قصص تقي الدين العشر

١

تعبت، والله، من عرض عقلي على الناس. وأريد أن أستريح فلا أقدر. كلما بردت همتي ينكزني شيء لا أدري ما هو، وهكذا لا أقف ولا الطريق تنتهي. إن لذَّات الفتى عندي غير التي لطرفة، وأشهاهن إلى قلبي مذاكرة أبناء الضاد، ومذاكرة الرجال تلقيح لألبابها. كانت النصيحة بجمل أما الآن فنؤديها كالأمانة ولا طماعية لنا بشيء، ما نبتغي إلا وجه الفن الكريم، وتناسي ما يمر على رأسنا من هموم تهدُّ الجبال.

أما أولئك الذين يتشفَّون منا بكلام مثل وجوههم فلسنا نبالي بهم، إنهم كالحبارى ليس لها شيء إلا سلاحها المعهود … ففي جوفها خزانة لها فيها رجع مَعِدٍ كما لهؤلاء في رسائلهم العنبرية! قال جدُّنا الجاحظ: ربما رأى الحرباء إنسانًا فتوعَّده ونفخ وتطاول له حتى ربما فزع منه مَن لم يعرفه وليس عنده خير ولا شر.

إذن فلتزرق الحبارى البلهاء، ولينفخ الحرباء حتى ينشق، فنحن في طريقنا ماضون وموعدنا الساعة. كان أحرى بهؤلاء أن يفاتشونا، أو يتحفونا بنتفة من آيات صاحبهم هذاك، لنذوق الكوثر ونصلِّي لربه وننحر.

لماذا يحمون لغير سبب؟ لا أدري.

وما ضرَّهم لو جاءوا إلى كلمة سواء؟ لا أعلم.

إن تكوين الأدب كمشروع القرش، ومثلما يربو المال بجمع دينار إلى دينار هكذا تتكون ثروتنا الأدبية. فالنقد إذن واجب مقدس؛ لأننا نربأ بخزانتنا الأدبية أن تحشى بالزيوف، ولكن من تُحدِّث؟ إنهم صم بكم عمي إن مدحت غيرهم حسبوك تسبهم، وكلما صدقتهم النصح تفتحت حناجرهم كالقبور وراحوا يغرِّضونك.

خبَّرنا مار بطرس — والعهدة على التوراة — أن الله حلف لنبيه داود بقسم، فهل يصدقنا هؤلاء إن حلفنا لهم يمين النابغة لرب القبة؟

أيصدقون إن قلنا لهم: ليس في الدنيا بشري يكون كلامه برمته كلمات مأثورة، وإننا إن مدحنا واحدًا غير مُسمَّى فلا يعني أننا نذم مَن يمشون فينا مشية الفحل؟

وأخيرًا ماذا يتوهم هؤلاء؟ أخلقهم الله وكسر القالب؟

إذا كان المسيحي يترجى قيامة الموتى في الدهر الآتي، أفنكفر نحن إن ترجينا جيلًا جديدًا يكون خيرًا منا ومنهم؟

وهب أن الله قطع النسل، فما تكون العاقبة؟! ألا نبكي كالنبيِّ الكريم ونقول: «إننا عليك يا إبراهيم لمحزنون!»

فنصحيتي لهؤلاء أن يضعوا ألسنتهم في موضع دافئ ويسكتوا، فذاك خير وأبقى. ولو درى صاحب البريد بما يشحن إلينا من مسك وعنبر، لتقزز وصام شهرًا بلا أجر.

خبَّرنا أحد النقاد أن الشاعر بودلير خاف على صيته الداوي من قصيدة سمعها لمالرمه، ولكنه كان ضالًا فما عوَّق هذا ذاك. فمن مبلغ عنا بعض الرءوس العصفورية، أن تاريخ الأدب أرحب صدرًا من معاوية؟

•••

كان أول مقال كتبته في النقد سنة ١٩٣٤ (١٧، ك١) درست فيه بعض قصص الأستاذ كرم ملحم كرم. وبعد صيام ثمانية أشهر شرعت أفقص كالجراد، وأرسل هذا النسل المبارك طيارًا وزحافًا فقال نفر: أكثرت يا صاح، من عيث وإفساد، وقالت فئة: إنه على سفر لا بد من زاد! وقال فريق: سلمت يده، أتلف هشيمًا ما فيه خير.

لست أؤرخ ولكنني أريد الوصول بك إلى كتاب بعث به إليَّ الأستاذ خليل تقي الدين عند ظهور هذا النوء، وإليك منه ما يعنيك:

فتقبل مني أيها الصديق الفاضل هذه التهنئة، وإذا كان لي أن أتمنى عليك شيئًا فهو أن لا تحجم بعد أن أقدمت، وأن تقول ما في نفسك وكل ما في نفسك لقوم يعقلون، والسلام عليك من أخيك.

خليل تقي الدين
١٢ آب سنة ١٩٣٤

وفي غرة عام ١٩٣٧ أخرجت جريدة المكشوف كتاب «عشر قصص» للشيخ خليل فوجهه إليَّ «للغربلة» ولكنني لم أقل كلمتي فيه بل قعدت له، وحدي، قعدة امرئ القيس وصحبته بين العذيب وضارج … أتأمل.

حقًّا إنها موجة كطوفان امرئ القيس الشهير، ستحوم بعده مكاكي الجواء … وتظهر أنابيش العنصل.

والآن ماذا يحتاج الفرس الأصيل، وحجته في رقبته، كما يقولون؟ فالكتاب نفد كما نقرأ في كشف دار المكشوف، ومتى نفقت البضاعة قام الدليل على جودتها، فالنفاد حجة كدامغة جرير.

ولكن يضل ضلالًا كبيرًا مَن يستنتج أننا رمينا سلاحنا. فالفرس، وإن كان البُراق جَدَّه، لا يسلم من هنات ولو هيِّنات، أو شيات سعد ونحس على الأقل. وإننا نكاشف الأستاذ تقي الدين بنيتنا. قد نوينا أن نكون نخَّالين لا مغربلين، فالغرابيل للزؤان والشيلم، أما الدقيق فما يأخذ منه الغربال لا حقًّا ولا باطلًا. وليثقِ الأستاذ أننا سنقول له: «ما في نفسنا وكل ما في نفسنا». فليس الغش من شأننا، وإننا متماسكون وفوق المتماسكين، ولن نتهافت أبدًا.

أما شعارنا مع هذا الرف الجديد، الذي لا يطلب الحسنة بالدبوس كقرومنا العتاق، فكما قال زياد: «لين في غير ضعف وشدة في غير عنف.»

للشجرة الشائخة الفأس؛ ففي حدها رجوع الشيخ إلى صباه، أما الفروخ فتقوَّم برفق ولباقة لتعتدل، ولا يلين إذا قومته الحطب. والأواني الطريفة تساس بفطنة ونباهة وتوقَّى حتى من مروحة سيلي بريدوم … وجهاز العرائس يصان في الخزائن ذوات المرايا، أما صرر أم الحليس الشهرية فتقبر في صندوقها الدهري!

أمسيت لا أميل إلى الألفاظ الداوية كألعاب قيصر عامر، فتلك أتركها لكل مرقعان فرقاع، ولن تسمع مني هذه الألفاظ المفلطحة مثل بسيكولوجيا وشقيقاتها، وكل بنيات هذه العائلة الشريفة التي يحدثنا عنها كثير من الناس، وربما لا يعرف أكثرهم عنها إلا ما عرفنا من عاد وثمود. لست أعتقد أن الأديب يتعلم هذا كالنحو والصرف، وأنا أجحد أكثر من ثلاث مرات إخضاع الأديب للعلم؛ ففي أيام المغفور لهم: راسين وشكسبير وعمر والجاحظ والمتنبي، لم تكن هذه المسميات، وفي أدبهم منها شيء كثير. فالأديب الموهوب يعرفها ولا يدري أنه عرفها. أما إذا كان غير مؤزر بطبيعة خصبة فهو لن يُفلح أبدًا، ولو تعلم ذلك العمر كله.

