الفصل العاشر

ما الميتافيزيقا؟

الآن بعد أن تناولنا بعضًا من الأسئلة الرئيسية المطروحة في الميتافيزيقا، صرنا أكثر استعدادًا للإجابة عن السؤال الآتي: ما الميتافيزيقا؟ الميتافيزيقا هي النشاط الذي انخرطنا فيه طَوال الفصول التسعة السابقة. وأما وقد تعمقنا فيه، فقد صرنا أقدر على فهمه.

ربما بدت الكثير من الأسئلة بسيطة، أو غبية، أو طفولية، وغالبًا يتجاهلها الناس باعتبارها كذلك. فبمجرد أن نكبر، يغدو من غير المتوقع أن نسأل ما الدائرة، أو ما إذا كان الوقت يمرُّ، أو ما إذا كان العدم شيئًا. يبدو كأننا ننشأ على التوقُّف عن حس التعجُّب الطبيعي الذي نُولَد به.

ربما يُعتقد أن الميتافيزيقا إهدارٌ غير مُجدٍ للوقت، أو ربما ما هو أسوأ، مصدر خطير للضلال والتشتُّت. ولا يجدر بنا أن ننسى قصة سقراط (وهي ربما ليست صحيحة تمامًا)؛ إذ حُكم عليه بالموت لإثارته الكثير من البلبلة. رغم ذلك فقد رأى القارئ أن هذه الأسئلة البسيطة جدًّا يمكن أن تؤدي إلى إجاباتٍ معقَّدة. مجرد التساؤل ما الدائرة أخذنا سريعًا لبعض الموضوعات العميقة عن طبيعة العالم، والواقع، وما هو موجود. ربما ساعد تأمُّل مثل هذه القضايا في تنشيط أذهاننا. كان علينا إمعان الفكر وأداء بعض التمارين الذهنية الصعبة. ولكن هل للميتافيزيقا فائدة غير ذلك؟ ربما صار لدينا إدراك، ولكن لا يبدو أن هناك مجالًا لتوظيف هذا الإدراك. يبدو أن تهمة عدم الجدوى لا تزال قائمة.

إذن ماذا كنا نفعل طَوال هذه الفصول التسعة الماضية؟ إحدى الإجابات هي أننا كنا نحاول فهم الطبيعة الأساسية للواقع. ولكننا لم نُعنَ إلا بجانب واحد من الواقع، ولم نسعَ إلا لنوعٍ واحد فقط من الفهم. تسعى العلوم هي الأخرى لفهم طبيعة الواقع، ولكنها تفعل ذلك بطريقة مختلفة. فالعلوم تبحث عن حقائق عامة، ولكن تلك الحقائق ملموسة كذلك، أما حقائق الميتافيزيقا فهي عامة ومجرَّدة للغاية.

عندما نتساءل عما هو موجود، يعطينا الفيلسوف إجابة على أعلى مستوياتٍ من التعميم. فربما يقول إن هناك جزئياتٍ تندرج في أنواعٍ طبيعية، وهناك خصائص، وتغييرات، وعِلل، وقوانين الطبيعة، وما إلى ذلك. أما وظيفة العلوم فهي تحديد الأشياء التي تندرج تحت كلٍّ من تلك الفئات. هناك، على سبيل المثال، الإلكترونات، أو النمور، أو العناصر الكيميائية. هناك خصائص الدوران، والشحنة، والكتلة، وهناك عمليات مثل الذوبان، وهناك قوانين الطبيعة مثل قانون الجاذبية.

تسعى الميتافيزيقا لترتيب وتنظيم كل هذه الحقائق الدقيقة التي تكتشفها العلوم، وتوصيف سِماتها العامة. وعلى الرغم من أنني حاولتُ استخدام الكثير من الأمثلة للتوضيح عند شرح الميتافيزيقا، فسيلاحظ القارئ كذلك أن الاختيار كان اعتباطيًّا بعض الشيء. لقد سألتُ ما الدائرة، وما الطاولة. كان من الممكن أيضًا أن أسأل ما الحُمرة أو ما الجزيء. كانت هذه مجرد طرقٍ لاستعراض موضوعات الخصائص والجزئيات بوجه عام.

