حول القصَّة والقصصيين

توفيق عواد، من الصبي الأعرج إلى الرغيف

سفر تكوين الرواية

نخشى إن لم نهشَّ ونبشَّ لرغيف توفيق عوَّاد أن يصح فينا قول المثل اللبناني: فلان لا يضحك للرغيف السخن. ليس رغيف توفيق سخنًا فقط ولكن مقرَّص من عجين طالع، فجاء رافخًا تشتهيه العين والقلب. كأنه الخد المدلوك دلكًا عنيفًا في غرفة الزينة.

قد بدأت درس توفيق بالمقلوب، ولا عجب فرغيفه المشقر معروض في واجهات المكاتب يقبل عليه جياع الأدب يلتهمونه كما سبوا صبيَّه ونهبوا قميصه من قبل. وإننا لراجعون إلى الصبي والقميص بعد أن نشبع الرغيف وزنًا وتحليلًا.

إن عيني توفيق عوَّاد قويتان «يدوِّرهما» ساعة يشاء، فظهارة بطله أشد بدوًّا من بطانته، وهذا دليل على أنه قويُّ الملاحظة شديدها. وقد كتب تحت «الرغيف» رواية لأنه يفهم أن قصة طويلة ليست رواية، كما أن الرواية القصيرة ليست قصة. فهذان النوعان لا يقاسان بالأسطر ولا بالساعات، ولكنهما يختلفان في البنيان، لا في الاتساع والطول والعرض، فليست الرواية ملعب فوتبول، ولا القصة طاولة «بنك بانك»، فالقصة تقتصر على حادث عرضي من الرواية التي تكون متشابكة الحوادث غزيرتها. والقصة تجتزئ عادة على نوع من العرض كالخبر والمحاورة والمناجاة. أمَّا الروائي فهو كالموسيقي الماهر يبدِّل ويغيِّر ألحانه وسلالمه ما شاء، ويستعمل للذة فنية دقيقة أساليب لا تعدُّ ولا تحصى؛ لأن النبوغ يعرف بالإبداع الفني.

والمجال في الرواية فسيح الرحبات للأديب الموهوب؛ ففيه يستطيع أن يعقِّد ويوسِّع الحقل لنفسه فيسرح ويمرح، ويلحق به مساحات جديدة بلا عناء، كما تفعل دول الطغاة اليوم … ففي الوصف، والقص، والتحليل، والحوار ميدان للأقلام الفارهة.

ليس هناك قواعد تعلمنا بالحصر كيف نخلق الأثر الفني، ولكن هناك شروطًا لا يحيا بدون مراعاتها هذا الأثر. كما أن مراعاة هذه الشروط لا تبلغ القصد إن لم يجز المؤلف صفات داخلية تعجز عن إيجادها النواميس والقوانين الموضوعة. وهذه الهبات التي نسبها الناس قديمًا إلى شياطين الشعراء وعفاريت الأدباء هي التي تمنح الأثر جماله الرائع.

وشرط التأليف، كشرط الجمال، التناسق ثم التناسب والتلاحم. وفي الكتاب، وخصوصًا الرواية، يطلب كل ما يطلب من قطعة فنية سواء أكانت صورة، أو قطعة موسيقية. وأول مطالب الكتب الإنشاء الرفيع الذي لا يخلد بدونه أثر. ونعني الإنشاء الشخصي لا التقليدي الذي يفلقنا به مَن يكررون على مسامعنا في كل ساعة كلمة قالها ابن خلدون في المتنبي والمعري. أَلَا فلنضرب بعمود الشعر كل رأس فارغ!

للغة قواعد وللغة علم يسمَّى علم البلاغة، فعلينا أن نخلق، كما خلق القدماء، لا أن نعلك تعابيرهم كما تعلك الخيل اللجم، ويشط ريالنا مثلها، ولا أن نجترَّ ما تساقط عن موائد السلف الصالح لِنُسَمَّى كتَّابًا. فهذه آفة أدبنا العربي الذي جعله أصحاب العقول الضيقة رواسم ومومياءات تأنف من سماعها لكثرة ما لاكتها ألسنة الغزاة. حتى قال أحد المتمشرقين، وأظنه ماسينيون: الأدب العربي رواسم — كليشيهات.

أجل لا يخلد أثر فني إلا إذا كانت مادته إنشاءً شخصيًّا، وهذا الشرط يعني كل تأليف وخصوصًا الرواية التي طغت اليوم على الأسواق الأدبية. وإلى إنشاء الرواية العالي تضاف أشخاصها، فرواية بلا أشخاص أفذاذ كأمة بلا نوابغ. فالوصف مثلًا ليس بقصة، ولا يستحق هذا الاسم؛ لأن الرواية هي خبر صحيح أو كاذب كالصحيح، كما أن الخبر الحقيقي ليس رواية. فالمذكرات والسير، والاعترافات وقصص التاريخ لا تدنو من الرواية إلا بمقدار، أي في الأسلوب والقص، ولكنها ليست رواية على كل حال. فالرواية هي ما تقص خبرًا مخترعًا تلذك قراءته لطرافته وأسلوبه، ولم يبث فيه الكاتب من روح حية تأسرك، بل تنقلك إلى الساحة التي يجعلها معترك أبطاله، فتشعر أنك حيال المشهد، وكأنك أمام ناس بلحمهم ودمهم وسحنهم؛ فتكرههم وتحبهم، وتكاد تهاجم بعضهم وتدعو عليهم بقصف العمر إن كانوا جبابرة وكنت مِمَّن يحولون الخد الأيسر.

ففي كل رواية رجل يحدثنا بإنشائه الخبري وطريقته القصصية، ولكن هذا الرجل لا يكون روائيًّا صالحًا إن لم تتألف شخصيته من عشرات الأشخاص، وهذا ما يخلق الأثر الفني، أو فنية الرواية — إن صح التعبير — فعل الروائي هو أن يثير فينا تأثرات عديدة. ومن هذه الناحية تتسع الرواية لجميع ضروب البيان الشعرية — والشرط أن لا يطغى الإنشاء الشعري — وجميع ضروب الإنشاء في جميع الأغراض التي تضحك وتبكي وتغيظ وترضي. وبكلمة وجيزة، الرواية دنيا واسعة يستطيع الكاتب القدير أن يستغلها، فهي غنية بالمواد الأولية — كرومانيا مثلًا!

أما القصة فلا تتسع لكل هذا؛ لأنها لا تدوم طويلًا. والشعر المنثور، إذا طغى، أبعد المؤلف عن القصة وقرَّبه من الشعر، فأجنحة جبران المتكسرة وأخواتها الروائع العربية الخالدة هي كسفر أيوب، أقرب إلى الشعر منها إلى القصة.

إن الرواية تبعث فينا لذاتٍ ذهنيةً مختلفة حين يهزنا كاتبها بوصفه الذي تولده قريحة متقدة؛ فهو يصور لنا بعض نواحي الحياة تصويرًا فتَّانًا تؤخذ به العين فيبتهج القلب؛ ولذلك يبتعد الروائي الموهوب عن الروايات التاريخية والعلمية والفلسفية وأشباهها، وهو يعلم أين يسهب ويوجز كأنه الكناري الذي تلهمه غريزته براعته الموسيقية. إن الفن يفوق العلم وإن لم يكن له صدقه، ونحن لا نطمع أبدًا في أن تعلمنا الرواية دروس الأشياء ولا تاريخ الأمم. وهذه الروايات المبنية على علم النفس — وحده — لا تحيا إن لم يكن لها حظ وافر من النظرة الغربية إلى الكون، ومن قوة الوصف وبراعة الإنشاء.

والرواية أشد ضروب الأدب تعرضًا لعلاقة الفن بالواقع. والرواية الحقيقية الجديرة بأن تنسب إلى الفكر الإنساني السامي هي ما يظهرها الفنان بشكل موضوعي، والموضوعية لا تنفي الذاتية، ولكن المؤلف الروائي يجب أن يكون شاهدًا عيانيًّا، وعلى مقدرته الفنية في الخلق والتعبير يتوقف نجاحه، وليس على الروائي أن يجمع في نفسه كل خواص الروائيين، فحسبه خاصة يكون فيها نسيج وحده ليكون شيئًا مذكورًا.

ليس على الرواية أن تكتشف نواميس الطبيعة كما يحاول علماء النفس منهم في روايتهم التي تفلق الناس بمطها، ولكن مهمتها أن تحيي أشخاصًا وتخلقهم خلقًا عجيبًا يجعلهم في عداد رجال التاريخ الحقيقيين كما فعل نوابغ روائيي العالم. لا أعدد، فهذا أمر لا يجهله أقل الطلاب إلمامًا بتاريخ آداب الأمم. وما أحلى كلمة قالها مونتينيه: «يجب أن «نفنِّن» الطبيعة و«نطبِّع» الفن.»

وملاك الرواية عنصران هامَّان: التأليف والتحليل. أما التحليل فهو غالبًا عمل يأخذ قطعًا من الواقع المفكك ولكن هذه العناصر تبنى بناء جديدًا، فعمل الروائي وكل فنان، كما قلنا في فصل سابق، هو أن يتمثل الأشياء ويخرجها إخراجًا جديدًا. ولا يعني التحليل أن يكون لائحة منظمة كلائحات المختبرات لفحص الدم وغيره … ولا تشريحًا علميًّا، بل يجب أن يكون خلقًا مفاجئًا.

أما التأليف فلا يأتي أيضًا بالطريقة الجدولية بل هو تركيب يمتد وينتشر؛ إذ لا يكون خطة تنفَّذ جزءًا جزءًا فهو ينمو نموًّا طبيعيًّا كما ينمو الجسم بخلاياه، أما الروائي الرديء فيخلق جثثًا وتماثيل.

أما كيف يتخطى القصصي من التحليل إلى التأليف فهنا سر النبوغ، وبهذا يُعْرَف الفنان من المحترف، أو كما يقول المثل اللبناني: هنا تعرف القرعا من أم رون.

وفي كل حال تقوم الرواية وتعلو بقدر إنشاء تلك المخيلة، وميزة التعبير والعرض الموجز. فللسياق والتتابع والتنافر المقصود والانحراف، والحذف والإلغاء والإهمال عمل ذو شأن كبير في القصة. أما الاستطراد فلا يكون مقبولًا إلا إذا كان في لحمة الرواية. وللاستطراد أناس طُبِعُوا عليه يحسنونه بالسليقة فلا يتصدَّ له مَن ليس من رجاله. وبالاختصار: إن الاستطراد إذا كان وجيزًا يهب الموضوع جمالًا وظرفًا، وما أشبهه في تلك الحال ببرق يشق الظلمات. ولاختلاف الأسلوب عمل كبير في الرواية فلكل مقام مقال كما علمنا السلف، فاللهجات تتعدد وتختلف باختلاف الأشخاص، وأحوال الرواية وظروفها وأمكنتها. ففي استطاعة الروائي أن يجعل الرواية الواحدة مجموعة أساليب ولهجات ناطقة حية.

