الفصل الثاني عشر

مارجريف فورستنبرج الأحمر الضاحك

ضحك إبرهارد، وأخذ خُطوتين إلى الأمام. فكلما زادت الأمور جدية، كان بإمكان المرء دومًا أن يعتمد على ضحكة من إبرهارد.

قال: «معذرة، أيها القائد، ولكنَّك وضعتني أنا وجريسل في موضع مسئولية عن هذه المجموعة الورعة والتقية؛ وبما أنني أقل واحد في مساعديك، فيجب أن أتحمَّل العبء الأكبر لفشلِنا في الحفاظ على هذه الحملان مُسالِمة لهذه الليلة. قف يا جريسل خلفي وأمام القائد. وبما أنني متَّزن إلى حدٍّ معقول، فأعتقد أنني أستطيع قطع رقاب ستة من هؤلاء الأبرياء قبل أن يقضوا عليَّ. وأنت ستهتمُّ بالستة التاليين، تاركًا ستة لرولاند ليَقتلهم بطريقته. والآن، تفضَّل، يا سيد كونراد كورزبولد.»

قال كورزبولد: «ليس لدينا خلاف معك. تنحَّ جانبًا.»

«ولكني مُصرٌّ على مبارزتك، أيها الخنزير الهمجي. دافِع عن نفسك؛ لأنني، بحق ملوك المجوس الثلاثة، سأَنزع السدادة عن برميل النبيذ المتحرِّك الخاص بك!»

لكن كورزبولد تراجع بسرعة شديدة، مما أوقع على الأرض واحدًا أو اثنَين ممَّن كانوا وراءه، والستة رجال الذين كان من نصيب رولاند مبارزتهم سقطوا بعضهم فوق بعض أسفل السلم الشديد الانحدار إلى المقصورة.

ضحك إبرهارد مرةً أخرى حين اختفى آخر رجل.

وقال لرولاند: «أظنُّ أنك لن تواجه المزيد من المتاعب من جانب أصدقائنا. من الواضح أنهم كسروا الخزانات، وارتعبوا لأنني أنا وجريسل طلبنا تأجيل التقسيم، ربما بنيَّة إجراء التقسيم دون مساعدتنا.»

سأله جريسل: «هل أخفيت المال؟»

رد رولاند: «ليس بالضبط، ولكن في حال إذا ما حدث أيُّ شيء لي، فسأخبرك بما فعلته به.»

وأضاف، بعد أن أنهى جملته الأخيرة، قائلًا:

«سأُعطي كلًّا منكما خطابًا إلى السيد جوبل، أُعرِّفه فيه بكما. ويحقُّ له الحصول على أربعة آلاف وخمسمائة تالر من المال. أما الباقي، فستقومان بتوزيعه على مَن يبقى منا على قيد الحياة.»

خلد رولاند إلى النوم على سطح السفينة، مُتدثرًا بعباءته. وتناوب نائباه على الحراسة، بيدَ إنه لم يصدر أي صوت من المقصورة سوى غطيط. لم يستيقظ المتمرِّدون مبكرًا جدًّا في صبيحة اليوم التالي. وكانت الشمس تعدُ بيومٍ دافئ آخر، وأخذ رولاند يذرع سطح السفينة جَيئة وذهابًا، وعلامات القلق مرسومة على جبينه. وقد عزم على مهاجمة قلعة البارون الضاحك، الذي كان ذا بِنية عملاقة، ويُقال عنه إنه الأذكى، والأشرس، والأشجع بين النبلاء السارقين على طول نهر الراين، وتشتهِر قلعتُه بأنها الأصعب في اختراقها على طول ضفاف ذلك النهر الشهير. ولعدة أسباب، لن يكون من الحكمة التسكع لفترة أطول في منطقة لورش. والثلاث قلاع التي دخلوها في اليوم السابق كانت لا تزال على مرمى البصر من الضفة الغربية. ولا شك أن أخبار الغارات ستتناقل حتى تصل إلى فورستنبرج التي هي أيضًا على امتداد البصر أسفل النهر؛ ومن ثمَّ المارجريف الضاحك سيأخذ حذَره، ويَبتهج بفرصة مُحاصَرة اللصوص المحتملين. كما تُعد فورستنبرج إقطاعية تابعة لكولونيا، وأي اعتداء عليها سيورط أطرافه، إذا جرى التعرف عليهم، في الدخول في تعقيدات مع الكنيسة ورئيس الأساقفة.

ومن ثمَّ كان من الضروري التحرُّك بحذر، والانسحاب خلسة، إن أمكن. كانت هاتان الصعوبتان وحدهما كافيتَين لإيقاف أجرأ الرجال، بيد أن رولاند كان يعوقه أيضًا رجاله. فكيف يتسنَّى له تنفيذ أي خطة معقَّدة تتطلب الصمت، والطاعة الفورية، ودرجة كبيرة من اليقظة، ولديه رجال أذهانهم مغيبة بسبب الشراب، وسلوكهم متشبع بالتآمر ضده؟ كان لديهم ما يَكفي من النبيذ على متن السفينة ليواصلوا عربدتهم، وكان عاجزًا تمامًا عن منعهم من الإسراف في الشرب. وبتنهيدة عميقة، أدرك أنه سيضطر إلى عدم مهاجمة فورستنبرج؛ ومن ثمَّ سيترك خلفه قلعة مهمة، وهو ما كان يعرف أنه تكتيك سيئ من الناحية العسكرية.

وأثناء تأمُّلاته، كان رجاله يخرجون من المقصورة الخانقة إلى الهواء الطلق وأشعة الشمس. خرجوا مثنى وثُلاث، يَتثاءبون ويَفركون أعينهم، ولكن لم يُغامر أحد بمقاطعة القائد، وهو يقطع سطح السفينة جَيئة وذهابًا محنيًا رأسه. بالطبع، بدا الرجال خاضعين لأبعد الحدود. نزلوا من السفينة إلى الجزيرة بلا مبالاة مُبالغ فيها تقريبًا، ومشوا الهوينى نحو الطرف الأدنى منها، ومن هناك وفي ظل هواء الصباح النقي كان يمكن رؤية قلعة فورستنبرج الكئيبة بكل وضوح قطريًّا عبر النهر. لقد كان إبرهارد هو مَن قاطع تأمُّلات رولاند.

«يبدو أصدقاؤنا هادئين جدًّا هذا الصباح، ولكنِّي ألاحظ أنهم اجتمعوا عند الجزء الشمالي من الجزيرة متَّخذين إياه مكانًا للتمشية قبل الإفطار. أظن أنهم يعقدون اجتماعًا رسميًّا للعُصبة، ولكن لم تتمَّ دعوتي أنا وجريسل، ولذا أفترض أنه بعد موقف الليلة الماضية، لم يعودوا يَعتبروننا أخوَين لهم. بالنسبة إليَّ يبدو هذا الخنوع من جانبهم أكثر خطورة من اضطراب الليلة الماضية. أظنُّ أنهم سيطلبون منك معرفة ما الذي حدث للنقود. هل اتخذت قرارًا بخصوص ردِّك بشأن هذا؟»

«أجل؛ من حقهم أن يعرفوا، ولذا سأخبرهم بالحقيقة. بحلول هذا الوقت، يكون كروجر في طريقه إلى مكانٍ ما بين إيرنفيلس وفيسبادن. إنه سيصل إلى فرانكفورت الليلة، ولا يُمكن اللحاق به.»

