الفصل الثاني

إبرام الصفقة

يبدو أن لكلِّ حقبة عبارةً قصيرة تَحتوي على، إذا جاز لنا التعبير، خلاصةِ حكمة العصر، ويؤمن بها الناس عمومًا. على سبيل المثال، زادَت شعبية الحكمة القائلة: «اعرف نفسك» حين تحوَّلَت العقول المثقَّفة نحو العلوم. وفي الفترة التي تَنتمِي إليها هذه المقولة لاقَت الحكمة القائلة «العِرق دسَّاس» قبولًا عامًّا. وفي الواقع، حازت عبارة «المَلك لا يُمكن أن يُخطئ» الخاطئة على رواج واسع. ومنها أيضًا جاء القول المأثور لعصور الفروسية، «للنبالة مُقتضياتها».

وفي عصرنا هذا، الحكمة القصيرة الرائجة هي «للمال نفوذه»، وإذا تعمَّق الباحثون الدءوبون في بحث هذه المسألة، فسيجدُون أن تطلعات الناس تتوافَق دومًا بدقة معقولة مع معنى الحكمة محل النظر. على سبيل المثال، لا شيء يُمثِّل الحكمة القائلة «للمال نفوذه» بامتياز أكثر مما تُمثِّله دولتان تجاريتان مثل أمريكا وإنجلترا. ففي تلك العبارة الوجيزة يَجتمع جوهر العديد من الأقوال المأثورة الأخرى التي تتَّسم بالحكمة والفعالية، مثل «الذئب يأكل الطارفة من الغنم»؛ إذ بالطبع لو كان للمال نفوذه، فمَن يفتقرْ إليه يلتزمِ الصمت، ويأتِ موقعُه في ذيل الركب، حيث يَجُول الشيطان خلسةً كفارس قوزاقي في مؤخِّرة جيش نابليون.

في ظل المواجهة فيما بينهما في ذلك المنزل العتيق بشارع فارجاسه، نشهد تجسيدًا للحكمتين، القديمة والحديثة؛ العِرق يُمثِّله الشابُّ الواقف، والمال يُجسِّده التاجر الجالس.

قال الشاب: «أنا الأمير رولاند، الابن الوحيد للإمبراطور.» وحين رأى على الفور التعبير الذي علا وجه مُضيفِه، تأكَّد أنه لو استطاع أن يُقنعه بحقيقة الادِّعاء لحصل على الألف تالر التي طلبها على الفور.

ولمدة دقيقة كاملة، ظنَّ رولاند أنه نجح، ولكن حين تلاشَت الدهشة من على ملامح التاجر، حلَّ محلَّها ذلك القناع من الحذر الذي كان له علاقة كبيرة ببناء ثروته. وأثناء اجتماعهما، عصَرَ السيد جوبل ذهنَه، في مُحاوَلةٍ منه أن يتذكَّر أين رأى هذا الشاب من قبل، ولكن ذاكرته تجوَّلت بين الموظفين والباعة والأشخاص الكادحين من تلك النوعية التي لا يُمكن بأيِّ نحوٍ أن يَنتميَ إليها هذا الشاب. وعندما باغتَه رولاند فجأةً بالعبارة المذهِلة بأنه فرد من الأسرة الإمبراطورية، تحوَّلَت ذاكرة التاجر حينها إلى المواكب التي رآها، والتي ربما لعب هذا الشاب الغريب دورًا في أحدها بجدارة. إن العَرق بدأ يكشف الأمور.

ولكن الآن الحُنكة أسعفَتِ التاجر. ففي الروايات فقط، يَهيم الأمراء أصحاب الدماء الملَكية على وجوههم مثل الشعراء الغنائيين المتجولين. وحتى أفراد الطبقة الأقل نبلًا لا يأتون لزيارة بيت أحد التجار مُتخفِّين. صحيح أنه لطالَما أرادت الطبقة الأرستقراطية المال، «ولكن ما يظنُّون أنه ربما يَلزمهم، يَذهبون ويأخذونه»، كما برهن على ذلك البارونات اللصوص قراصنة نهر الراين، الذين تسبَّب ابتزازهم في مُعاناة مدينة فرانكفورت العظيمة.

ثم فجأةً تذكَّر بقوة أنهم عندما تقدَّموا للأمراء الناخبين بالْتماسِهم لتنصيب الأمير الشاب بدلًا من أبيه، ألقى الأساقفة الثلاثة القبض على صاحب السمو الإمبراطوري، ووُضع، على الرغم من توسُّلات الإمبراطورة (نظرًا لأن الإمبراطور كان ثَمِلًا وغير مبالٍ)، في عهدة رئيس الأساقفة الأقرب إلى مدينة فرانكفورت، رئيس أساقفة ماينتس المحارب، الذي حبسه في الحصن المنيع لقلعة إيرنفيلس، حيث لا يستطيع أحد الهروب نظرًا لأنها محصَّنة ومعزولة بموقعها على صخرة مُعلَّقة فوق نهر الراين.

قال التاجر: «هلا تتفضل بالجلوس مرةً أخرى، يا سيدي؟» ولو كان قد تحدَّث قبل فترة قصيرة، لوضَعَ عبارة «سمو الأمير» بدلًا من «سيدي».

بعد لحظة من التردُّد، جلس رولاند. رأى أن مسعاه باء بالفشل؛ نظرًا لأنه عجز عن دعمه بالأدلة. كان تصرُّفه الدرامي أشبه بهجوم مفاجئ عبقري من سلاح الفرسان، الذي حقَّق نجاحًا بعض الوقت، إلا أنه ذهب أدراج الرياح نظرًا لأنه لا يوجد سلاح مشاة قوي يُحوِّل الارتباك المؤقَّت للعدو إلى هزيمة كاملة. وبعد أن أدرك أنه لا بد من خوض المعركة مرةً أخرى، جلس الأمير بتنهيدة تنمُّ عن خيبة الأمل، ومِسحة من الاستياء على وجهه الوسيم.