واحدة فقط أظنها تكفيني شرك أيها القارئ العزيز! بحياتك قل لي: مَن علَّم الأستاذ الجليل عنترة بن شداد علم النفس؟ أدركايم أم فرويد؟ أعن شيوخ السربون أخذه أم عن جهابذة أكسفورد؟ أما حلل لنا نفس بهيم كان يركبه ليخلب لب عبلة فلا تغدف دون القناع؟ وهذاك النابغة الذبياني أما حلل لنا في تلك العسجدية التي حبا بها غسان نفس «عصائب طير تهتدي بعصائب»؟ فمَن علمه ذلك يا ترى؟ وأخيرًا ماذا تقول بوصفه نفس المتجردة:

نظرت إليك بحاجة لم تقضِها
نظرَ السقيمِ إلى وجوه العوَّد

تباركت أيها الفن، وجل جلالك. فلندع هذه الفقاقيع التي يتمطقون بها ففي أدبنا منها كثير، ولكنها ومضات. فالعرب لا يحبون هذا «الأدب الممغَّط» الذي يصطنعه جمهرة كتاب أوروبا لأنفسهم. فهم يمرون عجالى، وأدبهم كحياتهم تلك، مختصر وجيز كملبسهم ومأكلهم، إنهم كالنحلة تأخذ كثيرًا وتترك أكثر. شعارهم: اللبيب من الإشارة يفهم.

قال أحد الكتَّاب الفرنسيين: يريد بعض الكتَّاب الثوريين أن يجعلوا الأدب خادمًا لبعض القضايا، ويحاولون جعله بوَّابًا على بعض القلاع الحكومية مع أن مهنة الأدب استقلال الروح.

فالأديب مستقل يستنير بالعلم وكل المعارف، بيد أنه لا يتعكز عليها. هو حر أن يبدي نفسه من خلال مرايا بلورية كالتي في قاعة فرسايل، أو من سَجَنْجَلِ امرئ القيس، أو ماوية طرفة، أو من خلال قرارة كالدرهم، كما فعل سيدنا الحطيئة إذ حبانا بوصف وجهه البهي!

قال فولتير: كل أصناف الأدب جيدة إلا المملَّ المضجر، أما تولستوي فعدَّلها هكذا: كل الأصناف جيدة ما عدا التي لا تفهم، أو التي لا تؤدي الغرض.

أظهر لنا العرب أنفسهم من خلال إطار القصيدة الضيق — ليتني أقول: البرواز؛ فهي تؤدي المعنى أكثر — وظل الشعر كبير أناس في بجاد مزَّمل حتى أتى الدهر بأعجوبته؛ الجاحظ العظيم فعناه من مشاكل الحياة ما يعنينا نحن اليوم، وأحل النثر في مرتبة الشعر، ثم سرت روحه في ظهور الحقب فخلف لنا نسلًا مباركًا كالأصفهاني والهمذاني والمعري والشدياق.

وما أغنانا عن رأي العلامة مسينيون الذي نفحنا به الشيخ خليل تقي الدين لنعلم أن مظهر القصة ابتدأ عندنا في المقالات، فنحن نحس وندرك أن بعض مقامات البديع قصص بالمعنى الفني اليوم، لا مظهرًا من مظاهرها كما قال ذاك الفاضل: فالمقامة المضيرية والأصفهانية والبغدادية والمكفوفية والموصلية والنهيدية والخمرية والبشرية يقصر عنها كثير من كتَّاب أوروبا. صدقني إن قلت لك: إن زعيم القصة غي دي موبسان لم يكتب مثل المضيرية. وإن صح زعمي، ولا ريب فيه، كنا السابقين إلى خلق القصة Nouvelle كما خلقنا الرواية.

عرفنا هذه الألوان الأدبية يوم كان غيرنا يغطُّ في نوم ثقيل. ثم جاءت نوبتهم فنشأت القصة عندهم، كما نشأت عندنا: حكايات، فأساطير، فقصص خرافية، فروايات فروسية … إلخ. ثم هذه القصة التي في المقامات. لم نقف حتى كانت الدولة علينا فانحلت عرى الملك وعفا أدب الطلول، ولم يبقَ فيها لسائل رد. وظلت آثار السلف ملهًى للخلف حتى كانت القرون الأخيرة فسبقنا الذين تقدموا الطغرائي قبلنا!

كتبنا شيئًا عن القصة سابقًا فليراجع إن كان فيه خير. أما الذي يعوزنا اليوم فهو القصص المتنوعة. أما تاريخ القصة فالمتمشرقون أنفسهم لا ينكرون أن في أساطير لافونتين عرقًا من كليلة ودمنة، وأن في مغامرات روبنصن كروزي ملامح قوية من سندبادنا. فليست القصة في الأدب بنت أمس، ولكنها مطلقة طريدةَ فقْرٍ فضيعت وضيعنا اللبن! والحمد لله على تلاقيها بأدبائنا في فجر هذا القرن، وإن قلنا: جبران أبوها فما نقول إلا الحق.

وأنتج الأدباء قصصًا فكان بعضها دبلة على القلب، وخرجت من تحت أقلام آخرين كالدينار المصروف بالقرش وأنصاف القروش. وأصدرها جماعة كالصخرة الملساء، أو كدب لافونتين! ومن غرائب عصرنا الأدبيِّ أن كلًّا يخطط الأدب دارات ومنازل على هواه، ولو مَنَّ الله عليه ببعض ما مَنَّ على الحجاج لحمل الكتاب على الأدهم … فهذا يؤثر شاعرًا فيقدمه على كل مَن قال شعرًا؛ لأن جيد شعره كركيك ذاك — كما فعل العقاد مثلًا — وهذا يدافع عن نول لأنه يحوك على مثله وهلم جرَّا. وكأني بهذا المرض يعدي وإلا فكيف سرى إلينا من القاهرة، فقال خليل تقي الدين في محاضراته: كيف أفهم القصة؟ «والحادثة في القصة الحديثة ليست إلا عرضًا، أما الجوهر فهو ما يقصد إليه الكاتب من وصف وتصوير.»

ويقول أيضًا في مقدمة عشر قصص: «ولكنني إذا عدت إلى نفسي رأيت الحقيقة تنكر هذه الحوادث والعقد والحلول؛ لأنها أمور متكلفة يجيء بها الكاتب ليتلهَّى بها السذج من القراء.»

فإن صح ما يقول الأستاذ تكون القصيدة والمقالة قصة؛ لأنها تحتوي وصفًا وتصويرًا، ولماذا يرى خليل الحقيقة تنكر هذه الحوادث والعقد والحلول؟ أليس في الدنيا حيوات متعددة، منها المعقدة كذَنَبِ الحِرْذَوْنِ، ومنها الملساء الناعمة كذنَب القط؟ إنما الذي يُنكر هو التكلف، والابن — وهو أعز الخلق — يمقت أبوه مَحْضَرَهُ إن كان مُتَكَلِّفًا … فإن شاء خليل هذا شايعته عليه، بل كنت من غلاة شيعته، وإلا فإنني أكفِّر كما كفَّر عليًّا أصحابُهُ، ولا تحكيم بيننا.

إن رواية ذات عقدة كالأنشوطة يبسط فيها كاتبها ما يبسطه الكتَّاب المصورون، ويحلل ويدرس ويصور كما يريد الأستاذ تقي الدين لهي أحب إلى القارئ من كاتب يمطمط ويعطعط، ويعطينا درهم دبس على قنطار حطب.

في ذلك الزمان، زمان الحمير والبغال، دعي حكيم لمداواة أب مريض، وفي ذلك الزمان السعيد كان الحكيم يتنازل عن المَجِيدِيِّ أجرته ولا يترك غداه أو عشاه. فسأل الابن الحكيم: تريد دجاجة محشوة أم مقلية؟ فجاوبه الحكيم: المرحوم جدك كان يعمل الثنتين!

فرأيي أنا كذلك الحكيم الذكي، أي أن تعمل الثنتين، وأن نكون بين بين، فلا نسمي الصورة قصة، ولا نلبس «القبع الأخفى» أو نحول الناس سمكًا يفز من المقلى ويجيب: نعم نعم، وينشد شعرًا.