الفيزياء والميتافيزيقا

هناك فَرق بين الميتافيزيقا والعلوم من حيث مستوى التعميم، ولكن هناك أيضًا فَرقًا في النهج. على الرغم من أن كلا المجالَين يركز على الموضوع نفسه — طبيعة العالم — فإنهما يسعيان لفهمه من منظوراتٍ مختلفة. تعتمد العلوم على الملاحظة التي غالبًا ما تكون نقطة البداية والفيصل في الحكم على صحة النظرية. أما الميتافيزيقا، فرغم عنايتها بالعالم، فإنها لا تهتم كثيرًا بذلك الجزء منه الذي يمكن ملاحظته. ما يمكننا أن نراه بأعيننا لا يفيد الميتافيزيقا، أو الفلسفة عمومًا، إفادة كبيرة. الأدلة الحسِّية ليست ما يقرر قبول النظرية الفلسفية أو رفضها.

تناقشنا مثلًا حول ما إذا كانت الطاولة مجرد حُزمة من الخصائص، أو جوهرٍ كامنٍ يضم كلَّ تلك الخصائص. وجدير بالذكر أننا لا يمكننا أن نقرر أي النظريتَين صحيحة على أساس الملاحظة. لن يتغير العالم في كلتا الحالتين. فليس في إمكاننا في الواقع إزالة الخصائص عن كائنٍ حقيقي لنحصل على ركيزة خالية من الخصائص. وكيف يمكن أن يبدو من دون الخصائص؟ ليست أسئلتنا بالأسئلة العلمية إذن. من الصعوبات التي كثيرًا ما تعترض الطلاب عند الشروع في دراسة الميتافيزيقا أنهم لا يستطيعون التمييز بينها وبين العلوم، خاصةً الفيزياء. هم يعتقدون أنه ما دام العالم هو موضوعنا، فعلينا أن ننظر في العالم ونفعل ذلك بأسلوب علمي. ربما نستخدمه من أجل الأمثلة في البداية، ولكن لا يمكننا أن نتوقع منه أن يجيب عن أسئلتنا الميتافيزيقية.

من الوارد أن يكون مجال الميتافيزيقا قد اكتسب اسمه من صدفة تاريخية. فقد كانت الميتافيزيقا هي كتاب أرسطو الذي جاء بعد كتابه عن الفيزياء. ولكن سواء كان الاسم مقصودًا أم لا، هناك طريقة أخرى لرؤيته وهي تصف النشاط بدقة. يجوز ترجمة المقطع ميتا إلى «أعلى» أو «ما وراء»، وحقًّا إن ما نفعله في الميتافيزيقا أعلى من الفيزياء ويتجاوزها. إنه أعلى في درجة التعميم؛ وهو يتجاوز البحث بالملاحظة في العالم، للتفكر العقلاني في السِّمات المفترضة أو الممكنة للعالم. بناءً على ذلك، سيبدو لنا اسم التخصص مناسبًا جدًّا بالطبع؛ لأن المشكلات المطروحة في كتاب أرسطو كانت من هذا النوع تحديدًا. غير أنه مما سيتبع ذلك عدم صحة تسمية من يمارس الميتافيزيقا بالميتافيزيقي. فلقب طبيب يُطلق على مَن يمارس الطب. موضوعنا ليس أعلى من الطب، ولا يتجاوزه. إن مَن يعمل بالفيزياء عالِم فيزياء؛ ومن ثَم فإن مَن يهتم بالميتافيزيقا عالِم ميتافيزيقا.