وواصل التاجر حديثه قائلًا: «أجد نفسي في ورطة.» وتابع: «إذا كنتَ بالفعل ابن الإمبراطور، فلا مجال لاستجوابك من قِبَل شخص مثلي.»

«سلني أي أسئلة تريدها، يا سيدي. وسأُجيب عليها دون توانٍ.»

«إذا طلبتُ منك أن تُقدِّم دليلًا على ما قلته، فعلى الأرجح ستُجيب بأنك لا تجرؤ على دخول قصر والدك، ولن تستطيع أن تُقدِّم لي دليلًا مؤكدًا.»

«سيدي، أنت عبَّرت عن المسألة بلغةٍ أفضل مما كان يُمكنني استخدامها. ولو فعلت، لكنتُ سأُعبِّر عنها بكلمات أقل بلاغة من كلماتك.»

«متى كانت آخر مرة كنتَ فيها بالقصر؟»

«في نفس التوقيت تقريبًا الذي دخلتَ أنتَ فيه السجن، يا سيدي.»

«أها، أجل؛ ستكون إجابتُك هكذا بطبيعة الحال. والآن، صديقي الشاب، لقد أظهرتَ أنك لا تَعرف شيئًا عن الممارسات التجارية؛ ومن ثمَّ ربما سيثير اهتمامك إذا شرحتُ لك بعض أساليبنا.»

«سيد جوبل، يمكنك أن تُوفِّر على نفسك عناء ذلك. هذا الكلام لن يثير اهتمامي وحسب؛ بل سيُشعرني بالملل الشديد أيضًا. أنا لا أهتم مطلقًا بإجراءاتك التجارية، ولكي أكون واضحًا معك، أنا أكره مهنتك وأواجه بعض الصعوبة في كبح التعبير عن ازدرائي لمن يمارسونها.»

رد جوبل برباطة جأش: «إذا ذهَبَ مُوفَد من عندي إلى عميل أو زَبون بهدف الحصول على خدمة منه، ولم يستخدم أسلوبًا لبِقًا كما تفعل أنت، فلسوف أطردُه من العمل.»

«وأنا لا أطلب منك أيَّ خدمات.»

«أنت تُريد أن أعطيك ألف تالر، وإلا لماذا جئت إلى هنا؟»

«أرغب أن أمنحك أعظم هدية؛ ألا وهي فتح نهر الراين، وأن أعيد سبل الرخاء لمدينة فرانكفورت، التي سمحتم، أنتم التجار الحَمقى الجبناء، أن تتسرَّب من بين أصابعكم، مُلقين باللوم تارة على البارونات، وتارة على الإمبراطور، وتارة على الأمراء الناخبين، مُدينين الجميع، في واقع الأمر، باستِثناء الجناة الحقيقيِّين … أنتم أنفسكم. أنت تتحدَّث عن المال باعتباره منَّةً وخدمة، وإنما هو مجرَّد سُلفةٍ لبضعة أسابيع، وسوف يعود إليك؛ ونظرًا لأنني أرغب أن أمنح هذه الهدية التي لا تُقدَّر بثمن لك ولمدينتك، فأنت تتوقَّع منِّي أن أتذلَّل إليك وأتملَّقَك، كما لو أنني فرد في جوقة المتملقين الخاصة بك. وأنا أرفض أن أقوم بأيِّ شيء من هذا القبيل، ومع ذلك، أقسم بالله أنني سأحصل على هذا المال!»

ضحك التاجر من كل قلبه، لأول مرة أثناء لقائهما. ومن ثم، اتَّقد وجه الشاب بالغضب، لكن أقنعت كلماته اللاذعة السيد جوبل بأنه يَنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية أكثر مما لو تحدَّث بأكبر قدرٍ مِن التواضع. بات جوبل مقتنعًا بأنه ليس الأمير؛ وإنما شابٌّ نَبيل مقرَّب من الأسرة الإمبراطورية، ونظرًا لأنه كان يعرف أن ابن الإمبراطور بعيد عن الأنظار، ظن أنه من السهل انتحال اسمه، ليخدم غرضه على أفضلِ نحو، بصرف النظر عن ماهية هذا الغرض الحقيقية. ولم يُصدِّق لحظةً أن الغرض هو فتح نهر الراين، كما أنه لم يستطِع أن يصدِّق أنه سيرى أمواله مرةً أخرى إذا خرج بها.

«رغم المجازفة بجعلك تَشعُر بالملل، سأُواصل ما كنتُ بصدد قوله. نحن، معشرَ التجار، بهدف حماية أنفسنا، نُساهم بأموالٍ قد تُخوِّل للمرء الحصول على خدمات عميل سرِّي. وهذه الأموال تُمكِّننا من الحصول على معلومات خاصة ربما تكون قيِّمة لأعمالنا. ومن بين الأشياء الأخرى التي نحتاج إلى معرفتها التفاصيل الدقيقة لنوايا حُكامنا وتصرفاتهم؛ لأنه بصرف النظر عن ماهية أوجُهِ قُصورنا، تصرُّفات مَن هم فوقنا تؤثِّر على أعمالنا بطريقة أو أخرى. هلا أقرأ لك تقريرًا قصيرًا جاء بينما كنتُ أقضي فترة عقوبتي بالسجن؟»

قال رولاند بلا اكتراث وهو يُلقي برأسه إلى الوراء ويغلق عينيه بعض الشيء، بنبرة ملل: «أوه، اقرأ ما تحب.»

