الفصل الرابع عشر

سجين إيرنفيلس

كان في مشهد الجنود بينما يسيرون معًا بخطًى ثابتة بعض الإلهام؛ إذ كانوا في غاية الانضباط، يتوافق إيقاع خطواتهم مع إيقاع صليل أسلحتهم. خرج جنود رئيس أساقفة كولونيا من الغابة كأفعى كبيرة تخرج من بين الأحراش، قادمِين اثنين اثنين نظرًا لضيق الممر. وكان من المقرر أن يمشي كل أربعة منهم متجاورين عند الوصول إلى طريق النهر، وقد لاقت مُواكَبةُ التغيُّرات التي من شأنها مضاعفة العدد على هذا النحو، دون تغيير في الخطوات أو التسبب في أي خلل يُذكر، استحسانَ كبيرَي أساقفة الجنوب.

نظر الجنود إلى كبار الأساقفة الثلاثة الواقفين معًا في الشرفة في ارتياح أمام جدران القلعة الرمادية، فارتسمَت أمامهم لوحة خلابة من المودة والمحبة الأخوية. وأخرجَ الضباطُ الذين كانوا يَمتطون أظهُرَ الخيلِ سيوفَهم من أغمادها صوب السماء، حين رأوا سيدهم ومعه رفيقاه النبيلان. فردَّ رُؤساء الأساقفة الثلاثة التحيةَ في حركة رجل واحد. تهلَّل الجنود أكثر فأكثر حين شقَّت الأفعى طريقها المتعرجة أسفل جانب الجبل، وهم يسيرون جماعة تلو الأخرى بجانب القلعة. ظل رؤساء الأساقفة واقفين في أماكنهم إلى حين اختفاء آخر جندي في طريق النهر متجهًا نحو كوبلنتز.

قال رئيس أساقفة ماينتس مخاطبًا رئيس أساقفة تريفيس: «هلا توصلني إلى سطح قلعتك؟» ثم سأل رئيس أساقفة كولونيا: «وهل سترافقنا؟»

اتفق رئيس أساقفة كولونيا ورئيس أساقفة تريفيس لأول مرة في الرأي، وهُرع الثاني ليقود الطريق، وبعد وقت وجيز، وقف الثلاثة أعلى الهضبة الحجرية العريضة ليروا مشهدًا بانوراميًّا خلابًا حقًّا لنهر الراين. حوَّلت شمس يوليو التي على وشك الغروب مياه نهر الراين إلى اللون القرمزي، وكانت نسمة المساء عليلة على هذا الارتفاع. وقف رئيس أساقفة كولونيا مستندًا بيده إلى الحاجز، يتأمَّل هذا المشهد الرائع، في حين لم يعبأ رئيس أساقفة ماينتس به بسبب طبيعته العملية.

«ضيفُك المزعج لديه طلب آخر، يا رئيس أساقفة تريفيس؛ ألا وهو أن تأمر برفع رايته أعلى هذه السارية.»

غادر رئيس أساقفة تريفيس في الحال لإصدار الأمر بتنفيذ هذا الطلب، فيما انقطع رئيس أساقفة كولونيا عن متابعة المشهد في ضجر.

وقال: «سيدي، هل طلبت رفع الراية؟»

فكان الرد: «نعم.»

«الراية التي ستدعو رجالك للتحرُّك من لان إلى ستولزينفيلس؟»

كرَّر رئيس أساقفة ماينتس كلامه قائلًا: «نعم.»

«سيدي، لقد أوفيت بوعدي قولًا وفعلًا. فجنودي يبتعدون الآن سلميًّا، وسوف يصلون إلى ثكناتهم في وقتٍ ما من الغد. وعلى الرغم من أني لم آخذ منك وعدًا، فقد لمحتَ لي بوجود هدنة بيننا، وبأن جيشك لن يُؤمر بالقيام بأي فعل من أي نوع، تمامًا مثل جيشي.»

«لقد ذكرت بإيجاز فهمك لاتفاقنا، رغم أنني لم أعلن عن جانبي منه. لقد قلت هدنة، أليس كذلك؟ أليس الأمر أكثر من ذلك؟ وددتُ أن تُثبِت موافقتي على هذا المسمَّى الذي اقترحته أنني متفِق معك تمامًا في الرأي.»

«أنا لستُ سجينك إذن، أليس كذلك؟»

«بلى بالتأكيد؛ بل على العكس تمامًا من هذا الافتراض إنني أرجو منك أن تقبل ضيافتي. فهذه الراية التي أراها ترفرف الآن عاليًا تستدعي سفينة واحدة فقط، خالية من الجنود، ليس بها سوى القبطان وعشرة من رجاله المجدفين الأقوياء، الذين لو التفتَّ لرأيتهم الآن يخرجون من مصب رافد لان. أقدِّم لك، ولكونتيسة فون ساين، قلعتي في مارتينسبورج والتي يُمكنك استخدامها لأي مدة تراها مناسبة. إنها مفروشة بأثاث فخم ومجهَّزة بشكل جيد ويرعاها مجموعة من الخدم الأقوياء الذين سيكونون طوع أمرك. أقترح أن تذهب إلى هناك في سفينتي بصحبة الكونتيسة وقريبها القس. لقد فهمتُ أنك أردتَ اصطحاب السيدة إلى سجنها المؤقت في فالتس. لقد كان هذا طلبها إن كنت تتذكَّر.»

«أنا سآخذها إلى هناك.»

«أنا أعتمد عليك تمامًا في هذا الشأن. فالمسافة لا تتعدَّى ثلاثة عشر فرسخًا، ويمكن قطعها بكل سهولة في غُضون يوم. وما إن تَصِلا إلى الجانب الآخر من النهر، يمكنها أن ترسل قريبها هذا أو أيَّ رسولٍ آخرَ أهلٍ للثقة إلى قلعتها؛ ومن ثم تستدعي السيدتين اللتين ستَخدمانها وتُشاركانها عزلتها.»

«هل تنوي يا سيدي أن يكون سجنها …؟»

رفع رئيس أساقفة ماينتس يده الرفيعة مُبديًا استنكاره.

وقال: «أنا لم أستخدم كلمة قاسية كالسجن. فهذه العقوبة، إن راق لك هذا الوصف، هي أقرب لكونها مُعتكَفًا، يمنحها الفرصة اللازمة للتأمل وحسبما آمل للندم أيضًا.»