بيد أن الميتافيزيقا لم تُنتقد فقط على أساس أنها طفولية أو مزعجة. فحين نقرُّ بأنها غير تجريبية — أي إنها لا تهتم بما يمكن ملاحظته بحواسنا — نجد العديد من المشككين مستعدين لمهاجمتها. إذا كانت الميتافيزيقا تتعلق بشيء لا يمكن ملاحظته، فكيف لنا أن نعرف أيَّ شيء عنها أو نجيب عن أسئلتها؟ كيف نعرف إذا لم تكن محضَ كلمات فارغة أو هُراءً خالصًا؟ رفض هيوم، ومن اتَّبعوه، الميتافيزيقا على هذه الأسس. قال الفلاسفة التجريبيون إن أفكارنا لا بد أن تنبع من تجاربنا لكي يكون لها أي معنًى. وإذا لم يتمكَّن المرء من رد المصطلحات المستخدَمة في الميتافيزيقا إلى ملاحظة أصيلة، فإنها تكون عديمة المعنى حرفيًّا. ولذلك السبب أوصى هيوم بإحراق كتب الميتافيزيقا. وهو لم يرَ نفسه عالِم ميتافيزيقا، وإن كان قد أثَّر في العديد من النقاشات التي جاءت لاحقًا. وصحيح أنه لم يأخذ بتوصيته بحرق الكتب سوى قليلين، ولكن ظل انتقاد هيوم يعاود الظهور في أشكالٍ أحدث مثل الوضعية المنطقية.

كان من الردود على هيوم نسخة من الميتافيزيقا قدَّمها كانط في كتابه «نقد العقل الخالص» (١٧٨١). وهو يُعَد دفاعًا عن الميتافيزيقا، ولكن من الممكن أيضًا تفسير كلام كانط على أنه خفض لطموحاتها. يختلف الباحثون في أعمال كانط على أنسب طريقة لفهمه، ولكن يجوز أن نرى ميتافيزيقا كانط كوصفٍ لبِنية تأمُّلنا للعالم، وليس للعالم نفسه. فنظرًا إلى الحدود التي تعوق تفكيرنا وتجربتنا، لا بد أن نفهمه بطريقة معينة. بناءً على هذه الفكرة، يجوز القول بأن علينا أن نتصور العالم من حيث الجزئيات وخصائصها، أو باعتباره موجودًا في الزمان والمكان، أو باعتباره يتضمن عِللًا. أو يجوز القول بأن الميتافيزيقا تقتصر على المفاهيم التي نستخدمها في وصف العالم، وكيف تترابط بعضها ببعض. لعل الدفاع عن هذا النوع من الميتافيزيقا أسهل، ولكن لا بد أن نقرَّ بأن هذا يغيِّر طبيعتها تغييرًا جوهريًّا. يريد الميتافيزيقيون اكتشاف ماهية العالم، وليس الحقائق المتعلقة بمفاهيمنا، أو بطبيعتنا النفسية، أو فقط الجزء الذي تستطيع طبيعتنا النفسية استيعابه من العالم. ما إذا كان موقف كانط يبرر هذا الرد هو أمر أفضِّل عدم البت فيه. بيد أن ما أود توضيحه هو أن البعض يفضِّلون عندما تتعرض الميتافيزيقا للهجوم أن ينسحبوا إلى منطقة يسهل الدفاع عنها. ولكننا إذا فعلنا ذلك، لن تكون الميتافيزيقا هي ما ندافع عنه.

هل يمكننا وصف ممارسة الميتافيزيقا بشكلها الأصلي الخالص، والدفاع عنها ضد الهجوم بأنها بلا معنًى، ولا جدوى، ولا هدف؟ للقارئ أن يقرر ما إذا كانت المشكلات التي رآها على مدى الفصول التسعة الماضية بلا معنًى. قد يكون لديكم نفس حدسي.

fig11
شكل ١٠-١: إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤).

على الرغم من أن هذه الأسئلة لا تُحسم من خلال الملاحظة، فمن الممكن أن نزعم أنها أسئلة أصيلة وذات معنًى. يمكننا أيضًا الزعم بأنها تتعلق بطبيعة العالم، وليست مجرد مفاهيم، أو أنها لا تمثِّل الطريقة التي نفكر بها. دعونا نرَ إذا كان في مقدورنا الدفاع عن هذا الرأي.

