ما الدائرة؟
السؤال الافتتاحي لهذا الفصل سهلٌ جدًّا. ما الدائرة؟ قد تظن أننا أجبنا عنه بالفعل بعد هذه القرون الطويلة للحضارة البشرية. وهناك على الأقل إجابة واحدة واضحة وبسيطة تقدِّمها الهندسة. فلدى الرياضيين تعريفٌ دقيقٌ للدائرة. لكن يجب أن نضع ذلك التعريف جانبًا الآن؛ لأنه ليس من نوعية الإجابات التي تهمنا.
حولنا أشياء شتَّى مستديرة الشكل، منها؛ العملة، والعجلة، ومحيط الكرة، وحافة الكوب، والدائرة المرسومة على ورقة. ثمة دوائر مستقلة بذاتها متنوعة، نراها في أماكن وأوقات مختلفة. ويبدو أن هناك شيئًا مشتركًا في جميع هذه الحالات. والشيء المشترك بينها وبين الأشياء الأخرى في القائمة هو ما نسميه الاستدارة. إننا نعطي هذه السِّمة اسمًا، ونعاملها كما لو كانت كيانًا من نوعٍ معين. يمكن العثور على السِّمة نفسها في العديد من الأماكن والأشياء المختلفة. يصف البعض الاستدارة بأنها شيء واحد يسري في العديد من الأشياء. ذلك أنه في كل هذه الجزئيات الكثيرة المختلفة، نعثر على استدارة واحدة.
الدوران في دوائر
يبدو أن هناك شيئًا غريبًا في سِمة الاستدارة هذه، إذا كانت شيئًا بحقٍّ من الأساس. من المعتاد حينما نفكر في الأشياء، نفكر فيها باعتبارها كائنات: كائنات معينة مثل الطاولات، والمقاعد، والسيارات، والأبنية، والأشجار، والأقلام، وما إلى ذلك. دعنا نختَر عشوائيًّا واحدًا من هذه الأشياء: ليكن قلمًا معينًا. قد يكون هذا القلم على مكتبٍ معين في منزلٍ معين. ستكون له بداية في الوجود وتاريخ معين. إذا كان هذا القلم على مكتب معين، فسنعلم من ذلك أنه ليس في أي مكان آخر. وإذا كان ملكًا لشخصٍ معين، فسندرك أنه ليس ملكًا لشخص آخر. بالطبع، قد تتشارك مجموعة من الأشخاص لشراء قلم معًا، لكن، من جديد، إذا كانت هذه المجموعة تمتلك القلم، فلا يمكن أن يكون ملكًا لشخصٍ آخر. قد يمتلك كلٌّ من الشركاء جزءًا من القلم.
من ثَم فإن الأغنام، والطاولات، والأقلام هي كائنات معينة. يمكننا أيضًا القول بأن الدائرة كائنٌ معين. أما الاستدارة فلها طبيعة مختلفة جدًّا. على عكس حالة القلم، كون الاستدارة تظهر في مكانٍ أو زمانٍ ما، فذلك لا يمنعها من الظهور في أماكن وأوقات أخرى. هي تظهر في كل تلك الأماكن، حيث تكون حاضرة بالكامل. هذا مختلف عن حالة القلم. فكونه مملوكًا بالكامل لشخصٍ واحدٍ يحُول دون أن يكون مملوكًا لشخصٍ آخر، في حين أن كون شيء ما مستديرًا لا يحُول دون أن تكون أشياء أخرى أيضًا مستديرة. فعندما تشترك مجموعة أشخاص في ملكية قلم، يمتلك كلُّ فرد منهم جزءًا فقط من القلم. لكن إذا كان عدد من الأشياء مستديرًا، فكل واحد منها يكون مستديرًا استدارة كاملة. فلا تنقسم الاستدارة أجزاءً، بحيث إذا توفَّرت لشيئَين، على سبيل المثال، يصبح كلٌّ منهما نصفَ دائري. لكن هذا عبث لأنه عندئذٍ لن يظل أيٌّ من تلك الأشياء دائريًّا على الإطلاق. هذا ما نقصده حين نقول إن الاستدارة تكون حاضرة بالكامل في جميع حالاتها، وإنها شيء واحد يسري في أشياء عديدة أخرى.
