الفصل الأول

عرض لفتح النهر

إذا أخذ المرء وضْع مدينة فرانكفورت الإمبراطورية بعين الاعتبار، لم يكن ليتوقَّع حشدًا مُتجمِّعًا كهذا الذي كان في قبو القيصر داخل حانة راينجولد. أما خارجها، فقد امتلأت الشوارع بالشغْب والفوضى؛ إذ أرهَقَت حالة اهتياج سادَت بين جموع الشعب جهودَ سلطات المدينة لإحكام قبضة السيطرة عليهم ومنْع تطوُّر أعمال الشغْب التي قد يترتَّب عليها تدميرٌ جزئي على الأقل لهذه المدينة التي كانت عامرةً بالازدِهار فيما مضى. وبالطبع، كان بإمكان سكان فرانكفورت التذرُّع ببعض الأعذار التي تُبرِّر صخبهم. وعلى أيِّ حالٍ، توقَّفت جميع الأعمال التجارية تمامًا بصفة مؤقتة. لقد توقَّف العُمال المهَرة عن العمل منذ فترة طويلة، كما كان ينضمُّ الآن إلى صفوف العاطلين من حينٍ لآخر رجالُ الدِّين وأشباههم، والمُحاسِبون الخبراء، والباعة المُقنَّعون، وأصحاب المَتاجر الصغيرة؛ نظرًا لأنه لم يكن أحد يَمتلك المال اللازم لشراء ما يتخطَّى ضروريات الحياة. ومع ذلك، كانت مَخازن فرانكفورت مُمتلئة عن آخرها، بجميع أنواع الأشياء التي قد تَفِي باحتياجات الشعب، وبالنسبة إلى الشخص الجاهل، بدا أنه من المُجحِف أن يتضوَّر جوعًا هو وأسرته بينما تتكدَّس في الشوَن المحاصيل الزراعية لمنطقة الجنوب، وقد امتلأت مُستودعات ضخمة بكميات قماش من فرانكفورت والمناطق المحيطة تَكفي لكسوة عشرة أضعاف عدد الصعاليك الذين كانوا يجُوبون الشوارع.

تركَّز غضب الناس على شخصٍ واحد، ورغم أنه صاحب أعلى منصبٍ في البلاد، فيجب إلقاء اللوم عليه بالطبع ولكن بصفة ثانوية؛ إلا أنه ليس الوحيد المسئول بصورة أساسية عن هذه الأوضاع المُتردِّية. لقد هَرمَ الإمبراطور الذي اتَّسم حكمُه دومًا بالضعف منذ أن اعتلى العرش، وأصبح بدينًا وفظًّا، ولم يَعُد يهتمُّ بشيء سوى إبريق نبيذه الذي يكون باستمرار عند مرفقه. هكذا أسفر ضعفُ الحكم، من البداية، عن جعلِ اليد العُليا في البلاد للنبلاء، والآن سيَفرض إخضاعُهم مرةً أخرى خوضَ حرب أهلية. إن هؤلاء النبلاء الجالسين بأريحية في قلاعهم ولديهم كمية وفيرة من النبيذ في أقبيتهم والذرة في صناديقهم لم يكونوا عابئين بمشاكل المدينة. وفي تلك الفترة الطويلة من الحكم، فرض أولئك الذين يعيشُون على جانبَي ضفَّة نهر الراين ويُراقبون من قلاعهم المرتفعة الطريق الرئيسي للتجارة بين فرانكفورت وكولونيا — الذي يُعدُّ سوقها الرئيسية — ضرائبَ باهظة على التجار الذين ينقلون البضائع على طول مجرى النهر. وخلال الخمس سنوات الأخيرة، أصبَحَ ابتزازهم شديدًا لدرجة أنهم قتَلُوا في النهاية الإوزة التي تَضع البيض الذهبي؛ ومِن ثَمَّ، خلا نهر الراين الآن من القوارب، وخلَت فرانكفورت من المشترين.

لفترة طويلة جدًّا من الوقت تطلَّعَت فرانكفورت إلى الإمبراطور الذي تمثَّلَت مُهمَّتُه في الحفاظ على النظام في نطاق إمبراطوريتِه، وعندما اجتمع التجار في النهاية ليُعينوا أنفسهم وبذلوا قُصارى جهدهم نحو الحصول على الحرية، كان الأوانُ قد فات. لقد أسفر تجمُّعهم عن تأسيس أسطولٍ صغير مكوَّنٍ من مائة قارب تقريبًا، اجتمعت عند فرانكفورت وماينتس وشقَّت طريقها معًا خلال النهر، يُرافقها أسطول به رجال مُسلَّحون، وظنُّوا أنهم سيتمكَّنُون من الوصول إلى كولونيا والتصرُّف هناك في بضائعهم. إلا أن البارونات اللصوص اجتمعوا أيضًا ونصبُوا سلاسل عبر النهر عند صخور لورلاي، عند أضيق جزءٍ منها، وما إن أدركُوا أن بإمكان هذا الأسطول هزيمةَ أي واحد منهم، تعاوَنُوا لأول مرة في حياتهم، وهاجموا القوارب حين اصطدَمت بالسلاسل مما أسفَرَ عن تشتُّتها.

كان النُّبلاء ولصوصهم جميعهم مُحاربين مُخضرَمين، في حين أن الرجال المسلحين الذين استعان بهم التجار كانوا مجرَّد مُرتزقة؛ لذا فرُّوا وهم في حالة من الذعر؛ وأما أولئك الذين لم يقطعهم غرماؤهم الهمجيُّون إربًا فصاروا لصوصًا على نطاق صغير، مُنتشرين في ربوع البلاد؛ نظرًا لأنه لا طائل من عودتهم إلى العاصمة؛ حيث يُعاني قِطاع كبير من السكان بالفعل من أحلك الظروف.

لم تصل إلى كولونيا بالة واحدة من البضائع؛ نظرًا لأن السارقين قسَّموا كلَّ شيء فيما بينهم، بقليل من المشاجَرات الفظيعة، وبعدها أغرقوا القوارب في أعمق جزء من النهر كرسالة تحذيرية، لكيلا يظنَّ تجار فرانكفورت وماينتس أن نهر الراين ملكٌ لهم. وفي هذه الأثناء، توقَّف التجار عن القتال بما أن جميع توسُّلاتهم إلى الإمبراطور كانت تذهب أدراج الرياح. كانوا أهل تجارة، لا أهل حرب. وصرفُوا خَدَمهم وتابعيهم من خدمتهم، وتدريجيًّا خيَّمَت المجاعة على ربوع المدينة المنكوبة.

