الفصل السادس عشر

السيدة النبيلة تشقُّ صفوف القراصنة وتفتِن رئيسهم

أطلَّ جريسل من إحدى الشرفات ونادى قائدَه.

وقال: «هناك عدد من النساء في الغرف الغربية للقلعة. لقد أوصدنَ أبوابهنَّ، لكنهنَّ أخبرنني أن بداخل هذه الغرف فالتسجرافين فون شتاليك وغيرها من السيدات النبيلات بصحبة خادماتهن. ما الذي عليَّ فعله؟»

أجابه رولاند قائلًا: «اجعل أحد الرجال يتولى حراسة هذا الممر يا جريسل لتضمن أن هؤلاء السيدات لا يتواصلن مع أحد خارج القلعة.»

أوضح جريسل قائلًا: «لقد ظننتُ أنني لا يجدر بي اقتحامُ هذه الأبواب من دون الحصول على تعليمات محدَّدة منك بهذا المضمون.»

«لقد فعلت الصواب. طمئن السيدات بأننا لن نُزعجهنَّ.»

وهنا صاحت الفتاة الجميلة الواقفة في الفناء، وعيناها الداكنتان تلمعان في وهج المشاعل، قائلة: «ولكنَّك أزعجتني!»

رد عليها جريسل دون إبداء أي عاطفة أو تأثُّر بجمالها: «لقد نعتتنا هذه الإنسانة بجميع الألفاظ المُهينة التي خطرت ببالها. فبحسب قولها فإننا حثالة الأرض.»

ضحكت الفتاة بازدراء.

تابع جريسل كلامه دون اكتراث: «ولكنَّني لم أكن لأخرجها من غرفتها إلا لقولها بوجود شرفة بها، في الجهة الشرقية للقلعة، وتطل على العمليات التي يجريها الفالتسجراف على السفينة، وقد أعلنَت عزمها على تحذير شتاليك بأن القلعة تعج بالقراصنة، بمجرد أن يصل صوتها إليهم ويعلو فوق الجلبة الموجودة في المنطقة التي ترسو فيها السفينة. لهذا اقتحمت الباب وأمرتها وخادمتَيها بالهبوط إلى الفناء. وعندما فتشتُ غرفتها لم أجد الشرفة التي وصفتها، واكتشفت أنها لم يكن باستطاعتها التواصل مع الكونت؛ لذا أقترح عليك إعادتها لغرفتها مرة أخرى.»

ضحكت الفتاة من جديد، وصاحت قائلة:

«لم أقوَ على كسر الباب بنفسي؛ لذا دفعتُكَ أنت والحمقى الذين برفقتك على القيام بتلك المهمة. أنا سجينة هنا؛ أسيرة مُكرَهة على البقاء. إنك لن تُعيدني إلى زنزانتي، كما آمُل، أيها القائد، أليس كذلك؟»

«بلى، إن كنتِ حقًّا أحد رفقاء السجن وليس أحد الأعداء.»

ولكن حذَّره جريسل بقوله: «احذر، فلربما تخدعك أنت أيضًا.»

أجاب رولاند مُبتسمًا للفتاة التي بادلته الابتسامة، قائلًا: «سوف أقبل المخاطرة وأفعل ذلك.» كانت لديها شخصية عنيدة، ولكنها بدت مُتأثِّرة بتلك المعاملة اللائقة.

سأل رولاند: «هل هناك أي خدم من الرجال؟»

أجاب جريسل: «ثلاثة فقط، وهم يتحركون بصعوبة بسبب تقدُّمهم في العمر، وهم أكثر خوفًا من النساء أنفسهن. ولكن أحد الخدم مهم؛ فقد أخبرني بأنه حارس الخزانة. لقد انتزعت منه المفاتيح، ووجدت أن غرفة الخزانة الحصينة تمتلئ بأكياس الذهب. ستكون تلك أكبر غنيمة نحصدُها حتى الآن، باستثناء برميلَي العملات الذهبية اللذَين استولينا عليهما من …»

صاح رولاند قائلًا: «صه، صه! لا تَذكُر أيَّ أسماء. هل اكتشفت وجود أيِّ مخرج آخر غير الباب الذي دخلنا منه؟»

«لا؛ ولكن توجد نافذة في الطرف الشمالي يُمكن لرجلٍ متوسط الحجم أن يعبر من خلالها. إلا أنها مرتفعة فوق الصخور، واستطعت تمييز وجود أسطول من القوارب الصغيرة تطفو فوق المياه الجارية.»

قال رولاند: «حسنًا هذا مهم.»

تحدثت الفتاة قائلة: «اللص الأكثر لُطفًا وبحوزته الذهب.»

ردَّد رولاند ما قالته وهو يبتسم مجددًا: «وبحوزته الذهب»، وأضاف قائلًا: «وبحوزته أيضًا سيدة ترغب في الهروب من فالتس، حسبما فهمتُه منها.»

وافقته الفتاة وقالت بمكر: «أنت محق. هل سأحصل على حصة من المال؟»

«أجل؛ إن انضممتِ لجماعتنا.»

هتفت الفتاة وهي تدَّعي خيبةَ الأمل: «أوه! لقد ظننت أنك اتخذتني عضوًا بالفعل. وما الاسم الذي سأُخاطب به سيدي الجديد، الذي يَحصُد ثروات هائلة للحد الذي يجعله لا يرغب في ذكر المبلغ أو المكان المحدَّد الذي أخذها منه؟»

«اسمي رولاند. ألا ترين إذن أنه من الإنصاف أن تُخبريني باسمك في المقابل؟»

«أصدقائي ينادونني بهيلدا.»

قال الشاب وهو ينظر إليها بإعجاب: «إذن، هيلدا، أرحِّب بكِ بصفتك أحدَ نوابي.»

صاحت بسخط مُصطَنع: «النائب الأول في واقع الأمر! سأكون نائبك الأول أو لا شيء.»

«حتى هذه اللحظة كان السيد جوزيف جريسل، الذي لم يُعرِّفك بنفسه بطريقة رسمية، هو نائبي الأول، ولكنَّني سأعزله من منصبه عن طيب خاطر، وأمنحكِ منصبه.»

نادت هيلدا على الرجل المتَّكئ على الشرفة. وسألته: «جوزيف، هل سمعت ذلك؟»

تجهَّم النائب المعزول ولكنه لم يردَّ.

تحدَّث رولاند إلى جريسل قائلًا: «ضعْ حراسك في مواقعهم ثم اهبِط إلى هنا.»

ظهر جريسل في الفناء بعد وقت قليل، وتبِعه أربعة رجال.

وقال: «لقد كلفتُ رجلين بأمر الحراسة.»

«فعلت الصواب. وماذا فعلت مع الخدم؟»

«أحكمت وثاقهم. لقد وجدت الكثير من الحبال في العلية.»

