الفصل الرابع

ما التغيير؟

الشيء الذي شغلَنا حتى الآن هو الشيء الذي له وجود، على وجه العموم. إنني أعلم أن هناك طاولات، ومقاعد، وهواتف محمولة، وأشخاصًا، وزرافات، ولكن إذا عبَّرنا عنها بكلماتٍ مجرَّدة، فسنقول كذلك إن هناك جزئيات، وخصائصها، وأحيانًا أجزاء للجزئيات. لا يمكن أن نُوغل في التجريد أكثر من ذلك. لكن ربما لنا أن نقلق أيضًا من أن أفكارنا حتى الآن تأثَّرت إلى حدٍّ كبير بمثال الكائن المادي المتوسط الحجم. لا شك أننا محاطون بالعديد من الأشياء من ذلك القبيل، ولكن لا ينبغي أن يسوقنا هذا إلى اعتقاد أنه كلُّ الموجود. حتى إذا وصفنا كل شيء، فمن المستبعَد أن نكون قد وصفنا كلَّ ما هو موجود. بالطبع، يبدو هذا القول غامضًا ومتناقضًا على غِرار ما يقوله الفلاسفة، ورغم ذلك من الممكن الدفاع عنه. فحين نقول «شيء» غالبًا ما نعني كائنًا، ماديًّا على الأرجح. لكن ليست كل الأشياء كائنات مادية.

هناك الجزئيات، مثل الأكواب، والقطط، والأشجار، وهناك الخصائص، مثل الحُمرة، والهشاشة، والقوائم الأربع. ولكن ماذا عن شخصٍ يحمرُّ وجهه، أو يرقة تتحوَّل إلى فراشة، أو قضيب حديد يسخن، أو كتاب يسقط من على طاولة؟ هذه أحداث تتضمن تغييرات. وماذا عن العمليات الأطول، مثل أن تُنضِج الشمس الطماطم، أو الحرب العالمية الثانية، أو أن يكبر طفل صغير ليصير رجلًا عجوزًا؟ ماذا عن تاريخ الكون بأسره من البداية إلى النهاية؟ قطعًا تبدو هذه الأحداث والعمليات جزءًا من الواقع. ولا نريد أن ننكر وجودها. فهي سِمة حقيقية من سِمات عالمنا. لكن يبدو أننا نغفلها حين نتحدث عن الجزئيات وخصائصها وحدهما. سرد الجزئيات وجميع خصائصها إنما يعطينا وصفًا جامدًا لِما هو موجود في العالم في لحظة من اللحظات، ما لم تصدر عنا بعض الحركات المبتكرة. ومع ذلك يبدو أن التغيير جزءٌ من عالَمنا، مثله مثل أي شيء آخر. فمن دونه، لن يحدث شيء. ومن ثَم نحن في حاجة إلى إدراجه في قائمتنا لمَا هو موجود، ومن ثَم شرحه وتفسيره.

ما الذي يحدث؟

من طبيعة الحياة أن تحدث أشياء. نعلم ذلك دون شك، حتى لو كنا في خِضَم حلم. إذَن ما الحدث؟ هل دائمًا ما يكون تغييرًا؟ وهل تختلف عنه العملية؟ لنبدأ أولًا بالأحداث.

لا بد أن نشير إلى أن هناك تصوُّرَين على الأقل للأحداث. أما التصوُّر الأول فيقول إنه من الممكن أن تظل الأحداث ثابتة، أي بلا تغيير. وكون الباب بُني اللون في منتصف النهار يُعتبَر في بعض التصورات حدثًا. هل هذه أفضل طريقة لتصنيفه؟ ربما من الأفضل أن نُسمِّي هذا النوع من الأشياء حقيقة، وذلك تحديدًا بسبب أنه لا شيء يحدث: لا شيء يتغير. لكن ربما تكون المسألة مجرد ذوقٍ شخصي. لنا أن نسمي أي شيء، كيفما نريد، حدثًا، ما دمنا واضحين بشأن المفهوم الذي سنستخدمه. من ناحيتي سألتزم بمفهوم الحدث الذي ينطوي على أي قدر من التغيير؛ وذلك لأن ظاهرة التغيير هي محور اهتمامنا في هذا الفصل.