ولغة الرواية تختلف أيضًا باختلاف الأحوال، ولكل ضرب من الروايات أسلوب خاص لا تصلح إلا به ولا يصلح إلا لها. والرواية محتاجة أبدًا إلى إنشاء صحيح رفيع وخصوصًا ما ينسب منها إلى المؤلف، وإن تساهل الفن في ما يقوله المؤلف بلسان أبطاله ليكون مطابقًا لواقع الحال وهو شرط البلاغة الأساسي؛ فهو لا يغتفر الركاكة في ما يعزى إلى المؤلف. هذا في الرواية الفنية التي تطمح إلى الخلود، أما في غيرها فقل ما شئت، ومَن يطالبك؟ أليس في الدنيا هذر لا يُحْصَى؟

قبيح جدًّا أن يكون الإنشاء القصصي بضاعة رواسم، أو عرض قوالب سكافين بطلت في السوق. يجب أن يكون إنشاء المؤلف متفردًا متشبعًا من شخصية لها لونها وطابعها.

أما الحوار، وهو عنصر خطير من عناصر الرواية، فيجب أن يكون لغة الناس أو ما يشبهها ويقرب منها كل القرب، ومجاله في لغتنا العامية واسع إن كلف الكاتب نفسه عناء التأليف والتنقيب على الألفاظ والتعابير. إن المحافظة على أصول اللغة شرط أساسي، ومَن تعدى هذه القوانين فسدت طبخته مهما سما في الخيال والقص والاختراع. أما أهمية الحوار فهي أنه يصور لنا شخوص الرواية بلباقة خَلقًا وخُلقًا، وكثيرًا ما يغنينا عن الوصف المستقل الذي يعرفنا بالأبطال ولكنه يأتي غالبًا كأنه مقحم إقحامًا.

والرواية بعد كل هذا تحتاج إلى قوى عديدة مجتمعة: مخيلة خصبة تحبل وتلد، تخلق الأبطال وتمنحهم فصاحة لسان وصحة رأي وقوة إيمان، وتخلق تجاههم أبطالًا آخرين لا يقلون عنهم شأنًا ليقفوا إزاء بعضهم وقوف الند أمام الند في الساعات العظيمة التي لا ينساها القارئ ويحدثك عنها كأنه أدركها بعينيه الثنتين.

والأشخاص التي تخلقها هذه المخيلة قد تكون جسومًا مترهلة إن لم يهبها خالقها أعصابًا شديدة تحركها دائمًا، فحيوية الرواية في حركتها، وبدونها يسأمها القارئ ويطرحها إلى جانب سريره، وقد تنام هناك نومة هانئة … والحركة يخلقها المؤلف بمحاورة هؤلاء الأشخاص وتحدثهم دائمًا عن أنفسهم وعن سواهم، وعن الحوادث التي تعرف القارئ بهذا وذاك وهذه وتلك، وتدل على خَلقهم وخُلقهم من غير قصد وتعمد، وهذا هو الفن.

وأكثر ما تشكوه الروايات العالمية هو ضعف هاتين الناحيتين: الخلق البديع والحركة.

وللرواية سياق لا يندُّ الروائي القدير عن سبيله؛ فهو مهما توغل في الغابة لا يفلت الخيط. وتنوع الموضوع واجب؛ إذ بدونه لا يتبعنا القارئ، بل يعتريه الملل وضيق الخلق فيدعنا وشأننا.

والروائي أشد الناس احتياجًا إلى أكثر العلوم، وخصوصًا الاجتماعية منها، كعلم النفس والتاريخ والجغرافيا والأدب … إلخ. وأهم هذه العلوم، علم النفس؛ فمَن يجهله لا يُصَوِّر أشخاصه تصويرًا صادقًا. ولا نعني أن نتعلم هذه العلوم في الكتب، فهناك غير الكتب تعلم الفنان كيف يخلق أبطاله خلقًا سويًّا، أهمها مراقبة حركات البشر مراقبة شديدة، وسماع أحاديثهم والاستنتاج. والدرس والمراقبة والسماع لا تفيد شيئًا إن فاتته القريحة، فأعظم نوابغ البشر أتقنوا التشخيص ولم يتعلموا هذا الفن، كما أن غير الموهوبين وإن تعلموا هذه العلوم في أعظم الجامعات لا يستطيعون تطبيقها، بل يصورون شخوصهم صورًا تنفيها أو تناقضها أعمالهم فيما بعد.

وللمرحوم فرح أنطون فصل في جامعته عنوانه: إنشاء الروايات العربية، تفيد مطالعته مَن يعنيهم الأمر.

وفي كل حال لا يهمنا إلا عناصر الحياة والحقيقة في الأثر الفني، وهذا لا يتحقق إلا عندما نمزج اختبارنا النظري بأحلامنا وخيالنا؛ أي أن نمزج الحقيقة التي نراها بإدراكنا الشعري الذي يعبرون عنه بالوحي والإلهام. فعندئذٍ نستطيع أن نردد كلمة رابليه: ادخل فهنا يصهرون الإيمان العميق. وإلا فإننا نردد عبارته الأخرى: أرخ الستار فالهرج قد انتهى.

حكاية الرغيف

إن طعم أيام الحرب لا يزال تحت أضراس توفيق يوسف عواد، والعلم في الصغر كالنقش على الحجر؛ فهو يقدم رغيفه إلى أحق الناس بها، إلى أبيه المجاهد في حرب المعاش. ولكن أي رغيف؟ رغيفًا «فيه نفس الحرية والكرامة». هذا رغيف توفيق عواد وقد أدى فكرته في مواقف أذكر منها حديث سامي لزينة (ص٦٤ ثم صفحة ٢٦٥ وما يليها رقم ٧ و٨).

«الرغيف» رواية كأنها مسرحية ذات مدخل وخمسة عناوين: التربة، والبذار والغيث، والسنابل، والحصاد. صفحاتها ٣١٥ أخرجتها دار المكشوف بحلة رصينة، ولولا الذي بيننا وبين الحبيشي صاحب الدار من خبز وملح لأطنبنا في إطراء مضيفته الأدبية، فالرغيف الذي يقدمه للناس لا يقل عزة عن مجد ذاك في أيام الحرب.

تنم عناوين الرواية على أنها عظات وحكمة، ولكن توفيق عواد، وهو من أبناء الفن، يعلم أن الروائي غير الواعظ. فهو يقص وعليك أنت أن تستنتج. يروي لك أخبارًا صحيحة أو كالصحيحة، يصدقها كل مَن شهد مصائب الحرب وبلاياها، فأبطاله الذين علقوا بذاكرته الطرية ثم خلقتهم اليوم مخيلته خلقًا جديدًا لا ينكرهم مَن شهد الناس مثلنا قعودًا على قارعة الطريق، حول روث الخيل كأنهم في السماطين. لا يعفُّون عن الفئران والجرذان والهررة، ولا أنسى أبدًا تلك الكهلة التي ذبحت حفيدها وادخرت لحمه وشحمه في برنية ليكون غذاءها الاحتياطي … وحسبي ما ذكرت من مشاهد المجاعة لئلا تتقزز نفوس القراء.

يصف الأستاذ عواد في «المدخل» فتح الجند التركي لبنان ووصوله إلى قرية بحرصاف، وقد أهمل تصوير بحرصاف الجميلة كما يهمل وصف أكثر الساحات التي يجعلها معتركًا لأبطاله — في الرغيف والصبي والقميص — وهو إن فعل أحيانًا فبخطوط أولية لا ترينا الصورة واضحة كاملة، مع أن هذا الوصف من عناصر الرواية الخطيرة وهو الذي يقربها من الواقع، ولا يعوق الحركة إن اقتصد فيه، وسندرس هذا في محله.

جميل تصويره دخول الجند لبنان، وأجمل منه حركات توفيق الصبي: «وأنا أرفع أنفي — وأنفه ذو شأن — حينًا بسؤال إلى والدي، وأشير بأصبعي حينًا وأصفق مسرورًا حينًا آخر.» ولغرض ما كرر المؤلف حينًا مع أن «الظروف» كثيرة في لغتنا وأكثرها بمعنى حين.

وفي هذا المدخل الذي لا تبلغ صفحاته عدد أصابع اليد الواحدة يحشر المؤلف نفسه مع لوَّام لبنان على رخاوته وتواكله، وقصر همته، والتفاته صوب الغرب. غفر الله للسياسة والنعرات الدينية، وأعاضنا بطول بقاء شبابنا وأبقى لنا هذا القليل من لابسي اللبادة والسروال، والصدرة المزررة، رمز رجولة ذابت في ثيابنا المزمكة. وبعد فلنتقدم إلى الرواية.

في الرواية أبطال عديدون سنحللهم واحدًا واحدًا وإن كان أكثرهم من مقلع واحد، ومكسرهم واحدًا. والخطوط التي تميزهم متفرقة تحصلها من هنا وهناك، فتوفيق لا يسردها سردًا، لولا ضحكة خليل المعلَّا الأولى (ص٢٤) ما علمت أن دكان وردةَ كَسَّار في ساقية المسك. ولكن الحركة العنيفة التي يبتسم بها توفيق عواد الروائي لا تدعك تتأملهم جيدًا؛ ففي يد الأستاذ سوط يفرقع ويؤلم معًا، إنه لا يعرف الرحمة في سبل الفن، وقلما يسقط عن الدرجة الثالثة في سوق أبطاله. ولو في الأكواع الخطرة — خطر الموت.

حكاية الرغيف بسيطة ككل موضوع يعالجه الفنان فيطرَّقه كما يطرق الصائغ كتلة من الذهب ليخلق منها معنًى طريفًا. أما مسرحها ففي لبنان. في بحر صاف، منبت توفيق عواد. حيث استشهد الهر المسكين — الصبي الأعرج (ص١٨٣) — وساقية المسك حدُّها. البيت الجبلي اللبناني هو العش الذي طارت منه هذه الطيور البلدية مثل: وردة وزينة وبوسعيد وطام. والقواطع، مثل: سامي عاصم وكامل أفندي.