وبعد وقوع الكارثة البحرية على نهر الراين، قام بعض التجار بمُحاولةٍ غير مُجدية لإصلاح الأوضاع، دفَع قادتُهم ثمنَها غاليًا. لقد لجئوا، بعدما رأوا أنه لا طائل من وراء توسلاتهم إلى الإمبراطور، إلى الأمراء الناخبين السبعة، الذين كان من بينهم رؤساء الأساقفة المُولَعين بالحرب، الخاصِّين بكولونيا وتريفيس وماينتس، مُطالبين إياهم بعزل الإمبراطور، وقد كانت لديهم السلطة للقيام بذلك، وانتخاب ابنه بدلًا منه. ولكنهم أغفلوا حقيقة أن أغلبية الأمراء الناخبين أنفسهم، وعلى الأرجح رؤساء الأساقفة أيضًا، يستفيدون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من عمليات القرصنة التي تتمُّ على نهر الراين. تمثَّلت الاستجابة لهذا الطلب في الإعدام الفوري لثلاثة من كبار التجار، وحبْس عدد منهم، وتحذير الباقية بأن يَلزم كلٌّ منهم حدود اختصاصه، تاركين السياسة العُليا لمَن هم حُكَّام بالفِطرة. أدَّى هذا الجهد الخاطئ إلى قبض رُؤساء الأساقفة الثلاثة على الأمير رولاند، الابن الوحيد للإمبراطور، وحبسِهم إياه في قلعة إيرنفيلس، وهي قلعة حصينة تُطلُّ على نهر الراين يَمتلكها رئيس أساقفة ماينتس، الذي أصبح بهذا وصيًّا على الشاب، ومسئولًا أمام أخوَيه رئيس أساقفة كولونيا ورئيس أساقفة تريفيس عن الحفاظ على سلامة الأمير. ويُقال إنَّ الأساقفة كانوا راضين تمامًا عن الإدارة الضعيفة التي كانت موجودة آنذاك في فرانكفورت بحيث لا يَرغبون في التغيير؛ ولذا أُخرِج الفتى من العاصمة، حتى لا يخضع مواطنو فرانكفورت لإغراء تنصيبه حاكمًا لهم، ويحاولوا قلب الأوضاع الراهنة رأسًا على عقب.

ونظرًا لأن هذا كان هو الوضعَ العام في فرانكفورت، فضلًا عن مُعاناة الجميع الكآبةَ واليأس، وتضوُّر الغالبية العُظمى جوعًا، لم يكن من المُستغرَب أن يكون القَبو الرئيسي في حانة راينجولد فارغًا، رغم أنه في أوقات الرخاء كان من الصعب أن تجدَ مقعدًا هناك بعد غروب الشمس. أما في قبو القيصَر الأصغر، على جانبَي الطاولة الطويلة الوحيدة، فقد كان يَجلس مجموعة من الشباب يصل عددُهم للعِشرين، يأكُلُون الخبز الأسمر ويَحتسُون نبيذ الراين، ويقضُون الوقت ما بين الدندنات الصاخبة وسرد الحكايات. لقد كوَّنُوا حلقةً مُغلَقة، وكانوا لا يَسمحُون بدخول شخصٍ غريبٍ إلى دائرتهم إذا ارتفع صوت واحد مُعارض على دخوله؛ ولكن رغم هذه الخصوصية لم يكن وسط هذه الصحبة قطرة دمٍ واحدة من الدماء النبيلة. ورغم ذلك، كانوا يَنتمُون إلى صفوة الحرفيِّين؛ الذين كان أغلبهم من صُناع الأدوات المعدنية، الذين كان منهم بارعون في صناعة الأدوات الحديدية، وطارقون للنحاس، ومُصمِّمون لحليِّ الذهب والفضة. كانوا يُطلقُون على أنفسهم «الحدادون العظماء»، أما الآن، فقد كانوا مثلهم مثل غيرهم، لا عمل لديهم. ورغم تنشئتهم في المدينة، فقد كانوا جميعًا شبابًا أقوياء البنيان وشجعانًا؛ وبالتأكيد يُعدُّ تأرجُح المطارق تدريبًا جيدًا لعضَلات الذارعَين، وفي تلك الأوقات العصيبة، الشاب الذي يعجز عن الاعتناء بنفسه بعصاه وقبضتيه من المُحتمَل أن يواجه المخاطر إذا غامَرَ بالخروج بعد حلول الظلام.

كان هذا بالطبع هو السبب الرئيسي لتأسيس عُصبتهم، وإذا جرت مهاجمة واحد من مجموعتهم، تأتي الصيحة السرِّية للعُصبة بالمساعدة الفورية من جانب أيٍّ من الأعضاء الموجودين في نطاق السَّمع. ونظرًا لعدم انتمائهم إلى الجيش أو الطبقة الأرستقراطية، فلم يكن يُسمَح لهم بحمل السيوف، ونيل هذا الامتياز كان أحد أهداف عصبتهم. بالتأكيد، كل فرد من أفراد العصبة كان يَمتلك سرًّا سلاحًا على أعلى مستوًى، رغم أنه يُخاطر برقبته إذا حمله معه جهرًا. ومن بين مجموعتهم، كان هناك ثلاثة من أمهر صنَّاع السيوف في جميع أنحاء ألمانيا.

لعب هؤلاء الصنَّاع الثلاثة دورًا مهمًّا في تقديم الرجل الذي صار الآن قائد جماعتِهم. جاء هذا الشاب إلى واحد منهم بأفكار تخصُّ الصناعة السليمة للسيف، وموازنته، بحيث يتدلَّى بسهولة من اليد كما لو كان جزءًا من الساعد. عادةً ما ينفد صبر الخبير مع نظريات الهاوي؛ إلا أنَّ هذا الشاب، الذي كان كل طموحه هو صنع سيف، كان يتمتَّع بمعرفة وثيقة بهذا السلاح كما هو مُستخدَم، ليس فقط في ألمانيا، وإنما في فرنسا وإيطاليا أيضًا، بحيث قدَّمه صُناع السيوف إلى زملائهم الحرفيِّين في الحوانيت الأخرى، وعلَّموه كيف يصنع سيفًا. سمح خبراء العصبة هؤلاء — الذين كانوا يعرفون أن رولاند رغم أنه كان محظورًا عليه حملُ السيف، كما قال مستهزئًا، فإن بإمكانه أن يستخدمه ببراعة وبدقةٍ أقل ما تُوصف به هو الرَّوعة — لهذا الغريب أن يحلَّ ضيفًا على أحد اجتماعاتهم الأسبوعية في قبو القيصر، حيث استعرض مهارته الرائعة.