قد يبدو الكلام متشابكًا مربكًا؛ لذا دعنا نحاول توضيح الأمور. تفيد إحدى وجهات النظر بأن هناك نوعَين أساسيَّين من الكيانات: الجزئيات وخصائصها. الطاولات، والكراسي، والأغنام هي أمثلة على الجزئيات، ولا نجدها إلا في موقعٍ واحد في الوقت نفسه. أما الاستدارة فهي مثال على الخصائص: وهي سِمة أو صفة للجزئي. ظهور الخاصية في مكانٍ واحد، بكُليَّتها، لا يحُول دون ظهورها في أماكن أخرى وأوقات أخرى. بسبب هذه السِّمة، يفضِّل البعض تسمية الخصائص بالكُليات — حيث يمكنها الوجود في أي مكان أو زمان — على الرغم من أنه يُفضَّل استخدام هذا المصطلح مع نظرية معينة حول ماهية الخاصية. من الأمثلة الأخرى على الخصائص؛ الحُمرة، والشكل المربع، والاكتساء بالشعر، والقابلية للذوبان، والقابلية للانفجار، والطول، وما إلى ذلك.
مسائل مشتركة
يمكن أن يُقال الكثير ميتافيزيقيًّا بشأن الخصائص؛ تحديدًا بشأن طبيعتها ووجودها. لكن بادئ ذي بدء، يجب الإشارة إلى أنه عادةً ما يُميَّز بين الخصائص والعلاقات، لكننا نجد العديد من المسائل نفسها في حالة العلاقات.
آلن أطول من ابنه الأكبر، بوبي. يمكننا أن نتصور هذا في صورة علاقة «أطول من»؛ إذ آلن أطول من بوبي. وهناك حالات أخرى عديدة من «أطول من»، في كل مكان. فبوبي أطول من أخته كلاريسا، وهي بدورها أطول من كلبها دوجال. ومبنى الإمباير ستيت أطول من مبنى كرايسلر. هنا أيضًا يجوز أن نقول إن علاقة «أطول من» موجودة بالكامل في كل حالة من حالاتها. ربما يبدو أوضح حتى من حالة الخصائص، أن الشيء نفسه بالضبط يظهر في كل من حالة «آلان أطول من بوبي»، و«بوبي أطول من كلاريسا». إذ عندما نقول إن شيئًا ما أطول من آخر، يبدو أننا في كل حالة نعني الشيء نفسه.
والآن نعود إلى حالة الخصائص، فلدينا كلُّ ما نحتاج إليه للخوض في بعض القضايا الفلسفية العميقة بحق. لنفترض أن شخصًا ما جمع كلَّ ما في العالم من أشياء مستديرة، أو أشياء حمراء، أو أشياء لها ١٠٠ جانب. لا شك أن هذا مستحيلٌ عمليًّا، ولكنه يستحق التأمُّل على سبيل التجربة الفكرية فحسب. لنفترض أنه سيسحق كل الأشياء المستديرة، أو أيًّا كان المثال، حتى تتلف أو لا تعود مستديرة على الأقل. هل سيكون بذلك قد دمَّر الاستدارة؟ ربما لا. على أقصى تقدير، سيكون قد دمَّر كلَّ الحالات التي تتضمنها. ولكن، هل يمكننا القول بأن الاستدارة ما زالت موجودة؟ إذا كان الأمر كذلك، فأين أو متى تُوجَد؟
جنة أفلاطون
أفلاطون، أحد أعظم الفلاسفة على الإطلاق، كان لديه إجابة عن هذا السؤال. إنها تبدو لأول وهلة خيالية جدًّا، ولكن التأمُّل قد يبدد هذا الشعور. تلك هي طبيعة الميتافيزيقا غالبًا. لم يعتقد أفلاطون أنه في الإمكان تدمير الاستدارة. إنما اعتقد أن الحالات التي نعرفها من الاستدارة كلها نسخٌ ناقصة من الاستدارة الحقيقية. فكل الأشياء المستديرة الموجودة في العالم المادي مَعيبة في استدارتها، ولو بقدرٍ ما، مهما كان ضئيلًا. وهنا يعنينا التعريف الهندسي للدائرة. كان أفلاطون يعتقد أن عالم الرياضيات وحده يعرف الدائرة المثالية معرفةً صحيحة، وتكون فيها كل نقطة على محيطها على المسافة نفسها بالضبط من مركزها. أما كل الدوائر التي نراها في العالم من حولنا، فسيكون بها قدرٌ طفيف من الانحراف عن هذه الدائرة الكاملة أو المثالية. وهنا سيأتي الجزء الخيالي. كان أفلاطون يعتقد أن الدائرة المثالية موجودة في عالمٍ سماوي، متعالٍ: يتجاوز العالم المادي للأشياء اليومية الذي نعيش فيه. يحتوي هذا العالم السماوي على كل الصور الحقيقية لجميع الخصائص والعلاقات أيضًا.