«لقد فعلت الصواب مرة أخرى. خذ رجالك الأربعة واحرسوا الباب. وأرسلْ لي إبرهارد.»

وقبل وصول إبرهارد، التفت رولاند إلى الفتاة.

وقال: «عُودي إلى غرفتك، واطلبي من خادمتَيك أن تجمعا أيًّا ما ترغبين في أخذه معكِ.»

احتجَّت هيلدا قائلة: «أُفضِّل البقاء في مكاني؛ فأنا متلهفة لسماع خططك. أعترف أنني لا أعرف كيف بإمكانك الخروج من هذه القلعة بسلام.»

«آنسة هيلدا، إن أول واجبات النائب الأول هو الامتثال للأوامر.»

«وأنا أرفض ذلك، فماذا ستفعل؟»

«سأستدعي اثنين من رجالي، ليَحملوكِ إلى غرفتك، وسآمُرُهما بأن يحرصا على عدم مغادرتك لها ثانية.»

«وأبقى هنا بعد مغادرتك؟»

«أجل، بالتأكيد.»

«ولكنك ستأخذ الذهب.»

«بالتأكيد، فالذهب يُطيعني ويفعل ما أطلبه منه.»

ظلت الفتاة ثابتة في مكانها بضع لحظات، مُحدِّقة في وجهه في تحدٍّ، وعلى الرغم من طيف الابتسامة الخفيفة المرتسمة على شفتَيه فقد أدركت على نحو فطن، ربما بحدسها الأنثوي، أنه يَعني ما قاله. فأخفضَت رأسها وبدا الغيظ على ملامح وجهها الجميل، ثم تنهدت تنهيدة طويلة.

وقالت بهدوء شديد: «سأذهب إلى غرفتي.»

«سأزوركِ فورًا بعد أن أُعطي بعض التعليمات لنائبي الثالث.»

أجابته بغطرسة، ولكن بنبرة هادئة مماثلة للنبرة التي خاطبها بها، فقالت: «لا تجهد نفسك. سأبقى سجينة لدى الفالتسجراف فون شتاليك، الذي رغمَ أنه سارق مُحترِف مثلك تمامًا، فإنه يمتلك أخلاق رجل نبيل.»

وبقولها تلك الكلمات، انسحبت الفتاة ببطء وصعدت الدَّرج واختفت وتبعتها خادمتاها.

وعندما حضر إبرهارد خاطبه رولاند قائلًا: «لقد اكتشف جريسل شرفةً تطلُّ على الجهة الشمالية، يمكنك أن تهبِط من خلالها بواسطة الحِبال إلى الصخورِ بصحبةِ عددٍ من رجالك؛ فقد أخبرني أن هناك عليةً مليئةً بالحبال. وهناك أسطول صغير من القوارب الصغيرة الراسية أسفل القلعة. لقد عاين الخزانة ووجدها مليئة بصرر العملات المعدنية. أنوي نقل تلك الصرر إلى أسطول القوارب. إننا لسنا بأمان هنا، فهناك على الأرجح مدخل سرِّي لهذه القلعة لا نعلم عنه شيئًا. هذا بالإضافة إلى وجود عدد من النسوة اللائي لا يُمكننا استخدام القوة معهن ولا جعلهنَّ يتضوَّرنَ جوعًا. الحقيقة أنني أخشاهن أكثر من خشيتي الأشرار الذين في الخارج. هل اكتشف أيٌّ من الرجال المسلحين أننا سحبنا السلم وأغلقنا الباب؟»

«لا أظنُّ ذلك؛ لأنهم في هذه الحالة كانوا سيعودون من نهبهم بأقصى سرعة مثلما فعل المارجريف الأحمر عندما رأى قلعته مُشتعلة. رأيي أنهم يؤدُّون مهمتهم في نهب السفينة على أكمل وجه.»

«إن كان الأمر كذلك فهذا يعني ضياع براميل الذهب الخاصة بنا، مما يزيد من ضرورة استيلائنا على كل كرويتسر يَملكُه صديقنا شتاليك. لهذا عليك استدعاء جميع الرجال، وليبقَ واحد فقط لحراسة الباب. يمتلك جريسل المفاتيح وسيقودك إلى مكان الخزانة. اجمع الصرر عند الشرفة الشمالية. وفي أثناء قيام رجالك بهذه المهمة، اصنع حبلًا متينًا حتى تتمكنوا من الهبوط جميعكم سريعًا إلى الصخور، بعد إنزال كل الصرر بلا شك. وبعد إتمام تلك المهمة فليُبلغني جريسل من الشرفة ولينزل مُصطحِبًا معه مَن يتولى حراسة الباب. قسِّم الرجال والصرر على جميع القوارب باستثناء قارب واحد. سأتولى أنا مسئولية هذا القارب. اجعل جريسل قائدًا لهذا الأسطول الصغير، واطلب منه الوصول بأسطوله إلى الشاطئ الشرقي، وليفعل ذلك بأكبر قدْر ممكن من الهدوء، وليجدِّف بعدها في الماء الراكد حتى يبتعد عن فالتس مسافة ثلث فرسخ على الأقل. وهناك عليه انتظار قاربي الصغير. أما أنت فستنتظر بجوار قاربي حتى أنضم إليك. على الأرجح سيكون بصُحبتي ثلاث نساء؛ لذا احتفظ بأكبر القوارب وأكثرها راحة.»

اندهش إبرهارد عند ذكر النساء، ولكنه لم يقُل شيئًا.

ذهب رولاند بنفسه إلى الغرفة التي تُوجد بها السيدة الشابة، وطرق بابها، وحينئذٍ فُتح على الفور.

قال: «سيدتي هناك فرصة للهروب إن كنتِ تنوين الاستفادة منها.»

كانت الفتاة جالسة حين دخل غرفتها، ولكنها نهضت الآن وتحدَّثت بصوت مرتجف قليلًا.

«سيدي، لقد أخطأتُ بعصيانك بعدما عاملتني بلُطفٍ شديد. ولهذا سأعاقب نفسي بالبقاء حيث أنا.»

«في هذه الحالة سيدتي فأنتِ تُعاقبينني أنا أيضًا؛ وفي واقع الأمر، أنا أستحق ذلك؛ فقد نسيت وقتها أنني أحادث سيدة. أرجو أن تَمنحيني شرف مرافقتك، وسوف أوصلك بأمان إلى أيِّ مكان تودين الوصول إليه.»

«إنك شديد التهذيب يا سيدي، ولكنَّني أخشى أن وجهتي التي أنشدها قد تأخذك إلى مكان بعيد، وربما لا يناسبك ذلك.»

«إنني أملك وقتي، ولا شيء سيُرضيني أكثر من ضمان سلامتك. أخبريني بوجهتك.»