أخرج التاجر ملفًّا به أوراق وتصفَّح محتوياته بعناية، واختار من بينها وثيقة، وسحَبَها، ثم تنحنح وقرأ بصوتٍ عالٍ:

««بعد مُنتصَف الليل بساعة، في عيد القدِّيس ستينسلوس، اقتحم ثلاثة نبلاء: الأول يُمثِّل رئيس أساقفة ماينتس، والثاني يمثِّل رئيسَ أساقفة تريفيس، والثالث يمثِّل رئيسَ أساقفة كولونيا؛ مسلَّحين بسلطة هؤلاء الأمراء الناخبين الثلاثة وأمراء الكنيسة، قصرَ سالهوف من الجانب المُواجِه للنهر، وقبضوا على الأمير الشاب رولاند في مضجعه. وأكدوا للإمبراطورة، التي اعترضت حينئذٍ، أن الأمير سيَلقى رعاية جيدة، ونظرًا لأنه كان يُخشى وقوع عصيان مسلَّح في مدينة فرانكفورت، فإنه من الأكثر أمانًا أن يؤخذ الشخص، الذي يعتزمون رفعه على العرش في حالة وفاة الإمبراطور، بعيدًا عن طريق الأذى، وأن يُوضع تحت الرعاية المباشرة لرئيس أساقفة ماينتس. وأخطروا الإمبراطورة بأن الأساقفة لن يُخرِجوا الأمير من القصر دون موافقة الإمبراطورة نفسها أو الإمبراطور، ولكن إذا لم يُمنح هذا الإذن، سيُعقد اجتماع للأمراء الناخبين على الفور، وسيَجري اختيار شخص آخر ليَخلف الحاكم الحالي.

كان لهذا الاعتبار تأثير كبير على الإمبراطورة، التي نصحَتِ ابنها بالإذعان. اقتيد الشاب إلى المركب الذي كان يَنتظِر آنذاك في النهر على بُعد خُطوات من القصر؛ ومن ثمَّ نُقلَ على طول رافد ماين وصولًا إلى نهر الراين، الذي وصلوا إليه بعد الفجر مباشرة. واصلت المجموعة مسيرتها على طول نهر الراين دون توقُّف، مع مُحاوَلة الالتزام بالسير وسط النهر بقدر الإمكان، مرورًا ببلدة بينجن، ووصولًا إلى سفح الصخرة التي تقف عليها قلعة إيرنفيلس. جرى نقل الأمير إلى القلعة، حيث يُقيم هناك الآن.

خصَّص له رؤساء الأساقفة من دخلهم سبعمائة تالر شهريًّا، بالإضافة إلى رعايته. ويَستحيل عليه الهروب من هذا الحِصن دون مساعدة، ونظرًا لأن الإمبراطور غير مُهتم بالأمر، بينما منحتْهم الإمبراطورة موافقتها، من المقرَّر أن يظل رهن الاعتقال في إيرنفيلس برضا رؤساء الأساقفة الذين لن يَنتخبوه بلا شك ليرتقي العرش خلفًا لوالده ما لم يُثبِت إذعانَه لرغباتهم. والأمير شابٌّ ليس له شخصية محدَّدة قوية» (هنا توقَّف التاجر عن قراءته بُرهةً، وتطلَّع إلى وجه الجالس قبالته، لكن بدا أن الأخير نعسان، لكنه أكمل): «وعلى الأرجح سيَخضع لرؤساء الأساقفة؛ ومن ثم يُنصَح التجار بألا يُعلِّقوا الآمال على تحسُّن الأوضاع، حتى لو خلف الابن الأب. وعلى الرغم من الاحتياطات المتَّخذة؛ القبض على الأمير واعتقاله، وحتى مكان اعتقاله، صارت معروفة بوجه عام في مدينة فرانكفورت، إلا أن الأخبار تُتناقل على هيئة إشاعات فقط، وتثير القليل من الاهتمام عبر المدينة.»

«ما تعليقك على هذا، سيد رولاند؟»

ردَّ رولاند قائلًا: «أوه، لا تعليق يُذكر.» وأضاف: «ربما ذكر التقرير أنه كان على متن المركب خمسة مُجدِّفين، كانوا يعملون بكدٍّ حتى وصلنا إلى نهر الراين، وحين كانت الرياح مواتية، رُفع الشراع، وبتيار مساعد للرياح، وصلنا في توقيت ممتاز إلى إيرنفيلس. أرى أن عميلَك السريَّ يُطلعُك على نحوٍ جيد جدًّا بالأمور؛ ومن ثمَّ أسحب الألفاظ القاسية التي قُلتُها بخصوص غباء التجار.»

قال جوبل وهو يضع الوثيقة مع مثيلاتها: «شكرًا جزيلًا على تعديل رأيك.» وأضاف: «والآن، باعتباري رجلًا صريحًا وعمليًّا، ما يُدهشني هو الآتي: أنه يجب عليك العودة إلى إيرنفيلس والمكوث بها شهرَين؛ ونظرًا لأنه لا حاجة لك إلى المال في تلك القلعة، حيث إن رعايتك مضمونة، مع سبعمائة تالر مخصَّصة لك، يُمكنك الحصول على مبلغٍ يزيد بأربعمائة تالر عن المبلغ الذي تطلبُه منِّي؛ ومن ثمَّ تنفيذ مشروعك بلا أيِّ التزامات تجاه أي تاجر حقير.»

«هذا صحيح، سيد جوبل، ولكن هل يُمكنك أن تتوقَّع ما سيحدث في مدينة فرانكفورت قبل مرور شهرين؟ عرفتُ من تلك الوثيقة أن رؤساء الأساقفة ذوي الرؤية الثاقبة يتوقَّعون حدوث عصيان مسلَّح، ولا شك أنهم يأمُرون القوات الموجودة في المتناول بسحقِه، ولكن في خضمِّ هذا النزاع، الذي يبدو أنك لا تُعيره اهتمامًا كبيرًا، هل خطر على بالك أبدًا أن قصور التجار على طول شارع فارجاسه قد تتعرَّض للنهب والحرق؟»

علَّق التاجر قائلًا: «بالطبع، هذا مُمكن.»