ليس في الأدب الفرنسي كتاب يعلم الروائي كيف يعمل قصته، وإن كان هناك شيء فآراء مبثوثة هنا وهناك وخطرات لهذا وذاك، فكما لا يعلم الإنسان كيف يصفُّ الحديث كذلك لا يعلمونه كيف يكتب قصة يسوق فيها أبطاله ويخلق أشخاصه. وقد خبرت أن في الأدب الإنكليزي شيئًا من هذا فلم أستغرب، فعند الإنكليز قوانين وتقاليد لكل شيء.

وجملة القول أنني لا أسلم أن القصة بلا قصة تكون قصة — عفوًا يا سيدي السكَّاكي عن هذا التكرار — ولو أثبت ذلك خليل تقي الدين وأيده ألف جهبذ فرنجي وكان بعضهم لبعض ظهيرًا. ولا يهمني إن كان الفن اليوم لا يتشدد في ذلك، فأنا أعلم علم اليقين أن اللحم المسلوق طعام أمرأ من اللحم المقلي بالسمن الصريح والمتبَّل بالبهار والفلفل، ولكن هذا القياس البطني لا يثنيني عن رأيي بل يحملني على التعصب له، فأنا لا أستطيب الطعام بلا قليَّة!

لست أدري لماذا قال خليل هذا، فالعقاد معذور إن آثر ابن الرومي؛ لأن جيده كأردأ ما عند شاعره كيوركيس، أما خليل فمحجوج؛ لأن في كل قصة من قصصه قصة — عندنا يا سكاكي — ونحن لا نطلب أكثر. وكما قال بول بورجيه سيد الأدب الممغط، بمناسبة كلامه عن بلزاك: «لا يقدر العالم من تجربة واحدة أن يقر ناموسًا عامًّا»، وكذلك نقول نحن لخليل: إنه لا يستطيع، وهو لم يكتب إلا تسع قصص، أن يضع قانونًا صارمًا للقصة والقصصيين. فتحديد القصة عندي كالاسم الواقع بعد ولا سيما، حركه كما تشاء. ولا حرج عليك إن أحسنت الاستعمال.

ولو كانت الحقيقة تنكر الحوادث والعقد والحلول، لما امتنَّ الله على عبده ورسوله بسورة يوسف دون غيرها إذ أوحى إليه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ.

دع الناس يقصوا ما شاءوا شرط أن يقصوا، فرب حاكٍ فتنك بقصته وهو لا يقص شيئًا، ورب آخر شوه سرده أطلى الأخبار، وأغرب الحوادث، فلا يفكهك حديثه فتكون حكايته كالدملة في ذلك الموضع!

لا يعنيني كيف تكتب القصة ولا في أي موضوع كتبت، ولا يهمني أبضمير المتكلم أم المخاطب، لا يعنيني إلا الشخوص فإن كان فيها ما لا أنساه فهناك القصة الرائعة ولو خلت من العقد والحلول، كصاحب مضيرة الهمذاني، ولست أنسى قط ابن سوار قاضي الجاحظ، ولا نُعْمَ ابنِ أبي ربيعة، ولا فارياقية الشدياق، ولا أعرابيَّ الأصفهاني، حتى ولا ذاك الذي صرخ: يا حجاج، الكلام الذي بيني وبينك أريد أن يبقى مكتومًا. كل هذه ليست قصصًا مقصوصة على هندازة اليوم، ولكنها قصص كيفما دارت بها الحال. وثمة قصص ليس هناك أعقد منها تخلب لبك حتى تخال أنك تواجه أبطالها؛ إذ ينقلك كاتبها إلى معترك أبطاله.

نحن الآن في صدد القصة الصغيرة التي إنما خلقت لتماشي حياة هذا العصر المستعجلة، فهي القهرمان الذي يموِّن من لا وقت لهم ولا جلد، وكما أظهر القدماء أنفسهم بالقصيدة ففصلوها على قدهم ثم بالمقالة، كذلك سيُظهر أديب اليوم نفسه من خلال القصة، والقصة رسالة مستعجلة يؤديها الأديب المتين إلى قرائه، فهي اليوم نُقَل القراء الذي لا يعوق مستعجلًا، كالسندويش للماشي لحاجته. والأدب على اختلاف أشكاله كالفواكه تختلف شكلًا وطعمًا وتتفق عنصرًا. والفن وحده يحيي الأثر مهما كان نوعه، وحيث لا فن لا حياة ولا بقاء. فرب مقال أخرجه أديب كامل ذوقه كان قصة بعينها، ورُبَّت قصة جاءت كالمقالة النيئة، أشخاصها موتى، وبروازها أبرش لا يبرر شيئًا منها، ومشاهدها ممحوة كصورة ابن بلدنا أدونيس في الغينة.

قال خليل: «عشر قصص من صميم الحياة!» يا ويلي على الحياة وويلي منها، أما كلُّ شيء من صميمها، فكما يخلق الخلاق كل شيء هكذا يخلق الروائي مخلوقاته المختلفة وكلها عجيبة إذا أحسن تكوينها. إن حكاية خلقنا معروفة، ثابتة لا يشك فيها عقل. أخذ الله ترابًا ونفخ فيه فكنا نحن. ومنا اليوم ملكات الجمال، وكواكب هوليوود، ومنهم بنت شقيق سيدنا البابا كما قرأت إن لم تخنِ الذاكرة هذه المرة. فأي شيء أحط وأخس من التراب، ومع ذلك استطاع ربنا القادر على كل شيء أن يخلق من الطين خلقًا آخر.

فبقدر ما في صدورنا من حرارة إيمان وما في رئتنا من هواء سخن يجمد الطين وتشيع الحياة. نحن لا نريد القصة كالتنور المسجور، ولا نرضاها فرنًا هامدًا لا يصلح إلا للغاتو. فالقصة هي الخلق بعينه والكاتب خلاق عجيب يخلد أبطاله كالذين دوخوا الأرض وقد يكونون أمكن منهم. إن للكاتب في خلقه شئونًا.

قال مالرمه: هذه مشاهد لا رؤى. فالقصة مشاهد رؤى، وهي قبل كل شيء وبعد كل شيء حكي كما قلنا. فمن الناس مَن يحلو حديثه ومنهم مَن يفلقك. ففنُّ القصة لا يُعلَّم، ولكنه يُجوَّد على الممارسة والاطلاع أما صاحبها فمخلوق كالشاعر. وما هؤلاء القصصيون الفرنج غير شعراء، قالوا الشعر أولًا ثم انصرفوا عنه كما فعل المنفلوطي فخسر الاثنين.

أدرك العرب حتى الأعراب منهم: أن القصصي مخلوق كما نستدل من كلام الجاحظ، قال: وتكلم يزيد بن أبان الرقاشي، ثم تكلم الحسن، وأعرابيان حاضران فقال أحدهما لصاحبه: كيف رأيت الرجلين، قال: أما الأول فقاصٌّ مجيد، وأما الآخر فعربي مُحَكَّكٌ.

وإذا قلبت الصفحة ١١٥ من «البيان والتبيين» سمعت الجاحظ يقول: «وقد يكون الرجل له طبيعة في الحساب وليس له طبيعة في الكلام … ويكون له طبيعة في الحداء أو التعبير، أو في القراءة بالألحان، وليس له طبيعة في الغناء، وإن كانت هذه الأنواع كلها ترجع إلى تأليف اللحون. ويكون له طبيعة في قصبة الراعي ولا يكون له طبيعة في القصبتين المضمومتين … ومثل هذا كثير جدًّا.»

أظنك أدركت القصد وهذا كافٍ. إن عصرًا صار حريره وسمنه نباتيين لحري بالساهرين فيه أَلَّا يناموا لئلا يأتيهم السارق بغتة! عليهم أن يبحثوا ولا يملوا، فالناقد كالأثري ينبش القناطير المقنطرة من التراب ليعثر على تمثال أكله الصدأ.