«إنه دير نونينويرث، الواقع على جزيرة أكبر من هذه، بالقرب من رولاندسيك.»

«يسعدني أن أُقلَّك إلى هناك.»

«أشكرك مرة أخرى. إنني أرغب في الانضمام للأخوات هناك.»

صاح رولاند مُتسائلًا بخيبة أمل: «أستصبحين راهبة؟»

«نعم، رغم أن وصيِّي يعارض قراري هذا.»

قال رولاند بتنهيدة: «للأسف أعترف أنني أُوافقُه الرأي فيما يخص قرارك أن تصبحي راهبة. ولكن يظلُّ السجن خيارًا شديد القسوة.»

فارقت الفتاة جديتها، وابتسمت له.

«ولكنك اختبرت بعضًا من عنادي، واقترحت عقابًا أشد قسوة من ذلك …»

قاطعها رولاند قائلًا: «لقد نسيتِ أنني اعتذرتُ لك عن سلوكي غير المهذَّب. أتمنى أن أنول الغفران الكامل في أثناء رحلتنا إلى نونينويرث.»

«أوه، لقد سامحتُك بالفعل، وبصدرٍ رحْب؛ فأنت تعلم أن الذنب كان ذنبي بالكامل. سوف أنضمُّ إليكم في الفناء في الحال إن سمحت لي.»

«ممتاز. سأكون بالأسفل بعد أن أعطيت التعليمات النهائية لرجالي.»

وصل رولاند إلى الشرفة الشمالية، ورأى أن الأسطول قد غادر بالفعل. وكان بإمكانه رؤية إبرهارد واقفًا مستندًا بيده على مقدمة القارب المتبقي؛ لذا سحب الحبل وفكَّه من الحلقة التي عُلق بها، وألقاه إلى نائبه.

وهمس قائلًا: «الحبل مفيد دائمًا، وسوف يَحتار الفالتسجراف الطيب بشأن كيفية خروجنا.»

في الفناء وجد ثلاث نساء في انتظاره. بهدوء سحب الأقفال الثقيلة، وفك السلاسل القوية. وفتح الباب قليلًا، وأطل على مكان رسو السفينة، ورآه مُضيئًا بإضاءة ساطعة بواسطة العديد من المشاعل التي حملها الخدم عاليًا.

كان الرجال المسلَّحون مُستمتِعين للغاية، وأظهرت الكومة الكبيرة من البالات المتراصة فوق الصخور، أنهم قرَّرُوا عدم ترك ولو حزمة واحدة فوق السفينة. والحقيقة أن وقوفهم في الضوء منعهم من رؤية خروج الأشخاص الأربعة من القلعة، حتى وإن كان أيٌّ منهم في مجال رؤيتهم.

فتح رولاند الباب على مصراعيه، ووضع السلَّم بالضبط حيث كان في السابق، وساعد النساء الثلاث على الهبوط، ثم قادهن حول الجانب الغربي للقلعة وسط الظلام وصولًا إلى إبرهارد وقاربه. وضعوا المجاديف في الماء بحذر شديد، وظلوا بعيدًا عن مجال ضوء المشاعل.

وعندما غادرُوا ظلَّ القلعة، وأصبحوا في مجال رؤية المجموعة التي كانت تَسرِق السفينة، أصابهم الذهول بعض الشيء لسماعهم هتافًا مُدويًا.

قال إبرهارد: «أها، لقد اكتشفوا برميلَي الذهب الخاصين بنا.»

أجابه رولاند: «هذا مُحتمَل جدًّا.»

أضاف إبرهارد في مواساة: «ولكن أعتقد رغم ذلك أننا أجرينا مقايضة جيدة. يبدو أن الأموال التي بداخل صُرر شتاليك تفوق أموالنا التي كانت داخل البرميلين الخاصين بنا.»

صاح رولاند وهو يُحدِّق أعلى النهر قائلًا: «بحق ملوك المجوس الثلاثة، إن السفينة تفلت من بين أيديهم. لقد نهبوها بالكامل وها هم يُقدِّمون لها تحية الوداع. من الواضح أن اللصوص لا يحملون أي ضغينة تجاه قبطاننا الشهير. أسمعهم يدعونه للزيارة مجددًا!»

استمعوا إلى صليل السلسلة الكبيرة. لقد كان الأمر أسهل من ذلك الذي كان في فورستنبرج، مما أكَّد لرولاند أن شتاليك هو مُبتكِر هذه الحيلة. رأوا ستة رجال يسحبون حبلًا وغاص الجزء الأول من السلسلة تاركًا مجالًا للسفينة حنى تمر. ظهرت ظلال البحَّارة في ضوء المشاعل، والذين كانوا يُمسكون بمجاديفهم ويستعدون لغمرها في الماء بمجرد اجتياز السفينة للجزيرة الصخرية.

قال رولاند: «سنُجدِّف بجانبهم قبل أن يبدءوا في التجديف»؛ وقد نودي على القبطان بلومنفيلس بصوت خفيض في النهر، مما أثار دهشته.

همس رولاند قائلًا: «اتجه نحو الضفة الشرقية، وراقِب عددًا من القوارب الصغيرة الشبيهة بهذا القارب التي ستجدها أمامك.»

أبحرت السفينة بقوة أعلى النهر بالقرب من الشاطئ حتى التقت بالأسطول الصغير. حينئذٍ طلب رولاند من هيلدا البقاء في مكانها وجعل إبرهارد مسئولًا عن القارب، وقفز هو إلى السفينة، وطلب من جريسل أن تصطفَّ القوارب بمحاذاة السفينة وأن يقذف بالكنز إلى ظهر السفينة.

«حسنًا، أخبِرنا أيها القبطان، هل ترك لك سيد فالتس أيَّ شيء على الإطلاق؟»

أجابه القبطان بقوله: «ولا حتى خرقة. السفينة فارغة تمامًا.»

«في هذه الحال، ليس أمامنا سوى العودة سريعًا إلى فرانكفورت. أنا لستُ حزينًا على ضياع القماش، الذي دُفع ثمنه أضعافًا مضاعفة، لكني أشعر بضغينة تجاه شتاليك لسرقته برميلَي الذهب الخاصين بنا.»

أجاب القبطان بجدية: «أوه، بالحديث عن الذهب دعْني أُخبرك أنني سمحت لنفسي بمخالفة خطتك في لورش.»

