الفصل الثالث

هل الكُليَّات مجرد مجموع للأجزاء؟

الكثير من الأشياء في العالم حولنا معقَّدة وليست بسيطة. الهاتف المحمول، على سبيل المثال، به العديد من الأجزاء الصغيرة التي جُمعت بطريقة محددة جدًّا لتشكِّل كلًّا معقدًا، ولكنه يؤدي وظيفته. إننا إذا شرَّحنا جرذًا، سنجد داخله الكثيرَ من الأجزاء الرطبة واللزجة. وحسب معلوماتي عن علم الأحياء، فإن هذه الأجزاء كلها كانت تلعب دورًا في إبقاء الجرذ حيًّا ونشِطًا. أحيانًا ما يبدو الكائن بسيطًا من الخارج، مثل ثمرة البرتقال، وعند تقطيعها تجد أنها تحتوي أيضًا على أجزاء تحت قشرتها. عندما نقول في الميتافيزيقا إن كائنًا ما معقَّد، عادةً ما نعني أنه يحتوي على أجزاء. لكنَّ ثمة سؤالًا لا بد من النظر فيه بخصوص ما إذا كانت تلك الكُليَّات المعقدة لا تعدو كونها مجموعًا لأجزاءٍ مرتَّبة ترتيبًا محددًا. سيتبيَّن أن هذا السؤال مهم، كما سنرى بعد قليل. ولكن أولًا لا بد أن نتحدث أكثر قليلًا عن التعقيد.

قد نتصور شيئًا على غرار ما يأتي. العديد من الأشياء معقدة، ولكن بعضها على الأقل بسيط تمامًا؛ ونقصد بذلك أنها ليست مكوَّنة من أجزاء. لكن وجود أشياء بسيطة هو أمر مشكوك فيه. اعتقدنا في الماضي أن بعض الأشياء بسيطة — الذرات، على سبيل المثال — لكن ثبت أنها معقدة. فقد شُطرت وتبيَّن أن داخلها جزيئات أصغر. ثم اكتشفنا أن بعضًا من هذه الجزيئات تتكوَّن بدورها من أجزاء. هذا يجعلنا في مأزِق بشأن ما نعرفه. المشكلة أننا، وإن كنا نستطيع أن نعرف إذا كان شيء ما معقدًا، فليس في مقدورنا أن نعرف إذا كان بسيطًا. يمكننا أن نرى أن شيئًا ما لديه أجزاء؛ ولكن إذا لم نرَ الأجزاء، فلا يمكننا أن نكون على يقين من أنها ليست مخفيَّة أو صغيرة جدًّا بحيث نعجز عن رؤيتها. وفي هذه الحالة، كيف نعرف إذا كان أي شيء بسيطًا حقًّا؟ ربما نظن خطأً أن شيئًا ما كذلك.

أجزاء إلى ما لا نهاية

هل يجب أن يكون هناك أشياء بسيطة على الإطلاق؟ نحن نرى أجزاءً داخل أجزاء في أغلب الأحيان: كما في محرك السيارة، على سبيل المثال. فلماذا لا نفترض أن هذا النمط دائم، وأن هناك دائمًا أجزاءً داخل أجزاء؟

يدَّعي البعض أن كل هذه الأجزاء داخل أجزاء لا بد أن يكون لها نهاية ما. لا بد أن تكون هذه التكوينات المعقدة قائمةً على شيء ليس معقدًا. لكننا رأينا أن الأدلة المستمَدة من الملاحظة لا يمكن أن تدعم هذا الرأي؛ لأنه قد يكون هناك أجزاء مخفيَّة أصغر من أن نلاحظها. حتى العقل المحض لا يبدو أنه يُملي هذا الرأي. هل سيكون من قبيل التناقض أن نفترض أن العالم يحتوي على تعقيدٍ لا نهائي، حيث تتكوَّن الأجزاء الصغيرة من أجزاء أصغر بلا نهاية؟ لا يبدو أن هناك حُجةً قاطعة على عدم جواز التعقيد اللانهائي. من ثَم، على مَن يعتقدون بوجوب أن يكون هناك أشياء بسيطة أن يؤسِّسوا اعتقادهم على وجهة نظر أخرى.