فزينة بنت لبنانية يتيمة الأم ثم الأب تحب شابًّا بيروتيًّا اسمه سامي عاصم ابن تاجر بيروتي يستهلك ما يصدره مشغل الديما الذي أحدثه أبوها سعيد بعد عوده من أميركا مع خالتها وردة، وابنها طام أخي زينة من أبيها. كان سامي عاصم يصيف في ساقية المسك في بيت سعيد كسار، بل في كرمة النقبة. وكانت زينة تقوم على خدمته فتحابَّا. وكانت الحرب العظمى فخاف سامي أن يساق إلى ساحة الحرب، ففر إلى لبنان واختفى في بيت سعيد كسار، ثم في «مغارة الخورية» مستترًا بثوب راهب، وسُمِّيَ الأخ حنانيا. وأرشدت الحكومة إلى مخبئه فسيق إلى الديوان العرفي في عالية، ولكنه فرَّ مع رئيس الحراس شفيق أفندي العلايلي من سجن عالية إلى معسكر العرب فقتلا على أبواب الشام.

وجاهدت زينة في منطقتها فقتلت راسم بك قائد العسكر التركي في ساقية المسك وفتكت بالجاسوس خليل المعلَّا وحرقت بيت إبراهيم فاخر الذي ارتهن بيت جدها، وأنقذت أخاها طام من الموت.

العرض الفني

التربة: وردة كسار مزعجة غضبى؛ لأن الجند بعثروا متاع حانوتها مفتشين عن سامي عاصم، وبينا هي مرتبكة يسألها بوزيد خادم حانوتها كأس عرق أخرى فتأباها عليه، ويدخل خليل المعلَّا فترحب به وردة، ويغتنم الفرصة فينقدها ريالًا مجيديًّا تسقي به بوزيد ليسرق منه سر سامي عاصم، فيشرب بوزيد حتى يمتلئ ويلمح إلى السر ولكنه لا يفشيه. ويدخل الصغير طام — ابن وردة — فيعطيه بشلكًا ويخرج، فيطير طام ليبشر جده بوسعيد بالغنيمة، وتلحق به أمه وردة فتنتزعه منه فيبكي، ثم ينام معللًا النفس ببشلك أبيض سيعطيه إياه جده.

ويسعف وردة جنديان على طرد بوزيد من الحانوت وتعمر الحلقة. وكلهم ينتظرون زينة، وزينة لا تجيء لأنها في مغارة الخورية عند حبيبها سامي، فتبربر وردة وتجدف وتلعن. وتعود زينة ولكن إلى المراح حيث «الصبحا» فتخبر جدها أنها حملت رسالة إلى سامي فعزم بعد قراءتها على النزوح إلى أحد ديورة كسروان ليتخفى عن الأبصار، فالحكومة استاقت بعض رفاقه إلى الديوان العرفي، وأنه مهدد لن يبارح ساقية المسك قبل أن يجتمع بالجاويش كامل أفندي.

وفي الصباح يلتقي خليل المعلَّا ببوزيد فينتحيان دكانًا يتقامران فيه، وفي نهاية اللعب يشعر المعلَّا صاحبه بوزيد أنه قادم على رحلة إلى الديوان العرفي بعاليه … واسم الديوان العرفي كان يرعب، وأنه يمكنه أن يتقي شرها إذا باح له بسره، وأن وردة أيضًا ستشنق. فانهد بوزيد وهم بالهرب فتشاجرا وفر، وغرم الجاسوس ثمن ما تحطم من متاع الدكان.

واتجه خليل المعلَّا صوب حانوت وردة فصادف ابنها طام في الطريق فأعطاه ريالًا مجيديًّا واسترق منه خبرًا مقتضبًا عن سامي. وأدرك طام أنه وقع في الفخ فرد المجيدي آسفًا على كلمة أفلتت منه، ولكنها لا تغني شيئًا. وفي تلك الساعة كانت زينة عند سامي تتعجب من دم عليه فيخبرها أنه قتل جنديًّا تركيًّا وأخذ بندقيته وثوبه العسكري. ويبكت سامي نفسه على انزوائه في تلك المغارة بينا رفقاؤه في الميدان، ويصر على الاجتماع بكامل أفندي لعله يمكنه من عشرات البنادق فتكون غذاء للثورة العتيدة. فتذهب زينة من عنده إلى الحانوت فترى خالتها وردة وخليل المعلَّا يتساران، فلا تدعوها خالتها للجلوس كالعادة، ولا يكترث لها خليل المعلَّا. فتسرع لتسأل جدها عما فعل لدى كامل أفندي فيخبرها أن راسم بك استدعاه، وأمام طام جَلَدَه وبصق في وجهه بصقة عامرة، فاشمأز طام ونسي الزبيب والجوز الذي يطعمه راسم بك، ولحق بكامل أفندي يعاونه على قدميه الناضجتين على لهب الكرباج. وفي تلك الساعة يجيء الأخ حنانيا — سامي — ويحدث كامل أفندي تحت جنح الدجى في بيت بوسعيد، فإذا هما كلاهما من الجمعية القحطانية، فتصافحا وتعاهدا إلى غد.

البذار: وفي صباح اليوم التالي يدهم الجند مغارة الخورية ويقبضون على سامي، وبعد أن يشبعه راسم بك ضربًا ولكمًا ودعسًا، يقتاده ثلاثة فرسان إلى بيروت، ومنها إلى عالية فيرحب الديوان العرفي بالأخ حنانيا — خوري نجس أيضًا — ويزج في الرقم ٦. فيرى الناس أشكالًا وألوانًا، وأبو زيد يصرخ كل هنيهة: «يا أفندي، باد شاهم جوق ياشا»، فيُضرَب ويسكت.

انتصر له سامي وهو لا يعرفه فهدد بالضرب مثله، وعرضه عليه طعام «القروانة» فأبى.

وجاءت زينة إلى عالية بعد أن سرقت مالًا يكفيها من درج خالتها، وبعد عناء شديد، ومرارة حيرة الغريب المصورة أحسن تصوير، تلتقي بالمعلَّا فيعدها بتوصية صديقه رئيس الديوان رشدي بك، ويمد يده إلى صرتها فيأخذ ليرة ذهبية وأربعة بشالك — تحرير الحساب — ثم يدلها على بيت رشدي بك ويوصيها باللطف والضحك لأن رشدي بك يحب الابتسام … ولجأت زينة إلى نزل صاحبته عوراء فذهب بنومها تلك الليلة تعليلها كل كلمة سمعتها من هذا وهذاك وهاتيك. وفي الصباح، بعد ألف جهد، قابلت صاحبها سامي وبلغته وصية جدها: الإنكار.

وعادت هي إلى ساقية المسك ونقل سامي إلى زندان، فأرسل إليه عمر حمد إحرامًا.

وتعيد زينة سيرتها الأولى، نقل الخضر والفواكه من إنطلياس إلى ساقية المسك هي وأخوها طام — تلك مشيئة خالتها وردة التي أحسنت معاملتها بعد القبض على سامي لسبب يكتمه الأستاذ معها كُتم حتى النهاية. وفي صباح يوم ما تستعين زينة برأسمال اليوم على الذهاب إلى عالية، فتواجه سامي عاصم مواجهة قصيرة ضاق لها صدر شفيق أفندي رئيس الحراس، فقبلت حبيبها قبل أن يخرجها قبلة بلهاء؛ أي «مالت إليه تتشممه ثم مسحت شفتيها بكتفه» (١٢٢).

وسيق سامي إلى الديوان فأجاب بجرأة غريبة قبض ثمنها سياطًا عديدة ولكمات شديدة وبصقات عنيفة، فحمَّ ورأى حلمًا غريبًا أشبه بحلم زينة الذي قصته عليه (١٣٨)، وأفاق على عمر حمد قرب سريره.

وفي الخامس من أيار سنة ١٩١٦ مشت القافلة الأولى إلى المشنقة وبينهم عمر حمد الذي ترك ساعته تذكارًا لسامي. وبلغ المسجونون حكم الموت فقرأه سامي ومزقه وداسه، وجاء رئيس الحراس يأمره بالنوم ولكن بلهجة لا عهد له بها من قبل، فنام.

الغيث: الجاويش كامل أفندي صديق بيت كسار يحوقل في ساقية المسك ويترحم على رفيق سلوم، فيضطرب بيت كسار من وردة إلى زينة، وتسأل وردة عن تهمة سامي فيستفظعها كامل أفندي ويلعن الخسيس الدنيء الذي دل عليه، وينفي ذلك عن طام وبوزيد لأنهما لا يعرفان أين هو، فتقطع وردة الحديث.

وتغدو زينة إلى عالية وتنام عند العوراء وفي نيتها أن تقابل رشدي بك، فتراه في الصباح يشق الشارع على حصان كأنه البرق، واقتفت أثره فأقبلت على جماعة يتحدثون عن فرار شفيق أفندي رئيس الحراس والسجين سامي عاصم بحيلة غريبة: ادعى شفيق أن عنده سجينًا مريضًا فرخص له بنقله فقتل الحارس وفر مع السجين.

وتطاردهما الحكومة فتقتلهما وتعرضهما على الناس مغطية رأسيهما — كما هو مألوف — فتعود زينة إلى البيت حزينة فيخبرها جدها أنها لن تكون فيما بعد عبدة لخالتها المستبدة؛ لأنه رهن البيت بمئة ليرة. فوعت كلامه، ولما غاب قامت تتبع آثاره واحدًا فواحدًا حتى مغارة الخورية، وهناك كانت وقفتها فيها كوقفة امرئ القيس.

وفي ذلك النهار أقبل طام على أمه وردة يخبرها أن راسم بك — صاحبه — يريد أخته زينة، فاستبشرت وردة بهذه الزلفى ورأت فيها باب رزق جديد. وذهبت زينة لمقابلة راسم بك فتوسل باستنطاقها لمراودتها عن نفسها، فأجفلت. فأمهلها إلى غد وأعادها إلى البيت، ولكنها لم تعد فأخذ «الصبحا» رهينة وزينة لم تعد أيضًا. وبينا بوسعيد مرتبك صابر على الإهانة والضرب تعود «الصبحا» إلى البيت ويخبر طانيوس عمه بوسعيد أن زينة عند راسم بك. وتقضي زينة ليلة يهوديت عند اليفانا، فينجلي «الصبح عن راسم بك جثة باردة صريع السم فالمسدس» وتفر زينة وجدها بوسعيد. أما طام فتتركه لأمه؛ لأنه صغير لا يؤخذ بجريرة غيره، فاستاق الجند وردة وطام إلى الثكنة العسكرية حيث أشبعوهما ضربًا فجُنَّتْ وأخذت تزغرد كلما عَنَّ لها ذلك، وزُجَّتْ في السجن فأطبق عليها الجنون لعبث المسجونين بها.