«أليس هناك احتمال أن يُغادروا جميعًا، ويعودوا إلى فرانكفورت، ويطلبوا من السيد جوبل نصيبهم من الغنيمة؟»

رد رولاند قائلًا: «لا يهمُّ ذلك. لن يوزع جوبل كرويتسرًا واحدًا إلا بضمان الخطابين اللذَين سأُعطيهما لك ولجريسل، وحتى مع ذلك، لن يفعل إلا إذا أثبتما وفاتي.»

قال إبرهارد مُعترضًا: «هذا كله جيد جدًّا، ولكن ألا ترى أيَّ سُلطة خطيرة تضعها في أيدي هؤلاء المتمردين؟ جوبل مجرد تاجر، وبالرغم من أنه ثري، فهو لا حول له ولا قوة على الصعيد السياسي. لقد دخل بالفعل صراعًا مع السلطات، وقضى فترة بالسجن. ولا تنسى أن رؤساء الأساقفة رفضوا اتخاذ أيِّ إجراءات ضد هؤلاء البارونات اللصوص. وبإمكان رجالنا، إذا كان من بينهم رجل عاقل ورشيد، أن يبثوا الرعب بكل سهولة في قلب جوبل لدرجةِ أن يُقسِّم الكنز بالتهديد بالاعتراف على أنفسهم وعليه فيما يتعلَّق بالاشتراك في الغارات. فكَّر في الحجة المُقنعة التي يُمكنهم طرحها، موضِّحين أنهم انضموا إلى هذه الحملة عن جهلٍ بأغراضها؛ ولكن في اليوم الأول، حين علموا ماذا يَجري، تركوا قائدهم المجرم، وهم الآن يَسعون إلى التعويض. وجوبل قليل الحيلة. إذا قال إنهم طلبوا الأموال منه أولًا، فسيُنكرون بشدة، ويجب أن يتمَّ تصديق إنكارهم؛ لأنهم أتوَا بمحض إرادتهم إلى السلطات. وعند التحقيق في الأمر سيثبت أن التاجر — الذي تلطَّخت سمعتُه بالخيانة، وعانى السجن، وأفلت بشق الأنفس من الشنق — متورِّط مِن قِمَّة رأسه إلى أخمص قدمِه في هذه القضية. وليس هناك صعوبة في معرفة أن سفينتَه شقَّت طريقها أسفل النهر، وهي مزوَّدة بطاقم من اختياره. بالطبع، لن يضطرَّ جوبل أبدًا إلى الوصول إلى هذه النقطة؛ لأنه، نظرًا لكونه رجلًا داهية، باستطاعته على الفور أن يرى الخطر الشديد الذي يواجهه، وسيقتنع من خلال قصة الرجال بأنهم كانوا على الأقل جزءًا من فرقتِك، وسيُسلِّم لهم الكنز. ألا ترى أنه يجب عليه فعل ذلك لينقذ رقبته؟»

فكَّر رولاند بعمق فيما قيل له، ولكن مرَّت دقيقة دون أن يرد. ظلَّ جريسل، الذي انضمَّ إليهما أثناء المحادثة، صامتًا حتى انتهى إبرهارد من الحديث، ثم تحدث قائلًا:

«أنا متفق تمامًا مع كل كلمة قيلت.»

تساءل رولاند: «إذن، بما تنصحانني؟»

قال جريسل: «لقد كنت أتحدث مع واحد أو اثنين من الرجال. إنهم لن يتحدثوا إلى إبرهارد لأنه رفع سيفَه عليهم. واكتشفتُ أنهم يَعتقدُون أنك استغللتَ غيابهم لتدفن الذهب فيما تَفترض أنه مكان آمن. وهم متأكدون من أنك لا تعرف أحدًا في لورش بإمكانك أن تأتمنَه على المال، وبالطبع هم لا يشكُّون في مجيء مبعوث من فرانكفورت. وينبغي أن أنصحك أن تقول إن الترتيبات قد تمَّت بحيث يحصل كل رجل على نصيبه ما دام لم يُحدِث لك أي شيء سيئ. فهذا سيحافظ على حياتك إذا ما ذهبوا إلى حد تهديدها، ويُرغمهم على البقاء معنا. ففي النهاية، نحن مجرد حرفيين، ولسنا مقاتلين. وأنا مُقتنِع أننا إذا تعرَّضنا إلى هجوم حقًّا، فلسوف نُقدِّم عرضًا سيئًا للغاية، حتى وإن كنَّا نَحمل سيوفًا. تذكَّر كيف تعثَّر الرجال وسقطوا بعضهم فوق بعض وهم في عجلة للفرار بعيدًا عندما لوَّح إبرهارد بسيفه.»

علَّق إبرهارد قائلًا: «أعتقد أن اقتراح جريسل ممتاز.»

قال رولاند: «عظيم جدًّا، سأتبناه، على الرغم من أنني عقدتُ النية على تبصيرهم بالحقيقة.»

واصل إبرهارد قائلًا: «هناك أمر آخر أودُّ أن أتحدَّث معك بخصوصه. في أسمانسهاوزن، ولورش، ليلة أمس، سمعنا الكثير عن فورستنبرج. إنها أخطر قلعة على نهر الراين فيما يتعلَّق بالهجوم عليها. البارون الضاحك، كما يطلقون عليه، على الرغم من أنه مارجريف، هو الرجل الوحيد الذي جَرُؤ على منْع أي ملك من المضيِّ قُدمًا على طول نهر الراين، واحتجازه طلبًا للفدية.»

قال رولاند: «أجل؛ أدولف كونت ناسو وهو في طريقه لتولي العرش في مدينة آخن.»

«تمامًا. حسنًا، هذا الهمجي الضخم … أنا لا أستطيع تذكُّر اسمه مطلقًا؛ هل يمكنك ذلك يا جريسل؟»

«كلا، لا يُمكنني ذلك.»

قال رولاند بمَهابة شديدة لدرجة أن إبرهارد ضحك وحتى جريسل ابتسم: «المارجريف هيرمان فون كاتزنلينبوجينشتاليك.»

قال إبرهارد مُوافقًا: «هذا هو الشخص المراد، ويجب أن تعترف بأن الاسم في حد ذاته مُرعِب لشنِّ هجوم عليه، حتى من دون الرجل العملاق الذي ينتمي إليه.»

قال رولاند: «اطرد كل مخاوفك. لقد قررتُ بالفعل المكوث هنا طوال اليوم، والنزول بهدوء إلى النهر ليلًا في جنح الظلام متجاوزًا قلعة فورستنبرج.»