قال جيليان بندا: «أريد أن يبحثوا كتاباتي كأنهم وجدوها في قنينة ملقاة في البحر.» وكذلك نفعل إن شاء الله.

٢

وما عليَّ أن خلقني الله مارون عبود ولم يخلقني أنطونيوس البادواني المالك سعيدًا في بيعة الله؟ أما المعجزة التي حسدته عليها واشتهيت أن يتفضل الله عليَّ بأختها فأصير عديله، فهي أن هذا الطوباوي كان يظهر بساعة واحدة في مدينتين مختلفتين كبيروت وحلب، مثلًا.

إن الله يعطي اللحم للأدرد، فما أحوجني أنا إلى هذه المعجزة لأكون بعالية وعين كفاع في وقت معًا، فأتناول الكتاب الذي أريده من هنا ومن هناك. لذيذة هذه الحالة وألذ منها أن يخطفني ملاك الرب كما خطف فيلبوس بعد تعميده الخصي وزير ملكة الحبشة، عند غزَّة. فالملاك أسرع من طائرات اليوم، وظهره ناعم لين … بطرفة عين نروح ونجيء والحبر لما ينشف!

ولكن ما لنا وللتمني! فليس لنا الخيرة من أمرنا، ما بيدنا ملكوت كل شيء … فلِيَنْبَرِ القلمُ لموضوعه كقينة طَرَفَةَ الشهيرة، يدلني تاريخ الأدب العالمي وخصوصًا تاريخ القصة على أن عقلية البشر هي هي. يتغير العرض أما الجوهر فلا يمس، وما نراه اليوم كاملًا ستأتي أجيال تهزأ به، ولكننا نعمل ولا نبالي، قد وُجِدْنَا وما يليق بنا أن نتوارى ولا نترك أثرًا.

إن الذرية لهي جنس غريب عنا لا يعترف بجميلنا، ولا يهمه أن يرضينا، بل كثيرًا ما يزعجنا. فكما فعلت ببيت أبي وجدي سيفعل أولادي ببيتي. يخططونه على هواهم ونماذجهم الحديثة، وهذه سُنَّة الكون.

ورأيت أيضًا أن الأدباء، منذ البدء إلى اليوم، سلاسل مختلفة، يتعارفون ولا يدرون. ورأيت أيضًا أن الجديد يحاول أن يعفِّي على القديم، وتلك غريزة دفنتها الطبيعة في تلافيف أدمغتنا لتدفعنا إلى المثل الأعلى. والذي عندي أن كتَّاب ذلك الزمان غير ملومين؛ لأنهم فصلوا ثيابهم على هندازة عصرهم، بل هم حرِّيون بالعذر إن لم يستحقوا التعظيم كالذين غيروها بأحسن منها.

لا تتعجب إذا قلت لك: إن تاريخ القصة هو تاريخ الآداب العالمية، وإننا اليوم نسلك مسلك كتَّابها، أما المفكرون فيتوقعون — دائمًا — لونًا جديدًا. فمتى يُخْلَق هذا … وأين؟ إن علم الساعة عند الله.

إننا ننتظر، أما الآن فلنبدأ بقصص خليل العشر. فيهن واحدة وهي الأخيرة لمكسيم غوركي وأرى المؤلف حشرها في آخر كتابه كالمحصور بِإلا، لتقوم برهانًا على قلة اكتراث قصصي العصر «للحوادث، والعقد، والحلول». فإذا طرحنا هذه الواحدة بقي لخليل تسع، منهن خمس مسرحهن الشوف، وإن سمينا البعض باسم الكل كما فعل مشايخ النحو قلنا: بعقلين. وإليك أسماءهن: نداء الأرض، فارس الشامي، ذكرى الهوى الأول، طريق الوجيه، بعد العرس. وهناك ثلاث مسرحهن بيروت: في مهب الغرام، جحيم امرأة، سارة العانس. وواحدة فقط مسرحها خليل تقي الدين، وهي: صاحبي الذي مات.

مدار هذه القصص — عدا طريق التوجيه — على ذلك القطب الذي لا يبريه الدهر … فالحب هو العقدة الأبدية الأزلية التي لا يحلها ملك الموت الذي وُكِّل بنا.

في قصص خليل شعر كثير — لا أعني المنظوم — والشعر عنصر خطير في هذا النوع من القصص شرط أن لا يطغى فيكون الفن من المغرقين … وفي قصص خليل حياة، والحياة عنصر أوليٌّ في كل قصة كما قال أحد شعراء الفرنسيس:

La on la vie est le plus la vie, sur les lévres des hommes.
تكتمل ماهيَّة الحياة بكل معانيها على شفاه الرجال.

فالحقيقة والخيال مجتمعان في هذه القصص. نقرأ وصفه لغروب بَعَقَّلين — بيت العقَّال عند علماء السريانية والجنة المعلقة في نظري — فيتخيل لنا أننا نراه ونسمعه.

عند خليل كلمات غير هرمة، وبين ألفاظه تناسق وتآلف، كأنما الشيخ يزوجهن عن حب صحيح ليس كزواج ياسمين في «بعد العرس» ولا كفارس الشامي. أما الإنشاء المصنَّع فقليل في هذا الأثر، فعذارى خليل لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى.

أساس هذه القصص وضعي، أما تفصيلاتها فتمثل شخوصًا حقيقية، ولكنه قد يؤلف الشخصية من عدة أشخاص، وأكثر الشخوص ظاهر ناتئ كياسمين البريئة، وزوجها الهريء وسارة المقهورة. وبعضها يظهر بغتة ثم تختفي علاماته المميزة، وبعضها تظهر رويدًا رويدًا حتى تكتمل أشد اكتمال مثل فؤاد «في مهب الغرام» أما العنصر المسيطر على هذه الكائنات كلها فهو هزء خالقها بها. إنه ساخر كالقدر.

عرفنا خليل بأشخاصه في مقدمة كتابه بقوله: «وفي وسعي أن أضع على جبين كل منهم اسمًا يعرفه الناس.» فهو إذن شاهد عياني كما قال تين عن ماريمه. وما هذا بعيب فعلينا أن نلاحظ بدقة عظيمة لنكتشف ما لم يرَ، كما قال فلوبير.

ورحت أقلب قصص خليل تقي الدين رأسًا على عقب فرأيت التبدل في المطلع مرعيًّا في أكثرها، أما خطته فواحدة تقريبًا. يدخل موضوعه — دائمًا — من أوله، فكأنه يحفظ جيدًا: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا. بيد أن هذا التغيير هو الطُّعم الذي يتصيد به الكاتب قراءه أما التنوع في نهاية قصصه — أعني الحوادث لا الخاتمات الفنية — فحسنة. لكل قصة نهاية تختلف عن أختها، وهذا شرط لإقبال القراء على الكاتب.

أشخاص تقي الدين مختلفون، وإن لم يكونوا أربعين بالضبط كما قال موبسان لبورجه. إنهم يروحون ويجيئون على قدر حظهم من القوة والنشاط. والذي لا يشك عاقل فيه فهو أن شخوصنا كأبنائنا منهم المتحرك الوَرِش، ومنهم الجامد الهادئ ومنهم البين بين.

نداء الأرض

عنوانها أكبر منها، بطلها سعيد وهو شاب يتوحَّش في البرية، ولولا بنت عمه خيزبان عروسه العتيدة لا يدخل الضيعة. ونعم الاسم خيزبان ففيه لون محلي صارخ، وهو خير ما ينتقى لقصة أبطالها جذعان.

تلسع سعيد حية فيقتلها بمداسه وينجو من سمها بمصه، ولا غرابة فيما فعل فهذا معروف عندنا، وسم الأفاعي لا يؤذي الفم والمعدة السليمين. قال الإنجيل المقدس: يشربون سمًّا ناقعًا ولا يؤذيهم. فلدغت بولس رسوله حية في مليطة فرماها بالنار ولم يُصَبْ بأذى فآمن البرابرة بسيده يسوع المسيح. الحمد لله كان سعيد سليمًا كما سمَّى العربُ الملدوغَ تفاؤلًا.