«لا، إنه أمر أكيد. الحرب الأهلية تَعني الدمار، للمُذنب والبريء على حدٍّ سواء.»

«أنت مُحق. والآن، هل ستُخبرني كيف هربتَ من قلعة إيرنفيلس؟»

«أجل؛ إذا وافقت على شروطي دون المزيد من المساومات.»

«سأُوافقُ على شروطك إذا صدَّقتُ قصتك.»

«يبدو أنه من المستحيل إلزامك بأيِّ صفقة محدَّدة، يا سيدي. هل هذه هي الطريقة التي تُباشر بها أعمالك؟»

«أجل، ما لم أكن متأكدًا من حسن نية عميلي. لقد عرضتُ عليك شروط عمل عادية حين طلبتُ منك ضمانًا، أو توقيع ثلاثة تجار مُحترمين على صكِّ تأمين. ولهذا أنا أساوم، كما تُسمِّيها، لأنني تاجر، ولستُ مُضاربًا.»

«مُمتاز، إذن، سأُخبرك كيف هربت، ولكنِّي سأبدأ قصتي على نحوٍ يائس جدًّا؛ لأنك تترُك لنفسِك دومًا ثغرة للهروب. إذا صدَّقتَ قصتي، فستوافق على طلبي، وإذا كان بإمكاني أن أنسج قصة مُغامَرات عن تمزيق ملاءتي إلى أجزاء وربطها معًا على هيئة حبل، ونزولي عليها وسط الظلام من الشُّرفة إلى الطابَق السُّفلي، وقرع جرس الإنذار، واشتعال المشاعل، وغَوصي في نهر الراين، والسباحة تحت الماء حتى أكاد أختنق، والطفو فوق منحدَرات النهر، والسهام التي تُسدَّد من حولي في ظلمة الليل، وتسلُّق الشاطئ البعيد وأنا أقطر الماء، بعيدًا عن أنظار قلعة إيرنفيلس، فلا شك أنك ستُصدِّق ذلك. ولكن كانت قصة هروبي عادية على نحوٍ مُمِل، قائمة على جشع رجل واحد. السبيل لهروبي كان هو الشيء الذي وضعه رؤساء الأساقفة بأنفسهم بين يديَّ. روايتك تقول إن القلعة تحت حراسة جيدة. هي كذلك، ولكن حين يحتاج رئيس الأساقفة إلى تعزيز قوَّته، يسحب رجاله من إيرنفيلس إلى ماينتس، باعتبار محبسي أقرب ممتلكاته إلى عاصمته؛ ومن ثمَّ أحيانًا تكون القلعة خالية من جميع الحراس باستثناء البواب وأسرتِه. وتصادَفَ أن ابنه شابٌّ من نفس سنِّي، ويُشبهني من حيث المظهر الخارجي. لم يرَنِي أحد من الحراس، باستثناء البواب، ويجب أن تعرف أنه كان سجَّانًا مُتساهلًا جدًّا؛ لأنه يعرف جيدًا أن شُروق كل يوم قد يجلب معه أخبارًا بأنني صرت إمبراطور بلاده؛ ولذا حرص على التواصُل معي، ليَعرف بطريقته القروية البسيطةِ ما سلوك الحاكم الذي ربما أصير عليه؛ ومن ثم استغللتُ صحبته كثيرًا نظرًا لأنَّه لم يكن هناك شخص آخر لأتحدث إليه.

وكثيرًا ما ترك لديَّ الانطباع بأنَّ مُهمَّته كسجَّان هي مهمَّة مُزعِجة بشدة بالنسبة إليه؛ ولكن الفقر يُرغمه عليها. وأقسم بأنه سيَفعل أي شيء في سُلطته ليُخفِّف عنِّي وطأة الحبس، وهذا ما فعله في واقع الأمر، وحين صارت القلعة خالية قدَّمتُ له عرضًا. الآن تذكَّر، سيدي التاجر، أن ما أقولُه لكَ هو سر، وإذا خُنتَ العهد، فسوف أشنقك إذا أصبحتُ الإمبراطور، أو أقطع عنقَك بسيفي إن لم أَصِر كذلك.»

«واصل حديثك. لن أخبر أحدًا.»

«قلتُ لسجَّاني: «لا يوجد في هذا العالم ستَّة أشخاص يَعرفونَني برؤية العين، والأمراء الناخبون ليسُوا من بين هؤلاء الستة. وخارج القصر في فرانكفورت، أعرف صانع سيوف أو اثنين، ومجموعة من الرِّفاق الصالحين الذين يُصادقونهما، ولكني بالنسبة إليهم مجرَّد مُعلِّم لفنون المبارَزة بالسيف. الآن، يصلُني كل شهر سبعمائة تالر بيديكَ الأمينتَين، وسيستمر الأمر على هذه الوتيرة. يبدو ابنكَ صَموتًا أكثر منك، وهو شابٌّ أشك أنه يعرف الفارق بين التالر وزرِّ مِعطفه. إذا فعلتَ ما أتمنَّاه، فسيكون هناك قدر ضئيل من المخاطَرة، ولكن فكِّر في المكافأة المباشِرة والمستقبلية! على الفور ستحصل على دخلٍ شهريٍّ بمبلغ سبعمائة تالر. وإذا جرى انتخابي في منصب الإمبراطور، فسأمنحك درجة النبالة، وسأُقدِّم لك أفضل منصب في البلاد. وإذا لم تَفعل ما أتمناه، فسأقطع رأسك كأوَّل قرار لي في أول يوم أتولى فيه السلطة».»

سأله التاجر بابتسامة قائلًا: «ألم تُهدِّده بقطع رقبتِه بسيفك، إذا لم يَرتقِ لتوقُّعاتك؟»

«كلا. كان في مأمنٍ تمامًا من انتقامي، ما لم أرتقِ العرش.»