«أيُّ خطة؟»

«لقد سكبتَ معاليك الذهب في برميلَي النبيذ، لكنني سكبت النبيذ الأحمر الذي جلبناه من لورش في برميلي الذهب، وألقيت البرميلين الفارغين من السفينة. ربما تعلم أن الفالتسجراف يُنتج نبيذًا أبيض رائعًا في قلعة شتاليك، ويَحتقر النبيذ الأحمر الذي تنتجه لورش وأسمانسهاوزن. لقد تذوَّق النبيذَ الذي لم يَستطِب مذاقه بعد أن سكبنا بداخله برميلي الذهب المتسخين، وبصقه وهو يُطلِق اللعنات، وأخبرَنا أنه يمكننا الاحتفاظُ به بكل سرور. ووعدني أيضًا أن يُرسل إليَّ برميلًا من النبيذ الأبيض الجيد في فرانكفورت.»

«أيها القبطان، إنك أكثر الرجال ذكاءً رغم اتِّسامك بالهدوء والتواضع.»

«في واقع الأمر، لم أفعل شيئًا سوى محاكاة براعة جانبك.»

«أيًّا كان الأمر، لقد أنقذت الذهب، وهذا الصنيع وحده سيَجعلُك رجلًا ثريًّا، ولا بدَّ أن تقبل ثلث نصيبي من المال.»

بحلول هذا الوقت، كانت أكياس الأموال قد نُقلت إلى ظهر السفينة. وتبِعها جريسل الذي وقف مُستعدًّا لتلقي أوامر أخرى.

قال رولاند: «سنتَّجه جميعًا إلى فرانكفورت، محاولين البقاء قدْر الإمكان بالقرب من هذا الجانب من النهر. وغير مسموح لأيِّ رجل بالإبحار باتجاه الشاطئ حتى الوصول إلى العاصمة. هل نملك المؤن الكافية على متن السفينة لهذه الرحلة، أيها القبطان؟»

«أجل، جنابك.»

«ممتاز. فليُمسك جميع الرجال الموجودين بمَجاديفهم، ودعونا نتجاوز فورستنبرج قبل الفجر. رجالي الذين لم تَسنح لهم الفرصة بإظهار براعتهم كمحاربين سيتولون مهمتهم في التجديف.» وتابع موجهًا حديثه لجريسل: «وأنت وإبرهارد استغِلا الوقت في حصر الأموال وتقسيمها بالعدل. أما بالنسبة إلى البرميلَين، فسيتلقى القبطان ثلث نصيبي، وسيكون له نصيبٌ في قسمة الذهب الذي حصلنا عليه الليلة. فببراعته أُنقِذ البرميلان. وأيًّا كان نصيبي حسب قسمتك، ضعه مع المال المخصَّص للتاجر، السيد جوبل. والآن سآخُذ أربعة أكياس وأربطها بحزامي للطوارئ.»

سأل جريسل رولاند في قلق: «ألن تأتي معنا، يا رولاند؟»

«نعم. هناك أعمال طارئة تتطلَّب وجودي بالجوار في بون، ولكنني سألتقي بكم في قبو القيصر قبل انقضاء شهر.»

قال ذلك ثم صافح القبطان وجريسل، وهبط إلى القارب الصغير وودَّع إبرهارد.

كانت كلماته الأخيرة له: «حُثَّهم على الابتعاد عن أنظار فالتس وفورستنبرج قبل أن يُطلَّ الصباح، أما القوارب الصغيرة فأفلِتها وقدِّمها قربانَ سلام لنهر الراين.»

في الظلام سمح الأمير رولاند لقاربه الصغير بأن يطفو عبر النهر، واستخدم المجداف فقط لإبقائه جهة الشرق تجنُّبًا لوجود أيِّ سلسلة. وجد نفسه مصحوبًا بالقوارب الفارغة التي أفلتها رجاله، وهو أسطول صامت كأنه طيف. بدا السرب الصغير كأنه ثابت في مكانه، أما قلعة فالتس المعتمة بقِمَم أبراجها المستدقة التي تخترق عَنان السماء فقد بدَت كأنها سفينة ضخمة تبحر ببطء فوق نهر الراين. وعندما توارت القلعة عن الأنظار باتجاه الجنوب، بادر رولاند بالتحدُّث بصوت منخفض.

قال: «سيدتي، أخبري خادمتَيك أن تُرتِّبا الملابس الإضافية التي أحضرتها وتصنعا لك أريكةً يمكنك الاستلقاء والنوم عليها بقية الليل.»

ضحكت الفتاة وعلَت ابتسامة رقيقة شفتَيها، وكان إيقاع ضحكتها وسط المياه أشبه بالموسيقى لدرجةِ أن رولاند وجد نفسه مُتحسِّرًا أن صوتًا لطيفًا كصوتها يجب أن يظل حبيسًا بين جدران الدير التي لا تَعرف قيمته، وأجابته قائلة: «أيها القبطان رولاند، أنا طوال حياتي لم أكن يقظة قطُّ مثلما أنا الآن. لقد أصبحت الحياة بعض الشيء مُثيرة فجأة. أنا أشعر بلذة ذنب انتمائي إلى تشكيلٍ عصابي مُستتر. أتوسَّل إليك ألا تسلبني هذه المتعة وتطلب مني النوم.»

«في الصباح يا سيدتي لن تكون هناك فرصة للراحة. يجب أن نَبتعد عن فالتسجراف شتاليك بأقصى ما يُمكننا. أتوقَّع منك قطع مسافة كبيرة وبسرعة على ظهر الخيول في الغد.»

«هل تنوي إذن التخلِّي عن هذا القارب؟»

«لا بد أن أفعل يا سيدتي. لقد كان النهر خاويًا فترةً طويلة لدرجة أن هذا الأسطول الصغير الذي لا يُمكنني تجاوزه، لكوني غير معتاد على التجديف، سيجذب الانتباه إلينا على ضفتي نهر الراين، وعندما يتبدَّد الظلام سيوقفنا أحدهم بالتأكيد. وسينكشف أمر القوارب وأنها ملك للفالتسجراف، وأنا أريد أن أقطع أيَّ صلة تربط بين مُستقبلي وما جرى في هذه الليلة.»

«فما الذي تقترحه إذن؟»

«بمجرَّد حلول الفجر سنصل إلى اليابسة، وسنُفلت القارب مع البقية. هل بإمكانك السير؟»

صاحت الفتاة بحماس: «أحبُّ المشي. لقد أشفقتُ على نفسي وأنا محاصرة داخل تلك الزنزانة الخالية من أي شرفة والمطلة على الصخور الحادة؛ أنا التي طفت التلال واستكشفت الوديان سيرًا على الأقدام وأنا أتنفَّس نسمات الحرية ببهجة. ولهذا أتوسَّل إليك أن تدعني مستيقظة لأذوق متعةَ مُراقبة أفكاري، أم إن ذلك يُعد عصيانًا من جانب نائبك الأول؟ أنا لا أقصد ذلك وسأبكي في هدوء حتى أنام إذا أصررت.»