«لكن تصرُّفك هذا يا سيدي يبدو لي قاسيًا أكثر من اللازم. كم من الوقت تنوي احتجازها؟»

«يؤلمني أن أسمع منك كلمة «قاسيًا»؛ لأن المعاملة التي ستتلقاها ستكون في غاية اللطف. ظننتُ أنك ستفهم أني لم أجد أمامي خيارًا آخر. في رأيي، ربما كان عليها أن تُعبر عما يُرضيها دون عواقب وخيمة، لكنها استهزَأت بأعلى مجلس في المنطقة، ولا يُمكن التغاضي عن هذا الفعل مُطلقًا. أما بخصوص فترة تأديبها، فسوف تستمر حتى زواج الإمبراطور الجديد، وبعد هذا الاحتفال ستكون لديها حرية الذهاب إلى حيث تريد. سأزور فالتس بنفسي بعد أربعة أيام من الآن لكي أطمئن أن السيدة تحظى بكل سبل الراحة في القلعة.»

«وربما لكي تتأكد أيضًا من أنها محتجزة هناك.»

توارت شفتا رئيس أساقفة ماينتس الرفيعتان خلف ابتسامة ساخِرة.

وقال: «لستُ بحاجة للتأكُّد من هذا، ما دام سيد كولونيا قد قطع لي عهدًا بأن يتحقق من تنفيذ أمر المجلس بنفسه.»

وهنا انقطع الحديث بعودة رئيس أساقفة تريفيس. وكانت السفينة الكبيرة في مُنتصَف طريقها عبر النهر بالفعل. فقد جرفها التيار السريع المندفع لمسافة فيما وراء قلعة ستولزينفيلس، بينما كان المجدِّفون، الذين كانوا خمسة على كل جانب، يبذلون كلَّ ما بوسعهم لإعادتها إلى المياه الهادئة. وعبَر السيد والسيدة والراهب إلى مصبِّ رافد لان، وسرعان ما عادت السفينة لنقل الخيول والمرافقين.

وعندما ظهر وادي لان، قدَّم صورة للجمال البري الهادئ، وبدا أنه لم يعِش على ظهره كائن حي من قبل. وقف كبير أساقفة كولونيا وظلَّل بيده على عينيه ليحميهما من أشعة الشمس التي كانت لا تزال قوية، ثم أخذ يُحدِّق أعلى النهر الصغير. فلم يجد أيَّ مركب عائم على مرمى البصر. والتفت للقبطان.

وقال: «كم يَبعُد الأسطول عن ماينتس؟»

«هل قلت أسطولًا يا سيدي؟»

«أجل؛ مائة سفينة أبحرت من ماينتس في جنح الظلام إما الليلة الماضية وإما الليلة التي سبقتها، لكي ترسوَ هنا في رافد لان.»

«سيدي، لا يُمكن عبور ولو مركبًا واحدًا مسافةً كهذه على هذا النحو وخلال هذا الوقت القصير؛ ومن ثَم فمحاولة أسطول خوضَ هذه الرحلة في غير وضح النهار ستكون مستحيلة. فلم تعبُر أيُّ سفينة نهر الراين منذ عدة أشهر، وإذا غامروا بذلك فإن رافد لان الصغير أكثر ضحالة من أن ترسو سفنهم به.»

«شكرًا لك يا قبطان. يبدو أني جاهل بتاريخ هذا المكان وجغرافيته. لو طلبتُ منك أنت ومُجدِّفيك البواسل أن تأخُذُوني عبر الجزء الأسرع تيارًا من النهر إلى قلعة كوبلنتز، فمتى سنصل إلى هذه المدينة؟»

«بأقصى سرعة يا سيدي، لكن لا يُمكنني خوض رحلة كهذه إلا بأمر من سيدي. فمثله لا تُخالف أوامره.»

قال رئيس أساقفة كولونيا بينما كان يجلس مرةً أخرى: «أُقدِّر هذا تمامًا»، وقد اختفت رغبته العرضية في استعادة قواته، التي كانت قد أثيرت عند رؤية رافد لان فارغًا، عندما أدرك كيف غلبه القبطان بدهائه.

عندما وصلت الخيول، عاد الأب أمبروز إلى ساين بناءً على طلب الكونتيسة، وأرسل الخادمتين اللتين كانت قد طلبتهما، وقد أنجز مهمته بنجاح لدرجةِ أنهم وصلوا إلى قلعة مارتينسبورج قبل حلول العاشرة مساء ذلك اليوم. وفي ساعةٍ مبكِّرة من صباح اليوم التالي، بدأ الموكب الصغير رحلته عبر نهر الراين، يتقدَّمُه رئيس الأساقفة والكونتيسة؛ والفرسان الستة في المؤخِّرة.

كانت السيدة تَشعُر بحزن شديد؛ إذ كانت تتملَّكها مشاعر الندم التي توقَّع رئيس أساقفة ماينتس أن تنتابها نتيجة السجن. لقد كان من الواضح جدًّا أن رئيس أساقفة كولونيا يَشعُر بخيبة أمل شديدة؛ إذ امتَطى ظهر حصانه بجانبها في صمت ولم يُبادِر بأيِّ مُحاولة لفتح حديث معها. استراحا لعدة ساعات أثناء الظهيرة، ليصلا إلى كوب قبل غروب الشمس، وعندئذٍ رأت الكونتيسة سجنها ذا الأبراج ذات القمم المستدقَّة، والذي كان أشبه بسفينة راسية في عرض النهر.

وفي كوب استقبلهما رجل مُلتحٍ تَرتسِم على وجهه ملامح التجهُّم، قدَّم نفسه لكبير الأساقفة باسم فالتسجراف فون شتاليك.

