هذه البوابات المنطقية عَبْر شبكةٍ معقدةٍ تضُم الكثير جدًّا من الدوائر المنطقية. كما يمكن اعتبار الدماغ بمثابة وحدة المعالجة المركزية، ويضم الذاكرة أيضًا. وحتى عند ربط حوالي مليار حاسوب عَبْر العالم من خلال الإنترنت، لا ينتُج عنها ما يكافئ الوعي البشري، فهل الفرق ناجمٌ عن زيادة تعقيد الجهاز العصبي الذي يضم ١٠٠ مليار خلية عصبية؟ أم أن عاملًا آخرا وراء هذا الفرق المهم، يتساءل Johnjoe & Al-Khalili (2014). كأن يكون الدماغ أقرب إلى الحاسوب الكمومي وليس الحاسوب التقليدي. وكان عالم الرياضيات الإنكليزي روجر بنروز قد قال سنة ١٩٨٩م، بفكرة أن العقل البشري هو حاسوبٌ كمومي. ما الفرق بين الحاسوب التقليدي والحاسوب الكمومي؟ الحاسوب التقليدي يعتمد البت كوحدة معلومات وينتج عن حالة من حالتين مترابطتين هما: ٠ و١، وكلما زاد عدد البِتات في الجهاز، زادت قدرتُه الحاسوبية بصورةٍ خطية. فمثلًا زيادة ١ بت إلى ١٠ بِتات الموجودة في الحاسوب، ستزيد من قدرته الحاسوبية بمقدار ١/  ١٠، ومضاعفة عدد البِتات من ١٠ إلى ٢٠ ستضاعف القدرة الحاسوبية للجهاز. أما الحاسوب الكمومي فإنه يعتمد البت الكمومي أو ما يُعرف ﺑ كيوبت (qubit). وحيث إن الكيوبت ناتج عن حالةٍ كموميةٍ لجسيم أو ذرة مثلًا، فهو يُظهِر الخواص الكمومية المتمثِّلة بالتراكُب الكمومي. وبالتالي فإنه مقارنةً بالبِت التقليدي سيكون ٠ و١ و٠١ بنفس الوقت. كما يُظهِر خاصية التشابُك الكمومي؛ حيث تكون جميع الكيوبتات مترابطة، وإن تغيير حالة أحدها سيُغيِّر حالة الجميع؛ بناءً على ذلك فإن القدرة الحاسوبية للحاسوب الكمومي تكون أُسية، وهي زيادة انفجارية؛ وبالتالي فإن زيادة كيوبت واحد سيُضاعِف من القدرة الحاسوبية له. ويشبه Johnjoe & Al-Khalili (2014) هذه الحالة بحالة القصة المعروفة عن رغبة الإمبراطور الصيني مكافأة مخترع الشطرنج؛ حيث عرض عليه مكافأة يحدِّدها المخترع. هذا الأخير طلب أن تُوضع في المربع الأول لرقعة الشطرنج حبةٌ واحدة من حبَّات الرز، وفي المربع الثاني يُوضع ضعف العدد الأول (٢) وفي الثالث (٤) وهكذا وصولًا إلى المربع الأخير رقم ٦٤. وقد استخفَّ الإمبراطور بهذا الطلب واعتبَره استهانةً به. لكنه صُعق عندما عرف أن الرقم سيصل إلى (٢٦٤−١) أي ٩,٢٢٣,٣٧٢,٠٣٦,٨٥٤,٧٧٥,٨٠٨ حبة رز أو ما يساوي ٢٣٠,٥٨٤,٣٠٠,٩٢١ طن من الرز وهذا يكافئ تقريبًا مجموع وزن الرز الذي أنتجه البشر طيلة تاريخهم. سنة ٢٠١٩م، قامت شركة Google ببناء حاسوبٍ كمومي Quantum supremacy يوظِّف ٥٣ كيوبت (سعة حاسوبية = ٢٥٣ أو حوالي ١٠١٦) حيث يقوم بمعالجه مهمةٍ خلال ٢٠٠ ثانية يحتاج الحاسوب التقليدي الفائق لتحقيقها إلى ١٠٠٠٠ سنة (Arute et al., 2019). وفي حال نجح العلماء في بناء حاسوب كمومي يوظِّف ٣٠٠ كيوبت، فستكون سعة ذاكرته تعادل ١٠٨٠ والذي لا يمكن للحاسوب التقليدي الفائق أن يضاهيه إلا إذا صار حجمه بقَدْر حجم الكون كله. ويتوقَّع الفيزيائي Shai Machnes من معهد الفيزياء النظرية في جامعة Ulm ومن العاملين في بناء الحاسوب أن يتم إنتاج مثل هذا الحاسوب بعد ١٠ سنوات.