هل ينبغي أن نصدق كل ما نراه؟

بادئ ذي بدء، دعونا نعترف بأننا بالغنا في تقدير قُوى الملاحظة. على الرغم من أن العلماء قد يستخدمون حواسهم، فإن الملاحظة لا تحسم كل شيء. وما نؤمن به في العلم نظريٌّ إلى حدٍّ كبير. من هذه الناحية، قد تكون الميتافيزيقا متسقة مع العلم. لا يختلف ما يفعله الميتافيزيقيون اختلافًا صارخًا عما يفعله كلُّ مَن يريد فهم العالم. صحيح أن الميتافيزيقا متطرفة في التجريد والتنظير، لكن يبدو أن الحدود بين المجالَين أقرب إلى التدرُّج من الحد الفاصل.

في الميتافيزيقا، نستخدم التفكير والمنطق للاسترشاد على حالة العالم، أو الحالة التي ينبغي أن يكون عليها. من الممكن أن نرفض نظريات عن سِمة من سِمات العالم في حال كانت غير معقولة، سواء لكونها مخالِفة للبديهة أو متناقضة تمامًا. والرفض في الحالة الثانية هو الأفضل. فربما تشير النظرية إلى أن العالم لديه سِمة ما وعكسها في آنٍ واحد، في هذه الحالة يكون لدينا أسبابٌ لرفض هذه النظرية نظرًا إلى كونها غير متسقة. لكن ربما من النادر أن يكون التناقض واضحًا إلى هذه الدرجة. وحتى لو كانت كذلك، قد يحاول المدافع عن النظرية تبرير التناقض. وفي أغلب الأحيان حين نشكك في النظريات يكون إما لقولها وإما لإيحائها بشيء غير معقول. على سبيل المثال، إذا قال أحدهم إن الزمن يتدفق، فسيبدو أنه لا بد أن يكون قادرًا على تحديد معدَّل تدفُّقه. لكننا رأينا أن هذا لا يمكننا أن نقدم له إجابةً ذات معنًى: فلا بد بالطبع أنه يتدفق بمعدل ثانية واحدة في الثانية. كما تناولنا النظرية التي تقول إن غياب الأشياء يمكن أن يكون من العِلل، لكن هذا أيضًا أعطانا نتيجة غير معقولة. فسيتعيَّن علينا حينئذٍ الإقرار بأن العدم يمكن أن تكون له قوًى سببية، وكما رأينا، سيكون بذلك من بين عِلل أي حدث غياب أي شيء كان يمكن أن يحُول دون وقوعه.

عندما تكون النتيجة منافية للبديهة إلى هذه الدرجة، نقول إننا اختزلنا النظرية إلى حد العبث. في حالة الجوهر، بدا كأننا قد اختزلنا، إلى حد العبث، النظرية التي تقول إن الجزئي مجرد حُزمة من الخصائص. حسب هذه النظرية، لا يمكن أن يكون هناك جزئيَّان بالخصائص نفسها، ولا يبدو أن ثمة سببًا وجيهًا لنقتنع بذلك. بالطبع يعتقد بعض الفلاسفة أنه من الممكن أن تتحاشى النظرية هذا الاختزال إلى حد العبث، ومن ثَم فإنه ليس نهاية المطاف. وقد ينكر آخرون أن النتيجة غير معقولة. أو أننا لا بد أن نفترض أن الحقيقة ستكون دائمًا بديهية. فعلينا أحيانًا اتِّباع الحُجة والتسليم بكل ما تنطوي عليه، حتى لو كان غير متوقع. من ثَم، هناك دائمًا مجالٌ لمزيدٍ من الجدل الفلسفي.