قال إبرهارد: «أظنُّ أنه قرار حكيم.»

قال رولاند مُعترضًا: «هذا ضد جميع القواعد العسكرية، ورغم ذلك ومع مثل هذا الجيش الذي أقودُه يبدو أن هذه هي الطريقة الوحيدة. هل يعلم الرجال أن قلعة فورستنبرج هي أكبر خطر نواجهه؟»

«أجل؛ ولكنهم لا يَعلمون الكثير مثلي. الليلة الماضية، تركتُهم تحت مسئولية جريسل بعد أن انزعجت مما سمعته عن فورستنبرج، واستأجرت مراكبيًّا ليأخذني إلى هناك قبل أن يرتفع القمر في كبد السماء. واكتشفت أن البارون الضاحك وضع سلسلة لتطفو تحت سطح الماء مباشرة، تمتد قُطريًّا لأكثر من نصف الطريق أعلى النهر، بحيث يتم الإمساك بأيِّ مركب وإرغامها على النزول إلى اليابسة، نظرًا لأن التدفق الرئيسي لنهر الراين، كما تعلم، يمتد إلى غرب هذه الجزيرة. والمراكبي الذي نقلني كان يعرف بوجود هذه السلسلة، ولكنه ظن أنه جرى التخلِّي عنها منذ توقُّف الحركة الملاحية. وقال إنها تمتد حتى القلعة، وفي اللحظة التي يُشنُّ هجوم عليها، يُقرع جرس كبير تلقائيًّا داخل القلعة، مما يجعل البارون يضحك بصوتٍ عالٍ جدًّا لدرجة أنهم أحيانًا يسمعونه في لورش.»

«هذا مُثير جدًّا، يا إبرهارد، وإنه إنجاز ممتاز في الاستكشاف يجب أن يُضاف إلى رصيدك. لا تَقُل شيئًا للرجال؛ لأنه على الرغم من أننا سنمرُّ أمام قلعة فورستنبرج في هذه الحالة، فإنني سأَحضُر جنازة هيرمان فون كاتزنلينبوجينشتاليك عند عودتي، والمعلومات التي قدمتَها لي ستثبت أهميتها.»

صاح جريسل: «انظر! ها هم أولاء صبيتُنا قد عادوا، كلهم في مجموعة واحدة تحت قيادة كورزبولد كالعادة. تخيَّلتُ أنهم سيَلجئون هذا الصباح إلى الحديث، وسيتركون سيوفهم في الغُمُد. واضح أنهم توصَّلوا إلى قرار بالغ الأهمية.»

انسحب ثلاثتهم إلى مقدمة السفينة بينما ذهبت العصبة إلى مؤخرة السفينة. أخذ القبطان واثنان من رجاله المركب الشراعي الصغير الخاص بالسفينة، وتوجهوا إلى لورش، لشراء بعض الإمدادات. وقف رولاند عند مقدمة المركب، مُتقدمًا نائبيه قليلًا، ومُنتظرًا مجيء كورزبولد ومن خلفه السبعة عشر رجلًا.

قال المتحدث الرسمي بنبرة خالية تمامًا من الصرامة التي سادَت في حوارهما الأخير: «أيها القائد، لقد عقدنا اجتماعًا للعصبة توًّا، واتفقنا على أن نسألك سؤالًا واحدًا، ونقدم لك اقتراحًا.»

رد رولاند قائلًا: «يُسعدني أن أجيب عن السؤال الأول إذا رأيت أنه لا بأس به، وأخذ الثاني في الاعتبار.»

أومأ برأسه للمبعوث، وفي المقابل رد عليه الجمع بإيماءة صغيرة. كانت هذه بداية مبشرة للغاية؛ إذ أظهرت تحسنًا ما في الأسلوب من جانب الأغلبية.

«السؤال هو ماذا فعلتَ بالمال الذي استولينا عليه أمس، أيها القائد؟»

أجاب رولاند قائلًا: «استفسار مُناسب جدًّا يسعدني بشدة أن أرد عليه. لقد وضعت المال في حوزة شخصٍ ما، وهي طريقة أعتقِد أنها آمنة أمانًا مُطلقًا، ورتبتُ أنه إذا لم يَحدُث لي أيُّ شيء، فسيتمُّ توزيع هذا المال كما ينبغي في حضوري.»

«هل تُنكر، يا سيدي، أن هذا المال يخصُّنا؟»

«لا شكَّ أن جزءًا منه كذلك، ولكن باعتباري قائد الحملة، فإنني من الناحية الأخلاقية، ما لم تكن من الناحية القانونية أيضًا، مسئول أمامكم جميعًا عن الاحتفاظ به في مكانٍ أمين. لقد توقَّفَت سفينتُنا ثلاث مرات حتى الآن، وأخبرَني القبطان بلومنفيلس أنه لم يُواجِه عُنفًا حقيقيًّا حتى الآن يُمكن أن يشتكي منه، ولكن لو مَضَينا قُدُمًا على طول النهر، فمن المنتظَر أن نُواجه أحد البارونات الذي ليس طيبًا على هذا النحو؛ على سبيل المثال، المارجريف فون كاتزنلينبوجينشتاليك، الذي رأيتم بلا شك قلعته من آخر مكان اجتماع للعصبة. إن مثل هذا الرجل باعتباره حاكمًا عسكريًّا بالتأكيد سيفعل ما أنتم أنفسكم فعلتموه بلا تردد ليلة أمس؛ أقصد، كسر الخزانات، وإذا كانت الأموال هناك، فأنتم تعرفون أنها لن تبقى في حوزتنا بعد هذا الاكتشاف.»

«لقد أغفلت، أو بالأحرى، تهرَّبتَ من النقطة الأساسية، أيها القائد. هل الأموال ملك لنا، أم ملك لكَ؟»

«لقد قلتُ جزء منها ملك لكم.»

«إذن، بأي حق تُعطي لنفسك سلطة التعامل معها، دون مُوافقتنا؟ إذا سمحت لي أن أقول ذلك، فأنت أصغر عضو في مجموعتنا، وتُعامل بقيتنا كما لو كنا أطفالًا.»

«إذا كان لديَّ طفل تصرَّف فجأة على نحوٍ مشاغب وبطريقة جبانة جدًّا مثلما فعلتم الليلة الماضية، فسأقطع جزءًا من إحدى أشجار الغابة هنا، وأجلدُه بصرامة بحيث لن ينسى ذلك أبدًا. ونظرًا لأنني لم أفعل ذلك معكم، فأنا أُنكر أنني أعاملكم مثل الأطفال. الحقيقة هي أنني بالرغم من كوني أصغركم، فأنا قائدكم. نحن مُشتركون في أعمال حرب؛ لذلك القانون العسكري يسود، لا القانون المدني. وواجبي أن أحمي كنزكم وكنزي، وأن أضمن أن كل رجل منكم يَنال نصيبه. وبعد القسمة، يُمكنكم أن تفعلوا ما يحلو لكم بالمال؛ لأنكم بعد ذلك ستكونون تحت طائلة القانون العام، ولا ينبغي أن أعطي حتى المشورة بخصوص إنفاقه.»