وبعد أربعين يومًا أفرج عنهما فعادا إلى ساقية المسك فتنكر لهما البيت وما يملكان من عقار، فخبر طام أن إبراهيم بك فاخر المرتهن أرسل مَن أخذ المنجور والبلاط، فقصده طام تتبعه أمه كظله، تزغرد وتشمر كلما جاءتها النوبة. ففاز من إبراهيم بك برغيفين أسودين، وعاد طام إلى وكره فالتقى بكامل أفندي فلم يعرفه إلا بعد تأمل، فأمده بالشعير وغيره من جرايات العسكر، وقبل ذهابه إلى ساحة الحرب ودعه بكيسين من الشعير وبشلك واحد، وأوصاه بالاتكال عليه تعالى، وعلله بانتهاء الحرب وسيجتمعان بالشام إن شاء الله.

وفي الغد تذهب الكتيبة فيودع طام كامل أفندي وداعًا لطيفًا، ويعود ليحافظ على الشعير ويخفيه عن بوزيد فيأتيه عمه طانيوس بكيس خبز ليلًا ويسأله إذا كان إبراهيم فاخر أرسل إليه مائة ليرة، وأنه سيرسلها وإلا فالعصابة البيضاء تنتقم منه. فانتظر طام ولم يأت شيء فكرَّ كرة أخرى إلى البيك فلم يفز بغير الخيبة، بيد أنه اختلس دجاجة، ثم طمع بأخرى فأشبع ضربًا.

وتَرِدُ على إبراهيم بك رسالة من العصابة البيضاء لينيل الراهنين حقوقهم فلا يأبه لها، فتحذره زوجته فلا يبالي معتمدًا على ضابط المنطقة وخليل المعلَّا. وفي تلك الأثناء تتورم وردة وتنحط قواها فتنقطع الزغردة وتنثني عن اللحاق بابنها. ونام طام في أحد الأقبية فجاء أصحاب النعش ليدفنوا امرأة ميتة في ذاك القبو، فأخذوا طفلها حيًّا معها وهموا بطام أيضًا فهرب وهو يصرخ: أنا ما مت. فتأتي زينة فترى وردة وبوزيد ميتين ميتة كريهة.

السنابل: وتنطلق زينة بأخيها طام إلى مغارة الخورية حيث عمه طانيوس، وهناك يأكل أكلًا عنيفًا، ويسائل عن العصابة البيضاء مسائل صبيانية فتجيب زينة بمثلها. وفي مساء اليوم التالي يكمنون ثلاثتهم في ضاحية بكفيا. ثم ترسل زينة أخاها طام ليتقصى إبراهيم بك فاخر فلا يذهب الصبي حتى يدوي الرصاص، فتتقدم زينة فترى جنديًّا تركيًّا صريعًا وطانيوس يفتش جيوبه، ثم ترى خليل المعلَّا مشدودًا إلى شجرة، ويقول لها طانيوس تركته لك. فتستبد به وتهم بقتله فيخبرها أن حبيبها سامي عاصم لا يزال حيًّا وهو يحارب في الصحراء والنصر قريب، وأن مصرعه كان حيلة حكومية، وأنه هو مثَّل دور سامي المقتول، فكان حلوان هذه البشارة قبض روح هذا الخائن الخسيس. وينتقل المؤلف إلى وصف الحرب في الصحراء حيث سامي عاصم وصاحبه شفيق يتوقعان نسف قطار العسكر التركي، ويغير سامي بعد ذلك الهول فيسقط فرسه مدقوق العنق ويسلم هو، ثم يرى جنديًّا جريحًا يزحف، فيحاول سامي أن يقضي عليه فيصيح ذاك: أنا عربي مثلك لا تقتلني. وإذا بهذا العربي كامل أفندي فيتعانقان ويعرفه برئيس الحراس شفيق أفندي العلايلي.

وفي تلك الساعة من الرواية تكون زينة على صخرة عند بكفيا وابن عمها طانيوس يكاشفها بحبه وتأبى فيحرد حينًا. وننتقل إلى البادية فنرى كامل أفندي رسولًا إلى الأتراك يخاطبهم بأمر التسليم حتى إذا عاد أطلقوا خلفه الرصاص فلا يصيبون منه مقتلًا. وفي فصل تالٍ يجلس الثلاثة يمزحون مزحًا لا بأس به ويدرسون القضية العربية على ضوء جديد، ثم يذكرون زينة وطام، وتمر طائرة فيتندَّرون.

ونعود إلى لبنان فنسمع طام مناديًا في بكفيا: «إبراهيم بك فاخر يوزع الطحين على الفقراء»، فيتألبون حول بيته وبينهم طام وطانيوس وزينة ثم ينقلب الزحام ثورة تنتهي بحرق بيت الرجل وهلاكه فيه، واختفاء طانيوس.

ويصل سامي إلى الطفيلة في شرق الأردن فيشيع بين أهلها أن الأتراك يزحفون من عمان لاستردادها، فيستعد الأهالي للدفاع عن قريتهم ويهب سامي وشفيق معهم فيسقط شفيق جريحًا لا يرجى فيجهز عليه سامي عملًا بما تعاهدا عليه لئلا يقع في يد الأتراك، ويجلس بعدئذٍ سامي وكامل فيعلل كامل نفسه بدخول دمشق بعد أسبوع، والذهاب إلى ساقية المسك فيرى طام وزينة.

واعتدى الأسرى الأتراك على الأهلين فأصدر القواد أمرهم بإفناء الأسرى، ويتوجه سامي إلى المزيريب وهناك يثأر لنفسه من رشدي بك رئيس الديوان العرفي فيقتله شرَّ قتلة، ثم سوَّى الأتراك صفًّا واحدًا وعرضهم على البنادق فحصدتهم. وركب فرسه متجهًا صوب العسكر فرأى العراك حاميًا والأهالي يهجمون غير منتظرين أمرًا حربيًّا، فهجم وراءهم القواد بالسلاح الأبيض وكان سامي في طليعة الهاجمين وظل يهجم حتى قتل.

الحصاد: فاز العرب ودخلوا دمشق ظافرين، وانهزم الترك وجاءت زينة إلى بيت الوراق عند كامل أفندي فقص عليها أمجاد سامي وكيف مات وهو يذكرها. وقد سلمه تلك الأمانة — الذخيرة التي علقتها في صدره — فتأخذها زينة وهي كأنها لا تسمع ولا تعي ولا تحس، وتستفيق على أخيها طام يعالج يدها ويسألها: أختي، أختي، ما هذه؟ فتقول: لا شيء.

فما أروع هذه اللاشيء، وسيأتي درسها.

أشخاص رواية «الرغيف»

لا بد من كلمة نعلقها على هامش «عرض الرغيف» قبل أن نتخطى إلى درس أشخاصها.

ظلت الرواية متماسكة متصلة في مراحلها الثلاث الأولى — التربة، البذار، الغيث — حتى إذا ما أسبل الرزع وأحبَّ — السنابل — بعدت الشقة ما بينه. فكأنما تنقُّل زينة بين عالية وساقية المسك قد بقي خيطًا سريًّا يربط الحوادث فما انفصمت. وإذ انشق المسرح شطرين واحدًا في الصحراء، وآخر في لبنان، انتقص الاتصال الطبيعي الذي نعمت به الرواية طويلًا، فكاد ينقطع السياق أحيانًا انقطاعًا مفاجئًا يشبه «دع ذا» النابغة.

ليس ينبغي لنا أن نؤاخذ المؤلف على هذا التقطع مؤاخذة عنيفة، فكم له من ضريب في روايات ذوات مقام رفيع في عالم الأدب، غير أننا كنا نتمنى أن تظل الرواية تعدو الجمزى ولا تطير هذا الطيران المتقطع. فالرغيف غنية بالحركة المنظمة، وجري الحوادث لا اصطدام فيه ولا زحام، منظم كخطط السير في العواصم. ولكن هذا البون الشاسع بين الميمنة والميسرة (كما في رقم ١١، ص٢٨٧) ذهب بشيء من الاتزان الفني. وقد نبتت على جذع الرواية بعض أغصان كان الأولى أن تمتلخ (مثل رقم ٢، ص١٥٥). أبدعها المؤلف إكرامًا لعيون زينة «التي تذبح ذبحًا» لتعلم على الهينة فرار سامي. المشهد جميل، وحواره واقعي، ولكنني رأيته أليق بالمسرحيات منه بالقصة.

وكأني بالأستاذ عواد طمَّاعًا أراد أيضًا أن يزيد على روايته الممتلئة كالرمانة، مشهدًا آخر، فصور لنا الاحتفال بدفن المسيح والتنافس على قطف الأزهار، ولكن ذلك كان بعد فوات الوقت. فالمسيح لا يتضحَّى بل يشبع نومًا ويقوم قبل هذا الموعد، عند الكنيستين الغربية والشرقية، ناهيك أنه في العام الذي يؤرخه صاحب الرغيف، قد قام باكرًا (٢٣ نيسان). هذه مسألة «طقسية» ولا بأس على توفيق إن فاتته، ولكن زميله أناتول فرانس عندما كتب «تاييس» لم يسلم من مطالعته كتاب ديني حتى خلق بفنوس الشهير. احتاج إلى شيء فني فاستعاره له من قصة سمعان العمودي، والقصصيون كالجيران يستعيرون من هذا لذاك معجزات وحوادث لا حوائج ومتاعًا.

ويلحق بهذا الباب جعل صاحبة النزل في عالية عوراء. كل ذلك لتتشكى من الترك الذين يقولون للمرأة السوقية «عورات»، ظانة أنهم يعيرونها عورها. تلك رغبة ملحة عند أكثر الروائيين لم يسلم منها توفيق، على ما عنده من حذر فني، فظهرت في رغيفه بعض بثور سببها الإكثار من الخمير.