«في هذه الحالة، ينبغي أن أقول إنَّ الحارس لا يتعيَّن عليه الخوف من المستقبل. ولكن واصل حكايتك من فضلك.»

«اقترحتُ أن أستبدل أنا وابنه الملابس؛ باختصار، كان على الشاب أن يحلَّ محلِّي، ليشغل جناح الغرف المخصَّص لي في القصر. وأخبرتُ والده بأنه ليس هناك أدنى خوف من الاكتشاف؛ لأنه إذا أرسل رئيس أساقفة ماينتس أحدًا ليتأكد من أن الأمير بأمان، أو حتى إذا جاء بنفسه، فكل ما سيحتاج إليه الشاب هو أن يحذو حذوي ويلتزم الصمت؛ حيث إنني لم أنبس ببنت شفة منذ أن اقتِدت من غرفتي في قصر سالهوف حتى وصلت إلى قلعة إيرنفيلس. ووعدتُه، إذا أطلق سراحي، أن أبقى في حدود فرانكفورت، ومع ظهور أولى الشائعات عن وقوع أيِّ أزمة، يُمكنني العودة على الفور إلى قلعة إيرنفيلس.

الحارس رجل بطيء التفكير، رغم أنه لم يتقاعَس عن الوصول إلى اتِّفاق مثلما تفعل أنت. استغرق أسبوعًا ليُقلِّب الأمر في ذهنه، ثم أخذ المخاطرة. صار الآن سجَّانًا لابنه، وهذا الفلاح الشابُّ يَعيش بأسلوبٍ لم يكن يُحلم به من قبل. ورؤساء الأساقفة يشعرون بالرضا؛ لأنهم يَعتقدُون أنني لا أستطيع الهروب من القلعة — فهم، مثلما تعتقد أنت نفسك، ليس لديهم سوى رأي سلبيٍّ في قدراتي؛ ونبلاؤهم التابعون المُخلِصُون لهم يعرفون أن خارج الحصن لا يوجد شخص، ولا حتى والدتي، يتمنَّى خروجي. وَضعتُ في محفظتي خمسمائة تالر، وارتحلت مثل الفلاح الذي أنتحل شخصيته، على طول نهر الراين، تارةً على هذه الضفة، ثم تارة على الأخرى، حتى وصلت إلى مدينة كاسترا بونينسيا القديمة التابعة للرومان، التي يسميها سكَّانها الآن اختصارًا باسم بون. هناك وجدت رئيس الأساقفة في قصر الضيافة، وليس في كولونيا، كما كنتُ أفترِض. ونظرًا لأن المدينة مُحتشِدة بالجنود والأشخاص الفضوليين التابعين لبلاط كولونيا، عدتُ مرة أخرى إلى نهر الراين، مُتذكِّرًا أنني بَعُدت مسافة طويلة جدًّا، ورغم أنك ربما لا تصدق، زرتُ صديقي العجوز سجَّان قلعة إيرنفيلس وتناولت معه وجبة رائعة، شاربًا بعض النبيذ المُغري الذي يأتي من على نفس الجانب من النهر على بُعدِ فرسخ تقريبًا شمال قلعة إيرنفيلس.

قال التاجر: «أظن أنني أستطيع تحديد سبب هذه الزيارة المتهورة في ظاهرها إلى قلعة إيرنفيلس. كنتَ في حاجة إلى المال، بعد أن أنفقتَ الخمسمائة تالر.»

«سيدي، أنت مُحقٌّ تمامًا، وقد حصلتُ عليه أيضًا، دون تتضيع الكثير من الوقت تقريبًا في الحديث مثلما أنا مُضطرٌّ الآن في هذه المناسبة.»

«ماذا كان هدفك من السير على طول النهر بدلًا من التوجُّه إلى مدينة فرانكفورت؟»

«صرتُ مُهتمًّا بسجني، ودرستُ الطرق التي يُمكن مهاجمته بها بنجاح. عرفتُ أن والدي سمح لبارونات نهر الراين بتجاهُلي، وكنتُ أتساءل ما إذا كانت حكمته أكبر مما كنتُ أعتقد. على الأرجح، قلت في نفسي، إنه يعرف أن قصورهم محصنة، ولكن، من مُنطلَق فضول الشباب، كنتُ أرغب في تكوين رأيي الخاص. ومن ثمَّ نزلتُ في كل قصر استطعت الدخول إليه كعابر سبيل، وتصادقتُ مع بعض التابعين، وفي إحدى المرات، حصلت على مضجع في الإسطبل، رغم أنني كثيرًا ما كنتُ أبيت داخل القصر نفسه. ومن ثمَّ، توصلتُ إلى اعتقادٍ — طرحتُه عليك — بأنني يُمكنني، بمساعدة عشرين رجلًا جسورًا، الاستيلاء على أيِّ قلعة على نهر الراين باستثناء ثلاث قلاع. والآن، سيد جوبل، لقد قلتُ كلَّ ما أنوي قوله. هل تَرفُض تصديق قصتي؟»

حدَّق التاجر فيه متأملًا لبعض الوقت دون أن يصدر عنه أيُّ إجابة، ثم قال:

«هل تعتقد أنني أصدِّقك؟»

«بصراحة، لا أعتقد ذلك.»

«إذا كنتُ غير قادر على إعطائك المال، فعلى الأقل، يُمكنني أن أسدي إليك نصيحة جيدة. ابدأ كشاعر، السيد رولاند البارع، وأَسعِدنا بنسج القصص عن نهر الراين. أرى أن خيالَك، إذا لاقى التشجيع، فسيَمنحُك مكانة عالية جدًّا بين شعراء الرومانسية في عصرنا هذا.»