خاطبها رولاند وهو يضحك مُتخليًا عن الرسمية في حديثه قائلًا: «هيلدا أنا لست بمستبد كما تظنين. بالإضافة إلى ذلك، إن عملك في منصب النائب الأول لم يَعُد ساريًا لأنَّ رجالنا ذهبوا جميعًا جنوبًا بينما سافرنا نحن باتجاه الشمال.»

«إذن، هل يمكنني التحدُّث معك؟»

«لا شيء سيُسعدني أكثر من ذلك. لقد اقترحت عليكِ النوم حرصًا على راحتك وليس لرغبتي في ذلك.»

«أؤكِّد لك أنني نمْتُ جيدًا في الجزء الأول من الليل؛ إذ لم يكن أمامي شيء آخر لأفعله، فأويتُ إلى الفراش مبكرًا، وغبت تمامًا عن الوعي حتى دقَّ جرس الإنذار المُروِّع، الذي جعل القلعة بأكملها في حالة هياج.»

«لماذا سجنوكِ؟»

أجابته بتردُّد: «لأنني … لأنني اخترت حياة التديُّن وهو ما عارضه وصيي. كان يظن أن معايشتي لتجربة مشابهة لقسوة حياة الرهبنة قد تجعلني أقل تشبثًا بفكرة احتجاز نفسي داخل دير، والذي يوجد أيضًا مثل قلعة فالتس على جزيرة معزولة.»

«وهل أثبتَت هذه الوسيلة فشلها؟»

«بالضبط. فالأخوات سيعاملونني جيدًا لأنني سأُغدق ثروتي على ديرهن. وسيختلف ذلك كثيرًا عن السجن في فالتس.»

«هيلدا، أنا أشكُّ في ذلك. فالأسْر يظل أسْرًا أيًّا كان مُسمَّاه. أنا لا أفهم كيف يمكن لشخص مثلك يتحدَّث للتو بهذا الحماس عن التلال والوديان والحرية، أن يتخذ خطوة لا رجعة فيها كالتي تقترحينها؛ خطوة من شأنها أن تسلبك كل هذه المسرات للأبد.»

ظلَّت الفتاة صامتة، وتابع هو حديثه بلهجة جادة:

«أرى أنك تُشبهينني في أحد الجوانب. إنك تحبين سماع حفيف الأشجار، وأنغام النهر المتدفق.»

همست كأنها تُخاطب نفسها: «نعم، أفعل.»

«الهواء الذي يهبُّ أعلى قمم الجبال يُلهمك، ولا يُمكنك النظر إلى التلال التي تلوح في الأفق دون تمنِّي استكشافها ومعرفةِ ما يخبئه الجانب الآخر.»

كان هناك ضوءٌ كافٍ سمح له برؤية الفتاة ورأسُها تغوص بين يديها المبسوطتين.

«أنا أظن أنك لم تدركي أبدًا معنى أن تكوني محاصَرة بقواعد الانضباط.»

رفعت رأسها سريعًا.

«هل تَعتقد ذلك بسببِ ما قلته في الفناء؟»

«لا، كان عقلي يُفكِّر في المستقبل وليس الماضي. ستثبت لك قسوة القواعد الصارمة أنها مزعجة بقدر انزعاج طائر الغابة الحر عند وضعه في قفص.»

قالت بتنهيدة: «أخشى أنك على حق»؛ ثم قالت بنفاد صبر: «أوه، إنك لا تفهم حقيقة الوضع، وأنا لا يمكنني الشرح! الدير ليس إلا ملاذًا بالنسبة إليَّ؛ فهو أقل الضررَين بالنسبة إليَّ.»

«تحدَّثت عن أرضك. أين تقع أرضك؟»

سألته: «هل تعرف قلعة ساين؟»

كرَّر قائلًا: «ساين؟ ساين؟ أين سمعتُ بهذا الاسم من قبل، ومن وقت قريب جدًّا؟ كنت أظن أنني أعرف كل قلعة على نهر الراين، لكني لا أذكر قلعة ساين.»

ضحكت الفتاة.

«إن زرتها فلن تجد أيًّا من زملاء مهنتك هناك أيها القرصان رولاند. إن القلعة لا تُطل على نهر الراين، وربما لهذا السبب، وليس لأمانة مالكها، فإنها بعيدة عن الوصمة التي أشرت إليها. إنها تبعُد أكثر من نصف فرسخ عن هذا النهر وتقع أعلى وادي ساينباخ.»

«هكذا إذن، هذا يُفسِّر جهلي بها. لم أرَ قلعة ساين من قبل، ولكنني سمعت عنها على ما يبدو. هل أنتِ مالكتها؟»

«أجل؛ لقد أخبرتُكَ أنني ثرية.»

«أين تقع القلعة؟»

«جنوب كوبلنتز، على الجانب الشرقي من النهر.»

«إذن، لمَ لا تسمَحين لي باصطحابك إلى هناك بدلًا من الدير؟»

«كنتُ سأفعل ذلك عن طيب خاطر إن كنت قد أحضرت معك السفينة المحمَّلة برجالك المسلَّحين، لكنني في قلعة ساين لا حيلة لي، وأُدير حاشية من الخدم المسالمين الذين على الرغم من ولائهم لي، فهم عديمو النفع عندما يتعلَّق الأمر بالدفاع عني.»

قال رولاند بنبرة تأملية: «لا يُمكنني تفسير الأمر، ولكن التفكير في أمر هذا الدير يزيد من استيائي أكثر فأكثر. لا شك أنك ستتحرَّرين من سلطة وصيك، ولكنك هكذا تَستبدلين بشخص تعرفينه شخصًا آخر لا تعرفينه، وهذا الآخر أحد بني جنسك.»

«هل تَستهين إذن ببني جنسي؟»

«لا، لكنَّني لا أتخيَّل أن يكون هناك رجل يتعامَل بفظاظة معك. من المؤكد أن أيَّ رجل نبيل يَحمل سيفًا إلى جانبه سيهبُّ في الحال للدفاع عنك.»

ضحكت الفتاة.

«أيها القبطان رولاند، إنك شاب صغير وأخشى أنك تَنقصُك الخبرة رغم حماسك الثوري. ولكن هذه الليلة الصيفية الهادئة الجميلة بظلمتها الدافئة والبهية مناسبة للأفكار اللطيفة. كفى كلامًا عني. لِتخبرني القليل عنك. هل أتيت بسفينتك مع اتجاه مجرى النهر أم عكسه؟»

«جئنا مع التيار.»

«منذ متى وأنت تَمتهن الإجرام؟ لا يبدو أنك مجرم متمرس.»

احتجَّ رولاند بجدية قائلًا: «صدقيني أنا لستُ كذلك، وأنا لا أعترف بأن مهنتي هي الإجرام.»

ضحكت الفتاة مرة أخرى وقالت: «أنا لستُ ساذَجة بشدة كما تظن. أكاد أجزم بأنك وراء إشعال النار في قلعة فورستنبرج.»