لم يَصمُد أيٌّ منهم، ولا جميعهم معًا، أثناء مواجهتِه. ومن ثم، طلبوا منه أن يُعلِّمهم، عارضين مبلغًا جيدًا مُقابل الدروس، مُعتقدين أنهم إذا اكتسبوا ولو جزءًا ضئيلًا من براعته في استخدام السيف، فلعلَّهم يجرءون على حمله ليلًا، مُعتمِدين على مهارتهم لكي تُنقذَهم من الاعتقال. ولكن الشابَّ رفض أموالهم، ورفض بمسحةِ عجرفةٍ دَور معلِّم فنون المبارَزة بالسيف؛ ومن ثمَّ انتخبوه بالإجماع ليكون عضوًا في العصبة، ليتخلَّوا بذلك في هذه المناسَبة الوحيدة عن القاعدة التي تَحظُر اختيار أيِّ شخص إلا أن يكون حدَّادًا. وعندما قَبِل الغريب نتيجة التصويت، قيل له إن مُهمة كل عضو أن يأتيَ لمساعدة أخيه عند الضرورة؛ ومن ثم طلبوا منه أن يُعلِّمهم فنون المبارزة بالسيف. انصاع رولاند لرغبة الجميع، ضاحكًا بعدما رأى كيف جرى حصاره، إن جاز التعبير، بموافقته، وقبل أن يمرَّ العام صار رفاقه العشرون على الأرجح من أفضل المُبارِزين في مدينة فرانكفورت.

وبعد فترة وجيزة من الكارثة التي أُلحقَت بأسطول التجار عند صخور لورلاي، اختفى رولاند دون كلمة وداع واحدة لأولئك الذين كانوا يُعلِّقون عليه الكثير من الآمال. كان شديد التحفُّظ بخصوص مهنتِه، إن كان لديه واحدة من الأساس، ولا أحد يعرف أين مسكنه. كان يُخشى أن تكون السلطات قد ألقت القبض عليه وفي حوزته السيف؛ نظرًا لأنه أصبح أكثر تهوُّرًا من غيره في حمل السلاح. ولكنه في إحدى الليالي، ظهر مرة أخرى واتخذ مقعده على رأس الطاولة وكأن شيئًا لم يَحدُث. ومن الواضح أنه قطع مسافة طويلة سيرًا على الأقدام؛ نظرًا لأن ملابسه كانت مغبَّرة وفي حالة رثَّة. ورفض أن يُدليَ بأيِّ شيء عما جرى له؛ ولكنه أقر بأنه يَشعُر بالجوع والعطش وبأنه بحاجة إلى أموال.

وسرعان ما أشبع جوعه وروى عطشه؛ إلا أنَّ مسألة ندرة المال لم تُعالج بسهولة. كانت المجموعة بأكملها عاطلة عن العمل، باستثناء صُنَّاع السيوف الثلاثة، الذين ازدهرت أوضاعهم المهنية بسبب عدم الأمان السائد في تلك الفترة بدلًا من أن تتدهوَر. ومن أجل رفع معنويات رولاند، وهو شابٌّ ذو طبيعة ودودة متَّقدة، انتخبوه ليشغل المنصب الشاغر كزعيم لهم، بعدما انتهت فترة ولاية كورزبولد.

في ذلك الوقت، كانت العصبة تَجتمِع كل ليلة، بدلًا من مرة واحدة في الأسبوع، وربما يُخمِّن المرء على نحوٍ صحيح أن الوجبة الخفيفة المتكونة من الخبز الأسمر والنقانق تمثِّل الوجبة الوحيدة في اليوم بالنسبة للكثير منهم. ورغم ذلك، لم ينتقص هذا شيئًا من مرحهم، وكانت العوارض الخشبية تهتزُّ مع صخب الأغاني والضحكات، وتردَّدت اللعنات أيضًا على الحكومة المُتكاسِلة، وعلى أمراء نهر الراين الجَشِعين. إلا أن نعمة الخبز الأسمر والنبيذ الرخيص ما كان لها أن تدوم إلى أجلٍ غير مُسمًّى. لقد كانوا مَدينين لصاحب الحانة بفاتورةٍ ذات قيمة كبيرة، ورغم أنه أثبت صبره عليهم، مُمنِّيًا نفسه دومًا بأوقات الرخاء، فإنه تمنَّى مبلغًا على الأقل تحت الحساب. فلقد تخلَّى عنه جميع زبائنه الآخرين، وإن كانوا يُعاقرون الخمر من الأساس، فإنهم كانوا يَختارون مكانًا يكون الخمر فيه خفيفًا ورخيصًا. صمد صاحب الحانة بجسارة لمدة ثلاثة أشهر بعد انتخاب رولاند رئيسًا، ثم أبلغ العصبة، وهو مُتحسِّر على قدَرِه، بأنه مُجبَر على إغلاق حانة راينجولد.

صاح رولاند، وهو يقوم من مكانه على رأس الطاولة، قائلًا: «أَمهِلني أسبوعًا! وسأبذل قصارى جهدي للحصول على مبلغ كافٍ لدَفع الفاتورة على الأقل، ولعله يكون هناك فائض لكلِّ شخصٍ منَّا.»

أثار هذا الوعد استحسانًا بالغًا وقرقَعة أباريق الخمر على الطاولة، والتي كانت فارغة جدًّا حتى شرع صاحب الحانة المُفعَم بالأمل دائمًا في ملئها.

قال رولاند، بينما كانوا يشربون في نخبه الخمر الذي أتى به، عرضَه: «هناك شرط واحد.» وأضاف: «لكي أحصل على هذا المال لا بد أن أفعل شيئًا في المقابل. لديَّ خطة في ذهني، ولكن الكشف عنها سيكون سابقًا لأوانه. فإذا نجَحَت، فلن يُضطرَّ أحد منَّا أن يَحني ظهره أبدًا على منضدة العمل، أو يطرق المعادن إلا لمُتعتنا الشخصية. ولكن أنا عديم الحيلة إذا تصرَّفتُ بمفردي؛ ولذا لا بد أن تَعِدوني بأنكم ستلتزمون بأي تعهُّد أقوم به بالنيابة عنكم، وستتبعونني في أيِّ مخاطَرة أختار أن أقودكم فيها.»