هناك موقف فلسفي يُسمَّى الذَّرية، ربما يصلح أساسًا لوجهة نظرهم. المؤمن بالفلسفة الذرية هو شخص يعتقد بوجود ذرات أو أجزاء ذرية. ونقصد الذرة بالمعنى الأصلي للكلمة: أصغر شيء ممكن، ومن ثَم لا يمكن أن يتجزَّأ. أما الذرات في النظرية الكيميائية فليست ذرية بهذا المعنى. فالذرات في الجدول الدوري تحتوي على بروتونات ونيوترونات وإلكترونات. يعتقد صاحب الموقف الذري في الفلسفة أن كل شيء مكونٌ من أصغر وحدات ممكنة، أيًّا كانت. في الواقع، من الممكن نظريًّا أن نحصل على وصفٍ كامل للعالَم عن طريق تحديد مكان جميع الذرات وطبيعتها فقط. أقول عن طريق ذلك «فقط»، ولكنها ستكون مهمة ضخمة بالطبع: أضخم من أي مهمة أخرى أُنجزت في تاريخ البشرية. لكنها ممكنة من حيث المبدأ، وهذا ما يهم الفلاسفة في الغالب.

fig3
شكل ٣-١: جزئي معقَّد.

من الواضح مما ذُكر أعلاه أنه لا توجد أدلة حاسمة على أي شكلٍ من أشكال الذرية. إنه أقرب إلى الموقف الفلسفي، وإن كان بعض أصحاب المذهب الذري يعتقدون أن وجهة نظرهم ذات روحٍ علمية. وعلى الرغم من أنه غير مُثبَت على نحوٍ قاطع، فمن الوارد أن يكون مع ذلك فرضية مقنِعة.

كان هذا من قبيل المقدمة للمسألة التي سنتناولها بالفعل في هذا الفصل، وهي العلاقة بين الكل وأجزائه. هل الكل أكبر من مجموع أجزائه على نحوٍ ما، أم إنه لا يزيد على المجموع شيئًا؟ قد يبدو هذا سؤالًا غريبًا، ولكنه في الواقع ذو أهمية فلسفية عميقة، كما أتمنى أن يتضح.

هناك العديد من الحالات لا يبدو فيها الكل أكثر من مجرد مجموع الأجزاء. من الأمثلة على ذلك كومة الحجارة. قد تحتوي كومة الحجارة على ١٠٠ حجر. يمكننا أن ننظر إلى الكومة ككلٍّ، وفي هذه الحالة سيبدو أنها لا تزيد على تجمُّع لعدد ١٠٠ حجر مستقل. ولكن حتى في هذه الحالة، يمكننا ملاحظة أن هناك خصائص للكل ليست من خصائص الأجزاء. لنفترض مثلًا أن ارتفاع الكومة يصل إلى متر. لكن لا يوجد حجر واحد من أحجار الكومة يبلغ ارتفاعه مترًا. كلها أقل من ذلك بكثير. لكننا ربما نعتقد أن هذا الاختلاف ليس بالشيء العجيب. فقد تشكَّل من الكل بناءٌ شِبه هرمي. وليس من ضمن الأحجار واحدٌ شديد الارتفاع، ولكنها رُتبت بطريقة معينة، فوُضعت بعضها فوق بعض عشوائيًّا، بحيث كوَّنت من مجموع ارتفاع كلٍّ منها ارتفاعًا إجماليًّا يفوق ارتفاع أي واحد منها. إن الارتفاعات الفردية، عند ترتيبها الترتيب المناسب، يمكن أن تساهم في ارتفاع الكل. هكذا يمكن تفسير امتلاك الكل لخاصية لا تمتلكها الأجزاء أفضلَ تفسير من خلال الأجزاء وترتيبها.