«إذن، أنت ترفض أن تُخبرنا بما فعلته بخصوص المال؟»

«أجل. الآن تفضَّل باقتراحكم.»

«أخشى أنني استخدمت تعبيرًا مُخفَّفًا جدًّا حين قلتُ اقتراحًا، بالوضع في الاعتبار ردك غير المُرضي على سؤالي، ولذا أنا أسحب كلمة «اقتراح»، وأستبدل بها كلمة «أمر».»

توقَّف كورزبولد بُرهة قبل أن يقول ما يُريد بقوة أكبر. وارتفعت من خلفه همهمات الموافقة.

صاح رولاند معبِّرًا عن نفاد صبره لأول مرة قائلًا: «الكلمات لا تُهمُّ على الإطلاق. أنا أتعامل مع الأفعال. قل إذن أمرك!»

«الأمر الذي اجتمع عليه الرجال هو: يجب أن نترك قلعة فورستنبرج وشأنها. نحن نعرف الكثير عن تلك القلعة أكثر منك، لا سيما بخصوص مالكها وحاميها. لقد قمنا بجمع المعلومات أثناء رحلتنا، ولم نَجلِس متجهمين في السفينة.»

قال رولاند: «حسنًا، هذه أخبار مُشجِّعة. ظننت أنكم شاركتم في جمع عينات الخمر.»

«لقد سمعتَ الأمر. هل ستطيعه؟»

قال رولاند بلهجة حاسمة: «لن أفعل.»

اتخذ إبرهارد خُطوة إلى الأمام ليقف إلى جانب قائده، ورمَقَه بنظرة مؤنِّبة. ظل جريسل أينما كان، ولكن لم يتفوه أيٌّ من الرجلين بكلمة.

«أنت تنوي مُهاجمة فورستنبرج؟»

«أجل.»

«متى؟»

«بعد ظهر اليوم.»

التفت كورزبولد إلى أتباعه.

وقال: «أيها الإخوة، لقد سمعتم هذا الحوار، ولا يحتاج الأمر مني إلى تعليق.»

من الواضح أن الأمر لا يحتاج إلى تعليق الآخرين أيضًا. ووقفُوا هناك في حالة من التجهُّم والارتباك، كما لو أن الأمور أخذت منعطفًا غير متوقع.

قال أحدهم: «أظنُّ أنه حريٌّ بنا أن ننسحب ونتشاور مرة أخرى.»

كانت الموافقة بالإجماع على هذا الأمر، ونزلوا مرة أخرى على الجزيرة، وتوجهوا إلى اجتماعهم للتشاور. لم يتفوَّه جريسل وإبرهارد بكلمة، ولكنهما شاهدا الرجال يختفون عبر الأشجار. نظر رولاند إلى الرجلين واحدًا تلو الآخر بابتسامة.

ثم علَّق قائلًا: «أرى أنكما تَستنكِران تصرفي.»

ظل جريسل ملتزمًا الصمت، إلا أن إبرهارد ضحك وتحدَّث.

«لقد توصلتَ بتروٍّ إلى استنتاج مفاده أنه ليس من الحكمة مهاجمة فورستنبرج. والآن، بسبب افتقار كورزبولد إلى الكياسة، أنت تَحيد عن حُكمك العاقل، وتقفز بسرعة إلى مسار عكس ذلك الذي حدَّدته لنفسك بعد تفكير رصين وغير مُتحيِّز.»

«عزيزي إبرهارد، واجب القائد هو إعطاء الأوامر، لا تُلقيها.»

«هذا صحيح. الأوامر والاقتراحات مجرَّد كلمات، مثلما أشرت بنفسك، لا أهمية لها.»

«كنتُ مُخطئًا في ذلك، يا إبرهارد. الكلمات مهمة، رغم أن كورزبولد لم يكن بارعًا بالدرجة الكافية ليُصحح لي معلوماتي. على سبيل المثال، أنا لا أضع أيَّ رجل في مكانة أعلى منك أنت شخصيًّا، ولكن لعلك تستخدم كلمات تجعلُني أستلُّ سيفي في الحال وأوجِّهه إليك، وأبارزُك حتى يَستسلم أحدُنا أو كلانا.»

ضحك إبرهارد.

«أنت تُعبِّر عن الأمر بطريقة فيها تملق، يا رولاند. الحقيقة هي أنك ستُقاتلني حتى أستسلم؛ فمهاراتي في المبارزة لا تُضاهي مهاراتكَ. ورغم ذلك، سأقول الكلمات التي تجعلك تستلُّ سيفكَ؛ ألا وهي: أيها القائد، سأدعمُك مهما فعلت.»

قال جريسل بنبرة فظة: «وأنا كذلك.»

صافح رولاند الرجلين تباعًا.

ثم صاح: «صحيح. إذا قُدِّر لنا الهزيمة، فسنَنهزِم وراياتنا ترفرف عاليًا.»

بعد فترة من الوقت، عاد القبطان بمُؤَنه، إلا أن أغلبية العصبة بقيت منخرطة في المداولة. من الواضح أن النقاش لم يمضِ بإجماع مثلما كان يُصرُّ كورزبولد دومًا أن الحال كذلك.

في وقت الظهيرة، طلب رولاند من القبطان أن يرسل بعضًا من رجاله بوجبة إلى الحاضرين لهذه الجلسة المطولة، وأن يَحملوا لهم أيضًا برميل نبيذ فرغ نصفه إما هذا الصباح أو الليلة السابقة.

قال رولاند، بينما كان يجلس هو ومُناصروه في المقصورة الفارغة لتناول وجبتِهم: «سيستمتعُون بنزهة تحت الأشجار على حافة النهر.»

«أتظنُّ أنهم يتأخَّرون عن عمد، بحيث لا يُمكنك العبور بعد ظهر هذا اليوم؟»

قال رولاند: «هذا محتمل جدًّا. سأنتظر هنا حتى غروب الشمس، وحين يدركون أنني بصدد تركِهم على جزيرة مهجورة من دون أيِّ شيء ليأكلوه، أظن أنك ستراهم يتدافعون إلى متن السفينة.»

قال جريسل مقترحًا: «ولكن لنَفترض أنهم لم يفعلوا. هناك ثلاثة على الأقل قادرُون على السباحة عبر هذا الفرع الضيق من نهر الراين، واستئجار مراكبيٍّ لاصطحابهم، في حالة عدم ملاحظة شراع المركب.»