كانت هناك ضجَّة كبيرة بالمكان وعلَتِ الأصوات الصاخبة بالموافقة.

«إذن، موعدنا بعد أسبوع من اليوم!» هكذا قال رولاند، وهو يثبِّت السيف في جانبه، ويلقي بالعباءة على كتفيه بحيث يُخفي تمامًا السلاح الممنوع، ثم لوَّح بيده إلى رفاقه المبتهجين، وخرج في ظلمة الليل.

وبمجرد أن صعد الشاب درجات القبو، وقف في الشارع الضيِّق كما لو أنه مُتردِّد بخصوصِ ما يفعله. جاءه على نحوٍ خافِت صوت أغنية آتية من القبو الذي خرج منه توًّا، فابتسم ابتسامة واهنة وهو يستمع إلى الجوقة الحماسية التي يعرفها جيدًا. ومن اتجاه القصر، تردَّد صدًى أكثر شؤمًا في أجواء الليل؛ الدويُّ الواضح للغضب والألم والذعر والضجة التي يُحدثها الغوغاء حين يطاردهم الجنود ويضربونهم. من الواضح أن الجماهير انخرطت في مهمَّتهم الخائبة والخطيرة المتمثِّلة في التظاهُر، مُعلِنين عن معاناتهم من الجوع، والسلطات تُفرِّق جمعهم؛ وتجعلهم في حراك دائم.

كان الوقت لا يزال مُبكرًا، لم تكن الساعة دقَّت العاشرة بعد؛ كان ضوء البدر يسطع فوق المدينة، رغم ظلمتها. أحكم رولاند عباءته عليه، وسار بسرعة في الاتجاه المعاكس الذي انطلق منه صوت الحشد المضطرب، إلى أن وصل إلى شارع فارجاسه العريض، وهو شارع يمتد إلى الشمال والجنوب، ويَنتهي طرفُه الجنوبي عند الجسر القديم. وعلى طول هذا الشارع، كان يَعيش أغنى تجار فرانكفورت.

استدار رولاند وتوجَّه ببطء نحو النهر، فاحصًا بنظرة ثاقبة المباني الطويلة الرائعة على كلا الجانبين، متدبرًا سؤالًا: أيٌّ منها الأفضل في الوفاء بغرضه؟ فجميعها يبدو منفرًا بالدرجة الكافية؛ فنوافذها مُظلمة، وأغلبها موصدٌ بإحكام؛ وبالطبع، بدا الشارع وكأنه شارع الأموات، ولقد ساهم ضوء القمر الأبيض المُنعكِس على أرضيته المرصوفة بالحجر في تعزيز مَظهره المهجور، بدلًا من التخفيف من وطأة ذلك.

وبالقرب من الجسر، اكتشف بابًا مَتينًا مُواربًا، ومن ورائه ظهر الوهج الأصفر لمصباح. توقَّف لبرهة وفحص بدقَّة واجهة المنزل، الذي بدا بجَماله المعماري الهادئ والوقور أنه دارٌ لأحد الأغنياء. ورغم أن مصارع النوافذ موصَدة، أظهر فحصه عن كثب أشعةً رقيقة من الضوء تتسلَّل من الشقوق؛ ومن ثم استنتج أن ثمة اجتماعًا من نوعٍ ما قيد الانعقاد، على الأرجح اجتماعٌ سريٌّ، دخل أعضاؤه دون سابق إنذار وتركوا الباب مواربًا لاستقبال الوافد القادم.

فكَّر للحظة أن يُغامر بالدخول؛ إلا أنه عندما تذكَّر أن مهمَّته تتطلب إقناع رجل واحد بدلًا من إقناع مجموعة كاملة، تراجع وتذرَّع بالصبر، ولكنه حفظ في ذهنه موقع المنزل واسم صاحبه، عاقدًا العزم على اختيار هذا المبنى كمَسرح لمحاولته الأولى، والعودة إليه في الصباح التالي. فمن شأنه أن يخدم غرضه، شأنه شأن أيِّ مكانٍ مُماثل.

فجأةً تحوَّل انتباه رولاند إلى موقعِه، حيث كان يقف في ضوء القمر الساطع؛ إذ من شارع النهر إلى شارع فارجاسه، تهادَت مجموعة صغيرة وصامته في مِشيتها وكأنها تسير بخطوة رجل واحد. كان ضوء القمر يسطع على نحوٍ شبه مُباشر بطول الشارع، إلا أن المنازل الموجودة ناحية الغرب كانت تقف في بريقه؛ بينما المنازل الموجودة ناحية الشرق كانت لا تزال تقف في الظلام. التصق رولاند بظهره في الحائط المُعتم على يساره، بالقرب من الباب المفتوح جزئيًّا؛ بينه وبين النهر. اقترب الموكب الصامت نحو الباب الموارب؛ حيث وقفوا هناك برهةً ليصطفُّوا في صفين، مُكوِّنين بذلك مَمرًّا لرجل مُلتحٍ طويل القامة وحسن المظهر، والذي سار حتى عتبة الباب ثم استدار ورفع قبَّعته مؤديًا التحية.

ثم قال: «أصدقائي، هذا لُطف منكم، ورغم أنني التزمت الصمت، فصدقوني حين أقول لكم إنني أُقدِّر بشدة موكبَكُم الترحيبي. والآن، ادخلوا معي لنشرب معًا كأسًا من النبيذ، نخْب «ليَحفظ الله مدينتنا المنكوبة!»»

«لا، لا، سيد جوبل. الليلة ليلة مقدَّسة. لقد رافقناك بأمانٍ حتى وصلت إلى أسرَتك المنتظِرة، وفي ذلك اللقاء العائلي ينبغي ألا يكون هناك أيُّ دخلاء. ولكن مساء غدٍ، إذا استقبلتَنا، فسنشرب نخْب المدينة ونخْبك، سيد جوبل!»

لاقى هذا الرأي استحسان الجميع، وانحنى التاجر، بعدما رأى أنهم لن يَقبلوا دعوته الحالية، مُذعنًا لهم وودَّعهم. وحين أُغلق الباب انفضَّ الوفد في مجموعات صغيرة، وذهب كلٌّ منهم في طريقه. خرج رولاند من الظلام وبادر بالحديث مع آخر رجل.

قال: «عفوًا، يا سيدي، ولكن هلا تسمح لي أن أسألك عن الاحتفال الذي شاركت فيه توًّا؟»

نظر الرجل إلى سائله بشيء من الانزعاج، إلا أن ضوء القمر أفصح عن وجهٍ لطيف وساحر على نحوٍ استثنائي، ورغم حداثة سنِّه فإنه يوحي بثقة نقية. كانت نبرة صوته أيضًا مُقنِعة جدًّا وبدتْ خالية حتى من الفضول.