الأشخاص: بالأشخاص تحيا الرواية وبهم تتحرك، وأصعب أعمال الفن الروائي خلق شخص حيٍّ، أما كيف يخلق الروائي هذا الشخص — الحي الباقي — فمَن يعلم؟

قل لي ماذا نفعل لنخلق ولدًا نابغًا أقل لك ذلك. قد تحيي الشخص بضع كلمات وقد تقضي عليه جمل فصيحة يحسب المؤلف حين مسح القلم منها أنه استراح كالله في اليوم السابع. وقد يخلق الصمت بطلًا يعجز عن تصويره الكلام، والشخص الذي نعنيه هو الذي يخرج من بين سطور القصة ليسايرنا ويعاشرنا حتى نتوهم أننا سنلتقي به في طريقنا، أو في إحدى الساحات العمومية، أو في الحقل بغتة، كأبي سعيد مثلًا؛ فهو أقل أبطال الرغيف كلامًا وليس دون خيرهم حياة. لا يفطر هذا الخلق البديع إلا مخيلة قوية وذاكرة لاقطة تتجمع لديها العناصر فتكوِّن منها شيئًا واحدًا يصير لها، كما يستمد الابن خواصَّه المادية والمعنوية من أبيه وأمه وجدوده وجميع رهطه. فليس لنا أن نقول بطل هذه الرواية مثل ذاك، فالناس تتشابه. وأبطال القصص ناس عالمهم الكتب ومسبحهم أخيلة البشر، والاستعارة لا بد منها، فالمرء يعجز عن الخلق من العدم. لا بد من أن تتلاقى بعض عناصر أولية. وتلك الدنيا الآخرة أَلَا تريناها الكتب المقدسة كأنها صورة عن دنيانا؟

إن العناصر المتكدسة في مخيلتنا كالبضاعة في مخازن الجمرك تعمل جميعها في تكوين أبطالنا، كما تتشارك عناصر السلالة جمعاء في تكوين مولود جديد. فإن نبغ فهو ابن أولئك كلهم ولكنه غيرهم في كل حال.

وإذا نظرنا إلى أعظم الروائيين رأينا في أبطالهم بعض ملامح مَن تقدموهم. فمنهم مَن أحسن الخلق فرزق نابغة، ومنهم مَن رأينا بين ولدهم بلهًا، وكتعًا، وعورًا، وحولًا، وحدبًا، ومقعدين، وسحنًا مقلوبة. لا نعني بهذا أن يكون الشخص — الروائي — جميلًا محبوبًا ليكون خالدًا؛ فقد يكون الجميل المهذب النبيل شخصًا يتحرك كاللعب تحركًا آليًّا، وقد يكون القبيح المكروه شخصًا عبقريًّا — في فصيلته — نتحدث عنه كأحد الناس، وهو ابن مخيلة مبدعه.

قال أحد مشاهير كتَّاب فرنسا القصصيين، ألفونس دوده: «فرح الروائي الحقيقي أن يخلق أشخاصًا إنسانيين يتجولون بين الناس بأسمائهم وحركاتهم وسحنهم التي طبعت فيهم، فيتحدث الناس عنهم — ببغض أو حب — بقطع النظر عن خالقهم وبدون أن يذكروا اسمه. فما أشد فرحي حين أسمع الناس يتحدثون عن واحد من ألوف اللعب الآلية في مهزلة الحياة السياسية أو الفنية أو العالمية فيقولون: هذا تارتارين، هذا مونبافون، هذا ديليبيل. إن هزة تعتريني حين أسمع ذلك، هزة كبرياء أبٍ غير معروف من جماعة يصفقون لابنه إعجابًا؛ فهو يتأهب في كل هنيهة ليهتف: هذا ابني!»

أولئك هم الأشخاص الذين يتمنى الروائيون أن يرزقوهم، وما أرى توفيق عواد إلا أبا واحد منهم إن شاءت آلهة الفن. فعنايته بشخوصه أكاد ألمسها بيدي؛ فهو يدور حولهم كالمثَّال وفي يديه الثنتين أزميله ومطرقته. غير أني أرى الناس يرغبون اليوم في تحديد النسل هربًا من مئونة التربية الثقيلة، بينا توفيق عواد أكثر تفقيصًا من الجرادة، حتى أنه لم يحرم نفسه ولا أهل البيت الظهور في روايته، ومَن كان الدفتر في يده لا يكتب نفسه من الأشقياء. لقد خلق في رغيفه دنيا من الناس وأدى أفكارهم جميعًا.

تعود الروائيون أن يتقمَّصوا أحد أبطالهم، أما توفيق — في رغيفه — فهو في كل واحد وليس واحدًا منهم، وهذه أولى مزايا القصصي.

فأبو سعيد لبناني محض — فلاح مكفي سلطان مخفي — كأنه مقدود من جلاميد لبنان، يستقبل الضربات بجبهة لا تنخفض كأنها السندان — العلاة بلغة جدِّنا طرفة — جلد صبور ينحت الصخور ويفتتها كأسلافه اللبنانيين ويصيِّرها جنانًا تطعم تينًا وعنبًا، وتكسو دمقسا مفتلًا كالذي شبه به امرؤ القيس بعد حمَّام دارة جلجل … ملتصق بعقاره كأنه أحد صخوره، مغروز في بيته كأنه عموده. إن ترك عادة من عاداته كقلع ضرس من أضراسه. لا يحلو له اسم حفيده طام؛ لأنه لص سميَّ قديس — مع أن كنيته احتجاج صارخ على توفيق — مولع ببقراته كأنها من العيال، يرغمه ابنه المتأمرك على بيعها فيبقي «الصبحا» يتسلى بها عن أخواتها، وتصير إحدى بطلات الرغيف. إن عالم الروائي ككرسي الله الذي وسع السماوات والأرض، فيه الفصحاء وفيه العجماوات. تأبى يد أبي سعيد الخشنة أن تلطخ بعار، فيضحي بكل ما يملك ولا يدنس عرضه. يرى كرمه يقطع ويخرب فلا يبالي. يساق تحت الكرباج ليتلف ما غرس بيديه فيفعل ذلك صابرًا على كل هذا لتسلم النعجة من براثن الذئب … وأخيرًا يموت كنابوت الأزراعيلي الذي لحست الكلاب دمه ولم ينزل عن كرمه. أما أبو سعيد ففدى عرضه بكرمه وآلامه وحياته، بيد أن صاحب الرغيف أخفى أثره عنا فيما أخفى، ولتوفيق مطامير فنية سنتحدث عنها.

وأبو سعيد ككل جد، بر بحفيديه زينة وطام يعوضهما مما فقداه من حنو الأب والأم.

أما وردة فمرأة رأسها يابس وعينها شاردة، مقطعة وموصلة، وقحة مستبدة، رُبيت في حجر أب سكير أكول كسلان، حازت دكتوراه أدب المعاش من أميركا — بمدة وجيزة — فعادت متفلقحة ذات عينين ساخرتين بالحياء والخفر اللبنانيين، تغوص على القرش في أقذار البواليع وتذل لأجله ابنًا طاهرًا وبنتًا نقية، تضحي بسامي عاصم لتصرف زينة إلى زبائنها وتتصيد عليها — وهذا من مطامير توفيق — ولهذا انتقم المؤلف منها فجننها جنونًا مزريًا وجعلها تزغرد وتشمر بكرم فضاح كيمنية الريحاني، كلما جاءتها النوبة. ثم أماتها ميتة الكلاب.

زينة: بنت يتيمة الأم رُبيت في ظل جدها، ثم عاد أبوها من أميركا يحمل إليها هدية نفيسة — خالتها وردة — ما عرفنا زينة إلا فتاة تشتهي وتحب سامي عاصم، وهي في كل أطوارها صبية لبنانية حصان، أنوف، أجفل من النعامة، شعارها الكلمة اللبنانية: زينة البنت عفتها. شبت مقهورة تكاري عليها خالتها، بين إنطلياس وساقية المسك. فتعمل مطيعة متغذية بحب سامي. محبة أكثر منها محبوبة، كما يظهر. نراها مؤمنة ساذجة تعلق ذخيرة عود الصليب في عنق سامي بإيمان وحب صامتين، ثم لا ترفع بصرها إلى «فوق» إلا مرة كما أذكر. تقبِّل حبيبها قبلة رهبانية، وتتمسح به كمن يستلم الركن استلامًا. ثم تنقلب سفَّاحًا، رئيسة عصابة، تقتل الناس بلا رحمة وتحرق البيوت بقسوة بربرية.

ليس توفيق مسئولًا عن زينة؛ لأنه لم يذكر لنا شيئًا واضحًا عن نشأتها، وما زال الأمر كذلك فكل ما تفعله لا ينفيه خلق سابق خصها به. لها أن تمثل دور يهوديت قاتلة اليفانا فتقتل راسم بك، ولها أن تقطع الطريق فتقتل الجاسوس، ولها أيضًا أن تحرق بيتًا بما فيه في بكفيا، كل هذا لا اعتراض عليه فنيًّا، أما إقليميًّا وطائفيًّا فمسألة فيها نظر. فزينة، كما رأينا، جان درك ثانية تصلح أن تكون سر عسكرًا ومارشالًا. وما زالت البنت كذلك في لبنان فكيف ننعى للملأ شجاعة رجاله؟ ليته جعلها من الصرود فتدنو من هذه القسوة العبقرية والجرائم الصارخة. ومع هذا فقد تكون اكتسبت هذا من سامي عاصم كما تعلمت أمَّ غوركي من ابنها وصارت مثله. إن هذا مستحيل ممكن نترحم بمناسبته على الشيخ يوسف الأسير صاحب البرهان المشهور!