ذكرنا أعلاه العمليات، وقد اتضح الآن أنها لا بد أن تشتمل على تغيير، بل عدد من التغييرات. بينما يمكننا اعتبار الحدث يتضمن تغييرًا واحدًا فقط، يبدو أن مفهوم العملية يتضمن تغييراتٍ متعددة تحدث بتسلسلٍ معين. مثلما يمكن أن يكون بين الأشياء علاقات الجزء بالكل، يبدو أن الأمر نفسه ينطبق تمامًا على الأحداث. فبعض الأحداث تحتوي على أحداثٍ أخرى كأجزاء. فقولك «صباح الخير» لجارك يتضمن حدثَين، هما قول «صباح»، وقول «الخير» كأجزاء. أما بالنسبة إلى العمليات، التي تبدو أنها تسمح بتغييراتٍ أطول وأعقد، فهناك أنواعٌ شتَّى من الأجزاء. على سبيل المثال، كانت معركة ستالينجراد جزءًا من الحرب العالمية الثانية، وهي بدورها تضمَّنت إطلاق رصاصة من بندقية.

من المؤكد أن العلاقة بين مفهومَي الحدث والعمليات وثيقة، وقد لا يفصل بينهما سوى خطٍّ مبهم. متى تكون العملية صغيرة جدًّا بحيث تُعَد مجرد حدث؛ أو يكون الحدث كبيرًا جدًّا حتى يُحسب عمليةً؟ ربما لا نستطيع فرض حدودٍ بالغة الوضوح، ولكننا مع ذلك نؤكد أن العملية تشير إلى سلسلة معقَّدة من أكثر من تغييرٍ واحدٍ بترتيبٍ معين. ربما يكون الترتيب مهمًّا لأننا إذا غيَّرناه سنحصل على عملية مختلفة. على سبيل المثال، بناء منزل عملية، وإذا عكسنا الترتيب فسنحصل على شيء آخر، مثل هدم المنزل. من ثَم نستطيع أن نرى أن فكرة التغيير تبدو مهمة لكلٍّ من الأحداث والعمليات، ويجب أن ندرس هذه المسألة بمزيدٍ من التعمُّق.

fig4
شكل ٤-١: الانسلاخ.

من يستطيع الصمود أمام التغيير؟

في الفصل الأول، ناقشنا الجزئيات وعرضنا مفهوم الهُوية العددية: مفهوم أن يكون الشيء واحدًا ونفس الشيء. وهو صعب التعبير عنه دون إحداث التباس؛ لأننا نريد أن نعرف متى يكون الشيء هو نفس الشيء الآخر. وعندما يكونان كذلك، فإننا بذلك يكون لدينا في الحقيقة شيء واحد فقط. لهذا السبب، قال البعض إن الهُوية ليست علاقة على الإطلاق: لأنها عندما تكون صحيحة، يكون لدينا شيء واحد فقط، أما جميع العلاقات الحقيقية فتربط بين شيئَين على الأقل.

لماذا ينبغي أن يبقى شيء ما نفسه خلال التغيير؟ إليكم مثالًا لتوضيح المسألة. إذا كان هناك رجل ذو شعر في عام ٢٠١٠ ورجل بلا شعر في عام ٢٠٢٠، يمكننا بناءً على هذه المعلومات أن نقول إن تغييرًا قد حدث فقط إذا كان الرجل ذو الشعر في عام ٢٠١٠ هو نفسه الرجل بلا شعر في عام ٢٠٢٠. إذا كانا رجلًا واحدًا ونفس الرجل، فمن الممكن أن نقول إن شيئًا حدث — تغيَّر شيء — أصبح الرجل أصلع. كان هناك الكثير من الرجال ذوي الشعر في عام ٢٠١٠، وسيكون بلا شكٍّ هناك الكثير من الرجال بلا شعر في عام ٢٠٢٠، ولكن ليكون لدينا تغيير، لا بد من رجلٍ كان لديه شعر، وصار بلا شعر. يجب أن يكون فردًا واحدًا أصابه الصلع. هذه الفكرة القائلة بأن التغيير في حاجة إلى موضوع، غالبًا ما تُنسب إلى أرسطو؛ بل جزء كبير من الأفكار الميتافيزيقية مستقاة منه.