لا شيء مما ذُكر اعتمد حقًّا على استخدام الحواس. بالطبع لا بد أن تكون كائنًا مفكرًا لمجرد التطرُّق إلى مجال الفلسفة، ويبدو أن التجارب العملية لا بد أن تسبق ذلك. ربما بيَّنت لك حواسك كذلك أن الجزئية خاصية من خصائص العالم تحتاج إلى تفسير. يبدو أن هناك جزئيات. ولكن بعد ذلك، كان لتفكيرك المجرَّد أن يقرر كيف يجب أن يكون الجزئي، أو العِلة، أو الزمن. يمكنك استكشاف النظريات المختلفة، بقدر ما يلزم. وبعضها لا يصمد أمام التدقيق.

يمكننا رفض بعض النظريات مبدئيًّا إذا بدا أنها تنطوي على مشكلة مستعصية: إذا بدا أنها تنطوي على تناقض أو أي شكل آخر من أشكال العبثية. ونقرُّ بأنه من الجائز التغلب على المشكلة في المستقبل. حتى الآن، لا يبدو أن ما يفعله الميتافيزيقي يختلف كثيرًا عما يفعله أمهر العلماء. ربما يرفض عالِم الفيزياء النظرية النظريات استنادًا إلى الأسس نفسها. ثمة فَرق واحد. يرفض الميتافيزيقيون النظريات على أساس المنطق وحده: حيث تكون مشكلة النظرية في اتساقها الداخلي أو التناقض مع مجموعة أخرى من النظريات التي نقدرها. أما في حالة العلوم، فقد يكون أساس رفض النظرية هو التعارض مع أدلة عيانية. تريد العلوم أن تتفق النظرية مع الحقائق العيانية، أما بيانات الميتافيزيقا فليست عيانية.

حتى الآن، يبدو الكلام مقبولًا. لا يبدو أن الميتافيزيقا أضعف حُجة بدرجة كبيرة من العلوم؛ بحيث يصعب الدفاع عنها. ولكن قد يُجادل البعض بأن هذا يرجع إلى حقيقة أننا لم نشِر إلا إلى الحالة السلبية حين تُرفض النظرية. بالطبع لا بد من رفض النظرية إذا كانت تحمل تناقضًا أو تؤدي إلى نتيجة عبثية، سواء كانت في العلوم أو الفلسفة. ولكن هذا يعطينا الأسباب لاستبعاد النظريات فقط، وليس لقبولها. وهنا قد يُعتقد أن العلوم لديها اليد العُليا لأنها من الممكن أن تجد دعمًا تجريبيًّا لنظرياتها. أما في الفلسفة، فمن الممكن ومن المرجح جدًّا أن يكون هناك أكثر من نظرية متماسكة عن موضوع ما. ربما تكون عدة نظريات صحيحة كلٌّ على حدة، حتى وإن لم يكن ممكنًا أن تكون جميعها صحيحة في آنٍ واحد. كيف نقرر إذن أيُّها صحيحة؟ ربما لا توجد حقيقة في الميتافيزيقا، وإنما مجموعة من النظريات التي لا يمكننا الاختيار بينها.

في هذا إغفال مرةً أخرى للأسلوب الذي نفكر به في الفلسفة والعلوم. كما نعلم من فلسفة العلوم، من الصعب أن نقرر ببساطة أننا نعرف أي النظريات عن العالم صحيحة، من خلال الملاحظة وحدها. ربما يوفر ذلك بيانات مفيدة، تستبعد بعض النظريات، ولكن قد تتوافق أكثر من نظرية مع البيانات. فكيف نقرر إذَن أي النظريات هي الصحيحة؟ كيف نعرف إذا كان أي شيء صحيحًا؟ هذا ليس سؤالًا تسهل الإجابة عنه. حتى الملاحظات قد يتأثر بعضها إلى حدٍّ ما بالنظريات التي نؤمن بها؛ لذا فإن القرار بعيدٌ كل البعد عن أن يكون بسيطًا في حالة العلوم. في الميتافيزيقا كذلك من الصعب التوصُّل إلى الحقيقة، ولكن بيت القصيد هو أننا لا ينبغي أن نخضع الحقيقة في الميتافيزيقا لمعايير أشد صرامة مما نفعل في الحالات الأخرى. ومن ثَم فإننا غالبًا ما نجد نظرياتنا مؤقتة، وتحتمل الخطأ. ونقرُّ بأنه قد يتعيَّن مراجعتها، ولكن مع ذلك ربما يكون من المنطقي استخدامها.

