الفصل التاسع عشر

تبادل الوعد بالزواج في الحديقة

في صباح اليوم التالي، أرسل الأمير رولاند خطابًا إلى رئيس أساقفة ماينتس يخبره فيه بأن الإمبراطورة قد ارتحلت إلى قصر صديقها القديم، رئيس أساقفة كولونيا، مُبديًا أسباب هذا الانتقال وتركه للقصر الإمبراطوري، وطالبًا السماح له بزيارة أمه كلَّ يوم. فعاد الرسول بالرد بسرعة، والذي كان فحواه الثناء على سموِّ دوافعه في مُغادرة القصر الإمبراطوري، لكنه أضاف أنه بالنسبة إلى رؤساء الأساقفة الثلاثة، فإن قلعة سالهوف لا تزال تحت تصرفهم؛ بالطبع لم تكن تحركات الأمير رولاند مقيَّدة على الإطلاق، ومرة أخرى، كان رؤساء الأساقفة الثلاثة يرون أنه يملك حرية زيارة أي شخص شاء في أي وقت شاء.

أثناء انتظاره عودة الرسول، زار رولاند السيد جوبل وأخبره بانتشار عشرين مبعوثًا في جميع الأنحاء من فرانكفورت ليُخبروا المزارعين بأن سوقًا جديدة جرى افتتاحها في المدينة، وفي المقابل علِم ما فعله التاجر بالفعل لتعزيز الإجراءات التنظيمية الضرورية.

صاح رولاند، وكأنما تذكَّر فجأة، قائلًا: «أوه، بالمناسبة يا سيد جوبل، اكتب وثيقة ووقِّعها بهذا المضمون: «أعِدُ السيد رولاند، صانع السيوف بمدينة زاكسينهاوزن، بأن أُمدَّه برأس المال اللازم لتنفيذ عقده مع نيافة رئيس أساقفة كولونيا».»

فكتب التاجر الوثيقة دون أن يُبديَ أي اعتراض ثم وقَّعها وسلَّمها للأمير.

«لو زارك أيٌّ من رجال رئيس أساقفة ماينتس بنحوٍ مفاجئ يا سيد جوبل، وسألك بعض الأسئلة عنِّي، فاحرص على إخفاء وضعي الحقيقي، وأجِبه بأني رجل أمين وصانع سيوف ماهر حريص على إحياء صناعة الحديد، ولهذا السبب، ونظرًا لحرصك على رفاهية فرانكفورت، فأنت تُغامر بمبلغ من المال.»

وفيما بعد الظهيرة ذهب رولاند إلى قصر كولونيا ودخل في شجاعة ودون أيِّ محاولة لإضفاء طابع السرية، ولم يُبدِ الحارس هذه المرة أيَّ معارضة لدخوله. فعلم أن الإمبراطورة قد غلبها التعب فآوت إلى غرفتها ولا ينبغي أن يزعجها أحد؛ وأن رئيس الأساقفة كان يتشاور مع كونت بالاتين، بينما كانت كونتيسة فون ساين تتمشَّى في الحديقة. مرَّ رولاند عبر القصر مسرعًا، وخرج إلى فنائه الخلفي، وهو فناء يعج بالأغصان الظليلة المبهجة، وذو مساحة كبيرة على نحوٍ مذهل، ومحاط بجدار حجري شاهق متين بشدة لدرجةٍ تجعله يقاوم أي حصار بنجاح.

رأى رولاند الفتاة تتجوَّل ببطء شديد في واحد من أكثر الممرات انعزالًا، والذي كان مفروشًا بالحصى وتَكتنفه ظلال أوراق الشجر الوارفة المتشابكة من فوقه، مما جعله ممرًّا أخضر هادئًا يناسب التمشية. كانت الفتاة خافضة رأسها قليلًا وغارقة في التفكير، ووجهها الجميل مُثيرًا للشفقة من شدة القلق، وأدرك الشاب الذي أخذته الشفقة بها أنها ما زالت سجينة بكلِّ معاني الكلمة، وبلا رفيق إلا من بعض الأشخاص الموقَّرين. لم يكن بإمكانها، بل لم تحاول، إخفاء مشاعر البهجة التي اعترتْها حين رأته، فمدَّت كلتا يدَيها لتُسلِّم عليه وانقشع الحزن من وجهها كما لو كان بفعل السحر.

قالت بنبرةٍ فيها بعض الدَّلال: «لقد كنتُ أفكِّر فيك!»

فقال: «ظننتُ أن أفكارك حزينة»، وضحك فشاركته الضحك.