تعجَّب رولاند في ذعرٍ قائلًا: «ماذا! كيف علمت بدمارها؟»

صاحت الفتاة بابتهاج قائلة: «أرأيت؟ لا يَنقصُك سوى الاعتراف. لقد انزعجت بشدة كما لو أنني قلت: «إنني أعتقلك باسم الإمبراطور».»

سألها الشاب بجدية: «مَن أخبرك بأمر احتراق قلعة فورستنبرج؟»

«صباح أمس أتى قارب طويل ورفيع حاملًا ما لا يقل عن اثني عشر رجلًا يجدفون في النهر ويتحرك قاربهم عبر النهر بسرعة الريح. لم يتوقف القارب في فالتس، ولكن الرجل الواقف في مؤخِّرة القارب ألقى التحية على سيد القلعة، وقال له إن فورستنبرج حُرقت على يد الخارجين عن القانون من هونسروك. كان في طريقه إلى بون لإبلاغ رئيس أساقفة كولونيا، وحمل إليه أيضًا خبرًا يخصُّ فخامة الإمبراطور، نبأً عن وفاته.»

التقط رولاند أنفاسه في رعب، وتجاوز تصاعد أنفاسه قائلًا: «تُوفِّي! لقد تُوفِّي الإمبراطور! هل يُمكن أن يكون ذلك صحيحًا؟!»

قالت الفتاة بلا اكتراث: «لا يهمُّ إن كان هذا صحيحًا أم لا. فلا بد أنه مات وهو مخمور، وقد علمت أنهم سيختارون ابنه السكِّير مكانه.»

بعد أن أفاق رولاند من ذهوله بعد سماع كلماتها، خاطبها بخشونة قائلًا: «سيدتي، لا بدَّ أن أخبرك أن نجل الإمبراطور ليس سكِّيرًا، وفي واقع الأمر لا يكاد يمسُّ النبيذ على الإطلاق، لكونه أشدَّ المعارضين لإساءة استخدامه. كيف يُمكِن لشخص منصف، وحسبما أعتقد، أمين، ترديدَ تلك الافتراءات التي لا أساس لها من الصحة؟»

«هل أنت أحد أنصاره؟»

«أنا من فرانكفورت، وقد رأيتُ الأمير، وتأكَّدي أنني أقول الحقيقة.»

أجابته الفتاة برفق: «حسنًا لن نتشاجر، نحن الاثنين، بسبب سموِّه. أوافق على تصحيحك لما قلته، ولن أقول شيئًا ضده مرةً أخرى. على أي حال لن يشكِّل ذلك فارقًا كبيرًا. لقد رحل إمبراطور ووقع الاختيار على آخر ليحل محله، وسيكون بلا حيلة كسلفه. فالأساقفة هم مَن يحكمون.»

«يبدو أنك على دراية جيدة بأمور السياسة يا سيدتي.»

مالت الفتاة باتجاهه.

«لا تُنادِني ﺑ «سيدتي» يا رولاند أرجوك. أعترف أن الشائعات دفعتْني للتحامل على الشاب، ولكنَّني وعدتُ بألا أتحدَّث عنه باستهزاء مرة أخرى. أتمنى أن يتبدد الحجاب الذي يفرضه هذا الظلام لأتمكَّن من رؤية وجهك ومُشاهَدة ملامحك الغاضبة. لقد خاب أملي فيك يا رولاند، أتعلم ذلك؟ لقد تحدَّثت بلهجة رقيقة في الفناء لدرجةِ أنني ظننتُ أن الغضب لا يعرف لك طريقًا.»

قال رولاند بفظاظة: «أنا لستُ غاضبًا؛ كلُّ ما هنالك أنني أكره الإشاعات الخبيثة.»

«وأنا أيضًا، أنا أيضًا كذلك! لقد تحدَّثت من دون تفكير. سأركع أمام الإمبراطور الجديد وأطلب منه العفو، إن كان هذا ما تريد.»

ظلَّ رولاند صامتًا، وطفا بهم القارب فترة عبر النهر، وغمست هي أصابعها في الماء مما أحدث تموجات صغيرة معاكسة، وكانت تنظر إليه بين الحين والآخر. كان الظلام يزول بنحو ملحوظ. وبدا بإمكان المرء شم نسمات الصباح في الهواء. ومن وقت لآخر كان هناك طائر يغرِّد في الغابة على نحوٍ حالم، وكأنه نصف مستيقظ. وكانت الفتاتان المستلقيتان في مقدمة القارب مستغرقتين في النوم.

التقط رولاند المجداف، وبضربة واحدة قوية كاسحة أدار مقدمة القارب باتجاه اليابسة. أصبح الآن بإمكانها رؤية ملامح وجهه المتجهِّم، وسرَّها ما رأته، إلا أن ملاحظتها التالية لم تعكس ذلك.

أخرجت يدها من الماء، واعتدلت في جِلستها بفخر قائلة:

«لن أعتذر لك مرة أخرى، وأنا أكره أميرك البريء.»

«أنا لم أطلب منكِ الاعتذار يا سيدتي، ولا شأن لي بحبِّك أو كرهك للأمير، ويمكنني القول بأن ذلك لا يهمه أيضًا.»

صاحت في سخط: «ألا يُمكنك أن تسمح لامرأة بالفوز عليك في الحديث ولو مرةً؟»

انبسطت ملامح رولاند، وعادت ابتسامته إلى شفتيه بينما ظلَّ صامتًا، وبهذا منحها الامتياز الذي بدَت تتوق لنيله. استلقت هيلدا في مقدمة القارب بين خادمتَيها النائمتين، ويداها متشابكتان خلف رأسها وعيناها مغمضتان. ازداد الضوء شيئًا فشيئًا، ودفع رولاند القارب بمجدافه بقوة نحو الشاطئ، ووصل به بمحاذاة الضفة الضحلة أخيرًا. قفز على الأرض التي يُغطيها العشب، ممسكًا المجداف بيد والقارب باليد الأخرى ليرسو بمن معه.

قال: «إننا الآن على بُعد مسافة قصيرة شمال سانت جوارسهاوزن، حيث آمل أن أشتري خيولًا. هل تتفضَّلين بالنزول؟»

قالت الفتاة بهدوء دون أن تتحرَّك أو تفتح عينيها:

«أرجوك ألقِ المجداف إلى القارب مرةً أخرى. سوف أجدِّف بهذا القارب إلى نونينويرث، فهو أكثر راحة من امتطاء حصان.»

سقط المجداف في أرضية القارب الصغير مُحدثًا صوتًا عاليًا. انحنى رولاند، وقبل أن تعرف هيلدا ما ينوي فعله، حملها بين ذراعيه، ورفعها إلى الشاطئ، ووضعها بعناية على العشب.