وقال: «لقد فاجأتَنا، يا أمير كولونيا. صحيح أن سيدي رئيس أساقفة ماينتس زارني منذ عدة أيام أثناء إبحاره في نهر الراين في سفينته ذات المُجدِّفين العشرة، وقال لي إن هناك احتمالًا بعيدًا أن يُوضع سجين لوقت قصير تحت رعايتي. وقد حدث هذا عدة مرات من قبل؛ لأنَّ قلعتي تضمُّ بعض الزنازين المُروِّعة التي تمتد أسفل النهر، وهي زنازين لها مداخل سرية ليس من السهل العثور عليها إذا ما حاوَلَ أي شخص البحث عنها داخل القلعة. ومن المُلائم في بعض الأحيان وضْع سجين الدولة خلف أسوارها عندما لا يَجد رئيس الأساقفة مكانًا في قلعة إيرنفيلس الخاصة به؛ لذا لم أُعِر الأمر اهتمامًا كبيرًا واكتفَيتُ بقول إن السجين سيتلقَّى الترحيب لدى وصوله. لقد أتى هذا الصباح أحد رجال رئيس الأساقفة من قلعة ستولزينفيلس، وقد ذهلت أنا وزوجتي حين علمت أن السجين سيكون هنا هذا المساء برُفقتك يا سيدي، وأن الذي سنستضيفه هنا هو سيدة. كما أنه كان من المقرَّر وضعها في أفضل أجنحة القلعة، ومعاملتها بمُنتهى الاحترام باعتبارها من أصحاب المقامات الرفيعة. لكن هذا الجناح ليس جاهزًا لاستقبال سيدة كهذه، فضلًا عن استضافة شخص ذي مقام رفيع مثلك يا سيدي.»

رد رئيس الأساقفة قائلًا: «لا تنشغل بي كثيرًا. فأنا في النهاية جندي أيضًا والإقامة في غرفة بإحدى الحانات أمرٌ مقبول جدًّا بالنسبة إليَّ في بعض الأحيان.»

«أوه كلَّا، يا صاحب السمو، هذا الأمر ليس مطروحًا من الأساس. فهناك قلعة جوتنفيلس، التي تُوجَد أعلانا، وهي مريحة كأيِّ قلعة مُطلَّة على نهر الراين. كما أن صاحبها، كونت بالاتين، أميرٌ رفيق لك من الأمراء الناخبين، وصديق مقرَّب جدًّا من سيدي رئيس أساقفة ماينتس، وقد علمتُ أنه يُصوِّت مع سيدي متى احتاج للمساعدة.»

قال رئيس أساقفة كولونيا معلقًا: «هذا صحيح.»

«لقد أصدر سيدي أوامر بطلب كلِّ ما أحتاجه لإقامة سيادتها من كونت بالاتين، إدراكًا منه لعدم إبلاغي بمَجيئها بوقت كافٍ؛ لذا ذهبتُ ظهرًا لزيارته بالطبع دون أن أخبره بأي شيء عن سجناء الدولة، رجالًا كانوا أم نساءً. وما إن علم بزيارتك سيدي لهذا الحي، طلب منِّي أن أعرض عليك وعلى كل رفاقك وأتباعك الاستضافة في قلعته طوال فترة تشريفك هنا.»

«هذا كرم بالغ من كونت بالاتين، ويسعدني قبول الإقامة والاستضافة هناك.»

«لقد كان من المفترض أن يكون هنا ليُرحِّب بسموك، لكني لم أستطِع إخباره في أي ساعة ستأتي تحديدًا، ولذلك انتظرتك بنفسي ويسعدني أن أرافقك إلى بوابات جوتنفيلس.»

قطع الحديثَ جلبةٌ كبيرةٌ أحدثتها مجموعةُ خيول راكضة، مندفعة بسرعةٍ جنونية من أعلى التل، مستديرة في نهايته لتدخلَ الشارع الرئيسي في المدينة.

صاح السجان قائلًا: «ها! ها هو ذا كونت بالاتين بنفسه»، وهذا قدَرنا أن نلتقي بالأمير الناخب الرابع للإمبراطورية، الذي بالإضافة إلى رؤساء الأساقفة الثلاثة، يُشكِّل جبهة قوية جدًّا يمكنها انتخاب أي إمبراطور أو عزله متى شاءت.

كان فرسان كونت بالاتين يتألفون من خمسين رجلًا مدجَّجًا بالسلاح، والضجة التي أحدثوها في المدينة أثارت أصداء تلك البلدة القديمة التي كانت تَنتمي، هي والقلعة، إلى منطقة بالاتينات. أبدى النبيل القوي ترحيبه الحار برفيقه الأمير الناخب، واتجها معًا نحو قلعة جوتنفيلس.

أثناء تناول العشاء في تلك الليلة، قدَّم كونت بالاتين استضافة كريمة. وبفعل كرمه البالغ بدأت كونتيسة فون ساين الجميلة تَستعيد بهجتها التي فقدتْها شيئًا فشيئًا، ونسيت أنها في طريقها إلى السجن. فهي رغم كل شيء شابة يافعة مَرِحة بطبيعتها وتُحبُّ الصحبة المُمتعة، لا سيما إن كانت صُحبةَ هذَين الأميرَين الناخبَين اللذين كانا يتمتَّعان بخبرة كبيرة وزارا معظمَ بلاد العالم. كما نفض رئيس الأساقفة بعض غبار الحزن عن كاهله أيضًا؛ بل كله في الواقع مع تداول أباريق النبيذ. وحين سُئل عن نبيذه المفضَّل، قال إنه بالأمس ذاق عينة رائعة من نبيذ مدينة أوبرفيزل.

فردَّ الكونت قائلًا: «إنها من منطقة مجاورة. فمدينة أوبرفيزل لا تبعد سوى مسافة قصيرة جدًّا بالأسفل، على الجانب المقابل من النهر، لكننا نرى أن نبيذ كوب الخاص بنا على الأقل لا يقلُّ عنه كفاءة؛ بل إنه يفوقه أحيانًا. يجب أن تُجرِّب بعضًا من أفضل النبيذ من كلا النوعين. لكن كيف تذوقت نبيذَ مدينة أوبرفيزل ما دمت في الشمال بمدينة ستولزينفيلس؟»

«لأني ببساطة كنت جريئًا جدًّا، معولًا على طبيعة صديقي رئيس أساقفة تريفيس الطيبة، حتى إنَّني أوصيت بشراء النبيذ من مدينة أوبرفيزل.»

«أها! أنا شغوف لمعرفة السبب.»

«لأسباب تاريخية، لا تتعلَّق بالذوق. فقد حلَّت أميرة إنجليزية جميلة ضيفة على قلعة ستولزينفيلس منذ زمن بعيد، وقُدِّم لها هذا النبيذ.»