«لا شيء يدعو للحزن سوى أني لا أستطيع رؤيتك ولا معرفة أي شيء عنك.»

«هل علمتِ أني أتيت إلى هنا البارحة؟»

«كلا. لمَ لم تَطلُب رؤيتي؟»

«علمت أنكِ تُضيِّفين كونت بالاتين.»

«أها، نعم. إنه رجل عجوز ومَرِح. وكلما مرَّ الوقت أحببته أكثر وأكثر. لقد حللتُ أنا ووصيي ضيفَين عنده في جوتنفيلس قبل أن أدخل سجن بفالتس البحري مباشرة.»

«نعم أخبَرَني وصيُّك بذلك.»

أخذ الاثنان يتمشيان الآن معًا جنبًا إلى جنب في هذا الممر المنعزل المحاط بالأشجار الكثيفة، والذي لا يكاد يتسع سوى لاثنين، ويمتد في خط مستقيم من الحائط إلى الحائط بطول الأرض بالكامل، عند أبعد نقطة من القصر.

سألته: «هل أصابك أيُّ مكروه؟ تنتابني هواجس سيئة.»

«كلا؛ بل أعيش حياة عادية جدًّا، تكاد تخلو من الأحداث.»

«لكن عجبًا، لماذا أجَّل رئيس أساقفة ماينتس عملية الانتخاب؟»

«لم أكن أعلم أنه فعل ذلك.»

«أوه، وصيي يشعر ببالغ القلق لهذا الأمر. فهذا التأجيل في اعتقادي لم يَحدُث قط من قبل. الدولة بلا قائد.»

«وهل تحدَّث وصيك إلى رئيس أساقفة ماينتس في هذا الشأن؟»

«نعم؛ وقد قُوبل بأدب وبرود. يُريد رئيس أساقفة ماينتس أن يُجرى الانتخاب في اجتماع سرِّي بالكامل للأمراء الناخبين السبعة، الذين ثلاثة منهم لم يصِلوا بعد. لكن وصيي يقول إنهم لن يصلوا أبدًا، وهم لا يبدون أيَّ اهتمام بالشئون الإمبراطورية. وأشار إلى رئيس أساقفة ماينتس بوجود نخبة مجلس الأمراء الناخبين في فرانكفورت بالفعل، لكن سيادته والمُسيطِر على منطقة أعلى نهر الراين يرى أنهم يجب ألا يَفرضوا شخصًا عليهم، وكل هذا في رأي وصيي مجرَّد مُحاوَلة لإخفاء مخططٍ يُدبِّره رئيس أساقفة ماينتس.»

تأمَّل الأمير رولاند تلك الكلمات بضع لحظات، ثم قال وكأنما ينفض عن رأسه غبار شكوكه:

«لم يَخطر ببال أحد رؤساء الأساقفة أن أحدهم ربما يقول الحق. فهناك انعدام للثقة فيما بينهم لدرجةِ أنهم يَنقُضون أيَّ تصرُّف مُشترَك؛ الأمر الذي أدَّى إلى الحالة المزرية التي وصلت لها هذه المدينة التي تُعدُّ عاصمةَ واحدةٍ من أكثر الدول ازدهارًا على وجه الأرض. لكن من وجهة نظري أن كل شخص منهم على حدة هو شخصٌ مُستقيم وأهل للثقة. لنأخذ مثالًا على ذلك. وصيُّك أصيب ليلة أمس بذعر شديد لجرأتي في زيارته. وقال إنه يجب ألا آتي مرة أخرى، ورفض أن يأذن لي برؤيتك؛ ولم يقُل لك أيَّ شيء بخصوص حديثي معه، ولقد كان على يقين بأن هناك مَن يَتبعني من رجال رئيس أساقفة ماينتس، ولم يكن بإمكانه أن يَفهم أن وجودي هنا لا ينطوي على عواقب من أي نوع.»

«إذن لماذا أنت هنا الآن؟»

«لقد أتيتُ من أجل السبب التالي. فقد طلبتُ من وصيك أن يدعو أمي لتكون ضيفته. ألم تقابليها بعد؟»

«نعم؛ فقد أخبروني أن الإمبراطورة لا يُمكنها استقبال أحد لشدَّة تعبها. ومن المفترض أن ألتقيها الليلة على مائدة العشاء.»

«حسنًا، لقد كتبتُ هذا الصباح خطابًا لرئيس أساقفة ماينتس أخبره فيه بلقائي بوصيك، وسبب اللقاء ونتائجه. فجاءني الرد الفوري.» أخرج رولاند الخطاب واستطرد قائلًا: «فقط اقرئيه وانظري هل لاحظتِ فيه شيئًا مريبًا.»