يبدو الأمر واضحًا حتى الآن. لكن هناك حالات أخرى تبدو أعقد بعض الشيء. لنتأمَّل مرة أخرى الهاتف المحمول مثالًا. إن لديه بعض السِّمات الموجودة في كومة الحجارة. طوله، على سبيل المثال، هو مجرد نتاج لترتيب أجزائه. لكنَّ بعض خصائصه تبدو أصعب في التفسير. فلديه إمكانات صعبة جدًّا في شرحها. إنه قادر على نقل إشارات الصوت واستقبالها، مما يمكِّننا من إجراء محادثات عن بُعد. ولدى معظم الهواتف الآن طائفة واسعة من الوظائف الأخرى. ففي إمكانها الاتصال بالإنترنت، والتقاط الصور وتخزينها، وتشغيل الموسيقى.

تبدو هذه الإمكانيات المدهشة إلى حدٍّ ما من نوعٍ مختلف عن حالة الطول. فعلى سبيل المثال، كان للكل كميةٌ أكبر من خاصيةٍ كانت موجودةً بالفعل لدى الأجزاء. فقد كان لدى كلٍّ منها طول، وجُمعت الأطوال معًا. ولكن في حالة بعض هذه العمليات، لا يبدو أن لدى أي جزء من أجزائه إمكاناته بأي درجة. من ثَم هناك اختلاف عن حالة الطول. فلا نجد الربع السفلي من الهاتف قادرًا على إجراء ربع مكالمة، رغم أنه من المفترض أن لديه ربع طول الكل. يشير الاختلاف إلى ما يأتي: في بعض الحالات، من الممكن أن تتوفَّر الخصيصة بدرجات، وإنما تكون في الكل بدرجةٍ أكثر مما لدى الأجزاء؛ ولكن في حالات أخرى، يكون لدى الكل خصيصة ليست موجودةً لدى الأجزاء بأي درجة. يمكن أن ينعكس هذا في الطريقة التي نتحدث بها عن الأشياء. إننا نُسمِّي الجهاز بأكمله الهاتف بينما أجزاؤه لا نسميها هواتف. أما في حالة كومة الحجارة، فهناك شيء ننسبه إلى الكل — ارتفاعه — ويمكننا أيضًا أن ننسبه إلى الأجزاء بدرجة أقل.

الحقيقة الكاملة

لقد طرحتُ هنا الكثيرَ من الافتراضات، وإذا صرت فيلسوفًا محترفًا، فستتدرب على التعرف على هذه الافتراضات وانتقادها، ولكن بما أنها ليست بالعادة المجزية دائمًا، فسأمضي للموضوع التالي سريعًا. أريد تحديدًا أن ألفت الانتباه إلى فرقٍ ربما يكون مثيرًا للاهتمام.

ناقشتُ نموذجَين من الكل، وكيف اختلفا. ولكن ربما كان النموذجان مختلفَين جدًّا من الأصل. فقد كان لدينا في الحالة الأولى مجرد مجموعة من أجزاءٍ منفصلة. ففي مقدوري مثلًا أن آخذ حجرًا من أعلى الكَومة، ثم أضيفه إلى كَومة أخرى. أما الهاتف المحمول فهو بالأحرى كلٌّ متكامل. إذا جذبت النصف العلوي، فسيتحرك النصف السفلي معه. إن كل أجزائه مترابطة جيدًا، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن يتفكك، أو أنني لا أستطيع أن أفتحه. قد يصبح في هذه الحالة مجرد كَومة أخرى من الأجزاء، ولكنه حتى ذلك الحين يبدو أن لديه وحدةً ليست لدى كَومة الحجارة. لهذا السبب، أحيانًا ما يميز الفلاسفة بين الجوهر — الكل المتكامل — والتجمُّع البسيط.

ولهذا التمييز أهمية. إذا استعضتُ عن بعض الحجارة في الكَومة بحجارة أخرى، فسأكون بذلك قد حصلتُ على كَومة مختلفة لأننا نفترض أن هُوية التجمُّع تحدِّدها الأجزاء. إذا كان لدينا مجموعاتٌ مختلفة من الأجزاء، فسيكون لدينا تجمُّعات مختلفة، حتى وإن أصبحت بعض الأجزاء في أوقات مختلفة أعضاءً في تجمعات مختلفة. لكنني إذا غيَّرت جزءًا من هاتفي المحمول بآخر — ليكن الغطاء — فإنه لا يصبح بذلك هاتفًا مختلفًا (بمعنى الهُوية العددية، التي تناولناها في الفصل الأول). يمكن للجوهر أن يظل على حاله رغم تغيير أجزائه على نحوٍ لا يقدر عليه التجمُّع البسيط للأجزاء.