قال الرجل: «لم يكن احتفالًا، وإنما فقط عودة صديقنا، السيد جوبل، إلى بيته.»

«هل كان إذن في رحلة؟»

«سيدي، أنت حديث السنِّ جدًّا، وعلى الأرجح لستَ مُلمًّا بمجريات الأمور في فرانكفورت.»

قال رولاند: «أنا أعيش هنا طوال حياتي.» وتابع: «أنا من سكان فرانكفورت الأصليين.»

رد عليه الرجل قائلًا: «في هذه الحالة، أنت تُظهِر نفسك جاهلًا بهمومها على نحوٍ مذهل؛ وإلا لعرفتَ أن السيد جوبل هو أحد أبرز تجار المدينة؛ فهو رجل شريف ومستنير ومجتهد — قدوة لنا جميعًا، ويحظى باحترام النُّبلاء والبسطاء على حدٍّ سواء. نحن نُكرم أنفسنا بتكريمنا إياه.»

«لا بد أن السيد جوبل فخور بمثل هذا المديح، يا سيدي، الذي يأتي — في رأيي — من شخص قد تَنطبِق عليه نفس الكلمات التي تستخدمها.»

انحنى التاجر برزانة على هذا الإطراء ولكنه لم يُعلِّق عليه.

أردف الشاب قائلًا: «اعذرني على فضولي الزائد، ولكن من أين عاد السيد جوبل؟»

قال الآخر: «عاد من السجن.» وتابع: «لقد أخطأ في الاعتقاد بأنَّ أميرنا الشاب سيكون حاكمًا أفضلَ من والده الإمبراطور، وأن رؤساء الأساقفة كانوا يَخشون وقوع أحداث شغْب إذا ما تعدَّوا حدودهم، والسيد جوبل خاض مجازفة كبيرة بفقد حياته، لا حريته فقط.»

«ما تقوله يُهمني كثيرًا، يا سيدي، وأشكرك على لطفك. وإليكَ عُذري لاستجوابك. أنا تُحرِّكني الرغبة في العمل مع رجل مثل السيد جوبل، وأنوي أن أزوره غدًا، إن كنتَ تظنُّ أنه سيكون كريمًا بالقدر الكافي ليستقبلني.»

أجاب الرجل قائلًا: «سيَستقبلُك بلا شك؛ ولكني واثق تمامًا من أن مهمتك ستفشل. في الوقت الراهن، لا أحد منا يُشغِّل أفرادًا، حتى وإن كانوا أكْفاء. ورغم جهلك بالشئون المدنية، يجب أن تكون على دراية بأن جميع الأعمال التجارية متوقِّفة في فرانكفورت. وعلى الرغم من أن السيد جوبل لم يقُل شيئًا عن هذا، فإنني علمت من مصدر موثوق فيه أنه يقي جميع موظفيه السابقين شرَّ المجاعة؛ ولذا أنا متأكد من أنه لن يتحمَّل أي التزامات إضافية نحو شخص غريب.»

«سيدي، أنا على دراية تامة بالأوضاع الراهنة، ولكن المقصد من رغبتي في التحدُّث مع السيد جوبل يتلخَّص في اقتراح حل. وأنا لا أحظى بشرف معرفة أي تاجر من تجار هذه المدينة، وأحد أهداف مُبادرتي بالحديث معك هو التعرُّف، إن أمكن، على إمكانية تقديمي إلى التاجر بحيث أضمن استقباله لي، وقبوله بالاستماع إليَّ بمجرَّد أن أدخل بيته.»

إذا كان رولاند يتوقَّع من هذا الغريب أن يتطوَّع بتقديمه، فإنه يستخفُّ تمامًا بالحذر الذي يتخذه تجار فرانكفورت.

«كما قلتُ لك من قبل، لن تُواجه أيَّ صعوبات في مقابلته ما دام أنه مسموح بدخول المنزل. هل لي أن أعتبرَك تَعرف فن الكتابة؟»

أجاب رولاند قائلًا: «أوه، أجل.»

«إذن، اكتُب خطابَ التقديم الخاص بك. وقل فيه إنك وضعتَ خطةً لإصلاح فرانكفورت، وسيَستقبلُك السيد جوبل بلا تردُّد. وسيُصغي إليكَ بصبر، ويعطيك قرارًا محددًا بخصوص جدوى مشروعك. والآن، يا سيدي، طريقي في اتجاه اليسار. أتمنَّى لك النجاح، عِمتَ مساءً.»

ترك الغريب رولاند واقفًا عند تقاطع شارعَين، أحدهما يقود إلى قصر سالهوف. كانا يقتربان من رومربيرج، أو السوق، قلب فرانكفورت، حين توقَّف التاجر فجأة عن الحديث وتنحَّى جانبًا. تذكَّر رولاند أنه لا يُسمح بأن تطأ قدم يهوديٍّ رومربيرج، حينئذٍ تكهَّن بالجماعة العِرقية التي يَنتمِي إليها رفيقه الأخير. تقدَّم الشاب وحده عبر رومربيرج، وتوجَّه مباشرة نحو النهر، حتى وصل إلى الموضع حيث يواجه قصر سالهوف الضخم مجرى النهر. رأى رولاند أن مجموعات الحرس الثلاثية تُحيط بقصر الإمبراطور. لقد تفرَّق الحشد؛ ولكن لم يكن مسموحًا لأحد أن يتسكَّع في محيطه؛ لذا أُمر الشاب بفظاظة أن يبتعد ويذهب إلى مكانٍ آخر، ففعل ذلك على الفور، وسار في طريقه إلى شارع سالجاسه، ومرَّ على الكاتدرائية، حتى دخل مرة أخرى إلى شارع فارجاسه، ومن هناك مضى قُدمًا، وتوقَّف برهةً ليلقي نظرة أخرى على منزل جوبل، حتى وصل إلى الجسر، حيث وقف مُسندًا ذراعَيه على الحاجز، مُفكِّرًا في صياغةِ ما سيقوله إلى السيد جوبل في الصباح.