طام: أخو زينة لأبيها — نشأ طفلًا مدللًا لعوبًا في كنف جده أبي سعيد، والمثل اللبناني يقول: ما أعز من الابن إلا ابن الابن. الولد غرٌّ حَذِر في وقت معًا، حمَّلوه سرًّا ونسوا المثل: خذ أسرارهم من صغارهم. وفيٌّ ودود يعاف، على صغره وجوعه، جوز راسم بك وزبيبه انتصارًا لكامل أفندي. يعيد البشلك الأبيض — الذي هيأه توفيق لاستقباله — أنفة واستكبارًا، يبكي بكاءً مرًّا لكلمة أفلتت منه وهي لا تضر ولا تنفع. أحط الجوع خلقه فسرق ليأكل، ولكنه كان يوسفًا ثانيًا حين راوده السجان، واستقتل على ضعفه وخوره في صد كركور عن عرض أمه.
أبو زيد: صديق وردة — بغتة — يعاونها على أشغال حانوتها، بدين، قذر، سكير مزعج، ولكنه بطل رواية حقًّا، صوره توفيق صورة أخالها قبالة عيني، يتمايل بغنبازه المشقوق. وما أكثر أمثاله الذين يعترضوننا في السكة. لا يعرف ما في تصوير أبو زيد من صدق إلا مَن له عينان، كأن المؤلف أقام ليالي وجُمُعًا حيث يكون أمثاله ليخرج هذه الصورة النادرة التي أتمها في عالية حين كان يصرخ في السجن: «يا أفندي! باد شاهم جوق ياشا.»
خليل المعلا: شنيع الصورة أحفى الجدري شاربيه، ابتسامته خبيثة كريهة، وضحكته نسناسية، جعل المؤلف في وجهه سيماءه الدالة عليه، جاسوس وقوَّاد للأتراك في وقت معًا، استأثر بالانحطاط كله ولم يترك لأحد شيئًا، وما أجدره، ساعة صرعته زينة، بالكلمة التي قالها إبليس دانتي ليفينيديكو: اذهب أيها القوَّاد، فليس هنا مَن تبيع عرضها.
سامي عاصم: ابن تاجر بيروتي، لا يعرف كيف يحب، والعهد بهؤلاء خريجي مدارس عالية … إلا إذا كان الفزع يطيِّر الوجع كما يقولون. تجاوز مقدار الشجاعة والنهى بقتله الجندي التركي، وخصوصًا في الدفاع الأهوج بالديوان العرفي. ينظم الشعر ليحرض الناس على الثورة، ولكنه لا يرضى عن شعره الجميل فيكتب ويمحو. تعوز شعره القوة — كشعر بشارة الخوري القومي — ولكنه أعاضنا ببطولته وموته في الصحراء من ذلك الشعر الرخو.
كامل أفندي: شاب شامي، يدل تركيبه على أنه أهبل، ثم يحل في الصحراء مشكلة حربية، مسلم مؤمن، مواظب الخمس لأوقاتها، يطفح صدره يقينًا، متكل على ربه — قُلْ لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا — يهلل في الصحراء ويكبِّر ويصلي ويسلم كأنه في الجامع الأموي، ويجاهد كأنه مع النبي في وقعة بدر. كبير الأمل بفلاح العرب، طيب القلب متردد في غشيان كل ما يسيء إلى إسلامه، وهو إلى كل هذا يرى الخلق كلهم عيال الله. يترحم على صديقه رفيق سلوم المسيحي من كل قلبه.
راسم بك: قائد الجيش، رجل خمسيني مديد القامة صليب العود فاسق أدعر، متعجرف مهاب، قاسٍ يأخذ الناس بالشبهات، منتقم لا يعرف الرحمة، شديد الوطأة على الجيش كأنه زياد أو الحجَّاج.
رشدي بك: رئيس الديوان. صورته الأخلاقية والخلقية وخصوصًا «فكه السفلي» تعيد إلى ذاكرتي وجه رضا بك رئيس الديوان العرفي الذي أرعب لبنان ما خلا الجميلات — فهو الذي يعنيه توفيق لا غيره، وصفته معروفة منا وتشهد بها الكتب.
شفيق أفندي: رئيس الحراس رجل يظهر ما لا يبطن، مسيَّر لا مخيَّر، تركي لباسه، عربي قلبه، يمضه الاستبداد ببني أمه وعمه، ويسكت على مضض، جريء مغامر يدبر الأمور ويحكم الخطط.
طانيوس كسار: لم يعطه المؤلف شيئًا مما وهب لزينة بنت عمه؛ فهو في وادٍ وهي في واد، أمانيه ضيقة لا تتجاوز الكيس، مكاري جلف لا يقاتل للمثل العليا، كسول غير شجاع «يعتاض عن سلاح الأسود بسلاح الثعالب.»
إبراهيم فاخر: بيك عتيق، وآدمي طازه، ضيق العينين كأنه من خزر تغلب، متكالب على حطام الدنيا، غني صخري القلب، جبان يثق بالحكومة وبحمايتها للعباد، امرأته عقيم، والمثل اللبناني ينفي عن مثله الكرم. خروج القرش من جيبه وطلوع روحه سيَّان، وهكذا كان.

هؤلاء أشخاص توفيق العاملون في جمعية «الرغيف»، أما أعضاء الشرف وغيرهم فما يتسع البحث لدرسهم كلهم، وقد يكون عددهم كثيرًا، ولكن الأبطال لا يكثرون على توفيق فدواهيه تبددهم وتطهر الأرض منهم؛ فهو:

يمشي وعزرائيل من خلفه
مشمِّر الأردان للقبض

لم يسلم من كل مَن حشد في روايته إلا ثلاثة: زينة وطام وكامل أفندي. فالأستاذ روائي سفاح، زملاؤه كثر في عالم القصة. كانت وطأته على أبطاله ثقيلة، فما أبقت عليه المجاعة والديوان العرفي أفناه هو. ليس يعنينا هذا فالفاخوري مسلط على طينه.

إذا كان الإنسان ابن نشأته ووليد بيئته الأولى، كما قال الدكتور أدهم وعلماؤه، فتوفيق لبناني مهما تَبَيْرَتَ. فهؤلاء أبطاله في روايته «الرغيف» وقصصه «الصبي» «والقميص» — إلا أقلهم — من أبناء الجبل. صوَّرهم تصويرًا رائعًا صب فيه كل ما أوتي من قوة فنية فجاءوا واضحين مميزين متساوين في العظمة والكرامة. كان التصوير ناتئًا حتى النفور، والتظهير متقنًا حتى التقوية، وللعين العمل الأكبر في ذلك. معظمهم قرويون أو يشبهون القرويين. وجلهم أو كلهم من السوقة، وتوفيق اختصاصي بدرس هذه الطبقة وتصويرها. وأوسع أشخاصه ثقافة وعلمًا هو سامي عاصم. يزجهم توفيق في مآزق حرجة ويجعلهم شهداء ليستفز الضعفاء فينهضوا، وهذا هو هدفه في روايته وقصصه، يجري في هذا وراء غوركي الذي قلما سلم له بطل.

يعجبني من توفيق أنه لا يرسم لك أبطاله دفعة واحدة، بل عليك أن تلتقط صورهم من هنا وهنالك، إنه لا يعطيكها جرعة واحدة بل متقطعة كالدواء، وبعض الأحيان يهمل كل هذا فتدلك عليه القرائن، وهذه طريقة لا بأس بها. كثيرون من الروائيين الكبار — ديماس مثلًا — يصورون أبطالهم بلسان الآخرين منهم، وهكذا تظل حركة الرواية مستمرة، فلا يحس القارئ جمودًا أو وقوفًا.

إن أشخاص توفيق مكتنزو الأجسام، أقوياء البنية — فنيًّا — لا يحتاجون إلى الفوسفات وزيت السمك؛ ففي مطبخ أبيهم الفني خيرات كثيرة.

حول «الرغيف» وأشياء أخرى

اللهم، اسقنا سقيًا نافعًا، اللهم، حوالينا لا علينا لأن الفاضل ضار.

لا أدري أهي حديث شريف، أم كلمة مأثورة، وقد تكون آية. ولكنها، كيفما دارت بها الحال، تصلح دستورًا عامًّا لكل شأن ولا نستثني الآثار الأدبية. فكما يستبشع القزم كذلك يستشنع الذي هو فوق الطويل كالشمروخ الغرانق.

أجاد الأستاذ عواد في الحوار — لولا التمغيط أحيانًا — فكسا روايته لونًا خاصًّا هو ألزم حاجات الصائغ الفني ليموه به ويطلي آثاره. والفن هدف صاحب «الرغيف» فيما ألَّف وصنف. فالخيال والواقع صنوان في حواره. إن الحوار معضلة الفن القصصي، وهي تشغل حتى الأوروبيين الذين يكتبون، تقريبًا، كما يتكلمون. فغير الباريسي مثلًا، لا يحسن أداء حديث الباريسيين بالضبط، ومَن طالع قصص موبسان الإقليمية يدرك كم سعى هو وأتباعه ليجعلوا العلاقات بين أبطالهم كالتي بين الناس قولًا وفعلًا.

قد شعر شيخنا الجاحظ بهذه الحاجة الفنية فقال في كتابه «الحيوان» (ج١، ص١٦١): «وأنا أقول: إن الإعراب يفسد نوادر المولِّدين كما أن اللحن يفسد كلام الأعراب.»

لا بدع أن أدرك أديب كامل كالجاحظ سلَّحته الطبيعة بذوق كامل، أن هذا الشر لا بد من وقوعه. إنَّا نقدر له هذا الرأي الأصيل وإن كنا نقبح حوارًا عاميًّا كالسيل الجارف مثل حوار الأستاذ توفيق الحكيم في «عودة الروح». هذا الحوار الذي أطراه السيد صلاح ذهني في كتابه الظريف «مصر بين عهدين» فحوار كهذا لا يعجبني. إنه جناية على اللغة الفصحى التي هي رابطة العرب، ناهيك أن غير المصري لا يتذوقه، بل لا يفهمه، ونحن نريد أدبًا عامًّا. قد سألت طلعت باشا حرب قمع هذه الفوضى، فكتب واعدًا أن يتدبر ذلك فيما يخرجه ستيديو بنك مصر من مسرحيات لتتذوقها الأقطار كلها.

وبعد هذا زعم كاتب نقد أقاصيص توفيق عواد في المقتطف: إن البائع الجوال في شوارع القاهرة ينادي على سلعته «عندنا نفتالين يمنع العث من الملابس»؛ ولذلك يخالف هو «مَن يدعو الأدباء إلى مخاطبة الدهماء بلهجتهم ومصطلحاتهم وتعابيرهم.» إنه يريد أدبًا رفيعًا، حتى في الحوار، ولو جاء كالضبط بالشكل الكامل في الجمع والضرب والقسمة.

قلنا: إذا كان هذا الكلام على لسان البائع فأسلوبه أولى مع مراعاة الأصول؛ لأن الرواية صورة الحياة، ولكن سر الفن ليس هذا بل في وضع الشيء في محله. فإنشاء المؤلف وطريقته القصصية وتخطيط روايته تؤلف كلها، مجتمعة، أثرًا فنيًّا. وإذا اجتمعت للمؤلف الموسيقى الكاملة والخلق المتناسب الملتحم، تألفت وحدة صادقة الدلالة والتعبير وهذا هو الأثر. فكم يأتي أفصح الكلام نابيًا وأرذله فصيحًا مليحًا! فالحكمَ هنا هو الذوق الفني ليس غير.

إننا ننكر على ناقد أقاصيص توفيق عواد قوله: إن في لهجة مصر طواعية لهجة الأقطار وخصوصًا اللبنانية، وقد أحسن توفيق عواد وأجاد استعمالها في أقاصيصه وروايته، ولولا يمعن توفيق في تهذيبها لطابق حواره الواقع كل المطابقة ولم تخسر الفصحى ولا أسلوب العرب مثقال ذرة.

جاء في «الرغيف» (ص١٨): «وحاول القيام بكأسه — الضمير عائد إلى بوزيد — فوقعت على الأرض وذهبت شظايا، فانحنى يلمها ويبوسها متباكيًا: يا حرام، يا حرام!»