الحالات المنظورة فيما تبقَّى من هذا الفصل تتعلَّق كلها بالجوهر أو الكيانات الكُليَّة المتكاملة لأنها تثير بعض الأسئلة الصعبة حقًّا. كان الهاتف لديه القدرة على استقبال المكالمات، وهو ما لا يتيسَّر لأجزائه. وهنا لا بد لنا من التساؤل عما إذا كانت هذه القدرة لدى الكيان الكُلي يمكن تفسيرها بالكامل من خلال الأجزاء.

حين تأمَّلنا كَومة الحجارة، بدا أن ارتفاعها بالكامل وشكلها بالطبع مجرد نتاج لأجزائها وكيف رُتبت. ولكن هل ينطبق هذا أيضًا على خصائص الكيانات الكُليَّة المتكاملة وبعض من إمكاناتها الخاصة نوعًا ما؟ ربما يجوز القول بذلك. لا أعرف كيف يستطيع الهاتف المحمول الصغير إجراء المكالمات، وإرسال البريد الإلكتروني، وتشغيل الموسيقى. يبدو كأن لديه إمكاناتٍ سحرية. ولكنني أفترض كذلك أنها ليست سحرية حقًّا. ثمة فنيٌّ في مكانٍ ما يعرف الأجزاء المسئولة عن هذه الإمكانيات، وكيف يجب ترتيبها؛ بحيث تؤدي وظائفها على النحو الصحيح. من المفترض أن العمال في المصانع جمعوا الأجزاء وفقًا لمواصفاتٍ تفصيلية. ومن المفترض أن كلَّ مَن يفهم التكنولوجيا يعلم كيف تستطيع الأجزاء تقديم جميع خصائص الكيان الكُلي وإمكاناته. من ثَم فإن الكل من هذا المنطلق هو مجموع الأجزاء ما دامت مرتَّبةً الترتيب الصحيح.

لكن توجد حالات أخرى تفنِّد هذه الفكرة. فهناك صفاتٌ تُعَد بالغة الخصوصية؛ بحيث تظهر على مستوًى أعلى من الواقع، ولا يوجد ما يشابهها على مستوى الأجزاء. فلنا أن نعتبر الطاولة مجرد تجمُّع من الأجزاء: أربع قوائم خشبية منتظِمة أسفل سطحٍ خشبي مسطح. لكن هل يمكننا اعتبار الإنسان مجرد قِطَع مختلفة من اللحم والعظام مرتَّبة ترتيبًا معينًا؟ الإنسان كائن حي. يبدو أن الحياة خصيصة من خصائص الكائن كله، ولا يبدو أنها موجودة لدى الأجزاء. كذلك هناك حالة أخرى واضحة، ألَا وهي الوعي أو العقل. فنحن كائناتٌ تفكر، قادرة أيضًا على اختبار الأحاسيس وتأمُّلها؛ مثل الإحساس بالألم، والحكة، والألوان. هل العقل شيء يمكن تفسيره بالكامل من خلال الجسد؛ حيث يكون المخ تحديدًا هو محور الاهتمام؟ أم إن العقل نوعٌ خاص جديد تمامًا من الخصائص لا يظهر إلا على مستوًى معين من الطبيعة؟

هناك موقِفان عامَّان يتخذهما الفلاسفة بشأن هذه المسألة. فيدَّعي القائل بمذهب الردية أن الأجزاء في إمكانها في نهاية المطاف أن تفسِّر جميع وظائف الكل. قد يُقر صاحب هذا المذهب بأننا لا نعلم بعدُ جميع التفاصيل المتعلقة بقدرة المخ على إحداث الوعي، ولكنه على ثقة بأننا سنتمكَّن من ذلك في النهاية، عندما تكتشف العلوم جميعَ الحقائق. هذا موقف فلسفي. فلم تَثبُت بعدُ صحة الردية. لكن الميَّالين إلى المذهب الردي يعتقدون أن هناك بالفعل حالاتٍ كافية؛ حيث فسَّرت الأجزاءُ الكلَّ، حتى إنه ينبغي أن نعمِّمه، ونفترض أنه التفسير الصحيح عمومًا.