وشاءت خيزبان فهجر سعيد عرزاله واستقر في الضيعة، ثم أتت ساعة الزواج فوصف لنا المؤلف عادة المحيط في الدعوة إلى العرس وصفًا متحركًا. ثم دنت ساعة «قيم الجرن» فيحامل معروف سعيدًا، ولهؤلاء رواسم في مثل هذه المواقف كالطقوس والمناهج الحكومية لا يخرمون منها حرفًا.

وبعد اللتيا والتي، يفوز معروف ويقصر سعيد فينكمد هذا بعد الكسرة، فيعيش عيشة غير راضية إلى حين، ثم يطلق الضيعة ويعود سيرته الأولى.

إن تلخيص القصة تشويه لها. فالفن في التفاريق لا في الجملة. أما العيب الذي بدا لي من هذه القصة فهو أن تصوير بعض عاداتنا الاجتماعية يأتي متكلفًا كقوله: «ثم جاءته بإبريق الفخار فبرد بمائه عطشه، ومسح فمه بطرف كمه.» ثم قوله: «وهو زعيم شباب القرية.» فهل حقوق كلمة «شيخ» محفوظة؟ ثم هذا الذي يصفه خليل أنه «ليس للتفكير كبير شأن في حياته بل هو مجموعة أعصاب تعمل بالفطرة، وهو أقرب إلى أن يكون آلة منه أن يكون رجلًا يعقل ويفكر.» كيف يجيب بنت عمه: «لقد زلت بي القدم وأنا منحدر عن صخرة عالية فتلقيت الأرض بيسراي وأصبت بخدش بسيط.»

فمثل هذا الفدم لا يقول أكثر من وقعت. وهي لائقة جدًّا به وبنا ناهيك أن قد وحدها لا تأتي في كلامهم فكيف بها مع اللام! ولماذا نقوِّله: يسراي، والقرآن الكريم قال: عَن يَمِينٍ وشِمَالٍ. وهذا هين عند قوله لمعروف: أنت له يا معروف (ص١٩).

ويقول المؤلف عن سعيد: «ثم بصق بيده اليمنى وفركها باليسرى.» إنهم لا يبصقون ولكنهم ينفخون فيها نفخًا يطرِّي الراحة. إن الأستاذ تقي الدين وإن يكن ابن بعقلين فهو لا يعرف حركات العوام بدقة؛ لأنه ليس منهم؛ فهو لا يخالطهم ولا يعايشهم، ولا أظنه يحضر عرس الذي يمسح فمه بكمه بعد الشرب. أما إذا كان من المحسوبين عليه فيزوره بعد حين. فهو ابن محمود بك وبيته برأس الضيعة.

يريد خليل أن يتغلغل في القرية فتعوزه أشياء يدركها إن عمل بنصيحة فلوبير، ولكنها وظائفنا تحول دون أعمالنا الفنية. فلكي نبلغ من درس كل ما يمكن الحصول عليه يجب أن نستسلم إليه بكليتنا، وأن نتزوجه لا أن نخالَّه؛ ففي نداء الأرض شيء كثير من المخاللة، أما الزواج المبارك المقرون بالرفاء والبنين «ففي مهب الغرام» وفي «بعد العرس» وفي … كما سنرى.

وبعدُ؛ فليس كل حوار نداء الأرض غير موفق، فهناك كلمات تذوب رقة وتمثل الواقع، وكلها فصاحة وإن كانت من الكلام المبتذل … ونصيحتي لخليل صاحب الإنشاء الأنيق أن يستشير القاموس طبيب الأدباء الخاص، فيسلم من بعض الأملاح التي تصلب الشرايين فلا يقول: التحديق في ابن عمها، وعصا النوطرة. ولو خرجت العبارة الأخيرة من فم سعيد أو أحد أبطال الرواية لقلنا معذور، ولكنها من كلام المؤلف والمؤلف بليغ والحمد لله. فلا يلائم إنشاء خليل الناصع أن تقع فيه تمنطق، ولا «أو لم يرسل إليهم نعي مَن ماتوا من أهله» وفي «نعي» غنًى عن «يرسل إليهم».

أما تصوير المشاهد والأشخاص فجميل جدًّا وهذا مجال واسع لخليل وحده، الآن، لا يزاحمه فيه قصصي. إنه يمثل شعبًا، أو قطعة من حياة شعب وعاداته التي يعرفها حق المعرفة، وهذا مُهِمٌّ جدًّا في الأدب يخلد مَن يكتبه ويحله محله في تاريخه.

ولو لم يَعْزُ خليل تقصير سعيد عن رفع الجرن لتركه البرية كان أفضل، فللقارئ مجال واسع ليفكر ويعلل؛ فهو لم ينسَ تلك الحية الملعونة … وإن شاء خليل أن يعيده إلى مراحه فلا يصعب عليه أن يخلق سببًا كما خلق هذا البطل الباسل. ناهيك أن مناخ بعقلين وعرزال سعيد واحد فكيف تم هذا التفاعل الخطير؟

وإذا انتقلنا إلى «في مهب الغرام» رأيناها تعوم في بحر يعج بالفنِّ كفرات الأخطل، فخليل يصف فيها مَن يعرف ومَن يرى. فهذا الفؤاد صورة صادقة لكثيرين وقد أراناه خليل على مهل. فكان يظهر في القصة كما تظهر الصورة البالغة على الزجاجة تحت يد المصور في الغرفة السوداء. فخليل في هذه القصة روائي من الطراز الأول. هو لو يشبه ياقة فؤاد الضخمة بركبة البعير لا خفِّه لجاء التشبيه أبرع، ولكنه أراد ذلك لأمر لا يجهله الفنان … فليكن. لا ألخص هذه القصة، ونصيحتي لِمَن يهمه الأدب والفن أن يقرأها، إنها تجري كالنهر الهادئ، وفيها أطوار خسيسة قد تحاماها الشباب المعترُّون. يذكرني تأليف مكتوب فؤاد بخطبة رئيس بلدية ألفونس دوده في حكايات الاثنين. ويذكرني أيضًا اعتناء فؤاد بالورق بكلمة ماريمه: وبحبر أحسن.

ويظل خليل يقلب هذه الشخصية الفذة في طيجنه حتى تنضج نضجًا صالحًا تشتهيه العين قبل القلب. ثم يجمعه بجرمين التي عُشقت وهي غير دارية، فيسائلها عن رسالته تلك فتجبيه: حسبتك تكتب مقالة لجريدة. وكذلك سمت ميُّ كتابَ جبران «النشيد الغنائي» كما أدركنا في رسائلها إليه.

أما انصراف الفتاة وغضبها «سرًّا» في قاعة سهرة فيها من كل فاكهة زوجان … فلا أدري ماذا أقول فيه، ولكن تلك «السيدة المتصابية التي تعرف معنى الحياة أكثر من جرمين وأترابها الجاهلات الغبيات» أنستني ذلك.

وهكذا عام فؤاد في ذلك الغبيط! وسبحان مقسم الأرزاق. وانعدمت السيدة المغبوطة في ذات ناسوت فؤاد انعدامًا كليًّا لا يشبه إلا انعدام «البهائي» في ذات وحدانية ربه.

وفق الله خليل تقي الدين إلى أمثال هذه.

«أما ذكرى الهوى الأول» فهي أقرب إلى الصورة منها إلى القصة، ولكنها في ميزانهم قصة راجحة، فعند أشهر القصصيين مثلها وأقل حادثة منها. تذكرنا بتصوراتنا القديمة فهو يرى البحر من بعقلين كما كنا نراه من عين كفاع، ويتوهمه كما توهمناه؛ فقد كان يعيش في ذلك الزمان السعيد كما نعيش نحن اليوم في خيمة … ولكنها من غار … غار الحطب لا الأكاليل.

القطعة شعر منثور رائع تصف تأثيرات خليل الصبي بكل شيء: بالبحر، بالغاب، بالغروب، برنين الأجراس، بموسيقى الغابة، بالظلام، بالأنوار، بالرعاة، بالأغاني العامية، بكل ما يبشرنا بأن صاحبنا سيكون شيئًا في عالم الوحي والإلهام.