إننا في حاجة إلى التوقف عند هذه النقطة لأن وجود ما يُسمَّى بالعالم الأفلاطوني، حيث توجد خصائص مثل الاستدارة، والحُمرة، والاكتساء بالشعر، وعلاقاتٌ مثل أطول من، لهو أمرٌ مدهش جدًّا. هذا العالم ليس مما نستطيع رؤيته بأعيننا أو التفاعل معه ماديًّا. وإنما لا بد من تأمُّله وفهمه من خلال الفكر الخالص، حسبما رأى أفلاطون. تستند هذه الفكرة إلى الاعتقاد بأن العالم لا يقتصر على ما خلقناه نحن البشر.
تأمَّل مثلًا حقيقة أن ٢ + ٢ = ٤. ألن يكون هذا صحيحًا حتى لو لم يكن قد خطر ببال أحدٍ من قبل، أو حتى لو لم يكن البشر قد وُجدوا قَط؟ لنفترض أن الكون كان قاحلًا، لا يملؤه إلا صخور جامدة. عندئذٍ أيضًا سيظل مجموع صخرتَين زائد صخرتَين يساوي أربع صخور، حتى لو لم يكن هناك أحد ليفكر في الأمر أو يعبِّر عنه. في هذه الحالة، لا بد أننا سنجد بعض الجاذبية في الأفلاطونية؛ إذ يبدو أن بعض الأمور أكبر شأنًا وأكثر مثالية؛ بحيث تستعصي على عالمنا وفكرنا العادي واليومي.
الأفلاطونية شكلٌ قوي جدًّا من أشكال الواقعية في تناول الخصائص. كان للخصائص من وجهة نظر أفلاطون شكلٌ أكثر واقعية من أشكالها الناقصة التي نصادفها عادةً. وحدها الدائرة الأفلاطونية كانت دائرةً مثالية. سائر الدوائر كلها مَعيبة. وقد أطلق على هذه النسخ المثالية من الخصائص اسم الأشكال، وكان يعتقد أنها كانت أكثر الأشياء واقعية على الإطلاق. وإننا لا ندري أنها موجودة إلا من خلال إدراكنا الفكري؛ لذا فلسنا في حاجة إلى القلق من أن تضلِّلنا حواسنا.