مقابل هذا الرأي، تدَّعي الانبثاقية أن الكل أكثر من مجرد مجموع أجزائه. وتوجد طرقٌ مختلفة يمكن بها التعبير عن هذه الفكرة، وقد لا يدعم مختلف أصحاب المذهب الانبثاقي الشيء نفسه بالضبط. تعبِّر إحدى الطرق عن النظرية من خلال ما نعرفه، وما سيفاجئنا، أو ما يسعنا استنتاجه. على سبيل المثال، إذا كنا نعرف كل شيء عن المخ، وكيفية عمل خلاياه العصبية، فمن الممكن الزعم بأننا، حتى في هذه الحالة، لن نكون قادرين على استنتاج ظاهرة الوعي، ولا كيف يكون اختبار شيء ما. قد يعلم عالِم الأعصاب ما يحدث بالضبط في الدماغ عندما نرى شيئًا لونه أحمر، على سبيل المثال، ولكنه لا يعلم كيف يكون الإحساس برؤية اللون الأحمر إلا عندما يختبره بنفسه. وإذا لم يكن قد رأى شيئًا أحمر من قبل، فلن يعرف كيف يكون الشعور برؤية اللون الأحمر، رغم كل ما اكتسبه من معرفة علمية عن الأعصاب.

لعل ما يدهشنا حقيقة تتعلق بسيكولوجيتنا، وهذا لا يعبِّر تمامًا عما نعتقد أن الانبثاقية تدَّعيه. من ثَم فإن الانبثاقية، حسب صيغتها الثانية، هي نظرية عمَّا هو موجود، وليس بشأن ما يفاجئنا. ما يدَّعيه صاحب المذهب الانبثاقي فعليًّا هو أن هناك ظواهر حقيقية جديدة يمكن العثور عليها في الكل ليست موجودة في أجزائه، ولا في مجموعها، ولا في ترتيبها. ومثلما هناك صعوبة في معرفة ما إذا كانت الردية صحيحة، وفي معرفة ما إذا كان أي شيء بسيطًا بالفعل، هناك أيضًا صعوبة في معرفة ما إذا كانت هذه الانبثاقية صحيحة. حتى الآن، ليس لدينا تفسيرٌ تفصيلي لكيفية انبثاق العقل من أجزاء في الجسم، ولكن ربما يكون ذلك راجعًا إلى جهلنا فحسب. ليس لدينا نظرية مثبَتة بعدُ، وبالكاد يسعنا تصوُّر الكيفية التي قد نشأ بها. ومع ذلك، فإننا نعلم من الماضي كيف يمكن أن يفاجئنا العلم بتقدُّمه.

لماذا التعصُّب للردية؟

إننا في رؤيتنا للعالم ومنزلة جميع العلوم بعضها من بعض قد يكون لدينا صورتان. الأولى صورة هرم مقلوب. وفي قاعدته عِلم واحد، يُحسب أن سائر الأشياء تقوم عليه. يرى معظم أنصار نظرية الردية أن الفيزياء هي القاعدة: ربما يقولون الفيزياء الأساسية، التي تُعنى بالجُسيمات والقوانين التي تحكمها. وفوقها تجد العلوم الأخرى، مثل الكيمياء، التي يعلوها علم الأحياء. وفي المستويات العليا سنجد «علومًا» مثل علم النفس، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا. لكن صاحب الموقف الردي يعتقد أن كل شيء في النهاية يستند إلى الفيزياء، وتفسِّره الفيزياء. فجميع الحقائق تُثبِت صحتَها ترتيباتُ الجسيمات الأساسية وقوانين الفيزياء.