على طول الجانب المقابل من النهر وقفَت مجموعةٌ صغيرة من مراكب نقل البضائع، والتي بدَت قبيحةً وكئيبة وسوداء في ضوء القمر، وكأنها شهودٌ صامتة على خراب فرانكفورت. حدَّق الشاب في هذا التكدُّس الباعث على الكآبة للمراكب العديمة الفائدة الطافية على سطح الماء، وشعر بارتياح حين اعتقد أنَّ الشخص الذي بإمكانه أن يُحرِّك هذه المراكب مرةً أخرى سيَثبُت، مؤقتًا على الأقل، أنه مُنقِذ المدينة.

وعندما بدأتِ الأجراس تُعلِن دقات الساعة الحادية عشرة، تحرَّك رولاند، وسار عبر الجسر إلى حي زاكسينهاوزن، ومنه إلى مسكنه الحقير، مُواسِيًا نفسه بوجه التشابه الذي جعل الملك شارلمان العظيم يتخذ من هذا المكان مكان إقامته الخاصة. وقبل أن يأوي إلى الفراش، كتب الخطاب الذي يتعيَّن عليه إرساله غدًا إلى السيد جوبل، صائغًا إياه بحرص بحيث يثير الفضول دون أن يشبعه.

وفي الساعة العاشرة والنصف من صباح اليوم التالي، كان رولاند يقف عند باب التاجر القيادي في شارع فارجاسه، وأرسل إلى سيادته رسالته المُصاغة بتروٍّ. ظلَّ ينتظر في الرواق وقتًا أطول مما كان يتوقَّعُه، ولكن في النهاية ظهر البواب المهيب، وقال إن السيد جوبل سيَسعَد باستقباله. اقتيد ليَصعد السلَّم إلى الطابَق الأول، ثم إلى غرفة استقبالٍ بدَت كأنَّها مكتبة في جزء منها، والجزء الآخر كأنه مكتبٌ لإدارة الأعمال. هناك جلس إلى طاولة متينة، وتعرَّف على التاجر الوقور الذي شهد موكب عودتِه إلى المنزل في الليلة السابقة.

بدَت عينا التاجر الثاقبتان تَخترِقان أعمق أفكاره، وقد اندهش رولاند من ظهور خيبة الأمل فيهما؛ لأنه على الأرجَح لم يتوقَّع أن يكون زائرُه حديث السن جدًّا.

قال مُضيفه: «هلا تجلس، يا سيدي؟» وقبِلَ رولاند الدعوة بإيماءة من رأسه، واستطرَدَ الرجل الأكبر سنًّا قائلًا: «وقتي مشغول تمامًا اليوم؛ إذ على الرغم من أن الأعمال التجارية مَحدودة في فرانكفورت، فإن شئوني الخاصَّة قد أُهملَت مؤخَّرًا، وأنا أُحاوِل تدارُك ذلك.»

قال رولاند: «أعرف ذلك.» وتابع: «كنتُ أقف على بابك ليلة أمس حين عُدتَ إلى المنزل.»

«هل فعلت ذلك؟ هل لي أن أسألك عن السبب؟»

«لم يكن هناك سبب محدَّد. صادف أنني كنتُ أسير في شارع فارجاسه، محاولًا أن أحسم أمري بخصوص مَن ينبغي عليَّ زيارتُه اليوم.»

«ولماذا فضَّلتَني أنا على الآخرين؟»

«ربما، يا سيدي، سيكون من الأدقِّ أن نقول إنَّ منزلك هو الذي حظيَ بالتفضيل، إذا جاز لنا التعبير. أدهَشَني مظهرُه الخارجي الذي ينمُّ عن المتانة والثراء، ونظرًا لأنه كان مختلفًا عن بقية المنازل بسبب بابه المُوارب؛ فقد تباطأتُ أمامه الليلة الماضية ولديَّ بعض الميل للدخول. ثم جاء الموكب الذي كان يصاحبك. وسمعت خُطبتك إلى أصدقائك، وتساءلت في نفسي عما تدور حوله هذه الرسميات. وبعد أن أُغلق الباب، بادرت بالحديث مع أحد الأشخاص الذين كانوا يُرافقونك، وعرفتُ اسمك ومهنتك وسُمعتك.»

«لا بد أنك غريب في فرانكفورت ما دمتَ احتَجتَ إلى طرح هذه الأسئلة.»

«هذا تقريبًا نفسُ ما قاله لي الشخص الذي تحدَّثتُ إليه ليلة أمس، وبدَت عليه الدهشة حين أجبتُه بأنني مولود في فرانكفورت، وعشتُ حياتي كلها هنا.»

«أها، أظنُّ أنه لا يوجد رجل عليم جدًّا بكل الأمور كما يظنُّ نفسه؛ إلا أنَّني أغامر بالتأكيد على أنكَ لستَ مُنخرطًا في الشئون العامة هنا.»

«أنت مُحق، يا سيدي. أخشى أن أقول إنني حتى الآن أعيش حياة لا جَدوى منها بعض الشيء.»

«ربما تعيش على أموالٍ يَكتسبُها شخص آخر.»

«لقد أصبتَ كبدَ الحقيقة مرةً أخرى، سيد جوبل. أنا أعيش على الجانب الآخر من النهر، وآتي إلى هنا كلَّ يوم، وتُزعجني رؤية هذه المراكب العديمة الفائدة؛ ولذا وضعتُ خطة لتحريكها مرةً أخرى.»

«أخشى أن أقول لك يا سيدي إن أشخاصًا أرجحَ منك عقلًا تدبَّرُوا هذا المشروع بلا جدوى.»

«سيسرُّني أكثر، سيد جوبل، لو قلت «أكبر منك سنًّا».»

لاح شبح ابتسامة عابرة للحظة وجيزة على الشفتين الحازمتين الصارمتين للتاجر.

ثم قال: «سيدي الشاب، تأنيبك اللطيف في محله. أنا لا أعرف شيئًا عن حكمتك؛ ومن ثمَّ كنت أشير إلى سنك، لا قُدراتك العقلية. يبدو لي، عندما أتفرَّس ملامحك عن قرب أكثر، أنني التقيتُ بك من قبل. يبدو وجهك مألوفًا.»

«أظن أنه مجرد تشابه في الملامح. فحتى وقت قريب جدًّا، كنت مُستغرقًا في دراستي، ونادرًا ما كنتُ أترك منزل أبي.»

«لا شك أنني مُخطئ. ولكن دعنا نَعُد إلى موضوعنا. بما أنك تجهل اسمي ومكانتي في هذه المدينة، فأنت على الأرجح غافل عن الجهود المبذولة بالفعل للتخلص من المأزق الذي يواجهنا على نهر الراين.»