أجاب رولاند بصبر لم يتوقَّعه السيد جوبل، قائلًا:

«يُحزنني أن أعود خالي الوفاض إلى أصدقائي العشرين، الذين ودَّعوني الليلة الماضية وداعًا ينمُّ عن ثقة شديدة.»

«أجل، سيَشعُرون بخيبة الأمل، وأشكُّ على نحوٍ فَطِن أن الألف تالر الخاصة بي لن تُنفَق على تنفيذ الحملة التي استعرضتَها، وإنما على الولائم والخمور.»

«أنت مُحقٌّ مرةً أخرى، يا سيدي. من المُؤسِف أنني كثيرًا ما أُضطرُّ إلى التأكيد على عباراتك، حين يتحوَّل كل الذكاء الذي وصفت به ذِهني إلى مُهمة إثبات أنك شخص أحمق يَتفاخَر بأمواله، ومُعتدٌّ بنفسِه إلى حد الغرور، ويُعاني قِصَر النظر كبُومة تقف تحت أشعة شمس الصيف. ورغم ذلك، دعنا نلتزم بسياقنا الخاص. إذا كان ما قلتُه لك صحيحًا، رغم أنك بالطبع تَعرف أنه ليس كذلك، فأنت رغم ذلك لديك من الحس السليم ما يَكفي لتُدرك أنني سأتردَّد على نحوٍ مُبرَّر في زيارة قصر والدي. فهو يمتلئ بجواسيس رئيس الأساقفة، ورغم أنني — كما قلت — لستُ معروفًا جدًّا؛ فإن هناك احتمالًا بأنه ربما يتعرَّف عليَّ شخص أو اثنان، وحينئذٍ وعلى الفور تقريبًا، سيقطع رجل على ظهر حصانٍ سريعٍ طريقه إلى ماينتس. وإذا عرفتُ أن أمري اكتُشف، فسوف أشق طريقي على الفور إلى إيرنفيلس، وأصل إلى هناك قبل إجراء أي تحريات. ولكنْ رفاقي العشرون سيَنتظرُونني بلا جدوى. ورغم ذلك، لعلَّني أُغامر بالذهاب إلى قصر سالهوف عصر هذا اليوم، وآتيك بخطابٍ مكتوب من والدتي يؤكِّد أنني ابنها. هل سيقنعك هذا؟»

«أجل؛ لو تأكَّدتُ من أن التوقيع أصلي.»

«ها أنت تفعلُها مُجدَّدًا! دائمًا هناك ثغرة للهروب!»

تحدَّث الشاب بنبرة تعكس يأسًا حقيقيًّا لدرجة أن مُضيفَه تأثَّر رغم تشكيكه في مصداقيته.

علَّق التاجر قائلًا: «اسمع!» وأردف: «بالطبع، ثمة احتمال واحد من عشرة آلاف بأنك كما تقول عن نفسك. لم أرَ مُطلقًا توقيع الإمبراطورة، ومثل هذه الرسالة الخطية يُمكن تزويرها بكل سهولة على يد شخص مُتعلِّم، وأنا أعتبرك كذلك. إذن، إذا كنت ترغب في إقناعي، فسأضعك في اختبار سيكون لصالحك تمامًا، وسأقبله دون أيِّ ثغرة للهروب.»

«بحق السماء، دعني أسمع ما هو.»

«ثمَّة شيء لا يُمكنك تزويره: ختم الإمبراطورية العظيم، المُرفَق بكل الوثائق التي يوقِّع عليها الإمبراطور.»

صاح الشاب قائلًا: «أنا ليس لي تعامُلات مع والدي منذ سنوات.» وتابع: «بل لم أرَهُ حتى قبل عدة أشهر. أستطيع الحصول على توقيع والدتي على أيِّ شيء يروق لي كتابته، لكن لا أستطيع الحصول على توقيع والدي.»

قال التاجر رافعًا يده: «مهلًا، مهلًا!» وأضاف: «معروف أن الإمبراطورة تَستطيع إخضاع الإمبراطور لرغبتها إذا اختارَت بذْلَ الجهد لذلك. وعلى الرغم من كل ذلك، تُلاحظ أنني أعتبر كونك الأمير أمرًا مفروغًا منه تمامًا، وإلا لا طائل من تضييع الوقت في هذا الحوار. أنت تَستعرِض ثقة الشباب في الحديث عن البطولات المزمعة من جانبك، وبالطبع من دواعي سرور رجل في مُنتصَف العمر مثلي أن يُقابل شخصًا واثقًا جدًّا في أي شيء في تلك الأيام التي تبعث على التشاؤم. ولكن هل فكَّرتَ فيما سيحدث إذا وقع خطأ ما أثناء إحدى مغامراتك هذه؟»

«ليس هناك مَجال للخطأ. أنا لا أخشى مما ذكرته توًّا.»

«لقد فكرتَ كثيرًا. جيد جدًّا، سأُخبرك بالخطأ الذي قد يحدث. ربما يُوقع أحد البارونات بك وبمَجموعتِك، وعلى الفور يَشنقكم جميعًا في أبراجه المحصَّنة. ومن ثمَّ من المنطقي أن تمنع مثل هذه النهاية، إذا كان ذلك مُمكنًا. ومن ثم، اذهب إلى الإمبراطورة. أَخبِرها بأنك ورفاقك العشرين بصدد تنفيذ مغامرة تعود بفائدة كبيرة على البلاد. قل إنك ستَذهب مُتنكرًا، وحتى في حالة إذا ما فشلت، فإنك لن تُشوِّه سُمعة أسرتك الإمبراطورية. ولكن نوِّه إلى الخطر الذي حذرتك منه. اطلب منها توقيع الإمبراطور على خطاب عبور آمِن مَمهور بالختم العظيم؛ وإذا كان البارون الذي أوقع بك لا يستطيع القراءة، فإنه ما زال بإمكانه التعرُّف على الختم، ونظرًا لأنه لا يوجد ثغرة في قبولي لهذا الإثبات، سأكتب خطابًا للمرور الآمن، من أجلك وبغرض حمايتي أيضًا، على مخطوطة تُشبه ما يجرى التوقيع عليه في القصر.»