يبدو أن في مقدورنا أن نقول الشيءَ نفسه تقريبًا عن جميع التغييرات الصغيرة النطاق، لكن في حالة العمليات ذات النطاق الأكبر، قد تخفى علينا ماهية موضوع التغيير. فماذا كان موضوع التغيير في الحرب العالمية الثانية؟ لعلَّه العالَم؟ وبعض التغييرات تشمل موضوعاتٍ متعددة. لنفترض أن الطاقة تنتقل من كائنٍ إلى آخر، مثلما يحدث عندما تتصادم كُرتا سنوكر. هل انتقال الطاقة مجرد تغيير واحد، ينطوي على ارتحال الطاقة، أم أن لدينا في واقع الأمر تغييرَين منفصلَين هنا: الأول هو فقدان الكرة الأولى للطاقة، والثاني هو اكتساب الكرة الهدف للطاقة؟ إحصاء التغييرات ليس أمرًا سهلًا، ويجب أن يستند إلى قدرٍ كبيرٍ من التنظير الفلسفي.

ولدينا هنا واحدة من هذه النظريات. وهي تقول بأن التغييرات ربما تأتي بأنواعٍ مختلفة. فيمكن أن يكون التغيير اكتسابَ خاصية أو فقدانها، أو مجيء شيء للوجود أو خروجه منه، أو تغييرًا داخل خصيصة واحدة. ويمكننا أن نقول المزيد عن كلٍّ مِن هذه الحالات.

سنستخدم مفهومنا عن الجزئيات وخصائصها. فلنفترض أن جزئيًّا كان لديه في مرحلة ما خصيصة: ثمرة الطماطم مستديرة. لكنها في وقتٍ لاحقٍ لم تعُد لديها تلك الخصيصة. بذلك قد حدث تغيير. بالطبع، خلال تلك الفترة، يجوز أن تكون الطماطم قد اكتسبت خصيصة أخرى مكان استدارتها السابقة: ربما أصبحت مسطحة، بعد أن سُحقَت تحت عجلات شاحنة مارَّة. هنا أيضًا، يمكننا القول بأن تغييرًا قد حدث. هل كان هذا تغييرًا واحدًا فقط أم اثنين؟ هل كان تبديلًا واحدًا لخصيصة بأخرى أم حدثَين متصلين، ولكنهما متمايزان: فقدان الاستدارة، واكتساب الشكل المسطح؟

كان التغيير داخل الخاصية نوعًا آخر من التغيير. نوع الحالات الذي أعنيه هو حين يكون للشيء خاصية طول، ولكنه يزيد أو ينقص. فلنفترض أن الخيارة المجاورة للطماطم زاد طولها من ٢٠ سنتيمترًا إلى ٣٠ سنتيمترًا. من المؤكد أن تغييرًا قد حدث، ولا شك أنه كان تغييرًا تدريجيًّا؛ حيث إن انتقال طول الخيارة من ٢٠ إلى ٣٠ سنتيمترًا لا بد أن يكون بالمرور بالأطوال الانتقالية بينهما، لا بالقفز مباشرةً من واحد إلى الآخر. في هذا السياق يبدو التغيير عمليةً. ولكن المهم هو أن الطول خصيصة واحدة يمكن أن تأتي بدرجات، أو مقادير، أو كميات متغيرة. لنا أن نعبِّر عن ذلك بطريقة أخرى بأن نقول إن هناك أطوالًا محددة شتَّى تندرج تحت مفهوم الطول القابل للتحديد. عندما ينمو الخيار، يحتفظ بنفس خصيصة الطول القابلة للتحديد، ولكنه يغيِّر أطواله المحدَّدة، مُبدلًا واحدًا بآخر.