«في هذا الصدد، أنت مخطئ، سيد جوبل. أعرف أن حملةً حمقاء قد أُطلقت بتكلفة مهولة، وأن المراكب الفارغة، التي عددُها يقترب من المائة، تقف الآن في أعمق جزء من نهر الراين.»

«لماذا تُطلِق عليها حملة حمقاء؟»

«بالتأكيد، النتيجة تُظهِر أنها كذلك.»

«ربما تنتهي أي خطة بكارثة، حتى عند اتخاذ جميع الاحتياطات. لقد قمنا بأفضل ما في وسعنا، ولولا أن الرجال الذين استأجرناهم لحماية الأسطول تركوا مواقعهم، بجبنٍ خسيس، لكانت هذه المراكب قد وصلت إلى كولونيا.»

«مطلقًا! كان المدافعون الذين قمتم باختيارهم من حثالة القوم، وقد اختيروا من عند أحقر أحياء فرانكفورت، ولقد افترضتُم أن هؤلاء الحثالة، الهمج وغير المدرَّبين، من شأنهم أن يتصدَّوا للمُقاتلين الشجعان التابعين للبارونات، المتبجحين، المتمرِّسين في حمل السيوف والرِّماح. ما الذي كان مُتوقَّعًا منهم غير ذلك؟ لم تكن البضاعة تخصُّهم؛ إنما تخصُّكم أنتم. لقد حصَلوا على أجورهم؛ ومن ثمَّ أبعدوا أنفسهم بسرعة عن الخطر.»

«لقد نسيتَ، يا سيدي، أو لعلك لا تعرف، أن عدة مئات منهم قُطعوا إربًا.»

«أعرف ذلك أيضًا، ولكن المعرفة لا تَدحض نقطة خلافي على الإطلاق. أنا أحاول أن أبيِّن لك أن مَن كنت تتحدَّث عنهم قبل دقيقة هم مجرد أشخاص أكبر سنًّا مني، ولكن ليسوا بالضرورة أكثر حكمة منِّي. سيكون من المستحيل بالنسبة إليَّ إعداد حملة حمقاء كهذه.»

«وماذا كان يَنبغي علينا القيام به؟»

«كان ينبغي عليكم الذهاب بأنفسكم، والدفاع عن بالاتكم.»

بدت على التاجر علامات واضحة على الغضب المتصاعِد ببطء داخله، ولو أن عقل الشاب كان يتمتَّع بالحكمة التي بدا أنه يدعيها، لعرف أن مُلاحظاته تفتقر إلى اللباقة، وأنه لا يُحرز أيَّ تقدُّم؛ وإنما العكس تمامًا. قال التاجر: «أنت تتحدث كشابٍّ طائش وساذَج. كيف يتسنَّى لنا أن ندافع عن بالاتنا، في حين أنه لا يُسمح لأي تاجر بحمل السيف؟»

وقف رولاند ووضع يدَيه على طوق عباءته.

«أنا لا يُسمح لي بحمل السيف»؛ وبعد أن قال هذا، فتح عباءته بأسلوب درامي، مستعرضًا السلاح المحظور الذي كان يتدلَّى من حزامه. جلس التاجر في كرسيه، وقد بدا عليه الاندهاش الشديد.

قال: «يبدو أنك تثقُ فيَّ ثقةً كبيرة.» وتابع: «ماذا لو أبلغتُ السلطات؟»

ابتسم الشاب.

وقال: «سيد جوبل، يبدو أنكَ نسيتَ أنني عرفت الكثير عنك من صديقك ليلة أمس. أشعر بالأمان تمامًا في منزلك.»

أسدل العباءة مرةً أخرى على السلاح، وجلس ثانيةً.

سأله التاجر: «ما مِهنتك، يا سيدي؟»

«أنا معلِّم فنون المبارَزة بالسيف. وأمارس فن المبارزة.»

«إذن، زبائنك من الطبقة الأرستقراطية؟»

«ليس الأمر كذلك. الطبقة التي أتعامل معها الآن تتكوَّن من عشرين حِرفيًّا في نفس عمري تقريبًا.»

«إذا كانوا لا يَنتمون إلى الطبقة الأرستقراطية، فلا بد أن تعليمك سريٌّ؛ لأنه مخالف للقانون.»

«إنه سريٌّ ومُخالف للقانون على حدٍّ سواء، ولكن على الرغم من هذين الأمرين، تلاميذي العشرون هم أفضل مُبارِزين بالسيف في فرانكفورت، وسأكون على استعداد لتحريضهم ضد عشرين رجلًا من النُّبلاء أعرفهم.»

صاح التاجر قائلًا: «حسنًا!» وأردف: «أنت تعرف عشرين نبيلًا، أليس كذلك؟»

أوضح الشاب، وقد تورَّد وجهه قليلًا، قائلًا: «حسنًا، كما تلاحظ، هؤلاء الحدَّادون الذين أُدرِّبُهم لا يستطيعون تحمُّل تكلفة دروسهم؛ نظرًا لكونهم عاطلين عن العمل، وبطبيعة الحال، كما أشرت، يَجب أن يبحث مُعلِّم المبارزة بالسيف عن النبلاء من أجل لقمة عيشه. لقد استخدمت كلمة «أعرف» على نحوٍ غير دقيق. أنا أعرف النبلاء بنفس الطريقة التي ربما يقول بها موظَّفٌ في تجارة الصوف إنه يَعرف عددًا من التجار، ولكنه لم يتحدَّث أبدًا مع واحد منهم.»

«أتفهَّم ذلك. ولكن هل أفهم أن نجاح مشروعك لفتح نهر الراين مُتوقِّف على هؤلاء الحدادين العشرين، الذين يَعرفون تمامًا كيف يتعاملون مع سيوفهم على نحوٍ غير قانوني؟»

«أجل.»

«أَخبِرني ما خطتك.»

«لا أرغب في الإفصاح عن خطتي، حتى إليك.»

«ظننتُ أنكَ جئت هنا على أمل قيامي بتأييد مشروعك، وربما تمويله أيضًا. هل أنا مُخطئ في هذا التخمين؟»

«سيدي، أنتَ لست مخطئًا. الشرط الأول أن تدفع لي على هذه الطاولة ألف تالر ذهبي.»

لاحت الابتسامة مرةً أخرى على شفتَي التاجر.

سأله: «أي شيء آخر؟»

«أجل. ستَختار واحدةً من كبرى بالاتك، وتملؤها بأي فئة من السلع التي تتاجر فيها.»

«ألا تَعرف أي فئة من البضائع أتاجر فيها؟»

«نعم! لا أعرف.»