«مرة أخرى، هذا لا يُهم. خطتي للانقضاض على القلاع لا تَعتمِد على القوة؛ وإنما على البراعة. نحن — الثلاثة — لا يُمكننا حمل كمية الذهب نفسها التي يحملها واحد وعشرون رجلًا، ولكن نصيبنا سيكون مُماثلًا، ولكن ليس من المرجَّح أن نجد مرة أخرى خزينة مملوءة مثل تلك التي وجدناها في راينستاين. تبدَّد اعتقادي بأن هؤلاء الرجال سيُقاتلون من تصرُّفاتهم ليلة أمس. تذكرا كيف أن ثمانية عشر رجلًا مسلحًا فروا أمام سيف واحد!»

«أنت غير دقيق في تقديراتك، أيها القائد. لقد كانوا تحت تأثير الخمر.»

«صحيح؛ ولكن الشجاع سيُقاتل، سواء أكان ثملًا أم متزنًا.»

وعلى الرغم من أن الشمس غابت عن الأنظار، لم يَرجع الرجال. كان هناك الكثير من الخمر داخل البرميل أكثر مما كان رولاند يفترض؛ إذ كان يتردَّد صدى أغاني عصبة الحدادين المَرِحة عبر عزلة الغابة. طلب رولاند من القبطان أن يجعل رجاله في وضع الاستعداد للعمل ويُجدِّفوا حول أعلى نقطة في الجزيرة ومنها إلى المجرى الرئيسي لنهر الراين. من الواضح أن المتمردين كانوا قد عيَّنوا عيونًا لهم؛ فقد جاءوا ركضًا عبر الغابة، وتابعوا تحرُّكات السفينة من الشاطئ، مواكبين إياها في الخطى. وحين وصلت السفينة إلى الجهة المقابلة من الجزيرة، اقترب المجدِّفون من الشاطئ.

تساءل رولاند في سرور: «هل ستصعدُون على متن السفينة؟»

رد كورزبولد قائلًا: «هل ستُوافق على المرور على فورستنبرج أثناء الليل؟»

«كلا.»

«هل تتوقَّع النجاح، مثلما كنتَ تفعل بخصوص القلاع الأخرى؟»

«بالتأكيد؛ وإلا ما كنت سأقوم بالمحاولة.»

قال كورزبولد بلطف: «أخطأت في استخدام كلمة «أمر» بدلًا من كلمة «اقتراح» التي استخدمتُها في البداية. هناك أسباب عديدة خطيرة لتأجيل محاولة الهجوم على فورستنبرج. وفي خضمِّ الجدال، لم تُعرض عليك هذه الأسباب. هل تُوافق على الاستماع إليها إذا صعدنا على متن السفينة؟»

«أجل؛ إذا كنتم — من جانبكم — ستَعِدُون بالالتزام بقراري.»

قال كورزبولد: «أتظن أن تحيُّزك ضدي، الذي قد تتفق على وجوده …»

قال رولاند معترفًا: «إنه موجود.»

«ممتاز! هل ستترك هذا التحيُّز يمنعك من اتخاذ قرار في صالح الرجال؟»

«كلا. إذا قدَّموا أسبابًا تقنع جريسل وإبرهارد بعدم الهجوم على فورستنبرج، سأفعل ما ينصح به هذان الرجلان، حتى لو كنتُ مُقتنعًا بالعكس. ومن ثم، كما ترى سيد كورزبولد، إن كرهي الظاهر لك لن يَلعب دورًا على الإطلاق.»

قال كورزبولد: «هذا مُرضٍ جدًّا. هل ستَرسو على الشاطئ البعيد حتى تأخذ قرارك؟»

رد رولاند: «بكل سرور»، وبناءً على ذلك تدافع المهاجمون في عُجالة ليصعدوا على متن السفينة، عندئذٍ انكبَّ البحَّارة على مجاديفهم الطويلة، وسرعان ما وصلوا إلى الضفة الغربية، عند مكان خلاب بعيد عن أنظار أيِّ قلعة، حيث انحدرت الأشجار من جانب الجبل إلى حافة المياه. هنا نزل البحَّارة، مُنطلقين إلى الشاطئ، وربطوا حبالهم القوية بجذوع الأشجار، وامتدَّت السفينة الكبيرة بجانبها على اليابسة، ومقدمتها تشير نحو المجرى المائي.

قال رولاند لنائبَيه: «كما تلاحظان، ودون التدخل بأيِّ نحو، أُتيحُ لكما اتخاذ القرار، وبناءً عليه سآخذ قرار الهجوم على فورستنبرج أو سنهرب من كارثة محققة في هذه الحالة.»

أجاب جريسل الرصين: «بعيدًا عن جميع الاعتبارات الأخرى، أظنُّ أنه من قواعد الدبلوماسية أن نتَّفق مع رأي الرجال، نظرًا لأنهم أوضحوا الأمر على نحوٍ مُحترَم جدًّا. إنهم يتحسَّنون، أيها القائد.»

قال له مُوافقًا الرأي: «الأمر يبدو كذلك فعلًا. من الأفضل أن تَذهب أنت وإبرهارد وراءهم، وتطلبان منهم بدء الاجتماع على الفور؛ لأننا إذا كنَّا بصدد الهجوم، فلا بد أن نفعل ذلك قبل حلول الظلام. سأبقى هنا كالعادة عند مقدمة السفينة.»

كان هناك بعض الرجال المتجوِّلين على سطح السفينة، ولكن مكث أغلبيتهم في المقصورة، التي هبط درجاتها النائبان. زاد نفاد صبر رولاند مع تضاؤل الضوء.

وفجأة جاءت صيحة من المقصورة، وقد كُتمت على الفور، ثم جاءت بعدها صرخة:

«خيانة! احذر!»

حاول رولاند التقدُّم، ولكن هجم عليه أربعة رجال، ووثقُوا ذراعيه إلى جانبه، مانعين إياه من أن يستلَّ سيفه. صعد كورزبولد مع ستة آخرين، إلى سطح السفينة.

أمرهم كورزبولد قائلًا: «جرِّدوه من السلاح!» فأخرج أحد الرجال سيف رولاند من غمده، قاذفًا إياه على سطح السفينة ليستقرَّ عند قدمَي كورزبولد. جاء الآخرون الآن، آتِين بالنائبين، مكمَّمَين، وأذرعهما موثَّقة خلف ظهريهما. توقَّف رولاند عن مقاومته، التي أدرك أنها عديمة الجدوى.

قال كورزبولد وهو يُخاطب النائبين: «نُريد تسويةً سِلمية لهذا الأمر ونندم على الاضطرار إلى استخدام تدابير ربما تبدو عنيفة. أنا لم أفعل ذلك إلا لمنع إراقة الدماء غير الضرورية.» ثم استطرد وهو يَلتفت إلى رولاند: «في وقتٍ سابق من اليوم، حين وجدنا جميع المناشدات إليك ذهبت سدًى، أجمعنا على عزلك من القيادة، وهو حقُّنا، وواجبنا أيضًا.»

قال رولاند: «لا يحقُّ لكم ذلك بموجب الأحكام العرفية.»