فقال الكونت: «في هذه الحالة، سأعُود أنا أيضًا للتاريخ، وأطلب عدة كئوس من نبيذ كوب المعتَّق.» ثم قال مُخاطبًا هيلديجوندي: «حقًّا يا سيدتي، كان يجب أن يوجد أحد المُنتمين للأسرة الإمبراطورية هنا لمقابلتك بدلًا من عاشقَين قديمَين للنبيذ مثل سموِّه وأنا.»

ذُهلَت الفتاة حين ذكر الأسرة الإمبراطورية، مُستحضِرةً في ذهنها كل الأحداث العاصفة التي وقعت بالأمس. لكنها، وبكل هدوء، ابتسمَت لمضيفها المتحمِّس.

تابع الكونت قائلًا: «لكن بالرغم من أننا لسنا من الأسرة الملَكية الآن، فهي منزلة يحقُّ لنا نَيلها، وبالفعل قد نُستدعى في أيِّ وقت لنَيلها. هذا صحيح من خلال ما أسمعه، أليس كذلك يا صاحب السمو؟»

رد رئيس الأساقفة في جدية شديدة قائلًا: «بلى.»

«حسنًا، كما كنت على وشك القول؛ فهذه القلعة كانت مملوكة لآل فالكنشتاين، وقد باعوها لبالانيت. وهناك شائعة أو خرافة أو حكاية تاريخية، سمِّها كما شئت، تؤكد أن أجمل امرأة وُلدَت عند نهر الراين كانت الكونتيسة بيتريس من آل فالكنشتاين.» ثم أضاف مُبتسمًا لهيلديجوندي: «لكنِّي حين أشرب النَّخب الذي على وشك أن أقدِّمه، فسوف أؤكد يا سيدتي أن تلك الخرافة لم تَعُد قائمة، وأنا مستعد للقتال فداءً لذلك الزعم. فقد كان من المعروف حينذاك أن إيرل كورنوول الذي انتُخب ملكًا لألمانيا عام ١٢٥٧ التقى بيتريس في هذه القلعة. وقد رتَّب لهذا اللقاء الأمراء الناخبون أنفسهم، الذين حاولوا، بوصفهم خطَّابًا أغبياء، إجبار كل منهما على الزواج من الآخر. لكن رفضَت بيتريس الزواج من أجنبي.

لقد كانت كتب التاريخ غامضة بعض الشيء بشأن أمتع جزء في المفاوضات، لكنها كانت واضحة تمامًا فيما يتعلق بنتيجتها. فقد التقى الإيرل وبيتريس بطريقةٍ ما، وسرعان ما أصبح مُغرمًا بها. هذا هو الجزء الذي يَغفُل عنه الكُتاب الرهبان القدامى. يجب أن أُخبرَكِ أن الإيرل نجح فيما أخفق فيه الأمراء الناخبون السبعة. فقد أصبحت بيتريس زوجة إيرل كورنوول وملكة ألمانيا، وعاشا حياتهما في سعادة.»

صاح كونت بالاتين النبيل بينما كان يهم بالنهوض قائلًا: «لنشرب هذا النخب! نخب الذكرى العزيزة لعاشقَي جوتنفيلس الملكيين!»

طرفت عينا رئيس الأساقفة بينما كان ينظر لهيلديجوندي عبر الطاولة.

وقال بينما يرفع إبريق نبيذه: «يبدو أن هذا وقت الخِطْبات الملَكية.»

قالت هيلديجوندي: ««يبدو» هي الكلمة المناسبة أيها الوصي.»

ثم ارتشفت رشفة من نبيذ كوب المعتق.

وفي صباح اليوم التالي، استيقظت هيلديجوندي مُبكرًا. وبرغم ما كان يدور برأسها من هموم، فقد نامت جيدًا ثم استيقظت مع أصوات الطيور؛ إذ كان تأثير الشباب والصحة الجيدة عليها عظيمًا. وفي آخر لحظات يَقظتها ليلًا قبل أن تخلد إلى النوم في الفراش الرائع بأفخم غرف القلعة، لامت نفسها بقسوة على فشلها الكارثي في اليوم السابق. فقد أسدى إليها رئيس أساقفة كولونيا نصيحة نافعة لم تُنصِت إليها، ولا شك أن خيبة أمله تجاه النتيجة، التي حاوَلَ جاهدًا أن يُخفيَها في كرم منه، كانت بلا شك شديدة لأنه لم يُفصِح عنها. وبما أنها كانت تفكِّر في لحظات الأَسر القادمة، فقد كان من المتوقَّع أن تحلم بفالتس الكئيبة، ولكن رُوح الفتاة اليافعة سبحت في عالم العزلة الجميل في نونينويرث، حيث ستعيش تلك الأيام السعيدة الخوالي من جديد من دون الانشغال بصخب السياسة ووقْع أقدام الجنود المسلَّحين.

في الصباح قام البواب، بناءً على طلبها، بنزع الترباس والقضيب والسلسلة لكي يُسمح لها بالخروج في الهواء الطلق المنعش، وبالتجوُّل حول القلعة، وصلت إلى شرفة واسعة كانت في واجهتها. كان ضبابٌ كثيف يمتدُّ من الشاطئ إلى الشاطئ يُخفي مياه نهر الراين ويَحجُب جزئيًّا قرية كوب الصغيرة أسفل التل. كان الهواء نقيًّا ومُنعشًا للغاية في هذا المكان، وبدَت كما لو كانت تنظر إلى مساحة واسعة من الثلج الناصع البياض. وفي أقصى أطراف كوب بدَت العديد من القمم المُستدقة لأبراج سجنها المستقبلي، كأنها مسامير فراشٍ ما، يتخيَّل المرء فوقه شهيدًا عظيمًا مُمزَّقًا بسبب حكم رئيس أساقفة لا يعرف الرحمة.

بالتحديق في هذه القلعة الكابوس التي لا تَظهر سوى قِمَم أبراجها المستدقَّة، اتخذت الفتاة قرارها الذي كانت قد توصَّلت إليه الليلة الماضية وإن بنحوٍ ضبابي. فبعد إطلاق سراحها، يجب عليها الانعزال عن العالم، وارتداء حجاب الراهبات في الدير المقابل لتلِّ دراخنفيلس، جزيرة مُتبادلة مقابل جزيرة أخرى، وسلام بدلًا من الاضطراب.