وما إن قال السيد جوبل هذا حتى قام وذهب إلى مكتبِه في زاوية الغرفة، حيث كتب الخطاب الذي أوضحه، وبعد أن نثر عليه الرمال، قدَّمه إلى رولاند، الذي قرأه:

«فليعلم مَن يُقدَّم له هذه المخطوطة أن حاملها رولاند هو ابني، وأن ما فعله فعَلَه بمُوافقَتي؛ ومن ثم، لا يَجب المساس به هو ورفاقه العشرين بأي سوء، إلا بالاحتكام إليَّ في مدينتي فرانكفورت العاصمة.

ومن يَعصِ ما جاء بهذه الوثيقة يَخسر حياته، وحياة أسرته وحاشيته، وستُصادِر الدولة ممتلكاته.»

قطَّب رولاند جبينه.

سأله جوبل، وقد عادت شكوكه: «ألا يُسعدُك هذا؟»

«حسنًا، يبدو بالنسبة لي تصرفًا مبتذلًا، الهجوم على قلعة رجل، وبعد ذلك إذا جرى القبض عليَّ، أتحامى وراء تهديدٍ خطير كهذا.»

هز التاجر كتفيه.

«هذا اعتراض عاطفي، ولكن بالطبع لستُ بحاجة إلى الاستعانة بالوثيقة إلا إذا رغبت في ذلك، رغم ظني بأنك إذا رأيت واحدًا وعشرين حبلَ مشنقة معلقًا في الهواء، فإن تردُّدك سيتلاشى على الفور.» وصاح حين رأى علامة اعتراض من جانب زائره: «أوه، ليس هذا من أجلك أنت؛ وإنما من أجل هؤلاء الرِّفاق العشرين الذين لا شكَّ يَنتظرُون تناول النبيذ معك.»

قال رولاند مُتنهِّدًا: «هذا صحيح»، وهو يَطوي المخطوطة المُتيبِّسة، ويفتح عباءته ويَضعها تحت حزامه ويقف أثناء ذلك.

«أحضِر لي هذه المخطوطة وعليها توقيع الإمبراطور والختْم العظيم، وستَجد النقود الذهبية في انتظارك.»

«مُمتاز! في أيِّ وقت من هذا المساء يسرُّك أن تسمح لي بالدخول؟»

«سيأتيني أصدقاء لي الليلة؛ ولكن ليس من المرجَّح أن يَمكُثوا طويلًا؛ فقط سنَتبادل التحيات ونَتناول بضع كئوس من الخمر. سأكون مُستعدًّا لاستقبالك حين تدقُّ ساعة الكاتدرائية العاشِرة.»

ومع انتهاء هذا الاجتماع المطوَّل، قاد الخادم المسن رولاند عبر الرَّدهة إلى شارع فارجاسه.

وبينما كان الشاب يتقدَّم عبر ويكماركت إلى شارع سالجاسه، تَمتَم في سرِّه قائلًا:

«الوغد العجوز البخيل! ليَحفظني الرب من التعامُل مع أمثاله في المستقبل! حتى آخر دقيقة، يشكُّ أنَّني مزوِّر، وكتب هذا بخطِّ يدِه، ولا شكَّ أنه ملأه بعلامات سرية. ورغم ذلك، ربما من الأفضل أن يكون هناك مثل هذا الضمان. هذه هي ثغرتي للخروج من المغامَرة القادمة، أخشى أن نكون جميعًا جُبناء، نبلاء وتجار على حدٍّ سواء.»

سار ببطء عبر المدينة أمام القصر، مُتأمِّلًا بعض طرق الدخول دون الكشف عن هويته، ولكن سرعان ما وجَد أنَّ حتى هذا التفحُّص الدقيق والعابر جعله عرضة للشُّبهات. لم يكن باستطاعته أن يُخاطر بأن يُجرِيَ اعتراضه؛ لأنَّه إذا أُخذ إلى غُرفة الحراسة وجرى استجوابه — وربما تَفتيشه وعُثرَ على السيف معه — فستَنشأ تعقيدات تزيد على نحوٍ ملموس من الصعوبات الموجودة في طريقه بالفعل. وما إن أسرع من خطواته حتى مر عبر شارع فاهرتور، ومنه إلى ضفة النهر، حيث لاحظ أن جانب قصر سالهوف المواجه لنهر الراين يَحرُسُه فقط حارس أو حارسان؛ نظرًا لأنَّ الرِّعاع لا يُمكنهم الاحتشاد عند سطح المياه، كما يَجتمعُون على شارعَي سالجاسه وفاهرتور المرصوفين بالحجارة.

متتبعًا خطواته، سار الأمير بسرعة حتى وصل إلى الجسر، واقترب من الصليب الحديدي الذي يُخلِّد ذكرى التضحية بالديك قربانًا للشيطان، باعتبارِه أول كائن حي يُوجَد على ذلك المبنى العتيق. هناك انحنى على الحاجز، وحدَّق في النهر قبالة القصر، وأخذ يتأمَّل ورطته. كانت هناك ثلاثة سلالم تُؤدِّي من الشرفة إلى المياه؛ سُلَّم عريض في المنتصف يُستخدم في المناسبات الرسمية، وآخران ضيِّقان عن يمينه ويساره؛ السلَّم الغربي كان للاستخدام المعتاد، والسلَّم الشرقي كان يستخدمه الخَدَم الذين يحملون دلاء الماء من النهر إلى المطبخ.

قال في نفسه: «السلَّم الأقرب يُقدِّم الفرصة الأنسب. سأجربه.»