من المرجَّح أن تكون العلاقة بين الميتافيزيقا والعلوم أعقد بكثيرٍ مما جاء ذكره للتوِّ. غالبًا ما نفضِّل أن ينسجم الاثنان، حتى لو لم يكونا في خلافٍ صريح. أفضل ما نتمناه أن يكون لدينا ميتافيزيقا تتناسب والعالم حسب وصف العلوم، وأن يكون لدينا علوم ميتافيزيقية سليمة. وقد رأينا بالفعل حالةً توضح ذلك. فقد طرحنا أسئلة حول التزامُن في الفصل السادس: وهو المفهوم الذي تشكِّك نظرية النسبية العلمية في صحته. لكن يمكن القول بأن نظرية النسبية لا تدحض بعض النظريات الفلسفية بشأن المكان والزمان المطلَقَين. لكننا ربما نعتقد أنه من الأفضل صياغة ميتافيزيقا تتمحور حول طريقة العالم أو طبيعته، كما تصفه أفضل نظرية علمية متاحة. حينئذٍ قد نحقق ميتافيزيقا مستنيرة علميًّا. وهو ما يمكن أن يعطينا تفسيرًا متسقًا للعالم يعمل على المستويَين المادي والمجرد.

الفضائل النظرية

في الميتافيزيقا، عندما نقرر أي النظريات سنختار، لا بد أن نبحث عن مجموعة من الفضائل النظرية. نبحث إلى أي مدًى تستطيع النظرية شرح الأمور المهمة بحق. وهل تتفق مع نظرياتنا الأخرى لتقديم تفسير موحد للعالم؟ وهل تشرح الكثير بإيجازٍ شديد، أم إننا نكثر في افتراضاتنا لطرح النظرية حتى إن قدرتها على تفسير الظواهر مجرد وهم؟

على سبيل المثال، كان من أسباب التوصية بالنظرية القائلة بأن هناك العديد من العوالم الأخرى أنها تفسر أشياء كثيرة. إنها تخبرنا مثلًا بالأشياء الممكِنة. لكن كما رأينا، بمجرد أن نطرح النظرية، كان علينا افتراض وجود كل إمكانية من الإمكانات في عالم حقيقي. من ثَم يبدو أننا لا نحصل على تفسير من النظرية إلا بقدر ما نقدِّمه لها من افتراضات. من ثَم فإننا غالبًا ما نقوم بعملية موازنة حيث نقارن بين عدد الافتراضات وقدرة النظرية على التفسير، في عملية أشبه بتحليلٍ واسع للتكلفة والفائدة.

مرة أخرى، عندما نقارن بين الميتافيزيقا والبحث عن المعرفة في العلوم، لا يبدو أن الفرق بينهما شاسع. فإن ما نريده هو العثور على نظريات تفسر الظواهر بطريقة بسيطة نسبيًّا، دون أن تتطلب افتراضات غريبة أو فرضيات مصطنعة. في حالة العلوم، من الممكن أن تشمل الظواهر المُراد تفسيرها ظواهر قابلة للرصد، مثل وجود جسيم غير متوقع، أو حركة غير عادية لكوكب. ولا بد أن تتضمن النظرية في نتائجها مثل هذه الحركة لتُعَد ناجحة في التفسير.