«لا بد أن تُشيرَ إلى أنه لم يكن هناك حديث عن الأحكام العرفية قبل مغادرتنا فرانكفورت. لم نكن نعرف حتى وقتٍ متأخِّر أننا نصَّبنا طاغيةً غير عقلاني علينا. لقد عزلناه، وانتُخبت مكانه، وصار جون جينسبين نائبًا لي. سنتحفَّظ على ثلاثتكم هنا حتى يُخيِّم الظلام التام على المكان، ثم نتركُكم على الشاطئ من دون سلاح. ستكون باخاراخ، على هذا الجانب من نهر الراين، مكان استراحتِنا التالي، ولا شك أنك رجل فطن، يا رولاند، ولعلك ستخمِّن أننا اختَرنا باخاراخ لأنها مسماة تيمنًا بباخوس، إله السكارى. ورغم ذلك، ولإظهار حسن النوايا تجاهكم، سنمكث هناك طوال اليوم غدًا. يمكنكم بسهولة الوصول إلى باخاراخ بالسير على طول قمم التلال قبل الفجر. قمنا بكتابة ميثاق رُفقة وقَّع عليه الجميع باستثنائكم. وإذا وعدتم في باخاراخ بالعمل بإخلاص تحت قيادتي، فسنُعيدكم مرة أخرى إلى عصبتنا، ونُعيد إليكم سيوفكم. وفي مقابل هذا، نطلب منك أن تأمُر القبطان أن يُطيع أوامري مثلما كان يطيع أوامرك.»

قال رولاند للبحَّار الأمين الذي وقف مندهشًا من تحوُّل الأمور على هذا النحو: «أيها القبطان بلومنفيلس، عليك أن تنتظر هنا حتي يحلَّ الظلام التام. تأكد من عدم إشعال أي مشاعل يُمكن أن تُحذِّر أولئك الموجودين في فورستنبرج.» وأضاف رولاند وهو يلتفت إلى رفقته السابقة قائلًا: «بالمناسبة، أنصحُكُم بألا تتناولوا أي شراب حتى تمروا بسلام أمام القلعة. فإذا أنشدتم أناشيد العُصبة على مرمى سمع قلعة فورستنبرج، فمن المرجَّح أن تُضطرُّوا إلى الصريخ بعلو صوتكم قبل بزوغ النهار. لا تنسوا أن المارجريف فون كاتزنلينبوجينشتاليك هو كبير الجلادين في ألمانيا.» ثم وجَّه حديثه إلى القبطان مرة أخرى قائلًا:

«نظرًا لأن قلعة فورستنبرج تقف عاليًا فوق النهر، وفي خلفيتها، ستكون بعيدًا عن الأنظار إذا بقيت بالقرب من هذا الشاطئ. ومع ذلك، يمكنك بكل سهولة أن تقدِّر مسافتك؛ لأن الأبراج ستكون مرئية حتى وسط العتمة في مقابل السماء. ولا يستطيع أي رجل يقف على متاريس القلعة أن يراكم بالأسفل على سطح المياه المظلم، ما دمتم لا تحملون معكم مشعلًا.»

قال كورزبولد: «رولاند، صديقي المعزول، أخشى أنك تَحمل ضغينة تجاهي؛ لأنك تُعطي القبطان أوامر بدلًا من أن تخبره بأن يطيعني.»

«كورزبولد، أنتَ مُخطئ. أنا بكل سرور تخليت عن القيادة، وبالتأكيد، سيَشهَد جريسل وإبرهارد أنني كنتُ قد عزمت أمري بالفعل على تجاوز قلعة فورستنبرج وعدم الهجوم عليها. ونظرًا لأن نائبيَّ السابقَين مُجردان من السلاح، فبالتأكيد لن تخشى المجموعة، المسلحة بثمانية عشر سيفًا، منهما بحيث يُبقُون عليهما مكمَّمَين ومُكبَّلين. ولا غرو في أنك ترغب في تجنُّب البارون الضاحك، إذا كان هذا كلَّ ما لديك من شجاعة.»

وبعد أن جرحتْه هذه الانتقادات، أمر كورزبولد رجاله في غِلظة بأن يُحرِّروا سجينَيهم، ولكن حين أزيلت الكمامتان، وقبل أن تُقطع الأحبال، وجَّه كلامه إلى النائبين قائلًا:

«هلا تَعدانني بألا يَصدُر منكما أيُّ مقاومة أخرى، إذا أذنتُ بعدم تقييدكما؟»

صاح جريسل: «لن أعدَك بشيء، أيها الكلب المُتمرِّد! وإذا فعلتُ، فكيف لك أن تتوقَّع منِّي أن أحفظ وعدي بعد أن رأيت الخيانة من جانبك بعدما أخذت على نفسك ميثاقًا، ثم نقضتَه؟ سأُطيع قائدي، ولا أحد غيره.»

قال كورزبولد: «أنا قائدك.»

رد جريسل: «أنتَ لستَ قائدي.»

ضحك إبرهارد.

وقال: «لا حاجة لك أن تسألَني. أنا أدعم موقف صديقيَّ.»

أمر كورزبولد قائلًا: «كمِّموهما مرةً أخرى.»

صاح رولاند: «لا، لا! نحن لا حيلة لنا تمامًا. تعهَّدا له بما يُريد، أيها النبيلان.»

أطاعه جريسل مُكفهرًّا، بينما أطاعه إبرهارد مُبتهجًا. بدأ الظلام يُخيِّم الآن، وحين انسدل الظلام تمامًا، أُطلق الرجال الثلاثة إلى الغابة.

قال كورزبولد لرولاند: «أنت لم تَأمُر القبطان بطاعتي بعد. وأنا لا أَعترض على ذلك، ولكن سيكون من السيئ بالنسبة إليه وإلى رجاله أن يَرفُضوا قبول تعليماتي.»

سأله رولاند: «هل تَعرف هذه المنطقة، أيها القبطان بلومنفيلس؟»

«أجل، يا سيدي.»

«هل هناك طريق على امتداد التلِّ سيقودُنا إلى ما وراء قلعة فورستنبرج ومنها إلى باخاراخ؟»

«أجل، يا سيدي، ولكنه طريق وعر جدًّا.»

«هل المسافة بعيدة جدًّا بحيث لا يمكن لك أن تُرشدنا خلالها، وتعود قبل أن يرتفع القمر في السماء؟»

«أوه، كلَّا، يا سيدي، يُمكنني أن أرشدك إلى الطريق خلال نصف ساعة إذا وافقت على التسلُّق بنشاط.»

«حسنٌ جدًّا. سيد كورزبولد، إذا كنت لا تُطيق صبرًا على المغادرة، وستسمح للقبطان أن يرشدنا خلال الطريق، سآمره بأن يطيعك.»

سأل كورزبولد: «كم ستَستغرِق حتى تعود، أيها القبطان؟»

«يُمكنني العودة في غضون ساعة، يا سيدي.»

«هل ستُطيعني إذا أمرك القائد السابق بذلك؟»

«أجل، يا سيدي.»