كنتُ قد أشرت إلى نوعٍ آخر من التغيير: أن يأتي شيء إلى الوجود أو يخرج منه. هنا لا يحدث التغيير في خصائص الشيء، ولكنه يحدث للشيء نفسه. إنه يأتي للوجود أو يزول منه. وهي مفاهيم محيِّرة جدًّا. على سبيل المثال، يمكن أن تخرج سيارة جديدة من خط الإنتاج، حديثة الصنع، وبعد بضع سنوات، يمكن أن تذهب إلى ساحة الخردة لتكسيرها. ربما لا شيء يُصنع أو يُدمَّر في الواقع، وإنما بالأحرى تتجمَّع الأجزاء — وأجزاء الأجزاء — في تركيباتٍ مختلفة، أو تتفكك وتُستخدَم في مكان آخر. هل تتذكر مقولة إن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدَث؟ إنها تجعلك تتساءل من أين جاءت في البداية. ولكننا لسنا في حاجة إلى الاستغراق في ذلك فترةً طويلة؛ لأن كل ما نحتاج إليه حتى نقول إن تغييرًا ما قد حدث، هو أن يأتي شيء للوجود أو يخرج منه بالمعنى العام نسبيًّا لتكوين كيان كُلي جديد من أجزاء، أو تفكيك كيان كُلي إلى أجزاء. إنني أعلم أن تغييرًا قد حدث إذا فُكِّكت سيارتي، حتى لو ظلَّت تلك الأجزاء، أو بعض أجزاء الأجزاء، موجودة.

لكن هذه النظريات حول التغيير تعترضها مشكلة. فالمفهوم الأرسطي لوجود موضوع للتغيير يصمد أمام التغيير، واجه اعتراضًا في العصور الحديثة. ربما السبب في ذلك أننا بِتنا نعتبر المكان والزمان أكثر تشابهًا عما كنا نراهما في السابق. وهذا يحتاج إلى توضيح.

يتكوَّن جسم الإنسان من أجزاء مكانية. فإنه نصفٌ علوي ونصفٌ سفلي. وهناك ذراع، وقلب، وإصبع قدم، وكثير غيرها. ويمكن اعتبارها كلها أجزاءً مكانية من الجسد: أجزاءً في المكان. ولكن لماذا لا نقول إن هناك أجزاءً زمانية أيضًا: أجزاءً في الزمان؟ ثمة جزءٌ من ذلك الجسد كان موجودًا عام ٢٠١٠، وآخر كان موجودًا عام ١٩٧٠. وثمة جزءٌ ظل موجودًا دقيقةً واحدة فقط في الساعة ١٢:٠٥ اليوم. من المؤكد أنه إذا كان التشابُه بين الزمان والمكان شديدًا، فهذا مؤشر على أنه لا بد أن تكون هناك أجزاء زمانية.

لكن ما أهمية ذلك؟ اعتقد البعض أن الأجزاء الزمانية ربما تكون وسيلة جيدة لشرح التغيير. المشكلة التي يعنيها الفلاسفة في النظرية الأرسطية القديمة، القائلة بأن الأشياء تصمد بعد التغيير، هي أنه لا بد أن تُنسب صفاتٌ مختلفة إلى جزئي واحد، هو الجزئي نفسه. الطماطم لديها خصيصة اللون الأخضر وخصيصة اللون الأحمر. الخيار طوله ٢٠ سنتيمترًا و٣٠ سنتيمترًا. لكن إذا كنت تعتقد أن الأشياء لديها أجزاء زمانية، فيمكنك القول بأن أشياء مختلفة هي التي لها هذه الخصائص غير المتوافقة. فالأحمر كان جزءًا زمانيًّا من الطماطم، والأخضر كان جزءًا زمانيًّا مختلفًا منها. ومرة أخرى نجد تشابه الزمان مع المكان. لن نتعجب من القول بأن الطماطم حمراء وخضراء أيضًا، إذا اعتقدنا أن الأحمر جزءٌ مكاني، والأخضر جزء مكاني آخر. إذا احتججنا بوجود أجزاء مختلفة، سواء مكانية أو زمانية، تحمل الخصائص غير المتوافقة، فإن أي تعارض ظاهري سيتلاشى.

الوجود الكُلي

إذا لم تكن مقتنعًا بالأجزاء الزمانية، فعليك أن تجد تفسيرًا آخر لما يبدو من قدرة شيء ما على أن تكون له خصائص متعارضة. في النظرية الأرسطية، يُعَد الجزئي موجودًا كُليًّا في كل وقت يكون موجودًا فيه. فالنظرية لا تعتبر جزءًا زمانيًّا من الطماطم هو الأحمر، وإنما الطماطم كلها. في الواقع، إنه من الشائع أن نقول «الطماطم حمراء». ولا نقول «جزء زماني من الطماطم أحمر». لكن ربما استخدامنا للغة ليس دليلًا يمكن الاعتماد عليه في الميتافيزيقا.