تنطلق أفكار Johnjoe & Al-Khalili (2014) عن دَور ميكانيك الكَم في الوعي من عمل القنوات الأيونية التي سبق التطرُّق إليها في عمل الخلايا العصبية؛ فهذه القنوات مسئولة عن تكوين جهد الفعل (Action potential) الذي يمثِّل الإشارة العصبية التي تنقل المعلومات في الدماغ، وبذلك لها دَورٌ مركزيٌّ في معالجة المعلومات. وتتميَّز القنوات الأيونية بحجمها الصغير جدًّا؛ فهي حوالي ١٫٢ × ٠٫٣ن م. صغر الحجم هذا وتعامُلها مع الأيونات المفردة، وخصوصيتها وسرعة نقلها للأيونات حيث تمرِّر حوالي ١٠٠ مليون أيون في الثانية يؤهِّلها للعمل كمنظومةٍ كمومية. وقد بين Summhammer et al., (2012) أن عمل قناة البوتاسيوم الأيونية KcsA في البكتيريا يتم عبر التماسك الكمومي في درجات الحرارة الفسلجية كما تم ذكره في الفصل الثامن. واستنتج الباحثون أن التماسُك الكمومي يلعب دورًا لا غنى عنه في نقل الأيونات عَبْر القنوات الأيونية للخلايا العصبية، وبذلك يكون جزءًا من عمل الدماغ، وأن حالات بوابة القناة يمكن أن تفسَّر على أساس حالاتٍ تقليديةٍ تستند إلى عملياتٍ كموميةٍ تحتية في الدماع. وحسب Johnjoe & Al-Khalili (2014) فإن القنوات الأيونية يمكن أن تلعب دورًا في حوسبة الخلايا العصبية؛ حيث إنها وراء أحداث جهود الفعل، فحالاتها تعكس حالات الخلايا العصبية؛ فعمل القنوات الأيونية مرتبط بحالة الإطلاق (Firing) أو الراحة للخلية العصبية؛ فعند حدوث الإطلاق تنفتح القناة الأيونية وتمر الأيونات، بينما عندما تكون الخلية العصبية في حالة الراحة، لا تتحرك الأيونات عَبْر القنوات الأيونية. وحيث إن مجموع عمليات الإطلاق واللاإطلاق للخلايا العصبية في الدماغ تؤسِّس لأنشطة الدماغ، فإن مجموع عمليات تدفق الأيونات الكمومي إلى داخل الخلية أو خارجها (عمل القنوات الأيونية) يمكن أن يشترك في عمل الدماغ. لكن عمل القنوات الأيونية بشكلٍ منفرد لا يمكن أن يفسِّر تكوين العملية الدماغية المترابطة. ولتحقيق ذلك لا بد من ترابُط عمل القنوات الأيونية من خلال التشابُك الكمومي للأيونات فيها، وتلك الموجودة في الخلايا العصبية القريبة. لكن هذا برأي الباحثَين غير ممكنٍ بسبب حدوث فكِّ التماسك في ظروف الحرارة الفسلجية والرطوبة والأنشطة المرتبطة مع البيئة. التماسُك والتشابُك المطلوبان حسب هذَين الباحثَين يتأتى من خلال القنوات الأيونية الفولتية البوابة، والتي تنفتح وتنغلق بفرق الفولتية أو المجال الكهربائي. والدماغ يسوده مجالٌ كهربائيٌّ ناتج عن النشاط الكهربائي لمجموع الخلايا العصبية، وهو ما يتم تحسُّسه وتسجيله في تقنيات مسح الدماغ الروتينية؛ مثل التخطيط الكهربائي للدماغ Electroencephalography (EEG) أو التخطيط المغناطيسي للدماغ Magnetoencephalography (MEG). هذا المجال الكهربائي يمكن أن يحل مشكلة الترابط المعروفة في تكوين الوعي. والمجال أي مجال مثل المجال الكهربائي أو المجال المغناطيسي يكون حالةً من الطاقة مستمرة في الفضاء، ويمكن أن تحقِّق شغلًا؛ فمجال الجاذبية يحرِّك الكتل، والمجال الكهربائي أو المغناطيسي يحرِّك الجُسيمات المشحونة؛ مثل الأيونات في القنوات الأيونية. وحيث إن الكهربائية والمغناطيسية هما خاصيتان لظاهرةٍ واحدة؛ يولِّدان المجال الكهرومغناطيسي، كما أن المادة والطاقة قابلان للتحوُّل؛ أحدهما إلى الأخرى حسب معادلة آينشتاين الشهيرة E = mc2 ينتُج عن ذلك أن طاقة المجال الكهرومغناطيسي للدماغ مرتبطة بمادة الدماغ (الخلايا العصبية) وهي تنتُج عن عمليات الإطلاق للخلايا العصبية؛ لذا فهي ستُشفِّر معلوماتٍ مماثلة بالضبط لما تشفِّره الخلايا العصبية من أنماط إطلاق. لكن بينما تبقى الومضات العصبية ضمن الخلايا العصبية، تُوحِّد جميع الأنشطة الكهربائية المتولِّدة عن كل الومضات كافة المعلومات ضمن المجال الكهرومغناطيسي للدماغ، والذي يرتبط مع الأيونات المتماسكة كموميًّا في القنوات الأيونية الفولتية البوابة. وهكذا يبدو أن المجال الكهرومغناطيسي الذي ينتُج عن نشاط الخلايا العصبية كما مر ذكره، ينسِّق إطلاق الخلايا العصبية حيث يُزامِن إطلاق مجاميع منها سوية مكوِّنًا ما يشبه الحلقة الدورية ذاتية المرجعية، والتي يعتقد أنها مكوِّنٌ أساسيٌّ في الوعي.
وحسب الباحثين Johnjoe & Al-Khalili (2014) فإن حالات عدم التركيز أو اللاوعي تتضمَّن أيضًا إطلاقات الخلايا العصبية كما في حالات الوعي، لكن الحالات الأولى تنتُج عن إطلاقاتٍ عصبيةٍ غير متزامنة، بينما حالات الوعي تنتج عن إطلاقاتٍ عصبيةٍ متزامنة بفعل المجال الكهرومغناطيسي. وهكذا يبدو أن الوعي ينتُج عن عمليات تتضمن بصمات ميكانيك الكم من خلال عمل القنوات الأيونية، وفعل المجال الكهرومغناطيسي التقليدي.

وحيثُ إن جميع الخلايا بما فيها خلايا البكتيريا تمتلك قنواتٍ أيونيةً في أغشيتها، فيمكن لهذه الآلية أن تفسِّر الوعي الذي تُظهِره جميع الأحياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