التقت الفتاة مجددًا بكونت بالاتين المرِح ووصيِّها الأكثر رصانة على مائدة الإفطار، وقد أثنى الاثنان على نتائج نومها الجيد، وقد أعرب الأول عن ذلك بجرأة كبيرة فيما عبَّر الثاني عن ذلك بمزيد من التحفُّظ الذي يُناسب رجل الدين. بدا رئيس الأساقفة عجوزًا مُرهقًا في ضوء الصباح، ولم يكن من الصعب التخمين بأنه لم يحظَ بنوم جيد. فزعت الفتاة حين رأته على تلك الهيئة، وعادت لتتهم نفسها مجددًا بعدم اللياقة والذوق، متمنية لو عبَّر وصيُّها عن شعوره بخيبة الأمل بطريقة انتقامية أكثر، بأن يُكلِّفها ببعض المهام الصعبة التي كانت ستنفذها طواعية.

كان الكونت المضيف يتوق إلى بقائهما في ضيافته ليلة أخرى على الأقل، فدعاهما إلى ذلك، وأبدى رئيس الأساقفة موافقته الضمنية.

قال رئيس أساقفة كولونيا: «إن لم تكن الكونتيسة متعبة بشدَّة، فأنا أقترح أن ترافقني في رحلة قصيرة إلى مكانٍ ما أعلى النهر. وسنعود إلى هنا في المساء.»

صاحت هيلديجوندي قائلة: «سأكون سعيدة بذلك؛ إذ ذهب كل التعب بقضاء ليلة مريحة كهذه.»

تركهما الكونت الطيب لتجهيز أمتعتهما، وما هي إلا لحظات حتى امتطى الوصي والفتاة ظهرَي حصانَيهما جنبًا إلى جنب ونزلا أسفل الانحدار الشديد باتجاه النهر. كان الضباب قد انقشع بالفعل إلا من بضعة خيوط هنا وهناك تنعكس على سطح المياه الرمادي، مُتتابعة كما لو كانت مرسومة بفعل التيار؛ إذ كان الهواء ساكنًا، وواعدًا بيومٍ قائظ. تقدَّما في صمتٍ إلى أن أبعدَ مُنحنًى على نهر الراين كوب وسِجْنَها المشئوم عن الأنظار، وحينها كانت الفتاة أول مَن تحدَّث.

فقالت متسائلة: «أيها الوصي، هل كانت إساءتي شديدة بحيث لا يمكنك غفرانها لي؟»

ارتسمت على شفتيه ابتسامة رقيقة وهو يُحدِّق فيها بنظرات حانية.

وقال: «إنك لم تُسيئي إليَّ قطُّ يا عزيزتي، لكنني حزين لما آلت إليه الأمور.»

«أنا أيضًا فكَّرتُ فيما جرى، ولم ألُمْ سوى نفسي على معارضتهم الثائرة تلك. وسوف أخضع، دون تذمُّر، لأي فترة سجن تُرضي رئيس أساقفة ماينتس، وإن أمكن، ترقِّق قلبه. وبعد أن يطلق سراحي، أرجو موافقتك على الانضمام إلى صفوف الأخوات في نونينويرث. وأريد أيضًا أن أقسم ثروتي بالتساوي بينك وبين الدير.»

هزَّ رئيس الأساقفة رأسه معارضًا.

وقال: «لا يُمكنني أن أقبل هذا التنازل.»

«ولمَ لا وقد قبِل رئيس أساقفة كولونيا السابق مدينةَ لينتس من سالفتي ماتيلدا؟»

«كان المقصود أن يكون هذا قرضًا مؤقتًا.»

«حسنًا؛ صف تنازلي هذا بأنه مؤقت إن شئت، بحيث تَحتفِظ بما وهبتُك إياه إلى أن أطلبه منك، على أن تستخدمه في الوقت الحالي كما تشاء.»

قال رئيس الأساقفة بنبرة حازمة: «هذا مُستحيل تمامًا.»

«هل هذا يعني أنك لن تسمح لي بعيش حياة الرهبنة؟»

«كلَّا يا صغيرتي؛ بل يعني أنني لن أرضى بالسماح لك بهذا التخلي عن العالم قبل أن تعرفي أكثر عما تتخلين عنه.»

«أعرفه بالقدر الكافي.»

«هذا ما تظنين، لكنَّ خبرتَك به أقلُّ من أن نتوقَّع وصولك لرأي سليم هذا الصباح. يجب أن أصرَّ على مرور عام على الأقل، ويُفضَّل عامان، على أن تقضيَ جزءًا من هذا الوقت في فرانكفورت وفي كولونيا. فأنا أتوقَّع حدوث تحسينٌ كبير في الأوضاع في فرانكفورت عند تولي الإمبراطور الجديد العرش. وإن ظلَّ رأيُكِ كما هو بعد عامين، فلن أُعارض مرة أخرى.»

«لن أغيِّر رأيي أبدًا.»

«ربما لا. فقد قيل لي إن عزم المرأة لا رجوع فيه؛ ومن ثمَّ فقليل من التأخير لن يضر. وهناك مسألة أخرى لا أستوعبها في الوقت نفسه. فقد أطلتُ التفكير مرارًا وتكرارًا فيها، وصرتُ على قناعة بوجود سوء فهم في نقطةٍ ما، والذي ربما سيَنتهي بعد فوات الأوان. فأنا على أتمِّ الثِّقة أن الأب أمبروز لم يلتقِ الأمير رولاند في فرانكفورت.»

قالت الفتاة: «هل تشكُّ إذن في كلام الأب أمبروز؟» وسرعان ما تراجعت عن لهجة السخط التي بدتْ واضحة في صوتها؛ إذ كان التواضع سيكون ديدنها من الآن فصاعدًا.