فتجيبه وردة: «كُلْها كُلْها. عسى أن تموت.»

أن «يبوسها» لا تلائم «ذهبت شظايا» ﻓ «يقبلها» هنا أفضل، و«التقطها» خير من «لمَّها». أما «يا حرام، يا حرام»، فطبيعية وجميلة جدًّا في هذا المقام، وكذلك قول وردة: «كُلْها، كُلْه»، أما «عسى أن تموت!» فجافية وفي المكنة الهرب منها إلى: «ليتك تموتَ» فيقضى الأمر الذي يرومه المؤلف ويوفق بين الفصيح والعامي من الكلام.

وفي (ص١٩) يقول بوزيد أيضًا: «قدح واحد بعد! يدفعه عني الخواجة.» فلو قوَّله: «أعطيني قدحًا آخر! الخواجة يدفع لك ثمنه.» بل لو قال: «هات فرد قدح!» لجاء التعبير عاميًّا فصيحًا، ومَن قرأ الأدب القديم رأى أن مثل «فرد قدح» ورد كثيرًا في كلامهم.

أما قول وردة: «من أين لي العرق؟» فأكثر من جميل، أما: «هل أنت مجنون؟» فخير منها: «آنت مجنون؟»

ومثل هذا ورد عن الفصحاء. قال النبي لأعرابي كان عنده: «أعطني السكين!» فأجابه ذاك الذي لا يعرف ما السكين: آلمدية تريد؟ والعبارة التي تليها: «رح أكمل سكرتك حيث بدأتها.» لا تحتاج لتصير كالواقع إلا إلى حذف همزة أكمل فتصير: «رح كمَّل سكرتك حيث كنت.»

وفي الصفحة (٢٠) يقول بوزيد أيضًا: «أهذا عرق أم لا، شمَّ شمَّ يا خواجة!» هذا جميل، والأجمل حذف الهمزة. ثم قوله: «عرق وردة كسار رائحته كالمسك، سترى أنها تصب لي قدحًا آخر.»

هنا يجب حذف كسار فليس بوزيد متى الإنجيلي يكتب إنجيل السلسلة. وإبدال الكاف بمثل أولى بعشاق الواقع، وهو لا يضر أسلوب العرب شيئًا. ثم لو قال: «ريحة عرق وردة مثل المسك» لكان كالواقع بعينه، فهذه السين وأختها سوف، وهمزة الاستفهام، وبنت عمها هل، وغيرها كالكاف وأترابها قد عافها اللسان العامي الذي يهذب الخشن ويثقف المعوج.

ويصف توفيق عواد عيني زينة وفمها فيقول: «لها فم كالفستقة، وعينان تذبحان ذبحًا.» الوصف جميل وهو من كلام العوام الطيب، ولكنه يحتاج إلى تحرير أيضًا يخلصنا من ألف التثنية، ناهيك أن محله على لسان وردة أو أحد الأبطال يكون أبلغ وأوقع.

هذا رأيي في الحوار، وقد قلت أكثر من مرة أن لهجتنا اللبنانية أطوع اللهجات وأقربها إلى الفصحى. نحن في هذا البلد نكاد نتكلم لغة الكتاب الكريم، وفي كلامنا وعلى ألسنتنا الكثير من كلماته وتعابيره. لا يتسع المجال لتحوير غير هذا من حوار «الرغيف»، وقد أحسن الأستاذ عواد؛ إذ تعمد التوفيق بين الأصول والواقع فأرضى الفن ولم يسخط الأخفشيين.

وأذكر أخيرًا عبارة جميلة قالها طام لأخته زينة: «تجننين أنت يا أختي.» ما أبشع هذه النون المعلقة بالفعل كهنٍ بذنب هر. قد قضى الإعراب على توفيق أن يتعلق بها، وماذا تريد أن يقول؟ فلو قال: «جننتينا يا أختي»، كما نقول بالحرف، لعلت صيحة الغرِّ الميامين حماة أسلوب العرب وأخرجت صدورهم أثقالها. أما الحلُّ فعند الجاحظ وعندي. قال مولانا الجليل في كتاب «الحيوان» (ج٤، ص٣٣): «وقد يقول العاشق لمعشوقته: يا معذبتي، وقد عذبتيني … إلخ.» أما الذي عندي فكما قالوا عذبتموهم وأعربوا الواو ضمة مشبعة، فلنقل عذبتيني، ونعرب الياء كسرة مشبعة. وسوف أستعملها حيث أضطر إليها وليشق المتعنتون رءوسهم، فداود أكل خبز التقدمة لما جاع. ما لنا نضع في رقابنا هذه الأغلال ونصرخ شاكين الجور؟ فلنحطِّم ما لا يضر تحطيمه، فلنلجأ إلى القياس كما فعل الصحابة بعد موت النبي، ولا بأس بالاجتهاد اللغوي فليست اللغة أقدس من الشرائع المنزلة؛ دليل الحياة الأبدية.

إن أقاصيص عواد وروايته «الرغيف» تكاد تكون أصدق الروايات العربية حوارًا، ولا نؤاخذ مؤلفها إلا بإسفاف حين يتكلم هو، أو أخطاء لغوية ونحوية كثيرة يجب على كاتب كتوفيق عواد أن يتجنبها. إن أسلوب «الرغيف» كالرغيف له وجه وقفا، يلتقي فيه توفيق عواد الصحفي بتوفيق الشاعر، وقد استغربت إذ رأيته يقف على قمة الإبداع في وصف الطفيلة التي لا أظنه رآها، بينا هو لا يعرض علينا بضاعة من تلك البابة إذ يصف المواضع اللبنانية. وإذا كانت القصة ضربًا من «الرابورتاج» كما يحددها بعض كتَّاب أوروبا فتوفيق قاص من الطراز الأول. في رغيفه غذاء لأوساط الناس ولا يعجز السوقة عن تذوقها، أما المفكر فله منها النتائج التي طمرها المؤلف، له الغاية التي كتبت لأجلها.

لا أزعم أن الرغيف دليل على الطبيعة الإنسانية كاملة النقل يقرؤها الأديب كل عام ولا تفرغ، ولكنها في كل حال تصور حقبة نادرة الوقوع خرجت فيها الطباع عن مألوفها، وسيبقى لها قراء في الغد يعلمون منها أن الجوع فضَّاح، وأن المثل اللبناني القائل: «ما أحد يموت من الجوع»، غير صادق. قد يلاحظ قارئ الرغيف أنها كخبز نهر إبراهيم مرققة حتى الهلهلة، وعلة ذلك أنه قرأ أقاصيص توفيق، والأقصوصة ملخص أو خلاصة، ولذلك يؤاخذ كاتبها أكثر من مؤلف الرواية؛ إذ عليه أن يجمع النور في بؤرة العدسة ليكوي ويحرق. أما الرواية ففيها ألف بؤرة وفجوة على القصصي أن يملأها، ولماذا نهرب من قول كلمة حق؟ إن توفيق عواد القصصي أبرع من توفيق الروائي.

يعجبني من توفيق هذا الرسم والجمز والرمز — لا أعني بالرمز تلك الفقاقيع — فالأشخاص ترد إلى ثلاث أربع ضربات أصلية يعبر عنها ببضعة أفعال، أما ما بقي فيترك. فالقراء الأذكياء يميزون الشخوص ونحن لا نكتب لهؤلاء. «فلنأخذ الجوهر ونخرجه للقارئ بأفعال مقنعة متضامة مختصرة تلخص الحياة وهذه هي غاية الفن» هكذا علم النقَّادة «تين».

قد أهمل توفيق عواد تصوير بضعة أشخاص ولكنه جعل أعمالهم تدل عليهم، أما الإغراب في كل الأعمال الأدبية فمرجعه طبعه، فعلى وجهه سيماء المغامر المعارض. فكيف نصدق نحن الذين رأينا لبنان يموت من الجوع أن تقوم فيه عصابة بيضاء أو خضراء تفعل ما فعلته على رمية حجر من ساقية المسك، مركز قيادة الجيش الهمايوني المظفر؟ وهل يصدق ذلك كاتب مدخل الرغيف؟ وهو لو فكر لم يجعلها تحت ذقن الوالي!

ليس هذا الإغراب ببعيد التصديق لو لم يختر توفيق ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، كما يقول مار بولس عن ربه. بل لو استطاع أن يطلسم المستحيل، فالطلسم الفني عُدَّة القاصِّ، وآلته أن نتكلم مؤمنين بما نقول وإن روينا مستحيلًا كفعل دانتي في «جحيمه» (ف٢٣، شعر ٣٧) والمعري في «رسالته». قد يكون الذنب ذنبنا؛ لأننا رأينا بأعيننا ما وقع في ذلك الزمان، ولكن غيرنا لا يصدق مثلنا لأن التاريخ لا يموت. إن الكذب ضروري للفن؛ إذ لا فن في الخلق الصحيح، وتوفيق لم يقصر في هذا ولكنه تجاوز فيه الحد — حوادث زينة.

أجل إن الرواية غير التاريخ الصحيح، والروائي متافيزيكي، والعلم لا يكون فنًّا، أما المتافيزيك فدائمًا فن. والفن يفوق العلم وإن لم يكن له تحقيقه، والشرط الأول أن نحسب حسابًا للقارئ فهو يرفض المستحيل مهما خفَّ عقله.

أما الجمز فخاصة فنية طريفة لم يعدمها توفيق؛ فهو ينتقل ولا يبالي، يترك كثيرًا من العرض، وهو لو فصل كل شيء لكان حكَّاء لا روائيًّا بالمعنى المعروف. إنه يعتمد كثيرًا على ذكاء القارئ فيدع له الاستنتاج، ولكنه غالى في هذا فترك مطامير كثيرة، وحفرًا غير مطمورة؛ فهو كالحاصد يقطع ويرمي وعليك أن تجمع. فمن مطاميره: الدلالة على سامي وموت أبي سعيد، وموت سامي، وكيف احتفى طانيوس، وماذا حل بالبيك الجليل وأهله، ولكنها خفايا غير عويصة، وهي عندي أفضل من التصريح الوقح واللت القبيح.

أما الرمز فهو في التهيئة التي يلوح لك بها توفيق من بعيد؛ ففي رغيفه معالم خفية يظهر شأنها فيما بعد، وبها يعد أبطاله للعمل كما هيَّأ رشدي أفندي للعطف على سامي. إن أكثر أبطال توفيق مهيئون بلباقة دقيقة فكأن القضاء والقدر في شق قلمه. أما دلنا على أن سامي عاصم لم يقتل حين قوَّل خليل المعلا: «هيبة الدولة كم مرة أنا أنقذتها» (١٧١). ومثل هذا تهيئة طانيوس (١٨٠) … إلخ.