أخذت الفتاة تقرأ الخطاب بتمعُّن.

وقالت: «هذا خطاب صادق بالقدر الكافي في ظاهره.»

«في ظاهره، نعم؛ لكن لمَ لا يكون صادقًا في باطنه أيضًا؟ إنه قبول صريح لطلب صريح. في اعتقادي لو تعامَل رؤساء الأساقفة جميعًا معًا بصراحة وأريحية لجنَّبوا أنفسهم الكثير من العناء.»

ردت الفتاة في هدوء شديد: «ربما.»

«أنتِ لستِ مقتنعة، أليس كذلك؟»

«لا أستطيع تكوين رأي محدَّد في هذا الشأن.» ثم نظرت إليه بسرعة. واستأنفت كلامها قائلة: «هل تبعك أحد ليلة أمس؟»

قال رولاند بينما ارتسمَت على وجهه ابتسامة خفيفة: «أوه، على ما يبدو لا، بحسب ما أرى، لكنها كانت ليلة مُظلمة جدًّا.» ثم حكى لها الأحداث التي تلت عودته إلى غرفته، بينما كانت تُعيره مسامعها باهتمام بالغ. واختتم حديثه قائلًا: «لم ينكر الملازم أنه كان في خدمة رئيس أساقفة ماينتس عندما ألمحتُ لذلك، لكنه في المقابل لم يَعترف بذلك. بالطبع أنا أعرف من ملابسه إلى أيِّ طرَفٍ ينتمي. لقد استجوبني بغلظة عسكرية، ولكن بمهارة ولطفٍ شديد، بالرغم من أنني ادعيت كوني حِرَفيًّا.»

قالت في دهشة: «أنت حرفيٌّ؟! هل تظن أنه صدَّق ذلك؟»

«أرى أنكِ تُشكِّكين في قدراتي التمثيلية، لكن عندما يَزورُني مرة أخرى سأقدِّم له دليلًا موثقًا على حالتي، بل وسوف آخذه إلى ورشتي.»

صاحت الفتاة في ذهول قائلة: «وهل تملك ورشة بالفعل؟»

«أنا؟ عجبًا، أنا شريك مع رجلٍ يُدعى جريسل ونحن الاثنان نملك الورشة معًا. إنه شخص غليظ أخرق كما تظنين، لكنَّه مع ذلك يُمكنه بمطرقته الدقيقة أن يصنع لك من الحديد دبوس زينة أفضل مما ترتدينه الآن.»

«هل تقصد جوزيف؟»

رد رولاند في دهشة: «أجل. ماذا تعرفين عنه؟»

«أنسيتَ بهذه السرعة؟ لقد كانت كتفاه القويتان هما اللتين كسرتا باب غرفتي في بفالتس، وقد أخبرتَني بنفسك أن اسمه جوزيف جريسل. هل كان كل هؤلاء اللصوص الذين كانوا معك حرفيِّين أمناء؟»

«أجل جميعهم.»

«إذن يجب أن تكون أنت ذلك الشرير الذي جعَل هؤلاء الحرفيِّين الشرفاء يضلُّون الطريق؟»

ضحك رولاند بشدة.

وقال: «نعم هذا صحيح. هل سقطتُ من نظرك؟»

«كلا؛ أنت المنقذ في نظري. كما أنني أنتمي لعِرق من الأشرار، ولا شك أني في هذا الصدد سأكون أكثر تسامُحًا من الآخرين تجاه شرِّك.»

توقَّف الشاب عن المشي، وأمسك بيديها ثانية، وهو الأمر الذي سمحت له به دون مقاومة.

وقال بنبرة جادة: «هيلدا، لقد كان وصيُّك يعتقد أن رئيس أساقفة ماينتس قد لان وسوف يتراجع عن معارضته زواجنا. فهل قال رئيس أساقفة ماينتس شيئًا يدعم هذا الاعتقاد؟»

«كلا.»

«هل فتح وصيك هذا الموضوع معه؟»

«أجل؛ لكن موقف سيادة رئيس أساقفة ماينتس لم يكن واضحًا على الإطلاق. أنا شخصيًّا أرى أن وصيي مُخطئ في ظنه. فقد تمتم رئيس أساقفة تريفيس بأن ماينتس لا يغفر أبدًا. أنا واثقة أني أسأت إليه بنحوٍ لا يقبل العفو. إنه يتمنَّى أن تكون إمبراطورة المستقبل شخصية لطيفة تُؤثِّر على زوجها تبعًا لأهوائه ورغباته، لكني، كما تفاخرت أكثر من مرة، أنتمي لنسل عائلة ساين.»