«الأب أمبروز أفضل الرجال وأصدقهم قاطبة. ولا شك أنه رأى أحدهم يَسرق أحد التجار في فرانكفورت. ولا شك أيضًا أنه حُبس وسط براميل النبيذ؛ لكني لا أصدِّق أن يكون هذا السارق وهذا السجان هو رولاند لأني أعرفه جيدًا، كما أن هذا مُحال عمليًّا؛ إذ إن الأمير رولاند نفسه كان سجينًا في ذلك الوقت، بل وإلى الآن في الواقع. ولا يُمكن للأمير رولاند أن يخرج من إيرنفيلس دون صدور أمر من رئيس أساقفة ماينتس ورئيس أساقفة تريفيس ومنِّي أنا شخصيًّا. فأنا وحدي لا أملك السلطة التي تُمكِّنُني من إطلاق سراحه، وكذلك رئيس أساقفة ماينتس لا يملك هذه السلطة برغم أنه مالك القلعة. لا بدَّ أن هناك وغدًا يتجوَّل بشوارع فرانكفورت مُدعيًا أنه رولاند.»

«في هذه الحالة، يا سيدي، ما كان سيُنكِر هُويتَه عندما بادَرَه بالكلام عند الجسر.»

«ملحوظة ذكية جدًّا يا عزيزتي، لكنها لا تمحو الصعوبة التي أواجهها. فربما كانت هناك عدَّة أسباب تَمنع هذا الوغد من أن يدين نفسه أمام أيِّ غريب يُباغته هكذا. لكن لا فائدة من الجدال في هذا الأمر؛ لأنِّي لن أقنعك كما أنك لن تقنعيني. المهم الآن هو معرفة سوء الفهم وإزالته. فهل ستُساعدينني في ذلك؟»

«بكل تأكيد، لو كان بإمكاني هذا، يا سيدي.»

«عظيم. يجب أن أُخبرَك أولًا أن فترة سجنكِ من المرجَّح أن تكون قصيرة جدًّا. ويجب أن تعرفي أيضًا أن التناغم المُفترَض وجوده في ستولزينفلز ليس سوى خُرافة في واقع الأمر؛ فقد تركتُ ورائي بذور الخلاف. اقترحتُ أن تكون ابنةُ أخي رئيس أساقفة تريفيس الكئيبة التي قابلتِها على مائدة الغداء التاريخية التي أقمناها، الإمبراطورةَ القادمة. وقد دعم رئيس أساقفة ماينتس نفسُه هذا الترشيح، وقوبل بتَرحاب كبير من أخي رئيس أساقفة تريفيس.»

«إذن لأوَّل مرة تُوافق أطراف المجلس على شيء بالإجماع، أليس كذلك؟ أظن أن اختيارك رائع.»

«لكن رئيس الأساقفة لا يتَّفق معكِ في هذا الطرح يا عزيزتي.»

«فلماذا دعم ترشيحك إذن؟»

«لأنه أذكى بكثير من رئيس أساقفة تريفيس، الذي كان من المُفترَض أن يكون هو الداعم الثاني بعد بضع دقائق.»

«لماذا يَعتقِد سيد رئيس أساقفة ماينتس شيئًا ويتصرَّف بغيره؟»

«لماذا يفعل ذلك دائمًا؟ لا يُمكن لأحد أن يُخمِّن حقيقةَ ما يفكِّر به رئيس أساقفة ماينتس، إن كان الحكم عليه من خلال ما يقول. إذا أصبحت ابنة أخي رئيس أساقفة تريفيس الإمبراطورة، فسرعان ما سيُدرك عمُّها سلطته، وسوف يفقد رئيس أساقفة ماينتس قيادته. وإذا أمكن لرئيس أساقفة ماينتس اليوم أن يُقنعكِ بمنصب الإمبراطورة بنحوٍ سرِّي، فسوف يسعده هذا كثيرًا.»

«لكن ألن يَبحث عن شخص آخر؟»

«بالتأكيد. فهذا الاختيار يحتلُّ تفكيره الآن بقوة. ودعمه للترشيح لم يكن سوى خدعة لكسب الوقت، لكنه لو اقترح شخصًا آخر، فسأُعارضه أنا ورئيس أساقفة تريفيس. أملُه الوحيد في كبح طموح رئيس أساقفة تريفيس هو احتمالية حدوث شيءٍ ما، يجعلُكِ تُغيِّرين رأيك بخصوص الأمير رولاند.»

عارضَتِ الفتاة قائلة: «لقد نسيت، أيها الوصي، أن السيد رئيس أساقفة ماينتس قال إنه لن يسمح لي بالزواج من الأمير رولاند بعد الطريقة التي تحدثتُ وتصرفت بها.»

«قالها يا عزيزتي تحت تأثير غضبه العارم تجاهك، لكن رئيس أساقفة ماينتس لا يَسمح للغضب ولا لأي شعور آخر أن يقف أبدًا عائقًا أمام مصالحه. فإذا كتبتِ له خطاب اعتذار تُعربين فيه عن ندمك على تحديك له وتبدين رغبتك في الإذعان لرغباته، فأنا واثق أنه سيُرحِّب بذلك باعتباره حلًّا مُواتيًا للمأزق الذي وجد نفسه فيه.»

قالت الفتاة في أسف: «هل تُريدني أن أفعل هذا أيها الوصي؟»

«ليس قبل أن تقتنعي تمامًا ببراءة الأمير رولاند من التُّهَم التي ألصقتِها به.»

«وكيف لي أن أتأكد من هذا؟»

«أوه، ها نحن أولاء الآن قد وصلنا للهدف من تلك الرحلة التي تبدو ظاهريًّا بلا هدف. لديَّ خبرة أكبر منك بهذا العالم الذي تسعين جاهدةً للتخلي عنه، وبالرغم من أني رأيتُ الشر يَنتصِر لفترة من الوقت، فلم يتزعزع إيماني لحظة بالعناية الإلهية المسيطرة على كل شيء، وما حدث الليلة الماضية جعَلني أُمعن التفكير لدرجة أنني استغرقت في تأملاتي حتى طلع النهار.»

«أوه، أيها الوصي المسكين، أعلم أنك لم تَنعم بنوم هنيء، وكل هذا بسبب مخلوقة لا وزن لها مثلي أنا، ومخلوقة شريرة أيضًا؛ لأني لم أرَ يد العناية الإلهية التي تراها أنت بهذا الوضوح.»