اتسعَت ابتسامة جوبل. إن مَجيء ذلك الشاب الذي كان جاهلًا بكل شيء مُتعلِّق بالتجارة في فرانكفورت، بهذه الجرأة وطلبه ألف تالر ذهبي من رجلٍ لا يعرف مهنته، بدا بالنسبة إلى التاجر واحدة من كُبرى الوقاحات التي واجَهَها في تعاملاته الطويلة مع البشر.

قال: «على أيِّ حال، تجارتي لا تهمُّ بطريقة أو بأخرى حين أتعامل مع عميل مثلك. ماذا أيضًا؟»

«بعد ذلك ستُخصِّص سعرًا لحمولة السفينة؛ سعرًا من شأنك أن تقبله إذا وصلت السفينة إلى كولونيا سليمة. وأُوافِق على دفع ذلك المبلغ لك، بالإضافة إلى الألف تالر، حين أعود إلى فرانكفورت.»

«ومتى سيكون ذلك، سيدي الشاب؟»

«أنت أفضل منِّي في تقدير طول الفترة الزمنية. أنا لا أعرف، مثلًا، المدة التي يستغرقها المركب في رحلته من فرانكفورت إلى كولونيا.»

«بالوضع في الاعتبار الطقس المعتدل، الذي ربما نتوقعه في فصل يوليو، وبافتراض عدم حدوث أي مقاطعات، لنَقُل أسبوعًا.»

«هل سيصل رجلٌ يُسافر برًّا على ظهر حصان من كولونيا إلى فرانكفورت إلى هنا أسرع من القارب؟»

«نظرًا لأن السفينة بحاجة إلى شقِّ الطريق عكس اتجاه تيَّار قوي، فيجب أن أقول إن الفارس سيُنجِز الرحلة في ثلث الوقت.»

«جيد جدًّا. تحسبًا لجميع الحالات الطارئة، أعدكَ بأن أردَّ المال بعد شهر من تركنا رصيف الميناء بفرانكفورت.»

«هذا من شأنه أن يكون مُرضيًا إلى حدٍّ كبير.»

«نسيت أن أذكر أنني أتوقَّع منك، بما أنك تعرف الملاحة أفضل منِّي، تزويدنا بقبطان جدير بالثقة وطاقم كفء على المركب. أريد رجالًا يَفهمون تيارات النهر، والذين إذا استجوبهم البارونات، لن يردوا على الأرجح بأكثر مما هو مطلوب.»

«يُمكنني أن أوفِّر بكل سهولة هذه المجموعة من البحَّارة.»

«جيد جدًّا، سيد جوبل. هذه هي طلباتي. هل تُوافق على توفيرها لي؟»

«بكل سرور، صديقي الشاب المُتحمِّس، بشرط أن تلتزم بواحدة من أكثر القواعد التجارية شيوعًا.»

«وما هي، يا سيدي؟»

«قبل أن ترحل، ستترك لي الضمان الكافي بحيث إذا لم أرَكَ ثانيةً مُطلقًا، فقيمة البضائع، بالإضافة إلى الألف تالر، ستردُّ إليَّ عندما يمر الشهر.»

قال الشاب: «أها! أنت تَفرض شرطًا مستحيلًا.»

«إذن، أعطني سندًا، موقَّعًا من ثلاثة تجار جديرين بالثقة.»

«سيدي، بما أنني لا أعرف أيَّ تاجر في هذه المدينة باستثنائك أنت، فكيف يتسنَّى لي الحصول على توقيع شخص واحد جدير بالثقة حتى؟»

«إذن، كيف تتوقَّع أن تَحصُل على موافقتي على مشروعٍ لا أرى إمكانية نجاحه، بينما أتحمَّل أنا المخاطر كلها؟»

«عذرًا، سيد جوبل. أنا ورفاقي سنُخاطر بحياتنا. بينما أنت ستخاطر بأموالك وبضاعتك فقط.»

«إذن، أنت عازم على شقِّ طريقك عبر نهر الراين؟»

«بالتأكيد. هل ثمة طريقة أخرى؟»

«بصحبة عشرين رجلًا فقط؟»

«أجل.»

«وتأمُل أن تنجح فيما فشل فيه ألف رجل من رجالنا؟»

«أجل، كما قلتُ لك كانوا مرتزقة. برجالي العشرين، يُمكنني أن أجعلهم جميعًا يفِرُّون. وبعيدًا عن هذا، أودُّ أن أشير لك إلى أن تجار فرانكفورت شكَّلوا اتحادهم في اجتماعات عامة، وقد جمعهم عمدة المدينة. لم تكن مُداولاتهم سرية. إن جميع البارونات اللصوص على طول نهر الراين كانوا يَعرفون أنكم كنتم ستُحاولون المرور، وكانوا مستعدِّين لمجيئكم. أعتزم أن تترك مركبُكم فرانكفورت في منتصَف الليل. ستتقدَّم مجموعتي عبر البلاد وتنضمُّ إليه عند نقطةٍ متَّفَقٍ عليها، على الأرجح بعد بينجن.»

«أتفهَّم ذلك. حسنًا، صديقي الشاب، لقد قدمتَ لي عرضًا مُثيرًا جدًّا للاهتمام، ولكني رجل أعمال، ولست مُغامرًا. وما لم يكن بوسعك أن تقدِّم لي سندَ ضمان، أرفض تقديم تالر واحدٍ، فضلًا عن ألف.»

هبَّ الشاب واقفًا على قدمَيه، وبدا أنَّ التاجر، الذي تنفَّس الصعداء، قد سعد بانتهاء اللقاء.

«سيد جوبل، لقد خيبتَ ظنِّي بشدة.»

«يؤسفني ذلك، ويؤسفني أن أخسر رأيك السديد، ولكن بالرغم من تلك الخسارة يجب أن أصرَّ على عنادي.»

«لا أعجب من أن هذه المدينة الجميلة يَستفحِل بها الفقر إذا كان ازدهارها متوقِّفًا على تجَّارها، وإذا كنتَ أنتَ قائدًا عليهم؛ ومع ذلك، لا يُمكنني أن أنسى أنك خاطرت بحياتك وحريتك بالنيابة عنِّي، رغم أنك الآن لن تخاطر بألف تالر بائسة بكلمة شرف منِّي.»

«بالنيابة «عنك»؟ ماذا تقصد؟»

«أقصد، سيد جوبل، أنني الأمير رولاند، الابن الوحيد للإمبراطور، وأنكَ خاطرتَ بحياتِك لأرتقيَ أنا إلى العرش.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