لكن الفكرة الأفلاطونية لا تستهوي الناس جميعًا. وربما الذوق الشخصي ليس وحده السبب. فالمؤيِّد للفكر الأفلاطوني يقسم الوجود إلى عالمَين: العالَم الذي نعيش فيه، والعالَم السماوي حيث توجد الخصائص. ولكننا متى قسمنا شيئًا إلى عالَمَين، صار علينا أن نشرح كيف يترابطان، وغالبًا ما يصير الأمر معقدًا هنا. هذه هي المشكلة التي تؤثر في هذا التصور. ما العلاقة المفترَضة بين الشكل المثالي للدائرة وكلٍّ من الدوائر التي نراها حولنا؟ حاول أفلاطون مراتٍ عديدةً الإجابة عن هذا السؤال، ولكن دون أن ينجح تمامًا في مسعاه. توجد دائرة واحدة في عالم سماوي، خارج الزمان والمكان. أما الدوائر الأخرى غير المثالية، فهي توجد في الزمان والمكان. فكيف يمكن أن يكون لها علاقة بالشكل؟ هل من الممكن أن تشبه الدائرة الأفلاطونية وهي بهذا الاختلاف عنها في طبيعتها؟
ثَمة مشكلة كبرى تعترض أيَّ اقتراح من هذا القبيل. لنفترض أننا قلنا شيئًا على غرار ما يأتي: تشبه دوائر هذا العالم الشكل المثالي للدائرة. والتشابه هو علاقة. لكن العلاقات هي الأخرى، كما لنا أن نتذكر، من الأشياء التي يعتقد الأفلاطونيون أنها تنتمي إلى عالمهم السماوي. من ثَم هناك شكل أو هيئة للتشابه. علينا إذَن الإجابة عن السؤال نفسه مرة أخرى: ما العلاقة بين شكل أو هيئة التشابه والتشابه الفعلي (بين الدائرة الدنيوية وشكل الدائرة)؟ إذا قلنا الإجابة نفسها — إنه يشبهه — فلن نكون قد أحرزنا أيَّ تقدم. سنكون بذلك قد شرعنا فيما يسميه الفلاسفة بالارتداد اللانهائي. ستكون هناك سلسلة لا نهائية من التشابهات، وهذا سيشير إلى أن الإجابة الأصلية ليست مجدية: لا ينبغي أبدًا أن نحاول القول بأن الحالات مرتبطة بالشكل.
لكن الأفلاطونية ليست الخيار الوحيد المتاح؛ لذا لا حاجة بنا إلى اليأس إذا اعتقدنا أن النظرية تبدو محكومًا عليها بالفشل. فهناك خياران رئيسيان آخران. الأول هو تناول الخصائص بمنهجية لا واقعية، وذلك بتصورها ككليات بالطبع. وهو ما يحتاج إلى توضيح.
كانت نقطة البداية هي افتراض أن هناك نوعَين أساسيَّين من الأشياء في العالم: الجزئيات والخصائص. ولكن هذا طرح لا يُرضي الجميع. من أسباب رفض القسمة إلى اثنَين بالتحديد هو ضرورة الجمع بينهما بطريقة ما. فسيتعيَّن علينا الجمع بين الاستدارة والاخضرار، كخصائص، مع الأشياء المادية في العالم، لتكن التفاحة مثلًا. ولكن هذا في حالة ما إذا كنا سنتكلم عن تجسيد التفاحة لهاتَين الخصيصتَين، أو تصور ما من هذا القبيل. لنفترض، بدلًا من ذلك، أننا قلنا إن هناك نوعًا واحدًا فقط من الأشياء. ماذا لو قلنا إن كل شيء في العالم جزئيات؟ (هذا مناقض لنظرية حُزم الخصائص التي تناولناها في الفصل الأول، والتي تقول إن كل الأشياء عبارة عن خصائص.)
هناك جاذبية في هذه الرؤية المقتصرة على الجزئيات. أعلم أن الطاولات والمقاعد موجودة، وكذلك الكرات والجِرار ذات الأغطية اللولبية، والأشجار، والأقلام، والعملات، والأشياء من كل نوع. لكنني لستُ على القدر نفسه من اليقين بأن الاستدارة شيء موجود بالطريقة نفسها التي توجد بها العملة. حين طرحنا حُجة الاستدارة في وقت سابق، كانت في حاجة إلى بعض الجهد لجعلها تبدو مقنعة. لكننا بالتأكيد لسنا في حاجة إلى بذل أي جهد على الإطلاق لإقناع شخص ما بأن كل هذه الجزئيات المختلفة حقيقية.