«بالتأكيد يا عزيزتي، لحظة تفكير ستُظهرها لك. تذكَّري حين كنا على وشك الوصول إلى باب السجن، وتسلَّمنا تأجيلًا مؤقتًا من قِبل ذلك الفظ، الفالتسجراف. لم يكن الجناح الخاص بك جاهزًا بعد؛ ومن ثم رأينا أننا مُنحنا يومًا آخر من الحرية؛ يومًا من الحرية المطلقة، والذي كان أمرًا خارج نطاق توقعاتنا. والآن يُمكننا عمل الكثير خلال هذا اليوم. إن إمبراطورية قد ضُيِّعت واكتُسبت خلال بضع ساعات. ومع تلك الهدية جاء الاكتشاف. لم يكن ذلك السكير الفالتسجراف ليبدي لك أيَّ اهتمام؛ فبالنسبة إليه السجينُ هو السجين؛ أي أن يُلقى في أي مكان، ويغلق عليه الباب، وانتهى الأمر، لكنْ ثمَّة خوف شديد قد بثَّه فيه سيدُه. فقد انشغل رئيس أساقفة ماينتس براحتك، فأمر بإفراد أفضل أجنحة القلعة لك. إذن وبعد هذا كله، فإن سيادته لم يَشعُر بأي ضغينة تجاهك، وأزعُمُ أنه سيكون سعيدًا بالتراجع عن أمر سجنك، غير أنه لم يكن ليعترف بهزيمته أبدًا.»

«أوه، يا لك من حالم أيها الوصي! أنا واثقة أن نيافة رئيس أساقفة ماينتس لن يُسامحَني أبدًا.»

«نيافة رئيس أساقفة ماينتس يا عزيزتي في مأزق لا يُمكن لأحد سواكِ أن يخرجه منه.»

«بل ستخرجه منه براعته.»

«ربما. لكني لا أعبأ به. أفكاري أنانية جدًّا في هذا الشأن. أتمنى لو انتشلتني من شكوكي هذه.»

«أتعني بشأن الأمير رولاند؟ سأفعل ما تأمرني به.»

«لن أصدر أي أمر، لكن سأسميه اقتراحًا.»

«ومع ذلك سيكون أمرًا.»

«لقد ابتعدنا كثيرًا عن سجنك، ونقترب الآن من سجن الأمير رولاند. أقترح أن أرافقك إلى باب قلعة السجن تلك. فأنا ممنوع بموجب اتفاقي مع الأمراء الناخبين الآخرين من رؤية الأمير رولاند أو التواصُل معه بأي نحو. ومع ذلك فإن حارس القلعة يَعرفني جيدًا ولن يرفض لي طلبًا، حتى وإن طلبت رؤية الشاب نفسه. ومن ثمَّ فلن يتردد في إدخالك حين أطلب منه ذلك. ولكن لأُبعد عنِّي تهمة الدخول خلسةً إلى قلعة رجل آخر، فسأكتب الليلة خطابًا لرئيس أساقفة ماينتس أُخبرُه فيه بما فعلت بالضبط ولماذا فعلته.»

«هل تقصد إذن أن عليَّ مقابلة الأمير رولاند والتحدث إليه؟»

«أجل.»

صاحت الفتاة بينما اشرأبَّ وجهها بالحمرة قائلة: «عزيزي الوصي، ماذا يُمكن أن أقول له بحق السماء؟ وكيف لي أن أبرِّر له تطفلي؟»

«أظن أن السجين لا يُغضبه التطفل، لا سيما إن كان المتطفل …» ونظر العجوز إليها مبتسمًا فكان وجهها يزداد حمرة أكثر فأكثر؛ وأضاف بعد أن رأى ارتباكها وخجلها قائلًا: «يُمكنكِ قول الكثير. قدِّمي نفسك على أنك الفتاة التي أمير كولونيا وصَّي عليها؛ وبيِّني له أن وصيَّك قد أسرَّ لك بأنه سيكون الإمبراطور المستقبلي؛ واطلبي منه بعض الضمانات بعدم المساس بالمُمتلكات التي ورثتِها عن أسلافك؛ أو يمكنك أن تُخبريه بقصة الأب أمبروز مع المقدمة نفسها، وهذا أفضل. أخبريه أن هذا أزعجك، اطلُبي منه الحقيقة، واستمعي لما سيقوله عن نفسه، ثم اشكُريه وانصرفي. الأمر لا يتطلب حديثًا طويلًا، بالرغم من استعدادي لسماع طلبه بإطالة بقائك. أنا واثق أن الحديث وجهًا لوجه لمدة خمس دقائق فقط سيُغير ما قاله الأب أمبروز في حقه تمامًا، وبضع كلمات بسيطة منه ستُزيل على الأرجح الغموض بالكامل. وإذا كان هناك مَن ينتحل شخصيته في فرانكفورت فمن المرجَّح أنه يعرفه.»

سار الرفيقان معًا مسافة طويلة في صمت، ومالت رأس الفتاة لأسفل وتقطَّب جبينها. وأخيرًا، وكأنما كان هذا بعد جهد كبير، أزالت شكوكها ورفعت رأسها.

وقالت بنبرة حاسمة: «سأفعل هذا.»

تنفَّس رئيس الأساقفة الصعداء. فقد علم حينها أنه أصبح الآن في أمان.

سألت، وكأنها تريد التلميح إلى الانتهاء من الموضوع الذي تحدَّثا فيه بمنتهى الجدية: «هل هذه أسمانسهاوزن التي نحن ذاهبان إليها؟»

«كلا، هذه هي قرية لورش، وتلك هي قلعة نوليتش أعلاها.»

قالت الفتاة بينما تتنهَّد في قلق: «آمُل ألا تكون هناك أميرة إنجليزية على وشك الزواج من إمبراطور أو ألا يكون هناك رجل إنجليزي بصدد تقلُّد منصب الإمبراطور …»

قاطع رئيسُ الأساقفةِ هذا الأنينَ بضحكة من القلب، كانت هي الأولى له منذ عدة أيام.

فتابعت قائلة: «يبدو أن الإنجليز عِرقٌ مُتطفِّل. أتمنى لو يهتمُّون بشئونهم فقط.»

قال رئيس الأساقفة: «نوليتش غير ملوَّثة، بالرغم من أنه في الأيام الخوالي جاء فارس مُتهوِّر يمتطي صهوة حصانه وصعد إلى هنا ليُنقذ حبيبته، وأعتقد أنه عاد معها ثانية ولا يزال طريقه يسمَّى بسلَّم الشيطان.»