قال رولاند: «أيها القبطان، أنا أُبلغك على مسمع هؤلاء الرجال أن السيد كورزبولد يشغل منصبي، وأنه عليك أن تُطيعه إلى أن أستعيد قيادتي.»

ضحك كورزبولد.

وقال: «أنت تَقصد إلى أن يُعاد انتخابُك لعُضوية عصبة الحدادين، حيث إننا لا نعتزم أن نجعلك قائدًا مرةً أخرى. والآن، أيها القبطان، لتذهب إلى التل، ولتَحرص على ألا تتأخر في عودتك.»

اختفى الأربعة رجال داخل الغابة المظلمة.

قال رولاند حين وصلوا إلى الطريق: «أيها القبطان، لقد أخذتُك إلى هذا المكان لا لأنني أحتاج إلى مساعدتك؛ فأنا أعرف هذه المنطقة كما تعرفها أنت. أنت ستُطيع كورزبولد، بالطبع، ولكنه إذا أمرك بأن تتَّجه إلى لورش، فدع سفينتك تنجرف في التيار، ولا تتجاوَز مُنتصَف النهر حتى الجهة المقابلة من قلعة فورستنبرج. تُوجد سلسلة عائمة …»

قاطعه القبطان قائلًا: «أنا أعرفها جيدًا. لقد تجنَّبتها مرات عديدة، لكن علِقت بها مرتين، على الرغم من جميع محاولاتي، وتعرَّضتُ للسرقة على يد البارون الضاحك.»

«حسن جدًّا؛ أطلب منك أن تقع في شِراك تلك السلسلة الليلة. لا تُبدِ أيَّ مقاومة، وستكون في مأمن بالدرجة الكافية. لا تُحاول مساعدة هؤلاء الرجال، إذا ما جرى الهجوم عليهم، وإذا لم أَستعِد القيادة مرة أخرى قبل مُنتصَف الليل، فسيكون هذا من سوء الطالع. ابقَ على مقربة من هذا الشاطئ؛ ولكن إذا أمروك لتُبحر وسط النهر، أو عبره، ماطل، صديقي بلومنفيلس الطيب، ماطل حتى تعوقك السلسلة للمرة الثالثة.»

عندما عاد القبطان إلى سفينته، وجد كورزبولد يَذرع سطح السفينة جيئة وذهابًا بأسلوبٍ سيادي، ويتُوق إلى الرحيل. وللمرة الأولى يَمتنع المحاربون عن الشرب بجهد شديد.

قال كورزبولد: «سنَفتح برميل نبيذ بمجرَّد أن نتجاوز القلعة.»

أمر القبطان أن يسير بجانب الشاطئ بقدر ما هو آمن، وأن يحرص على ألا يكونوا على مرمى البصر من برج فورستنبرج المُستدير الطويل. جلس الجميع أو اضجعُوا على سطح السفينة المظلم، من دون أن يتفوَّهوا بكلمة بينما أبحرت السفينة في صمت على طول نهر الراين السريع. وفجأةً اختلت سرعة السفينة على نحوٍ مُفاجئ للغاية لدرجة أن رجلًا أو رجلين من الواقفين طُرِحا أرضًا. ومن أعلى جانب التل جاء صوت قرع عميق لجرس. تأرجَحَتِ السفينة وتمايلت على جانبَيها في التيار، واندفعَتِ المياه على جانبِها كأفاعٍ تُصدر فحيحًا، وكان قرع الجرس بمنزلة ناقوس إنذارٍ عالٍ بدا أن إيقاعه يتوافق مع اهتزاز السفينة البائسة.

صاح كورزبولد، وهو يهبُّ واقفًا مرةً أخرى على قدميه راكضًا إلى مؤخرة السفينة: «ما الخطب، أيها القبطان؟»

«أخشى، يا سيدي، أن هذه سلسلة مثبتة.»

«ألا يُمكنك قطعها؟»

«هذا مُستحيل، يا سيدي.»

«إذن، ارفع مجادفك، وعُد إلى الوراء. في رأيك، أين نحن؟»

«تحت أسوار قلعة فورستنبرج.»

«اللعنة! اجعل رجالَكَ يُسرعون، ودعنا نبتعد عن هنا.»

أمرَ القبطانُ طاقمَه أن يُسرعوا، إلا أنهم رغم جهودهم لم يتمكَّنوا من تحرير السفينة من السلسلة التي أخذت ترتطم بها من الأعلى والأسفل محدثةً ضوضاء شديدة، حتى إن حاملي السيوف من الرجال الذين لا يَفقهون شيئًا في الملاحة رأوا التيارَ يتدافع قطريًّا نحو الشاطئ، وطوال ذلك الوقت كان الجرس يُقرع بشدة.

تساءل كورزبولد قائلًا: «ما الذي يَعنيه هذا الجرس بحق الجحيم؟»

أجاب القبطان قائلًا: «إنه جرس القلعة، يا سيدي.»

وقبل أن يتمكَّن كورزبولد من قول أي شيء، ضجَّت الأجواء بضحكات عالية متتالية. وبدأت المشاعل تلمع وسط الأشجار، ودوَّى صدى قعقعة حوافر الخيول على الصخر. ولم يتكشَّف من قبل مشهد أعظم من ذلك أمام عيون الحشد المذهولة التي لا تُقدِّر هول المفاجأة. وعلى طول الطريق المتعرِّج، وبين الأشجار، تراقصت المشاعل، كلٌّ منها بأثر شرر وكأنه ذيل مذنَّب. كان حاملو المشاعل يندفعون في تهوُّر إلى أسفل المنحدر، فالويل لمن لا يَصل إلى حافة المياه على نحوٍ أسرع من سيده.

كان ضوء المشاعل ينعكس على أنصال السيوف اللامعة ورءوس الرماح المتلألئة، إلا أن المشهد الرئيسي كان يتمثَّل في هيرمان فون كاتزنلينبوجينشتاليك، بهيئته العملاقة، وهو يَمتطي حصانًا مهيبًا، أسود كسواد الليل، وذا حجم يُكافئ حجم فارسه الاستثنائي. كانت لحية المارجريف الطويلة وشعره المُنسدِل حمراوَي اللون؛ بل قرمزيين إن جاز القول، ولكن ربما يكون هذا انعكاسًا لنيران المشاعل. كان الخدم والطُّهاة والسُّياس يَحملون الأنوار؛ أما الرجال المسلَّحون فكانوا لا يَحملون شيئًا سوى أسلحتهم، والطريقة العمَلية التي اصطفُّوا بها على طول الشاطئ كانت نموذجًا للانضباط، ومصدرًا للرعب في قلوب من لم يعتادوا الحرب. وفوق كل ذلك، كانت الضحكات العالية الصاخبة للمارجريف تعلو فوق ضجيج صليل الأسلحة ليتردَّد صداها الصاخب الوحشي بين جنبات التلال على الجانب الآخر من نهر الراين.