«هيلدا، هل ستَتزوجينني بصرف النظر عن رأي رؤساء الأساقفة؟»

«رولاند، هل ستتخلَّى عن العرش لأجلي؟»

«نعم؛ وألف نعم!»

«لقد قلتَ من قبل «للإمبراطورة؛ لا للإمبراطورية»، لكن إن لم أصبح الإمبراطورة، فهل ستظل لهفتك للزواج منِّي كما هي؟»

«نعم.»

«إذن «أنا» أيضًا أقول نعم!»

فاحتضنها بين ذراعَيه وحلَّقا معًا في سماء أول قُبلة بينهما، وشعرا بنشوة الذوبان معًا. لكنها ابتعدت عنه فجأة.

وهمست قائلة: «هناك شخص قادم.»

قال رولاند في لهفة: «لا شيء يهم الآن. لا يوجد اليوم في هذا العالم إلا أنا وأنت.»

وضعت هيلديجوندي يديها على وجنتيها وكأنما تخفي لونهما الفاضح ودفئهما.

قال رولاند: «يبدو أنك ستتزوجين رجلًا فقيرًا.»

ابتسمت ابتسامة مهزوزة وكرَّرت كلامه قائلة: «لا شيء يهم الآن. يقال إنني أغنى امرأة في ألمانيا. سأبني لك ورشة حدادة وأكون ضمن تلاميذك. وسوف نَكتُب على الباب «السيد رولاند وزوجته؛ صانعا السيوف».»

ظهر رجلان عند نهاية الممر، ووقفا في سكون؛ فكان أحدهما مقطِّب الجبين، بينما ارتسمت على شفتي الآخر ابتسامة.

همست الكونتيسة واعترى وجهها ذعر لم تستطِع يداها إخفاءه: «أوه، رئيس الأساقفة وكونت بالاتين!»

تقدَّم سيادته إلى الأمام ثم تبعَه الكونت المبتسم على مهل.

قال رئيس أساقفة كولونيا: «أيها الأمير رولاند، لم أتوقَّع هذا بعد اجتماعنا ليلة أمس.»

«لستُ أدري لماذا، يا سيدي، في حين أنني قلت عند المغادرة «أخبِر حارس البوابة بأن يسمح لي بالدخول دون اعتراض.» وهذا بالتأكيد يعكس نيتي لزيارة القصر.»

«سموُّك تعلم أنك بالنسبة إليَّ موضع ترحيب شديد، وستظل هكذا دائمًا، لكن في ظل الوضع الراهن هناك آخرون يجب أخذهم في الاعتبار.»

قاطعه رولاند.

وقال: «اقرأ هذا الخطاب، يا سيدي، وستعرف أنني هنا بموافقة كاملة من أمير الكنيسة الكريم هذا، أمير ماينتس.»

تفحَّص رئيس أساقفة كولونيا الخطاب مقطِّبًا جبينه.

وقال: «إنك يا صاحب السمو شُجاع جدًّا، وإن سمحت لي، ماكرٌ بعض الشيء.»

«سموِّي ليس ماكرًا على الإطلاق، كلُّ ما في الأمر أني أتعامل مع أيِّ موقف بمجرد حدوثه.»

قالت الكونتيسة رافعة رأسها في فخر: «أيها الأمير رولاند، هل لي أن أُقدِّم لك صديقي، والشخص الذي يكاد يكون جاري، كونت بالاتين الراين؟»

تمتمَ رئيس الأساقفة بينما اعتراه الخجل والارتباك: «آه معذرة»، لكن الكونت المرح أزال عنه كل الحرج بتحيته الحارة.

«أيها الأمير رولاند، أنا سعيد جدًّا بالشرف الذي منحتْني سيادتُها إياه.»

«وأنا أيضًا يا سيدي في غاية السعادة بلقاء كونت بالاتين من جديد.»

صاح الكونت مُندهشًا: «من جديد؟ لو كنا قد التقينا من قبل، سموك، فما كنت بالتأكيد سأنسى هذا الشرف.»

ضحك الأمير.

وقال: «لكن هذا حقيقي بالفعل. هناك يا سيدي الكونت مَن هو مُسمًّى على اسمي في قلعتك الحصينة جوتنفيلس؛ إنه يَمنح منصبي شرفًا أكثر مما أفعل أنا.»

أرجع كونت بالاتين رأسه للوراء، وتردَّد صدى ضحكات مدوية في أرجاء الحديقة.