«هل كان زواجُهما بهذا القدر من السوء؟»

«كلا؛ بل أعتقد أنهما عاشا حياةً هنيئة للأبد؛ لكن الصعود كان مُنحدرًا للغاية لدرجة أنه كان من المفترض أن تُساعدهما جنيات الجبل في صعوده.»

«كم تبقى على أسمانسهاوزن؟»

«أقل من فرسخين. سوف نتوقَّف هناك ونلتقط أنفاسنا. هل أنتِ متعبة؟»

«أوه، كلَّا، على الإطلاق. أنا فقط أتمنى لو زالت تلك المحنة.»

«أنت فتاة شُجاعة يا هيلديجوندي.»

«أنا أبعد ما أكون عن هذا أيها الوصي. لكن لا تخشَ أن أتراجَع.»

بعد أن تناولا وجبةَ الظهيرة في أسمانسهاوزن، اقترحَتِ الكونتيسة أن يتركا حصانَيهما في الإسطبل ويمشيا على أقدامهما مسافة الثلث فرسخ المتبقية على مدينة إيرنفيلس، فوافق الوصي على ذلك.

غير أنه واجه صعوبة مع الحارس أكبرَ مما كان يتصوَّر. فقد رفض الرجل طلبه مُرتعدًا. فلم يكن يجرؤ على السماح بزيارة أحد للسجين دون أمر مكتوب من سيِّده. كان يُسعدُه أن يُسديَ جميلًا لرئيس أساقفة كولونيا، لكنه ليس سوى بائس فقير لا يملك من أمره شيئًا في تلك المسألة.

قال رئيس أساقفة كولونيا: «عظيم. لقد أتيت لتوِّي من عند سيدك، الذي يوجد الآن مع أخي رئيس أساقفة تريفيس في ستولزينفيلس. وإن أصررت على موقفك فيجب حينها أن أطلب منك مكانًا للإقامة إلى أن يحين الوقت ويتمكَّن الرسول السريع من استدعاء سيِّدك إلى هنا. لكن هذه الرحلة قد تُزعجه كثيرًا وإن حدث ذلك أخشى أن يُفسِد هذا علاقتك به.»

«ربما يَحدُث هذا يا سيدي، ولكن يجب عليَّ أن أقوم بواجبي.»

سأله رئيس الأساقفة بنَبرةٍ حادَّة: «هل أنت واثق من أنك قد أدَّيت بالفعل واجبك في جميع الحالات؟»

بدا الشحوب على وجه الرجل.

وقال: «أنا لا أفهم ماذا تعني يا سيدي.»

«إذن سأُخبرك بما أعنيه بسرعة. يُشاع أن الأمير رولاند شُوهد وهو يتجوَّل في شوارع فرانكفورت.»

«كيف … كيف يُمكن أن يحدث هذا يا سيدي؟»

«هذا بالضبط ما أُريد معرفته. أظن أن الأمير ليس موجودًا داخل سجنك.»

قال الرجل الذي تملَّكه الرعب الآن: «أؤكد لك يا سيدي أن سيادته موجود هنا في غرفته.»

«ممتاز؛ إذن أدخِل هذه السيدة إليه. بالرغم من أنها لا تَعرف الأمير، فإن أحد أقاربها يؤكد أنه التقى بسيادته في فرانكفورت. فقلتُ إن هذا مُستحيل لو أنك قمت بواجبك كما تدَّعي. كلُّ ما تُريده السيدة أن تسأله عن تفسيرٍ لهذا الأمر، والخيار لك. هل ستُرافقُها للداخل أم أرسل في طلبِ رئيسَي الأساقفة الآخرَين؟»

لم يكن هناك شيء مُريح في كلامه سوى عبارة أن السيدة لا تَعرف الأمير. لكن لا تزال تلك مُخاطرة كبيرة ومخيفة، لكن الحارس لم يتردَّد كثيرًا. فالتقط مجموعة من المفاتيح، وطلب من الكونتيسة أن تتبعه. صعد السلَّم وفتح الباب وانزوى جانبًا ليسمح للكونتيسة بالدخول.

كان هناك شخص أشعث يَجلس مباعدًا بين رجليه على كرسي؛ ويضع ذراعيه على الطاولة، ورأسه مُطأطأ بينهما. وكانت بالقرب منه كأس ممتلئة بالكامل بالنبيذ، وإبريق نبيذ قد انسكب على الطاولة ولا يزال يقطر على الأرض قطرة، قطرة، قطرة.

رفع الشاب رأسه وقد أزعجه فتح الباب بهذه الطريقة العنيفة، وصوت التصادم الذي أحدثه حين صفَقَه الأب بعرض الحائط الحجري مُحاولًا تحذيره، لكن حالة الشاب لم تكن لتسمح له بالانتباه لهذا التحذير، ولا بفهم الإشارات التي كان والده يقوم بها من خلف ظهر الفتاة المُرتعبة. فأمسك بالإبريق المنسكب بعنف وصاح بقوة:

«أحضِر لي المزيد من النبيذ، أيها العجوز …»

مشى الشاب على قدمَيه مُترنِّحًا، وألقى الإبريق بعيدًا، ثم انزلق بسبب النبيذ المسكوب ليسقط أرضًا مُطلِقًا اللعنات على العالم.

تراجعت الفتاة المرتعبة وصاحت في السجان قائلة:

«أخرِجني من هنا! أغلِق الباب بسرعة وسدَّه بالأقفال!» فنفَّذ السجان الأمر بمنتهى السرعة.

وعندما خرجت هيلديجوندي للفِناء لم يَسألها الوصي أيَّ سؤال. فقد أفصح الرعب البادي على وجهها عن كل شيء.

قال الحارس المُرتعد: «معذرة يا سيدي، لكن فخامته سكران.»

«هل هذا … هل هذا يحدث كثيرًا؟»

«للأسف، أجل يا سيدي.»

«يا له مِن فتًى مسكين! سوف تنتقل ذنوب الآباء إلى أبناء الجيلين الثالث والرابع. سامحيني يا هيلديجوندي. هيا بنا نرحل وانسي الأمر بِرمَّته.»

وفي الصباح التالي بدأت الكونتيسة فترة سجنها في فالتس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