محض كلمات
ماذا نقول إذن عن الشيء المُسمَّى بالخصائص؟ الرأي القائل بأن كل الأشياء جزئيات يُدعى أحيانًا بالاسمية، أي منهج الاسم. يقول هذا المنهج بأن الاستدارة مجرد اسم — مجرد كلمة — نستخدمها لوصف مجموعات من أشياء جزئية. وهناك نظريات عديدة لهذا المنهج، ولكن تذهب إحداها إلى أن الاسم يُطبَّق على مجموعات من الجزئيات التي يشبه بعضها بعضًا. ومن ثَم، فهناك جزئيات — كرة، وعملة، وغطاء لولبي، وعجلة، وهلمَّ جرًّا — وليست الاستدارة سوى اسم للطريقة التي تشبه بها هذه الأشياء بعضها بعضًا. الاستدارة نفسها ليست شيئًا. فليس لها وجود أو واقع. وكل شيء من الأشياء هو جزئي.
لكن الاسمية تنطوي على مشكلات. فمن الممكن أن نتساءل بأي طريقة تشبه مجموعة الأشياء بعضها بعضًا. لنفترض أن مجموعة الأشياء المطروحة كأمثلة — العملة، والعجلة، وغطاء البرطمان، وهلمَّ جرًّا — كانت كلها بُنية اللون، بالإضافة إلى كونها كلها مستديرة. في هذه الحالة، يبدو أنه سيكون هناك أكثر من طريقة أو جانب لتشابهها. من ثَم لا يمكن أن تكون الاستدارة مجرد وجه تشابُه بين الأشياء؛ إذ يبدو أنها لا بد أن تكون تشابهًا واحدًا في جانبٍ معين.
قد تكون هذه مشكلة كبيرة. يبدو أنه ليس علينا الاحتكام إلى الأشياء الجزئية فقط، ولكن يلزم الاحتكام أيضًا إلى طرق أو جوانب تشابُهها؛ ويبدو أن الطريقة أو الجانب خاصية باسمٍ آخر. من ثَم، يبدو أن محاولتنا التخلص من الخصائص، والاحتفاظ بالجزئيات فقط، قد فشلت سريعًا جدًّا.
وهذا ليس كل شيء. إليكم مشكلةً أخرى. قلنا إن مجموعات الجزئيات يشبه بعضها بعضًا، وهذا كل ما تنطوي عليه الخصيصة. لكن هنا أيضًا سنتساءل ما هو التشابه؟ يبدو أنه علاقة كلية تنطبق فيما يبدو على جميع الخصائص في المجموعة. من ثَم يبدو أننا نستعين مرة أخرى بإحدى الكليات، وهي علاقة في هذه الحالة. هل يمكننا تجنب ذلك؟
لنفترض أننا قلنا إن التشابُه ليس كلية، ولا شكلًا أفلاطونيًّا. فهو جزئي، مثل سائر الأشياء وفقًا لمنهج الاسمية. بذلك لا بد أن يكون ثمة تشابه معين بين زوج من الأشياء؛ لكن لا بد أن يكون هناك أيضًا تشابه معين آخر بين زوجٍ آخر من الأشياء. كيف سيكون كلا هذين المتشابهَين المعينَين تشابهَين؟ مرة أخرى، لا يمكن أن يكون التشابه علاقة حقيقية. لذا يبدو أن علينا أن نقول إن هذين التشابهَين يشابه أحدهما الآخر. عندئذٍ سنحتاج إلى تفسير لهذا التشابه الآخر. مرة أخرى، يبدو أننا بصدد ارتداد لا نهائي.
تؤثر هذه المشكلة في وجهة نظر أخرى تستحق أن نذكرها. وهي قد تتراءى كنوع من أنواع منهج الاسمية، ولكنها تختلف عنه كذلك. تفيد وجهة النظر هذه بأن العالم مكونٌ من جزئيات فقط، لكن لا يُفترض اعتبارها كياناتٍ جزئية، وإنما خصائص جزئية. وهذا رفض لوجهة النظر القائلة بأن الخصائص شيء واحد حقيقي يسري في عدة أشياء. بل إن هذه الحُمرة شيء مختلف تمامًا عن تلك الحُمرة الأخرى. يمكن أن نجد اللون الأحمر بحالاتٍ مختلفة في كل مكان، تمامًا كما يمكن أن تكون هناك دوائر مختلفة. لا بد من اعتبار هذه الصفات الجزئية كياناتٍ موجودةً باستقلالٍ تام بعضها عن بعض. وعلى كلٍّ، فإن حُمرة كرة السنوكر الواحدة، منفصلة عن حُمرة غيرها من الكرات. بل يمكن أن توجد واحدة من دون حتى وجود الأخرى.