وصاح قائلًا: «أنت تقصد فرسي الأسود، الأمير رولاند! إنه حصان نبيل حقًّا. كيف عرفته؟ إذا كنتَ جلالتك تهتم بالخيول، فاسمح لي أن أهديه لك.»

«إطلاقًا، سيدي الكونت. أنت مُولَع به للغاية، ولطالما شعرتُ تجاهكَ بعاطفةٍ لحبك لهذا الحيوان، الذي يفوق بالكاد حبي له بالتأكيد. لقد أمسكت بلجامه وأمسكت برِكاب سَرْجه أثناء ركوبك إياه.»

تساءل الكونت مندهشًا: «كيف ذلك؟»

«لقد اعتنيت بالأمير رولاند قرابة الشهر، وكنت أتلقَّى أجرًا كبيرًا، وما أقدِّره أكثر هو ثناؤك؛ لأنك رأيت أني مولع بالأحصنة مثلك تمامًا.»

«يا إلهي! هل أنت ذاك الشاب الذي أتى على نحوٍ غامض واختفى دون إنذار؟»

قال الأمير ضاحكًا: «أجل. أنا أعرف جوتنفيلس تقريبًا كما تعرفها أنت. فقد كنت أدرس فنون الحرب وطرق التحصين. وقد توقَّفت بعدة أماكن مختلفة عند جميع قلاع نهر الراين الشهيرة تقريبًا، وهذه المعرفة أسفرت مؤخرًا عن …»

صاح رئيس الأساقفة متوسلًا: «يا صاحب السمو، يا صاحب السمو! أرجو أن تتذكَّر أن كونت بالاتين أحد أمراء الإمبراطورية الناخبين، وكما أخبرتك الليلة الماضية، نحن أمام أزمة حقيقية. وإلى أن تنتهي تلك الأزمة ستزيد من قلقي الكبير بالفعل إن صدر من جانبك أيُّ تصرُّف يفتقر إلى التحفظ.»

صاح الكونت قائلًا: «بحقِّ ملوك المجوس الثلاثة، إن هذا الشاب، إن جاز لي أن أتجرأ بتسميته هكذا، ربطني به بروابط أقوى من الدروع المسلسلة. وسأُصوِّت له رغم أنف المترددين.»

قال رئيس الأساقفة بابتسامة استعطاف: «لقد كان سموُّه يستمع إلى الأساطير الشرقية التي جلبها أسلافنا من الحروب الصليبية، وأخشى أن تكون قد ملأت رأسه بالأوهام.»

قال الشاب: «في الواقع، لقد أسأتَ الظن بي يا رئيس الأساقفة؛ فأنا الشخص الأكثر عملية في الإمبراطورية بأكملها. لقد قاطعتَ تفاخُري أمام سيادتها بشأن أعمالي اليدوية. كان عليَّ أن أخبرك أني حِرَفي قدير وصانع سيوف.» ثم أضاف، مستلًّا سيفه ومُعطيًا إياه لرئيس أساقفة كولونيا: «ما رأيك في هذا يا سيدي؟»

فقال بينما كان يوازنه في يده: «سيف ممتاز حقًّا.»

«عظيم، يا سيدي، لقد صنعتُه وضبطته دون مساعدة. وأرجو أن تدخُل إلى قصرك من جديد وتُصدِر أمرًا بصناعة ألف سلاح مثله.»

«إذا كنتَ جلالتك ترغب حقًّا في أن أفعل ذلك، وإن لم يكن هناك سخرية خفية في طلبك هذا أنا أغبى من أن أفهمها، فينبغي أن تُرافقني إلى غرفة المكتب وتُمليَ عليَّ الوثيقة التي أنا بصدد كتابتها. وسوف أنتظرك إلى أن تُودِّع الكونتيسة.»

تبادل هو والفتاة نظرات التفاهم فيما بينهما، ثم رفع رولاند يدها لشفتَيه يُقبِّلها، وبالرغم من أن الناظرين رأوا التحية اللطيفة هذه، فإنهما لم يفطنا إلى الضغطة الرقيقة التي باحت من خلالها أصابعها بأسرارها لشفتيه.

قال الأمير: «سيدتي، سيُسعدني وسيكون من واجبي أن أزور أمي في الغد. فهل لي أن أتوقَ إلى شرف تقديمك لها؟»

قالت الكونتيسة ببساطة: «أشكرك»، وفي عينيها نظرة رجاء لوصيها. فتنهد الرجل الطيب ثم شقَّ طريقه إلى داخل القصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