الآن، كانت مقدمة السفينة تحتك بحافة الصخر، التي كانت ترتفع عليها السلسلة المتأرجِحة التي تقطر منها المياه، وتتلألأ كثعبان مِفصلي تحت ضوء المشاعل.

صاح المارجريف قائلًا: «حفظنا الرب جميعًا! ما الاستعراض النادر الذي لدينا هنا؟ بحق شفيعي المقدَّس، رئيس الأساقفة، التجار يرفعون السلاح! من ذا الذي رأى شيئًا كهذا من قبل؟ ها! القبطان البدين بلومنفيلس، هل أعرفُك؟ لقد أوقعَت بكَ سلسلتي مرة أخرى. هذه هي المرة الثالثة، أليس كذلك، يا بلومنفيلس؟»

«أجل، جلالتك.»

«يُمكنكَ أن تُخاطبني ﺑ «قداستك» كما تُخاطبني ﺑ «جلالتك». أنا راضٍ بلقبي «البارون الضاحك»، ها ها ها ها! إذن، تجارُك رفعوا السلاح مرةً أخرى؟ لم يتعلموا شيئًا من درس لورلاي! ألا تُوجد حبالٌ على متن السفينة، أيها القبطان؟»

«الكثير، يا سيدي.»

صاح بصوت جهوري في رجاله المسلحين: «إذن، اقذفوا بكرةٍ إلى الشاطئ. والآن، أيها النمور، احضروا لي هؤلاء التجار الملعونين.»

ومع اصطدام الدروع والأسلحة، صعد قُطَّاع الطريق على متن السفينة، وفي أقل من الوقت الذي أُصدر فيه الأمر، كان كل رجل من رجال العُصبة قد نُزع منه السلاح وأُلقيَ به إلى الشاطئ. ثم جاء أمر آخر من المارجريف بتوثيقهم وثاق الخارجين عن القانون، كما يُسمِّيه، وهي أكثر عملية مُؤلمة حيث يتمُّ توثيق جسد كل ضحية وأطرافه حتى تَصير حمراء مثل الحديد. كانوا قد جرى إلقاؤهم على وجوههم في صف، وتم ضربهم بهراوات حتى اسودَّ وازرقَّ جلدُهم، برغم صرخات الألم وتوسلات الرحمة من جانبهم.

أمر المارجريف أتباعه قائلًا: «والآن، اقلبُوهم على ظهورهم»، وقد فعلوا ما أمر به. تساقط وهج المشاعل القاسية على الوجوه المتلوية من الألم. وعرَّج البارون بحصانه في اتجاه صف الرجال العاجزين، وأخذ يَنخس الحيوان ليسير فوق الصف من طرف لآخر، ولكن الحصان الذكي الذي كان رحيمًا أكثر من راكبه، سار برقةٍ بالغة، برغم حجمه الاستثنائي، ولم يَطأ فوق الأجسام الممددة. وبعد ذلك، سار البارون الأحمر وهو يهتز بضحكته الجهورية بحصانه فوق الرجال المنكوبين ذهابًا وإيابًا.

«والآن، أفرِغُوا حمولة السفينة، ولكن لا تُصيبوا أيًّا من البحَّارة بأذًى! أودُّ أن أراهم ثانية كثيرًا. لا يُمكنك أن تُخمِّن إلى أي مدًى نفتقدك، أيها القبطان. ما الذي تحمله هذه المرة؟ أقمشة فرانكفورت الرائعة؟»

«أجل، جلالتك … أقصد، أيها البارون.»

«كلا، تَقصد قداستك؛ إذ إنني أنتظر لقب رئيس أساقفة، إذا سارت كل الأمور على خيرِ ما يُرام»، ثم دوَّى صدى ضحكتِه عبر نهر الراين. وأضاف: «افتح كواتك، يا بلومنفيلس، وَأْمر رجالك أن يساعدوا في قذف البضائع إلى الشاطئ.»

سار الحصان الخائف برشاقة فوق الرجال الممدَّدين، مُطلقًا نخيرًا، ريما يكون متعاطفًا، من فتحتَي أنفه الحمراوَين، وكان جلدُه الأسود يَرتجِف من المشهد المثير. أطاع القبطان المارجريف بسرعة وخفة. رُفعت أغطية الكوات، وقذف البحَّارة، اثنان اثنان، بالات التاجر على حافة الصخرة. كدَّس الرجال المسلحون الذين كانوا يُجيدون كل الأعمال، أسلحتهم في كومة، وحملوا البالات بضع ياردات إلى الداخل. وخلال كل هذا، أخذ البارون يزأر ضاحِكًا، ويَمتطي حصانَه على طول الرصيف النابض بالأجساد الحية، لينتقل من طرف إلى آخر.

وصاح في الرجال المُمدَّدين قائلًا: «تحلَّوا بالصبر، ولن يستغرق تجريد السفينة من البالات وقتًا طويلًا، ثم سأقوم بشنقكم على هذه الأشجار، وأرسل جثثكم على متن السفينة، كعِبرة لتُجار فرانكفورت. يجب أن تعود، أيها القبطان؛ لأنه لن يُمكنك بيع جثث لتابعيَّ في كولونيا.»

وبينما كان يتحدَّث، انتشر وهج أحمر فوق نهر الراين، كما لو أن أحدهم أشعل فانوسًا أحمر فوق المياه. ثم اختفى الوهج على الفور.

صرخ المارجريف قائلًا: «ما هذا! أهو انعكاس للحيتي، أم أن الشيطان وأعوانه جاءوا من أسفل بحثًا عن نصيبهم من أقمشة فرانكفورت؟ سأَقتسِم الغنيمة مع أخي الصالح الشيطان، ولكن لا أحد غيره. احرقوني لو قلتُ إنني رأيت مشهدًا كهذا من قبل! ماذا كان هذا، أيها القبطان؟»

«لم أرَ شيئًا غيرَ عادي، أيها البارون.»

صاح المارجريف: «هناك، هناك!» وبينما كان يتحدَّث بدا أن ضبابًا قرمزيًا غشَّى النهر، وقد أخذ يزداد لمعانًا أكثر فأكثر.

صرخ القبطان قائلًا: «أوه، أيها البارون، القلعة تحترق!»

صرخ المارجريف وهو يَرشم الصليب: «فليَحمِنا القديسون!» واتجه نحو الغرب، حيث إنَّ السمع والبصر الآن كانا يَشهدان على اشتعال نيران. كانت السماء الغربية بأكملها متَّقدة، وعلى الرغم من أنه لا يُمكن رؤية اللهب بسبب الجرف، كان الجميع يَعرف أنه لا يوجد مكان آخر للسكن يُمكنه أن يكون سببًا في مثل هذا الضوء.

نخَسَ حصانه ونادى على رجاله ليجتمعوا، ثم أسرعوا إلى المنحدر الصاعد، وحين غادر آخر رجل، خرج رولاند ونائباه من بعده من الغابة جهة اليمين إلى التل الصخري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