وكذلك ترحم كامل أفندي المسلم على رفيقه سلوم المسيحي دون سواه.

أما التحليل عنده فممزوج بالتصوير. خذ مثلًا مشهد سامي عاصم في مغارة الخورية، فهناك تحليل وتصوير. وخذ مثلًا آخر زينة في عالية (ص١٦٤) وما قبلها؛ ففي هذه تحليل ظريف وتصوير بارع لحيرة الغريب ونفسيته. فهذا المشهد في نظري أبرع مشاهد «الرغيف»، بل خير ما فيها على ما فيها من خير. أما اللون المحلي فعام في الرواية كلها، فرقم ٦ (١٧٥) فيه شعر ووصف نفيسان، ولتوفيق نبرات إنشائية تكاد تكون شخصية ولكنه يعلو فيها ويسفل كالسنونو. ويعجبني فيه أنه لا يفكر بالرواسم، فعسى أن تتفق هذه النبرات في قابل مع أخواتها.

أما التناقض فكثير عند أبطاله، فزينة التي دل تعليقها الذخيرة في عنق سامي على إيمان متين، لم نرَ فيها فتاة مسيحية متدينة، فهي في أحرج الساعات لم ترفع بصرها إلى فوق — اللهم إلا مرة واحدة — مع أن النساء من طبعهن التدين والصلاة كما نرى في بطلة البعث لتولستوي. كانت تترك صلاتها لتقضي حاجاتها ثم تعود تصلي ساجدة للأيقونة، إتمامًا للفرض! وأحد أبطالنا المحليين كان يستوقف أبناء السبيل ليتم صلاة المسبحة ثم يعود ليسلبهم أموالهم. إن المؤلف حر بمخلوقاته ولولا غرابة أعمال زينة لم نقل شيئًا. ومن الأغرب أيضًا أن تقص زينة على سامي، في أحرج الأوقات، حلمًا كرؤيا يوحنا ودانيال، وإن رأينا أثر علم فرويد في حلم زينة وسامي، فحلم كامل أفندي وليد ابن سيرين.

إني أرى توفيق عواد موضوعيًّا في عينيه اللاقطتين كعدسة المصور، وذاتيًّا في نفسه التي تتأثر جدًّا وتحمى لأقل لهبة، فعينه تلتقط المشاهد الخارجية بالضبط، أما نفسه فقلما تهضم كل الهضم — لا بد من الكربونات — تحس السينما صارخة في مشاهده، اقرأ وصف مغارة الخورية ومصباح سامي الضئيل. والمصباح أحوج توفيق إلى استعمال مشحات للسراج وهي سريانية لا عربية. إن هذه النظرات اللاقطة أفاضت اللون المحلي على المؤلف. وإلى اللون المحلي أضف اللون الخاص، فلبعض الأدباء لون خاص كخليل تقي الدين في كثير من تعابيره — أقصوصة الديك — ومثله عواد، فإن له لونًا خاصًّا أحيانًا لكنه ضيق الانطلاق والاتساع. ولولا قلة المئونة اللغوية لجاء هذا اللون صارخًا، ولكن قلة توفيق اللغوية غامضة فكأنه من العيال المستورة. إنه يتاجر بالوزنتين ويريك أن مخزنه ملآن وتجارته واسعة، وهو على قلة بضاعته مدقق في التصرف بها.

ينقص الرغيف زخم العرض، وتصوير المسارح، وتوفيق في أقاصيصه أيضًا لا يصور المسرح، وقد رأيته يتعمد حل قضايا اجتماعية في أقاصيصه — الصبي والقميص — حاول هنالك الدروس النفسية على مصباح فرويد وتلاميذه فخسر في هذه المحاولة شيئًا من سليقته — والغرامة لا بد منها دائمًا — اقرأ قميص الصوف ترَ أن حب تلك الأرملة لابنها قد استحال حبًّا جنسيًّا؛ كل ذلك لأن فرويد يقول هذا. ففي أمِّ قميص الصوف، وديك خادمة خليل تقي الدين تحليل فرويدي عنيف لا مبرر له في نظري. كان عمي أنطون كأبي عروة السباع «يصيح بالسبع وقد حمل الشاة فيخليها ويذهب هاربًا على وجهه» (بيان وتبيين، ٧١، ج١)، وكانت زوجته رجا ضيقة العين تدَّخر البيض الطري لبوفارس فلا تطيق ديكًا يأكل مع الدجاج مع أن عمي كان فحل شول.

أما شخوص الأستاذ عواد فمنتقاة من عالم الآثار، نقول: عتيقة بالية. ينظر إليها نظرة عصفورية، أي يدور عينيه حين اللزوم؛ فهو سائق مغامر تلذ له الاصطدامات العنيفة، والتزمير وما يليه من شتائم ومسبات. وهو تارة يصور أبطاله بريشة الرسام، وطورًا يرش النشادر ويكوي بحجر جهنم ونترات الفضة، ولهذا أسباب طبيعية أجهل عللها.

إن هذه النظرات الحادة تجعل فنه كالسلاح المشحوذ حديثًا، يقطع جيدًا ولا يرضيك بريقه ولمعانه، وهو قبل كل شيء عابر سبيل يلم كل ما يقع في دربه ويضعه في عبه لحين الحاجة، فعينه مفتوحة دائمًا حتى في الظلمات، وهو على أخذ ما يرى أقدر منه على الخلق. ولو لم ترجح كفة الواقع جدًّا على خيال «الرغيف» لكانت خير ما خرج من نوعها.

يصور توفيق العاهات ببراعة تشوبها القسوة والكراهة، فكأن له ثأرًا عند صاحبها. فالعنف هو فن توفيق عواد وهو الذي يبث الحياة في قصصه، فيخيل إليك أنك أمام خلية نحل في يوم قيظ. فليكن توفيق عنيفًا ما شاء فهذه حسنة فنية يزينها تنكبه عن التعابير المهيأة.

يحسب قارئ «الرغيف» وغيرها من قصصه أن درس الطباع فيها غير عميق لأن مؤلفها لا يسير توًّا إلى هذا الغرض، إنه لا يشتغل وحده بل يسخرك للعمل معه، فبدلًا من أن يصف أخلاق الأبطال يريك أعمالهم التي تحددها، ولكنه يتطرف فيطلب من جدته الأولى أن تلبس مثل أخته الصغرى، أو مثل عروسه، وإلا فيعدها غير لابسة.

اقرأ لتعلم كيف يقسو على أم قميص الصوف، حتى لم يبقَ إلا أن يضع على بابها مصباحًا أحمر! إني لأزعم أن أكثر دنيا قصص توفيق عواد صادرة عنه في أكثر الأحيان، وأراه يرى الأشخاص ولا يرى التفاصيل، أو يراقب من ناحية واحدة.

وكأني به قد قرأ القصص الشعبية كثيرًا فصار يصدق كل شيء، وكأني به أيضًا قد قرأ لقصصيين عديدين فآمن أيضًا بالعنف حتى في الحب؛ فصور لنا كأناتول فرانس تلذذ المعشوقة باللكم والضرب. فصور لنا وردة التي لم تحصن فرجها من صراع ليلي مع جندي تركي وتلاوص زينة لتأخذ درسًا … ولكن هذه المشاهد العديدة التي تعج بها «الرغيف» يبدو بعضها غير متماسك والسبب طمع توفيق بالإكثار منها. قد يبدو المشهد جميلًا بحد ذاته ولكنه لا يمتزج بما حوله. يجعل من سامي عاصم بطلًا لا يهاب المنية ثم يُعمِّله عمل الأطفال؛ إذ يلحس أصبعه حين يلمسها كرباج السجان.

لقد أكثر من استعمال حكايات الأصوات فعبر عنها مكررًا فجاءت كقول الراوي العامي: ومشينا: دي دي دي حتى وصلنا إلى البيت وهناك: دق دق دق وفتح الباب … إلخ. إن كثيرين من الروائيين يستعملون ألفاظًا كهذه، ولكن هذا الإكثار غير مستحسن.

قد نكون نظرنا إلى رواية الأستاذ عواد القيمة بالإكبار والإعجاب لو كانت لمؤلف عالمي فلا نتناولها بما زعمنا، فتوفيق إن لم يصب في كل شيء، وهذا محال؛ فقد أصاب في أشياء كثيرة. ولكن توسيع البيكار، حتى في البيوت، مضر، فيعجز المرء عن تأثيثها وربما عن تكنيسها. فهو لو حصر روايته في مدى أضيق وعمل على تنقية أجوائها من كل ميكروب لجاءت أوفر عافية وصحة. إنها في كل حال خطوة واسعة في طريق الفن، وقد خلقت أجواءً غير أجوائنا المألوفة وعللتنا بسمو القصة عندنا.

بقي أن نقول كلمة في «نهايات» رواية توفيق وقصصه، فهي بارعة حقًّا. إنها أشبه بقطعة القلم أو انطباق الفخ، كما قال سنت بف. فنهاية «الرغيف» في منتهى الروعة الفنية. فقول زينة وهي تشد يدها على الذخيرة: «لا شيء» رائع جدًّا، بل تحته معنى لا توضحه الصفحات العديدة.

أما ابتداءاته فدون نهاياته روعة. إن أكثر أقاصيصه في «الصبي الأعرج»، و«قميص الصوف» مبدوءة ﺑ «كان» حتى تكاد تحسب كل القصص واحدة لولا العناوين.

ليته ينتبه إلى هذا ففيه ما فيه من الدوافع وخصوصًا الأقصوصة، فإن الزخم يجب أن يرافق أولى خطواتها. أما في «الرغيف» فقد دخل من الشباك لا من الباب كالعادة.

وبعد؛ ففي الرغيف نقيضان: أولها خير من آخرها فنيًّا، وآخرها خير من أولها بيانيًّا، وفي عمومها، إذا درست كل مشهد وكل شخص على حدة، فزت بالفن الجميل، وأعجبت بهذا الكاتب الذي يحذق التصوير ويجعل كل همه في تعزيز الخطوط المميزة. أما العلاقات بين مخلوقاته ودنياهم ففاترة لا ترتاح إليها ارتياحك إلى كل منهم على حدة.

وقصارى القول: إن رغيفًا واحدًا لا يشبع أمة. فليخرج توفيق من فرنه الذهبي ما استطاع من أرغفة، ولا ينسَ أبدًا ذلك الكعك الذي قامت عليه شهرته. بارك الله في عمره وزاد نشاطه الأدبي. عاشت الشباب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