على النقيض من هذه الصورة يرى أصحاب التصوُّر الآخر أن بعض العلوم مستقلة، ولو بقدرٍ ما، عن العلوم الأخرى. لننظر علم الأحياء، باعتبار أنه من المفترض أن الحياة خصيصة منبثقة. حاول بعض الناس اختزال جميع حقائق علم الأحياء في حقائق الكيمياء الحيوية، والقول بأنها قائمة بالكامل على الحمض النووي، والحمض النووي يمكن اختزاله في حقائق الكيمياء، مما يؤدي بنا في النهاية إلى الفيزياء. لكن رغم ذلك ثمة أسباب مقنعة تجعلنا نتحدَّث عن الكائنات الحية باعتبارها كياناتٍ كُليَّة بدلًا من كونها مجموع أجزاء. الانتخاب الطبيعي في نظرية التطور، على سبيل المثال، يختار خصائص عالية المستوى. فالرقبة الطويلة، وليس أيٌّ من الأشياء المتعلقة مباشرةً بحمضها النووي، هي التي تعطي الزرافة أفضلية على منافسيها في الوصول إلى الغذاء.

يبدو أن الكائن الحي ككيانٍ كُلي يستخدم الحمض النووي لتزويده بما يحتاج إليه على مستوى كيانه الكُلي. إذا كان هذا صحيحًا، فلن تكون السِّمات الفيزيائية المجهرية للزرافة هي ما يحدد الخصائص المرئية الظاهرة للعيان لكيانها الكُلي: وإنما العكس. إنه الكائن الحي الكُلي الذي يعيش أو يموت، يتغذى أو يجوع، ويتكاثر في بعض الأحيان؛ وليست جيناته أو جزيئاته. فيبدو القول بأن جينات الشخص ذهبت للمشي قولًا مختلًّا: فالشخص هو الذي يمشي. بالمثل، الشخص هو الذي يرى الأشياء. حتى الأعين لا ترى؛ فهي مجرد ما نستخدمه للرؤية. وعلى الرغم من أن أجزاء أجسامنا يمكن وصفها بأنها حية وعضوية، فهي ليست كائناتٍ حية، ولن تكون قادرة على الحياة فترةً طويلة إذا فُصلَت عن الكل. حسبك أن تقدِّر إلى متى قد تبقى اليد حية إذا فُصلت عن الجسم (نعم، لقد شاهدت فيلم «الوحش ذو الأصابع الخمس» (ذا بيست ويز فايف فينجرز) الذي أُنتج عام ١٩٤٦ ولكنه محض خيال).

هذه الاعتبارات ليست قاطعةً، ولكنها ربما تبيِّن أن الرؤية التي نسميها الكُليَّة جذابة ولو قليلًا. وهي تقول إن الكل له أولويةٌ ما على الأجزاء. يمكن تفسير فكرة الأولوية بطرقٍ عدة. لقد رأينا كيف ينكر أنصار المذهب الردي ذلك. فهم يقولون إن حقائق الأجزاء تحدِّد حقائق الكل. أما القائل بالرؤية الكُليَّة فلديه ردودٌ عديدة على ذلك، كما رأينا. أحدها الاستشهاد بحالاتٍ مثل الانتخاب التطوري؛ حيث يبدو أن سِمات الكل تحدِّد سِمات الأجزاء. طريقة أخرى لرفض الردية، هي نفي السؤال الذي اتخذتُه عنوانًا لهذا الفصل، والقول بأن الكل في الواقع أكثر من مجرد مجموع الأجزاء وترتيبها.

في فلسفة العقل وفلسفة علم الأحياء، تشغل الردية والانبثاقية محور النقاش الحالي. وللميتافيزيقا دور في توضيح كيف للانبثاقية أن تثبت صحتها. إننا لم نصل بعدُ إلى التحليل الدقيق، ومن المَرجو أن يحقق الميتافيزيقيون تقدمًا أكبر في المستقبل. عدم اقتصار الشيء على أجزائه يُعَد مسألةً جديرةً بأن نستكشفها أكثر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