أما الظواهر في الميتافيزيقا، فلا تُرصد بالطريقة نفسها. ذلك أننا نسلِّم بضرورة تفسير بعض الأشياء المجردة جدًّا: إذ يبدو على سبيل المثال أن هناك العديد من الجزئيات، وأن السببية سِمة من سِمات العالم. ما أفضل طريقة لتفسير هذه السِّمات العامة؟ بمجرد أن نفسر كيف يجب أن تكون السببية في عالمنا، سنترك للعلوم مهمة إخبارنا بالعِلل، وما تسببه. كل ما نريده هو معرفة معنى أن يكون شيء سببًا لشيء آخر. ونعتمد المزايا النظرية نفسها التي يعتمدها غيرنا. إننا نسعى لاكتشاف أفضل تفسيرٍ ممكن لسِمات العالم. لكن السِّمات التي تهم الميتافيزيقيين مجرَّدة وعامة جدًّا. ولا يمكن رصدها بالطريقة التي تستطيع بها رصد طاولة أو قطة، ولكن ربما نستخلصها مما نرصده. فلدينا مفهوم عن سِمة الجزئية مستمدٌّ من هذه الأشياء، وهذا ما نريد تفسيره.

قيمة الميتافيزيقا

قد يبدو أن لدى منتقدينا حُجة لا نستطيع الرد عليها. ربما لدينا أسباب لرفض نظريات وقبول أخرى، بصفة مؤقتة، وربما لا نخالف في هذا الصدد أيَّ مبدأ عقلاني يتبنَّاه الآخرون، ولكن عدم جدوى الميتافيزيقا بالمرة تبيِّن لماذا لا ينبغي لنا ممارستها. نظرًا إلى أن العلوم مرتبطة بكيفية ما بالعالم التجريبي الذي نراه ونتفاعل معه، في مقدورنا استخدام نظرياتنا العلمية للحصول على ما نريد. يمكننا تطبيق العلوم بما يحقق لنا الفائدة. يمكننا التحكم في العالم واستخدام العلوم لتحقيق أغراضنا. العلوم المفيدة تثمر نتائج مفيدة. لكن بسبب أن الميتافيزيقا نظرية جدًّا، ومجرَّدة جدًّا، وغير تجريبية بالمرة، فيبدو أنها بلا فائدة على الإطلاق. فهي لا تمكِّننا من التحكم بالعالم من حولنا. إنها بلا أي فائدة تُذكَر.

لكننا لسنا في حاجة إلى الخوف من هذه الحُجة. أولًا، لأن أساسها قابل للتفنيد. إذا تحدثنا عن السببية على سبيل المثال، فإنها بالغة الأهمية. إن تحكُّمنا في العالم نفسه معتمدٌ على السببية. لا شيء سيكون له معنًى من دونها. ويتضح أننا لا نستطيع معرفة العلاقة السببية بين شيئَين إلا إذا كان لدينا نظرية — نظرية ميتافيزيقية بالضرورة — عن ماهية أن يكون شيءٌ ما سببًا لشيء آخر. فمن الممكن أن يؤدي سوء فهم فلسفي إلى خطأ عملي، إذا افترضنا أن السببية لا تعدو محض ارتباط، على سبيل المثال.

ولكن لنفترض أن أساس الحُجة صحيح. لنفترض أن الميتافيزيقا حقًّا غير مجدية بالمرة. هل هذا يعني أنها بلا قيمة؟ كلا. العديد من الأشياء قيمتها أداتية: إنها تمنحك شيئًا آخر تريده. ولكن بعض الأشياء لها قيمة ذاتية. قيمتها أصيلة فيها، فهي قيِّمة لذاتها. حتى لو كانت الميتافيزيقا عديمة الفائدة، فربما يكون ما تقدِّمه من رؤًى بالغة العُمق والتأثير مما قد يجعلها ذات قيمة ذاتية عُليا لنا. إنها يمكن أن تمنحنا فهمًا عديم الفائدة لطبيعة الواقع، ولكنه فهم عميق. حقًّا، تبدو فكرة أفلاطون منطقية.

الفهم الميتافيزيقي لماهية العالم، وكيف يسير، وكيف تترابط كل أجزائه معًا، على المستوى العام والمجرد، قد يكون أهم الأشياء وأكثرها واقعية. إننا في هذه الحالة، لن نمارس الميتافيزيقا حتى نظل أصحاء وأثرياء: إنما نريد أن نظل أصحاء وأثرياء حتى نتمكن من ممارسة الميتافيزيقا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