تُعرف النظرية الأرسطية بنظرية الاستمرارية الكُليَّة؛ لأن الجزئيات تستمر موجودة بالكامل خلال التغييرات. ولكن كيف يمكن لهذه النظرية أن تفسر حَمل الخصائص المتقابلة؟ الإجابة، بالطبع، هي أن تلك الخصائص المتقابلة توجد في أوقاتٍ مختلفة. كانت الطماطم خضراء الأسبوع الماضي، وحمراء هذا الأسبوع. لكن هذه الإجابة عليها مأخذ. فهي تعني أن الجزئيات ليس حسبها أن تحمل الخصائص فقط لا غير. وإنما سيتعيَّن على الخصائص دائمًا أن تكون مرتبطة بشيء آخر، وهو وقت معين، وهذا يعقِّد من تفسيرنا لماهية أن يكون للشيء خصائص. في المقابل، يمكن لمن يعتبرون بالأجزاء الزمانية، المعروفين بأصحاب نظرية «الاستمرارية الجزئية»، أن يقولوا إن الجزء الزماني يحمل الخصيصة وحدها لا مزيد عليها، دون الحاجة إلى تدخُّل أي عنصر في العلاقة.

يعتقد أصحاب نظرية الاستمرارية الجزئية أنه ليس من المفترَض حين يتغير شيء أن نراه شيئًا واحدًا يحمل خصائص متعارضة، وإنما الأصح أن نعتبره أشياء مختلفة — أجزاءً زمانية — تحمل تلك الخصائص. إذا كانت هذه الرؤية محاولةً لتفسير التغيير، فهذا معناه أن كل واحد من تلك الأجزاء الزمانية لا بد أن يكون هو نفسه ثابتًا لا يتغير. لو كان الجزء الزماني ذاته هو القادر على الخضوع لأي تغيير، فإن المشكلة التي بعثت على النظرية من الأساس ستعاود الظهور. لذا من الواضح أنه يجب أن يكون هناك جزء زماني مختلف لكل تغييرٍ طفيف.

كذلك سيتعيَّن إعادة تصور هذا التغيير جذريًّا. فبدلًا من القول بأن لدينا موضوعًا للتغيير يصمد خلال تغيير الخصائص، سيكون لدينا أشياء متعاقبة ذات خصائص ثابتة، تختلف اختلافًا طفيفًا عما قبلها، وعما بعدها مباشرةً من أشياء. سيكون التغيير أشبه بوهمٍ ناشئ عن تعاقُب هذه الأجزاء الزمانية. لكن هذه الفكرة ليست غريبة علينا. إنها تشبه إلى حدٍّ كبير فكرة الأفلام القديمة المستخدَمة في السينما. كان كل إطار من شريط الفيلم صورةً ثابتة، غير متحركة. ولكنها مرتَّبة بتسلسُلٍ على جهاز قادر على تحريك الصور بسرعة كبيرة. وهكذا فإنه عند مشاهدتها وهي تتتابع سريعًا، يبدو كأنها تتحرك. يعتقد أصحاب نظرية الاستمرارية الجزئية أن عالمنا يعمل بهذه الطريقة إلى حدٍّ كبير.

ومع ذلك، هناك بعض الأسباب الوجيهة التي قد تدعونا إلى الشك في هذه النظرية. بادئ ذي بدء، هي تبدو أقرب إلى إنكار التغيير من إنكار نظرية عنه. فالأجزاء الزمانية لا تتغيَّر البتة، وبذلك فإن جميع أنواع التغيير المذكورة أعلاه تُختزَل في دخول (الأجزاء الزمانية) الوجود وخروجها منه. ربما يكون الأخطر من ذلك أن القول بأن الشيء أجزاء زمانية متعاقبة هو بالأحرى تصوُّر معقَّد، وكذلك ما يتبعه من تفسير للتغيير.