ثم يعشق المسكين ثوبًا وقامة، ومنديلًا، كما كنا نعشق كل ذات خمار، أو فستانًا منشورًا على السياج. ويتراءى له أنه يحدثها فيقول لها كلامًا أعلى منه ومنها — طبعًا في ذلك العهد — فمَن كان في ذلك العمر لا تأتيه هذه الفصاحة الغراء ولا يعرف هذه الفلسفة الغرامية، فهي بضاعة عتاق قارحين.

فقوله: «اتكئي على صدري ودعيني أنظر إلى عينيك الساحرتين، ولا تتكلمي!» مشهد لا يُحسن وضعه إلا عباقرة الفن، ولا سيما أنه يليه: «وانسي في هذه الدقيقة العابقة بطيب الهوى كل ما في الوجود ما خلا حبنا، ودعي أناملك تعبث بشعري حتى إذا تعبت استراحت على شفتي!»

وهذه أيضًا حكمة سليمانية يعز نظيرها على غير نشيد الإنشاد؛ ولهذا أشك في أن خليل الأمس يحسنها، ولكن نيابة خليل عن صاحبه الذي مات جائزة.

ولا حرج علينا إن وسعنا الدائرة، وكل ما كتبه خليل أصبح يعنينا. رأيت الأستاذ ذا ولع خاص بالعبث بالشعر، فاعلًا ومفعولًا. لمحت هذه الخصلة بشعره؛ إذ خاطب واحدة اسمها «مها» ودعاها لتأتيه قائلًا لها:

وألقي برأسك فوق ضلوعي
تداعب شعر حبيبي يدي

أما ذات المنديل فتأتي على عادتها إلى العين عند الغروب فتعاود خليل النوبة فيحترُّ، ثم يبرد، ويوحوح، وينام ملقيًا التبعة على أيلول، وأيلول طرفه بالشتاء مبلول.

لقد كانت هذه المرأة كذلك العصفور الغريب الذي رآه ماريمه في Aréne de Nimes (الملعب الروماني المستدير في مدينة نيم الفرنسية) وكلا الكاتبين لم يظفر بغير الخيبة: قريب بعيد!
أرى ماء وبي عطش شديد
ولكن لا سبيل إلى الورود

وسواء أكانت ذكرى الهوى الأول صورة أو قصة فهي خير ما يكتب في هذا الغرض. ولو وقف خليل عند «أكبر ظني أنها دمعة» لكانت الخاتمة أروع وأبرع.

٣

فارس الشامي

ملاك القصة شيئان: المحيط، والعالم الذي يعيش فيه. أما المحيط فلا يخلقه المؤلف خلقًا، بل يصفه ويصوره بألوانه وأشكاله ومميزاته. لا يعني قولنا هذا أن يصف كل ما هب ودب، فالفنان ينتقي ويكبُّ الأقذار في الساقية؛ ومتى تم له هذا ظهرت القصة كأنها حقيقة. أما الأشخاص فالمؤلف يخلقها. وكذلك أشخاص خليل وإن قال: «وفي وسعي أن أضع على جبين كل واحد منهم اسمًا يعرفه الناس.» إن النواة حقيقية كما قال، أما هذه الجذوع المفتولة والفروع المتطاولة فمن عمل الأرض التي اقتبلت النواة فانبثقت شجرة أصلها ثابت وفرعها …

ففارس الشامي وإن يك شخصًا معروفًا، كغيره من أبطال خليل، فبوتقة الفن صهرته وأخرجت لنا منه شخصًا قلما خلت منه ضيعة لبنانية. وهب أنه شخص خيالي فالفنان قادر على جعل شخصه تاريخيًّا، وقد صار.

جميل دخول ساعي البريد إلى بعقلين في موكبه الساذج الذي يشبه إثنين الراهب … فهذه الصورة لا تمحى من مخيلة اللبنانيين بعدما أكلوا مما عز وهان. كان اللبناني إذا مُسَّتْ كرامته تمرَّد وأبى وتمثَّل بقول أبيه وجده: ما أحد يموت من الجوع، حتى كانت الحرب العظمى فألبسهم الله لباس الجوع والخوف، وصار الموت أرخص من الفجل. فكم دفنا بأيدينا من شبان لم يزودهم آباؤهم بدمعة؛ لأنهم شغلوا بأنفسهم. وفي فارس الشامي يصف المؤلف حالنا بعد تلك الزوبعة فيريك بأيِّ أبهة كان يدخل «البوسطجي» الضيعة. لقد صور المشهد كله ولم ينسَ الولد الراكب على بغلة ساعي البريد «الغبراء». وما انتهى شريط الموكب حتى عرض أمامنا معلم الأولاد يقرأ ذلك المكتوب البليغ الذي عقبته فرحة أم فارس بالخمسين إنكليزية وجيئة ابنها. ثم يظهر المستر فارس الشامي على الميناء بين المسلِّمين عليه بهيئة تميزه منهم وترينا ما علق بأذياله من عادات لم يهضمها حق الهضم فأتخمته، وأصبح كالغراب يمشي مشية الحجل! ولا يبلغ البيت حتى تفاجئه الوالدة بحديث أدما مرعي التي اصطفتها له عروسًا، فاستغرب فارس الأمر جدًّا كما لا نستغرب نحن هذا العنف اللبق الذي صدم به أمه، فالرجل قد تأمرك وعاشر القوم أكثر من أربعين يومًا … ولكنه تروَّى بعد أيام ولان، وهاكه مرتميًا على يدي أمه معلنًا نزوله عند إرادتها «فتبتسم وتهز رأسها علامة الشك فيما يقول.» إن في هذا البيان الصامت لأكثر من السحر وإني أهنئ به الأستاذ.

ويتزوج الابن وتموت الأم بعد أيام، وما هذا بغريب الوقوع، ثم يهاجر فارس وتصير زوجته أرملة لم يمت بعلها. وما أكثر هؤلاء الأرامل عندنا، وما أصبرهن على أحكام الله!

لم تعجب بعضهم شخصيات هذه القصة ولكن ليس في اليد حيلة، فكم في الحياة من مخلوقات لا تعجبنا، ولكنها موجودة وما لنا حيلة في إراحة الدنيا منها. أما أنا فما على ضرسي مر، كل الأشخاص تعجبني، وقد أرثي للقبح فأهواه كما قال ابن المعتز. ما لي على المؤلف شرط غير تقديس الفن. وهذا ما يعمله خليل.

قصة فارس الشامي طبيعية ومقدمتها الطويلة غير غريبة عنها، ومن الطير الهدهد والطاووس والغرانق … أما هذا الدبوس الذي يشكه فارس في ياقته فما أظنه يمثل حذاء، بل نعلة الفرس التي تتشرف اليوم بيوتات كريمة في بلادنا برفعها فوق أعتابها لتحل عليها البركة. ومع كل هذا فلست أستغرب فعجائب أميركا أكثر من عجائب القديسة تريز.

ولو قال خليل حين تحدث عن موت الأم: «وانطفأت بين يدي ابنها كما تنطفئ الشمعة» ووقف ولم يزد: «وقد نفد منه الزيت»؛ لاسترحنا من مشكلة خطيرة وهي الخلاف على الزيت في دولة الأدب.