وصاح في الخادمتين اللتين استيقظتا لتوهما: «هيا، اخرجا من هذا القارب دون مزيد من التأخير»، وقد أطاعتاه بسرعة.

صعد إلى القارب، وألقى مُتعلِّقاتهن على المرج، وأدار المقدمة باتجاه الغرب، وقفز إلى الشاطئ، وركل القارب ليدفعه كالسهم بعيدًا في النهر.

كانت هيلدا الآن تقف على قدميها، وهي تشعر بسخط ولكن من دون أن تتحدَّث.

هتف رولاند بابتهاج: «هيا بنا فالإفطار يُنادينا»؛ ولكنه عندما رآها ثابتة في مكانها تجهَّم مرة أخرى.

وخاطبها قائلًا: «سيدتي، في الحقيقة يزعجني أن فظاظتي تصيبك بالإحباط. ولكن للوقت أهمية قصوى حتى نبتعد عن فالتس قدْر الإمكان. إن كنتِ تظنِّين أن امتلاكَك ثروةً وقلعةً يمنحكِ حق الاستهزاء برجل بسيطٍ وعادي، فإن نظرتك للأمور قاصرة. أنا لا آبَه بقلعتك أو ثروتك. ربما تكونين سيدة نبيلة، وهو شيء لا أعلم إن كان صحيحًا أم لا، ولكن حتى هذا لا يُثير إعجابي. يجب ألا نقفَ هنا مثل طفلين مشاكسين. سأتولَّى توصيلكِ إلى حانة ألدر في سانت جوارسهاوزن، والتي أعلم من خبرتي أنك ستتلقين فيها رعايةً كبيرة. سأشتري بعد ذلك أربعة خيول، وسأعود إلى الحانة بعد تناولك الإفطار. سأضع ثلاثة من هذه الخيول تحت تصرفك، وسأكون أنا والحصان الرابع تحت تصرُّفك أيضًا، إن كنت ستَتنازلين وتنتفعين بنا. وإن لم تفعلي، فسأطلب منك قبولَ ما تَحتاجينه من أموال لرحلتكنَّ، حتى تتمكَّنَّ من السفر شمالًا من دون مُضايقات، بينما أسير في طريقي في الاتجاه الآخر.»

سألت: «كيف يمكنني أن أعيد لك المال إذا كنت لا أعرف مَن أنت وماذا تعمل؟»

«سأرسل في طلبها، سواء إلى قلعتِك في ساين أو دير نونينويرث. لستِ بحاجة لأن تكوني مَدينة لي.»

صاحت الفتاة وهي تَنتحب: «لكني بالفعل مَدينة لك؛ بدَين لا يمكنني سداده.»

«هذا صحيح، لكنَّكِ يُمكنك سداده.»

«كيف؟»

«بالمجيء معي، وسأُقنعك بسهولة كما فعلتِ أنتِ مع وصيك الذي فرض عليك الأسْر.»

تمتمَت قائلة: «أنا مُغفَّلة جاحدة. بالطبع طريقك هو الطريق الصحيح، وسأكون لا حول لي ولا قوة تمامًا من دونك.»

صاح رولاند بحماس: «أرأيتِ لقد سدَّدتِ أكثر مما قد تدينين به.»

بعد تناول الإفطار في سانت جوارسهاوزن وشراء الخيول، ساروا على طول الطريق الوعر المُمتد على طول الضفة اليمنى لنهر الراين. كان رولاند وهيلدا يمتطيان حصانيهما ويسيران جنبًا إلى جنب، أما الخادمتان فكانتا خلفهما على بُعد مسافة منهما. ظلَّ الشاب متجهمًا في صمت، والفتاة التي أساءت فهْم أفكاره ظلت صامتة هي الأخرى، بعينَين حزينتَين، ولم تلحظ أيًّا من المناظر الجميلة التي مرُّوا بها. وكان رولاند يُلقي بطرف عينِه نظرة إليها بين الحين والآخر، ويَزيد حزنه وهو يتذكَّر العهد الذي قطعه، من دون تروٍّ، لرءوس الأساقفة الثلاثة فيما يخص زواجه.

خرجت عن صمتها أخيرًا وقالت: «لقد أدركتُ أنني أسأت إليك أكثر مما أتخيَّل.»

طمأنها قائلًا: «لا، لا. هناك فقط فكرة ثقيلة تُراودني ولا أستطيع إزاحتها من فكري.»

«هل لي أن أعرف ما هي؟»

«أنا لا أجرؤ على إخبارك، يا هيلدا. لقد كنتُ أحمق. إنني واقع بين اختيارين؛ أن أُضطرَّ إلى عدم الوفاء بوعدي والعيش بعارِ ما فعلته، أو أن أحفظ وعدي وأعيش حزينًا للأبد. ماذا كنت ستفعلين إن كنتِ مكاني؟»

فأجابته على الفور: «لا بد أن أفي بالوعد الذي قطعتُه، إلا إذا كان مَن قطعته لهم سيَعفون عني.»

هزَّ رولاند رأسه نافيًا.

وقال بكآبة: «لن يعفوا عني.»

سارا من جديد في صمت، راضيَين بقُرب أحدهما من الآخر، على الرغم من تقلُّب حال الشاب بين الابتهاج واليأس. لقد كان في مجمله يومًا صيفيًّا طويلًا مليئًا بالتعاسة العذبة لكلٍّ منهما.

كان أحد الأسباب وراء اختيار رولاند للضفة الشرقية لنهر الراين هو تجنُّب مدينة كوبلنتز الرئيسية، والاستجواب الحتمي الذي سيتعرضون له، ومروا بهذه المدينة في وقتٍ مُتأخِّر من العصر دون عائق وكانت على الضفة المقابلة.

قالت: «ستَرتاح هذه الليلة في قلعتي في ساين، ثم نظرًا لضيق الوقت، يجب أن تعود غدًا. إننا لم نُواجه أيَّ مضايقة حتى في هذا الطريق الوعر، وأنا سأشق طريقي وحدي دون خوف إلى نونينويرث؛ لأنني أعلم أنك تَتُوق للرجوع إلى فرانكفورت مرة أخرى.»

«أقسم لكِ يا هيلدا أنه لولا حرصي على الوفاء بالوعد الذي قطعتُه ما كنت سأعود إلى فرانكفورت أبدًا، وكنت سأصبح أسعد إنسان.»

«هل الوعد الذي قطعته متعلق بفرانكفورت؟»

قال باقتضاب: «الوعد الذي قطعته يخص امرأة.»

قالت مُتنهِّدة: «أها، إذن عليك الوفاء بوعدك»، وهكذا عادا إلى الصمت والتعاسة من جديد.

لقد تحدَّثت عن مدى أمان الطريق الذي قطعوه، ولكن بعد انعطافهما شمال فالاندار اكتشفا سريعًا أن طريق الراين ليس آمنًا أبدًا.