بأي منطق قد تنتمي مجموعة من الأجزاء الزمانية غير المتغيرة كلها إلى الشيء نفسه؟ إذا أخذنا بنَصِّ النظرية، فإنها لا تمتُّ له بِصلة. فلا توجد أشياء مستمرة، كما رأينا. ما نعتبره شيئًا هو مجرد بناء لتسلسُلٍ من أجزاءٍ ثابتة. من ثَم، لا بد من ترابُط مجموعة الأجزاء الترابُط المناسب بحيث تشكِّل ما يمكننا اعتباره شيئًا مستمرًّا. وهذا سيكون بإيجاد العلاقات المناسبة للربط بين الأجزاء. فربما يكون التعاقب في الزمن من متطلباتها؛ لأنه ليس من المفترض أن جزأين زمانيَّين متمايزَين موجودَين في الوقت نفسه قد يكونان جزءًا من الشيء نفسه. قد تكون السببية علاقة أخرى؛ حيث تتسبب الأجزاء الزمانية السابقة في وجود الأجزاء اللاحقة (السببية هي موضوع الفصل التالي).

يبدو أننا في حاجة إلى بناء هذه الجزئيات من تعاقُب الأجزاء بطريقة ما قبل أن يتسنَّى لنا الحديث عن حدوث التغييرات. بعبارة أخرى، حتى نقول إن رجلًا ما أصبح أصلع، علينا أولًا بناء الرجل من أجزاء زمنية عن طريق ربطها معًا بطريقة ما. كانت مشكلتنا أننا لا نستطيع القول بأن تغييرًا قد حدث إلا إذا كان الرجل الذي كان لديه شعر عام ٢٠١٠ هو نفسه الرجل الأصلع عام ٢٠٢٠. لكن هذا سيعتمد بدرجة كبيرة على تبيان أن الرجل ذا الشعر مرتبطٌ الارتباط المناسب بالرجل الأصلع.

من ثَم لدينا في نظرية الاستمرارية الجزئية مشكلة الربط بين جميع هذه الأجزاء المتمايزة بطريقة ملائمة. لكن هل نريد حقًّا أن تتشكَّل تغيُّراتنا من مكونات ثابتة أساسًا؟ هل من المعقول حقًّا أن تكون التغييرات التي نراها حولنا، بسلاستها الظاهرة، هي مجرد تتابُع لأجزاءٍ ثابتة؟ سيكون عالمًا متقطعًا، يقفز من حالة إلى أخرى، وإن كان المفترَض أنها تحدث سريعًا جدًّا إلى درجة أننا لا نلاحظ الوصلات التي تربط بينها. هنا، قد تعود نظرية الاستمرارية الكُليَّة بجاذبيتها إلى المعادلة، ولكن بصورة معدَّلة. بمعنى أنه يجوز أن نعتبر العالم في حالة تغييرٍ مستمر. ويجوز أن يكون هذا التغيير المستمر والممتد عمليةً. هكذا قد يكون العالم مكونًا من عمليات ديناميكية، لا من تعاقُب أجزاءٍ ثابتة. تفترض الفكرة أن العمليات في عالمنا تحدث في شكل وحدات كُليَّة سلسة، وغير قابلة للتقسيم، ومتكاملة.

حين تتأمَّل ذوبان السكر في الشاي، على سبيل المثال، يبدو لك عمليةً طبيعية ومتصلة. لكن الاستمرارية الجزئية تصورها كمجموعة من الأجزاء الزمانية المنفصلة التي ارتبطت بمحض الصدفة في علاقاتٍ مناسبة فرأيناها مترابطة. غير أن جميع أجزاء هذه العملية قد تكون أساسية فيها. أن يكون الشيء قابلًا للذوبان معناه أنه مستعد لهذه العملية، ومن الضروري أن يكون هذا تحديدًا هو العملية. قد نقول الشيء نفسه عن عمليات أخرى كثيرة: يبدو أنها تجري في كيانات كُليَّة متكاملة، متصلة. تأمل البناء الضوئي، أو دورة الحياة البشرية، أو التبلور. هل نريد حقًّا أن نعتبر هذه العمليات مجموعاتٍ من الأجزاء تتحد معًا عشوائيًّا، وكانت من حيث المبدأ من الممكن أن تتحد بأي شكل حيثما اتفق؟ لا أعتقد ذلك؛ لأنه العمليات تبدو مثالًا مقنعًا لكون الكل أكبر من مجموع الأجزاء.

حان الوقت للانتقال من التغيير إلى شيء مترابِط بوضوح. لقد بدأنا بالفعل الاقتراب من موضوع الفصل التالي، الذي سيكون واحدًا من أعظم المشكلات الفلسفية على الإطلاق، ألا وهو السببية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