أما الحوار فيتعقد أحيانًا مع أن لغتنا العامية طيعة لينة لا تحتاج إلا إلى عناء قليل لتصير فصيحة، فبدلًا من قول أم فارس: «قم بنا يا ولدي؛ فقد اجتمع الناس وعليك أن تخرج إلى أصحابك فتسليهم» (ص٦٠)، تقول: قم يا ولدي، بل قم يا ابني سلِّ أصحابك — لأن يا ولدي تستعمل غالبًا للتحسر — ثم لا أدري لماذا يقول الأستاذ: حلوينة وعنده حلوان، ولماذا يضع المصطبة والغياب بين هلالين وكلتاهما فصيحتان. أما إذا كان قد فعل لفتًا للنظر فهو حر. وكلمة الجيب مذكرة فلتبقَ كذلك، وإن قال بعض المتنطسين ما هذا معناه في كلامهم، قلنا له: وما علينا إن حمَّلنا الكلمةَ معنًى تطيقه ونحن في حاجة إليه؟

وأخيرًا لو صار أمر هذه القصة إليَّ لختنتها وقطعت قلفتها هذه: «امرأة كانت كل آثامها أن القدر اختارها ليلهو بها، والويل من القدر المكتوب!» أنا لا أطالب الأستاذ بأداء رأيه، إن القارئ اللبيب أدرك هذا، ونحن لا نكتب لغير الألبَّاء. ليست القصة أطروحة لتكون ميدانًا لآراء مؤلفها ونظراته كما أراد أحدهم. ومَن شاء ذلك فما عليه إلا أن يكتب رواية فتلك أرحب صدرًا، أما هنا فعلى القارئ أن يستنتج وما علينا نحن أن نعبر له.

سارة العانس

كتب خليل تقي الدين قصة بطلتها «سارة العانس» المتهورة فطلع علينا العقَّاد من مصر السعيدة ﺑ «سارة» أخرى، ولكنها فالتة خالعة النير. فهل من حرج عليَّ إن تذكرت بهذه المناسبة قصة أول «سارة» وسردتها لقارئيَّ خطفًا؟

لعل قصة سارة زوجة سيدنا إبراهيم الخليل أبي الآباء أقدم قصة عالمية. والذي يظهر لي أنها كانت طيبة كزوجة الفرزدق التي وصفها لابن ليلى. وأين عظمة دارم من عظمة بيت أبينا إبراهيم، فالله جل جلاله تعشى عنده واستراح تحت الشجرة وغسل رجليه. وخاطبه بعد حين في سدوم، وكان بينهما أشياء كثيرة لا علاقة لها بموضوعي.

إن سارتي هذه كانت «حسنة جدًّا» كما تقول التوراة، ولما هاجر إبراهيم إلى مصر اصطحبها واتفقا على أن يقول وتقول: «إنها أخته فيكون له خير كثير بسببها وتحيا نفسه من أجلها» (ت، ف١٢، ع١٣)، فاستحلاها فرعون، جدُّ طه حسين، فأخذها وعاش سيدنا إبراهيم مطمئنًا حتى أعيدت إليه. ولا تظن أن إعادتها كانت هينة، فالله الذي وعد خليله إبراهيم مواعيد شتى قامت قيامته وضرب فرعون لأجلها ضربات كثيرة فانتبه، ودعا إبراهيم وقال له: «لماذا لم تخبرني أنها امرأتك، لماذا قلت هي أختي؟ خذها واذهب» (ت، ف١٢، ع١٨ و١٩)، وهكذا صرفها فرعون من الخدمة بلا تعويض … ولا تقاعد.

وعاد إبراهيم إلى فلسطين ثم انتقل بعد حادثة انتقام الله من سدوم، إلى أرض الجنوب، وهناك أيضًا قال عن سارة إنها أخته فأخذها أبيمالك ملك جرار، وتدخل الله في القضية حالًا، فأعاد أبيمالك سارة إلى زوجها، وأعطاه معها — دوطة — غنمًا وبقرًا وعبيدًا وإماء.

أما سارة الأستاذ تقي الدين، يا حزني عليها، فغير نافقة كسارة إبراهيم. مسكينة هذه البنت، إنها لا تُحتمل ولا تطاق، حمَّلها خالقها — أي الأستاذ — وجهًا متكرشًا كالجراب العتيق، فضاقت به وها هي منفردة في أحد بيوت المروج، تحرق الناب على الناب وتصرف في سريرها كناقة النابغة.

لخليل تقي الدين عناية خاصة بمدخل قصته؛ ففي مطلع كل واحدة منها إنشاء كالعسل المصفى الذي وصف به الشعر الزهيري. وصف بيت سارة وصفًا جميلًا طويلًا مع أنه لم يدخله أحد من الناس غيرها، وأراك سارة المبتلاة بوجه جاحظي غارقة على شرفته في أحلام اليقظة … حتى إذا أقبل الليل المتمطي بصلبه تذوب ذوبانًا وتموت من الكمد ولا يعلم بها أحد، يهيئها المؤلف كما هيأ «فؤاد مهب الغرام» لفاجعة غريبة الشكل، والأمور بمقدماتها.

وبقيت الشقية تلزم بيتها حتى فرج الله عليها واتصلت بعائلة مصرية، غير اتصال سارتي بفرعون، ثم تصير معلمة لبنت تلك العائلة، ومرغريت جميلة مخطوبة تنتظر صاحبها … وأتى إميل فتعرف بسارة وكان يحدثها أحيانًا فقام في نفسها أن كل نظرة من نظراته دعوة إلى السرير … وأتت ساعة زفاف مرغريت إلى إميل فسبقتها سارة إلى الكنيسة واحتلت كرسي العروس احتلالًا إنكليزيًّا، وهي تظنها إياها، وأخيرًا جُنَّت المسكينة كما جُنَّت خوريَّة توفيق عواد يوم أحد الشعانين.

كل هذا حسن ولا إغراب فيه، وما زلنا نرى مجانين الحب أكثر من الهم على القلب. أشخاص القصة وحادثتها عادية وما أحياها إلا فن خليل فجعل منها هذه القصة الرائعة. أجاد خليل الدرس والتحليل كل الإجادة، وقد رأى غيري أن التحليل ميدان الأستاذ أما أنا فأراه يصلح لكل ميدان، وسيعنى في قابل بالحوار وغيره فنرى أبطاله عمالقة، فحياة الأبطال في كلامهم، وهو الذي ينم عن كل شيء.

جحيم امرأة

أذكر أنني قرأت منذ سنوات قصة بهذا الاسم، وما زلت أتذكر موضوعها جيدًا فهي لا تتفق وهذه بشيء غير العنوان. إن هذه القصة جحيم حقًّا لا تنقصه إلا شجرة الزقوم. وقد كانت المرأة فيها كما تعودت أن تكون كل امرأة غير حصان، جحيمًا لنفسها، فدارت عليها الدائرة. القصة عامرة، فيها حب شبق حتى الكلَب واقتتال حول حوض سائب لا يذود عنه أحد بسلاحه. أحسن الأستاذ المساق فلم تلتفَّ فيها الساق بالساق، ولكن السطر الأخير قد جاء علاوة عما يطلب الفن؛ إذ ليس على المؤلف أن يزكيها، كما أنه حمَّل نفسه فوق طاقتها حين كلفها شرح: خائنة زانية (ص٩٢).

وهنا لا بد من ذكر بعض مآخذ لغوية طفيفة كقوله: حتى هوم من النعاس، فكلمة من النعاس فضول، وهوَّم وحدها تؤدي الغرض. ثم قوله: أشار أميل على الخادمة، والوجه تعديته بإلى، فليس هناك إرشاد بل أمر بالعمل. وشراب التوت المثلَّج، والمسموع عنهم: المثلوج. ثم في الصلعة وحدها غنًى عن القول صلعة رأسه. وقوله: ملأ حفنته، فالحفنة هي ما يؤخذ لا ما يملأ. وقوله: استروحت رائحة الفريسة، فرائحة زائدة. وأخيرًا تهربت، فهي غير فصيحة.

سيقول بعضهم: ما أثقلك وأكثر تعنتك! أما نحن فنجيب: وهو كذلك. ثم نسأل: هل فينا مَن يشير إلى غبار على ثوب كلاس أو طحَّان؟ ومَن منَّا لم يتفق لهُ أن نفضه بظفره إذا رآه على ثوب نظيف أنيق؟ وهذا شأننا مع خليل.

قال أناتول فرانس في ختام فصل عقده لنقد موبسان: «إنني مغبوط لقولي: إن موبسان يكتب بلغة إفرنسية حقيقية، ولا أعرف تقريظًا أجمل من هذا.» ونحن نقول لصاحبنا الذي افترضناه: إن خليل تقي الدين يكتب بلغة العرب، ولذلك نريد أن ننزهه عن هفوات قد يكون عندنا مثلها وأكبر منها.