المصطلح المتخصص لهذه الصفات الجزئية هو المجاز. غير أنها ستواجِه النوع نفسه من الصعوبة. فعلى أي أساس نحسب كل هذه المجازات مجازاتٍ حمراء، على سبيل المثال؟ ما الذي يعطيها طبيعتها الحمراء؟ قد نكتفي بأن نقول إنها حقيقة أزلية من حقائقها، ولا تسمح بمزيدٍ من التفسير. ولكن سيبدو ذلك مثل معالجة واقعية للخصائص في النهاية. أو قد نقول إنها كلها حمراء لأن بعضها يشبه بعضًا. ولكننا رأينا بالفعل المشكلات التي تأتينا من التشابه. هل هناك مجازات للتشابه؟ وهل يشبه بعضها بعضًا؟
العودة إلى الأرض

يستحق هذا الرأي الأرسطي أن نناقشه. لقد وُصفت نظرية أفلاطون بأنها واقعية في تناولها الخصائص، ولكنها ليست الشكل الوحيد الذي يمكن أن تأخذه هذه الواقعية. كان الاعتراض عليها موجَّهًا إلى طبيعتها المتعالية: كون الخصائص موجودة في الجنة الأفلاطونية. لكن قد تكون الخصائص حقيقية وموجودة هنا، في العالم العادي الذي نشعر أننا جزء منه. كان هذا رأي أرسطو، الذي يمكن أن نسمِّيَه واقعية راسخة؛ لأنه يقول إن الخصائص موجودة هنا معنا. هكذا تكون الاستدارة سِمة حقيقية من سِمات العالم، ولكنها توجد في حالاتها فقط: في الأشياء المستديرة. ويتعيَّن علينا أن نقتنع بأن بعضًا من هذه الدوائر غير مثالي. هذا معناه أن الاستدارة غير المثالية وحدها ربما تكون خصيصة حقيقية. لماذا لا نقتنع بذلك؟ ليست دائرة الرياضيين في الحقيقة سوى تعريفٍ محدد لشيء ما، وهذا لا يعني أنه موجود بالتبعية. إن الوجود، حسب هذا الرأي، هو أن يكون لشيء ما كينونة؛ وما دام لا يوجد شيء مستدير استدارةً مثالية، حسب التعريف الرياضي، فإن الاستدارة المثالية ليست خصيصة موجودة في عالمنا.
لكن ماذا عن الملاحظة القائلة بأنني إذا دمَّرت كل الأشياء المستديرة، لن أكون بذلك قد دمرت الاستدارة؟ لا يبدو أنه من الممكن للخصائص أن تخرج من الوجود أو تدخله. على الرغم من أن هذه النقطة قد تستميلنا نحو الأفلاطونية، ثمة ردٌّ آخر. لنفترض أنني قلت إن الخصيصة لا توجد إلا من خلال حالاتها، ولكنني أعني بذلك جميع ما كان وسيكون من حالات؟ يمكننا اعتبار جميع الأوقات متساوية بدلًا من إعطاء الحظوة للحاضر. من ثَم إذا كان شيء ما، في مكانٍ ما، مستديرًا، حتى لو كان مرة واحدة فقط، في أي وقت، فستكون تلك الخصيصة موجودة وحقيقية.
هذا لا يحسم المسألة. فما زلنا في حاجة إلى النظر في ماهية الحالة، وما إذا كانت هناك أي علاقات تجسيدية معقدة متربِّصة لإحباط نظريتنا. لكننا رأينا أن هناك موقفًا محتملًا يمكن في ظله فهم الخصائص والعلاقات على أنها حقيقية وواقعية أيضًا رغم ذلك. لا شك أن هذه الرؤية ستحتاج إلى المزيد من التطوير والدعم، لكنها تبدو جديرة بالمحاولة.