كلاهما كبح جماح حصانه وكأن نفس الدافع يحركهما، ولكن تراجعهما الآن كان سيعني ببساطة تعرُّضهما للمطاردة. شاهدا رجلًا نبيلًا، مُمتطيًا حصانه الأبيض الجميل الذي فوقه سرج لامع بالزخارف الفضية والذهبية، ومرتديًا ملابس مثل تلك التي يرتديها الجنرال في أوقات السِّلم.

تبِعه موكب حراسة مُكوَّنٌ من أربعين فارسًا، جميعهم يرتدون زيًّا حربيًّا كاملًا، وخلفهم حشد مُمتد كالثعبان العملاق بطول طريق الراين من الرجال الذين يسيرون على الأقدام، وهو جيش قوامه ثلاثة آلاف رجلٍ على الأقل، وكانت أطراف رماحهم تومض وكأنها شعلة نار عندما تسقط عليها أشعة شمس المغيب. وبين الحين والآخر على طول هذه المسيرة كانت ترفرف أعلام حريرية، وتعرَّف رولاند على الشعار الذي كان في المقدمة.

وهتف في ذعر قائلًا: «يا إلهي! رئيس أساقفة كولونيا!»

أطلقت الفتاة صيحة ذُعر صغيرة، وحادت بحصانها واقتربت أكثر من مرافقها.

وتصاعدت أنفاسها قائلة: «وصيي! وصيِّي! سيأسرونني من جديد.»

رآهم اثنان من الفرسان وهما متصلبان في مكانهما كالجلمود، فانفصلا عن بقية الفرسان وركضا نحوهما.

هتف قائدهما قائلًا: «افْسَحا الطريق أيها الأحمقان! ابتعدا إلى جانب الطريق أو إلى النهر بعيدًا عن طريق قداسة رئيس الأساقفة.»

رغم ذلك ظلَّ رولاند ثابتًا في مكانه، وتجرَّأ حتى على إظهار امتعاضه أمام الضابطين.

وأمرهما بلهجة متعالية: «تنحيا «أنتما» جانبًا، ولا تتجرَّآ على اعتراض الطريق بيني وبين رئيس الأساقفة.»

كان الفارس يَعلم أنه لا يوجد عاقل يَجرُؤ على استخدام مثل هذه اللهجة في وجود رئيس الأساقفة، إلا إن كان أعلى أهل الأرض سلطة. نظر رئيس الأساقفة المبجَّل ليرى سبب هذا التوقف، وهذه الكلمات الغاضبة.

اندهش فخامته في بداية الأمر، وبعدها علت الابتسامة شفتَيه المتجهمتين عندما نظر إلى رولاند وعرفه. تراجَع الفارسان المتهوران. ولم يُبادله رولاند الابتسامة. ومد يده وأمسك بيد الفتاة.

وهمس قائلًا: «الآن، بحقِّ ملوك المجوس الثلاثة، أنا لن أفي بالوعد الذي قطعته.»

نظرت إليه هيلدا وهي مذعورة من اندفاعه ومتألمة من قبضته القوية.

علا صوتٌ مُفاجئ، وقطعَ هذا التوتر. توقَّف رئيس الأساقفة عن الحركة، وسمعوا صوتًا يقول: «قف! قف! قف!» على طول مسيرة الرجال، الذين توقَّفت أقدامهم عن إثارة غبار الطريق. كان الصوت المفاجئ هو صوت الضحكة العالية للنبيل المبجَّل أمير الكنيسة.

وصاح قائلًا: «سامِحني يا صاحب السمو، لكنني أضحك عندما أفكِّر في ملامح الحزن على وجهَي أخويَّ، رئيسي أساقفة تريفيس وماينتس، عندما يعلمان مدى حرصك على حفظ كلمتك معهما. أُقسم لك بالصليب، أيها الأمير رولاند، أننا رغم رغبتنا في زواجك منها، لم يخطر ببالنا أنك قد تَقتحم قلعة فالتس لتفوز بها. أوه، يا عزيزي، يا للأسف، إن الأمر يتقدَّم بنا! يبدو أن اندفاع الشباب يتفوَّق على حكمة أعظم ثلاثة رؤساء أساقفة خارج روما. وبالنظر إلى وجهكِ المشرق (والذي لطالَما رأيت أنه جميل) إنك يا هيلديجوندي لوريتا بريسيلا أجنيس، يا كونتيسة فون ساين، لا تتَّجهين شمالًا إلى نونينويرث. لطالما أصررت أن سالهوف في فرانكفورت صرْحٌ أكثر بهجة من أي دير للراهبات على طول نهر الراين، ولكنك لم ترمقيني أبدًا بنظرة الثقة هذه التي أراكِ تَنظُرين بها إلى إمبراطورك المستقبلي.»

صاحت الفتاة قائلة: «لقد تمنَّيت، يا سيدي ووصيي، أن أقابلك في الوقت المناسب لتحويل مسارك إلى قلعتي في ساين.»

«أيتها الكونتيسة العزيزة، أشكركِ على دعوتك. يُمكن لرجالي الذَّهاب إلى معسكرهم في قلعة مارتينسبورج، لدى أخي في ماينتس، وأنا سأعود معك إلى قلعة ساين بكل سرور.» وأضاف رئيس الأساقفة خافضًا صوته: «في واقع الأمر، سأشعر بأمانٍ أكبر هناك أكثر من استمتاعي بدعوة الاستضافة التي كنت أنوي قبولها.»

سألت السيدة ضاحكة، وهي تعدِّل مسار الحوار والأسلوب بما يلائم الموقف الجديد الذي أدركته أسرعَ من مُرافقها، الذي أخذ ينقِّل نظره بين الكونتيسة ورئيس الأساقفة: «ألم يُفاجئكَ لقائي؟»

لوَّح رئيس الأساقفة بيديه نافيًا.

«لا يُفاجئني أيٌّ مما قد تفعلينه، منذ لقائك مع رؤساء الأساقفة. أنا في طريقي إلى فرانكفورت.» وبعدها قال مُخاطبًا رولاند بجدية أكبر: «هل علمت بوفاة والدك؟»

«لم أعلم بالأمر إلا صباح هذا اليوم، أيها الأمير. وسأعود إلى فرانكفورت بعدما أتأكَّد من أن هذه السيدة النبيلة في مكان آمن.»

«أها، أيتها الكونتيسة لن يَنقصَكِ الأمان بعد الآن! ولكن ألن تُريحي بال شيخٍ كبيرٍ وتَعترفي بأنني كنت على حق؟»

نظرت الكونتيسة إلى رولاند بابتسامة.

وقالت: «أجل يا وصيي العزيز. لقد كنتَ مُحقًّا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