طريق الوجيه

لماذا أحس أن هذه الرواية واقعية وأنني أعرف بطلها؟ لا أدري. تمثل القصة صراع الزعماء مع الأوادم الطازج — الطازه — وهذا كثير في لبنان بعد افتقار زعمائه واغتناء عوامِّه، والناسُ حيث المالُ مالوا.

إن حركات سعادة البيك ومَن حوله مِن رجاله لعلى أعظم جانب من الفن، ولو كنت مخرجًا سينمائيًّا لاخترتها مشهدًا. وقد لا يتذوقها مثلي كل قارئ، فماذا أفعل لأحل فيه خمس دقائق كما حل الروح القدس في التلاميذ؟ لا أراني أغالي إذا شبهتها بروائع القصص الأجنبية. أقول، ولا يوبخني ضميري: إنني لم أقرأ أحسن منها عندهم، فإذا قارناها بما يشبهها عند موبسان رأينا الأستاذ يجري معه في هذا الشوط كأنهما فرسا رهان. وإن كنت لا تصدقني فعليك بقراءة قصة Décoré «حائز الوسام» ثم خبرني بعد هذا كيف تجد خليل تقي الدين.

اسمع تهكمه ببيكنا الجليل: «أيعقل أن يضطر البيك غدًا إلى السير على قدميه من آخر الضيعة حتى بيته؛ لأن الفن يقضي بذلك، ولأن المهندس لا يستطيع مخالفة ما يقضي به الفن؟ ترى أين كان الفن عندما كان أسعد بك يركب حصانه الأدهم في الأيام الصائفة تحت أشعة الشمس، ويقصد إلى مركز المطران ويظل الساعات الطويلة يدافع عن حق «جبلين» في الطريق؟ أم قضي عليه أن يتعب ويشقى وقُدِّر لرجل غِرٍّ أحمق كميلان إلياس أن ينعم بالطريق تأتيه صاغرة إليه إكرامًا لعيني الفن؟»

ويجاهد الأستاذ في وصف البيك وهركلته حق الجهاد، ثم يُطوِّفه على الأبواب الدينية والمدنية حتى يقفه أخيرًا أمام الخريطة كالبهلول ويقول له المهندس: «أرني أين يجب أن أضع الطريق لتكون حضرتك راضيًا؟!» الخلاصة خاب سيدنا البيك والعوض بالله، ووفق خليل فأجهز على هذا البطل وختم قصته أحسن ختام.

إن قصة طريق الوجيه وجيهة في عالم الفن كما كان المسيح عيسى بن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين.

بعد العرس

كأننا بخليل تقي الدين يفعل بنا كقوله تعالى: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا. أو كما قال رئيس المتكئين في عرس قانا الجليل: إنكم أبقيتم الخمر الجيدة للآخر. فقصة «بعد العرس» طرفة فنية تتراءى لنا شخوصها ناتئة كأنها تماثيل لا صور بيانية. كل ما فيها طبيعي ينكر عليَّ ما أنكرت من خليل في نداء الأرض؛ فهو هنا خبير جدًّا بشئون القرية، وإن كان ينظر دائمًا «من فوق» إلى أبطاله.

ثلاث نسوان يأتين مع الصبح إلى عنبال ليخطبن بنتًا سمعن بحسنها، لعريس محطم فانٍ ولكن غني، والمال ستَّار العيوب، فتفلح سفارتهن بشروط وتكون ياسمين البريئة كبش المحرقة.

في القصة أشياء كثيرة من درس، وحوار، وتصوير، ولون محلي، وكل ما يفرضه الفن على الأديب الموهوب، ما ترك الأستاذ شيئًا حتى العصفور الذي فر عندما سمع وقع الخطى! ولم ينسَ الخروف المعلوف ولا بعض خُرافاتنا كاختلاج العين اليمنى، والشئون التقليدية التي يفعلها الشباب بالعريس، ثم عادات ليلة العرس البيضاء وصباحها الأحمر … وأخيرًا ختام هذه المأساة الذي تنفطر له الصخور.

كل ما في القصة جميل، وإني أسأل مَن يعنيهم الفن أن يطالعوها فهذه قصة قلما يقعون على مثلها.

صاحبي الذي مات

قصة مسرحها خليل تقي الدين، كما قلنا وهي غريبة عن أخواتها، ولا يقاربها إلا ذكرى الهوى الأول. ذكرتني قصة صاحب خليل الذي مات — أعاضنا الله ببقاء الحي مع المرأة التي راودته، يوم لم يكن يعرف قيمة الرزق — بحكاية لموبسان يأتي فيها رجل إلى امرأة ليسألها بعد عشرين سنة ماذا كانت تريد منه في إحدى ساعات بعض النزهات فضحكت وعادت إلى المطبخ! ويختم خليل قصته هذه بقوله لتلك المرأة وقد عتب عليها لأنها سكتت إذ رأته غير شيطان كجرير: «أنا يا امرأة رجل مادة وكفاح، أما الفتى الذي تعرفين فقد مات … ولقد ولد صاحبي معي ومات، ثم بعث ثانية ويدي اليوم على قلبي وقلبه معًا نخشى عليه أن يموت فلا يبعث من جديد.»

قلت: لا تخف يا صديقي، عليك بمخائيل نعيمة، ألم يقل في رثائه أمين مشرق:

«ليس في الحياة انفصال على الإطلاق، فأمين معي من بعد أن جاءني نبأ موته مثلما كان معي من قبل ذلك النبأ.»

لا شك أن هذه العبارة كفكفت دموع شقيقته المفجوعة، وعَزَّت كل أصدقاء أمين. أما عرفوا أنه لا يزال مع الأستاذ نعيمة مثلما كان؟ فثق أنت إذن أن صاحبك سيظل يبعث من جديد، آمن يا أخي تغلب الموت! ثم ما لنا وللأستاذ نعيمة فهو من الطارئين عليكم، وما غلب الموت أحد غيركم أنتم الدروز.

إن تذكاراتنا هي بقايانا الميتة، فكما تتغذى الشجرة بأوراقها التي تسقط منها هكذا نعيش نحن بها، فتصويرها عذب والتحدث عنها شهي. فصاحبي الذي مات لون أدبي طريف يبشرنا أن كاتبنا المجيد سيحلق في الدرس والتحليل — بضاعة اليوم الرائجة — وسيكون بدرًا كاملًا إن شاء الله «ففي الواحة والديك» تباشير نهار جميل، أبعد الله غروبه.

أما قصة «السجين» لغوركي فلا تعنيني، وما ارتكب خليل كبيرة بحشرها في كتابه؛ فقد رأينا ماريمه يفعل ذلك قبله، وأظنني أصبت الهدف حين زعمت أنه أتى بها حجة وبرهانًا.

وبعدُ؛ فهل أسيء إلى أحد إن قلت: إن عند خليل تقي الدين قصصًا سيكتب لها العمر الطويل في لوح القدر؟ إن أبطاله عاديون قلما خرجوا على المثل الأعلى المعروف. ليس للحكاية عنده المحل الأول، ككثيرين من قصصيِّ اليوم. فأين هو الفن إذن؟ إن مواضيع كهذه لا تشيع فيها الحياة إلا إذا انتدب لها قلم فنان، فبيان خليل هو الذي يحييها ويهون عليه اقتحام هذه الثغور والفجاج، فيلجها غير هياب كأنما يدخل ندوة المجلس النيابي.

إن الفن في نظري تعبير بليغ عن حبنا للحياة، وعلى قدر الحب والإلهام يكون تقييدنا لأوابد المشاهد فتحيا إلى الأبد.

وأخيرًا ثق يا صاحبي الذي لم يمت أننا كنا عند ظنك، فما حابيناك ولا داجيناك بل قلنا لك ما في نفسنا، وكل ما في نفسنا. وانتقادنا بعض هفوات لا يحول دون إعجابنا، فإلى الأمام يا شيخ, إننا نبشرك بغلام اسمه يحيى … أنجز «العائد».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