قام بعدِّ أمواله؛ لأنَّ ثمة احتمالًا على الأرجح للرشوة. وجَد أربعًا وعشرين عملة ذهبية، وبعض العُملات الفضِّية. أعاد العملات إلى محفظتِه، وسار إلى اليابسة، وواصَلَ سيرَه إلى النهر حتى وصَل إلى رصيفٍ يَسمح بدخول المراكب الشراعية الصغيرة. أجَّر أحد هذه المراكب ثمَّ صعد على متنِه بعد أن رفَض خدمات المراكبي لقيادة المركب، وانجرف مع التيار. خلع السيف وجرابه من حزامه، وخلع عباءته ولفَّ السلاح بها، ووضع الثوب المطوي بعيدًا عن الأنظار تحت الغطاء في مقدمة المركب. وبمجدافه جعل المركب قريبًا من الضفة اليُمنى، مُكتشفًا مكانًا ممتازًا للاختباء تحت القنطرة الداعمة لدرجات السلَّم، والتي من خلالها يتدفق الماء. انتظر إلى جانب درجات السلَّم بضع دقائق حتى خرج مُساعد الطباخ في ثوبِ جبردين طويل وغمس دلوه في تيار المياه السريع.

بادره رولاند بالحديث قائلًا: «مرحى، أيها الصديق الرائع، هل تُريد الحصول على قطعتين ذهبيتين؟» وعرض العملتين الصفراويين في راحة يده.

لمَعَت عينا الخادم، وألقى نظرة سريعة من فوق كتفه.

رد في لهفة قائلًا: «أجل.»

«إذن، اترك دلوَكَ حيثما هو، واركب هذا المركب.»

فعل الخادم ما أُمر به، وهو يتلفَّت حوله في حذر مرةً أخرى.

«الآن، اخلع هذا الثوب الخارجي، وأعطِني إياه.»

ارتداه رولاند فوق ملابسه، ووضع قلنسوتَه بجوار العباءة والسيف؛ نظرًا لأن الخادم كان حاسر الرأس.

«انزل أسفل تلك القنطرة، وابقَ بعيدًا عن الأنظار حتى تسمَعَني أُطلِق صفَّارة.»

وبعد أن أخذ الدلو، صعد رولاند درجات السلَّم وسار سريعًا بعيدًا عن أشعة الشمس المشرقة إلى الرواق المعتم المؤدي إلى المطبخ. كان قد قضى ساعتين مع التاجر، وقد حان الآن موعد وجبة مُنتصَف النهار. كان الجميع يُسارعون جيئةً وذهابًا، ولم يكن هناك متَّسع من الوقت للاهتمام بأي شيء ليس له علاقة بالمهمَّة محل النظر لديهم الآن، وما إن وضع الدخيل الدلو في كوة معتمة، حتى خلع الثوب الجبردين ووضعه بجوار الدلو، وأخذ يبحث حتى وجد دَرجًا خلفيًّا صعده.

وبمجرَّد أن وصَل إلى الأجزاء العلوية، كان يَعرف طريقه، وتوجَّه مباشرة إلى غرفة والدته، مُتأكِّدًا من أنه سيجدها بالداخل في هذه الساعة. وعند دخوله المفاجئ، صاحت الإمبراطورة في تعجُّب ينمُّ عن الفزع أكثر من الفرحة، ولكنها اندفعت لمُقابلته ومعانقته.

صاحت قائلة: «أوه، رولاند! ماذا تفعل هنا؟ كيف جئتَ إلى القصر؟»

«عن طريق النهر. قاربي أسفل قنطرة سُلَّم الخَدم، وليس أمامي دقيقة لأخسرها.»

«كيف هربتَ من قلعة إيرنفيلس، ولماذا جئت إلى هنا؟ أنت بالتأكيد تعرف أن القصر هو أول مكان سيَجري تَفتيشُه بحثًا عنك؟»

«لن يكون هناك تفتيش، يا أمي. خُذي كلامي على محمَل الجِد لأنه لا أحد يُدرك غيابي من إيرنفيلس باستثناء الحارس، وهو لا يَجرُؤ على التفوه بكلمة لأسباب وجيهة. لا تَنزعجي، أتوسَّل إليكِ. أنا طليق بإذنه، وسأعود إلى القلعة قبل أن يَحتاجني. بالتأكيد، يا أمي، أنا هنا للحفاظ على سلامتي، لا لتعريضها للخطر.»

أخرَجَ من تحت حزامه، مخطوطة السيد جوبل، وسلَّمها إياها.

وقال: «في حالة إذا ما خطر على بال رئيس الأساقفة الفاضل، أو أحد النبلاء الآخرين، أن يَشنقَني، أظن أنه من الأفضل أن أحصل على هذا التصريح موقَّعًا من الإمبراطور وممهورًا بختم الإمبراطورية العظيم. وإذا ما كان هناك أيُّ مُحاوَلات للتخلُّص من حياتي، وكذلك النَّيل من حُرِّيتي، فلعلَّني أقدِّم هذا المرسوم الإمبراطوري وأعرض قضيتي في مدينة فرانكفورت.»

صاحت السيدة المُرتبكة ويداها ترتجفان وهي تُمسك الوثيقة وتحاول قراءتها: «بالتأكيد، بالتأكيد! أستطيع الحصول على توقيع والدك، ولكن الختم العظيم يجب أن يضعه حاجب البلاط.»

«جيد جدًّا، يا أمي. حاجب البلاط سيَفعل ما يأمره به صاحب الجلالة. إن الختم أهم من التوقيع، إذا وصل الأمر إلى ذلك، وأنا مُتأكِّد أن حاجب البلاط لن يَعترض حين تتعلَّق الوثيقة بالحفاظ على حياة ابنك. ليس من الضروري أن تَذكُري أنني موجود هنا، أو أن لي أيَّ صلة بالأمر. ولكن لا تُضيِّعي لحظة، وأَعطي الأوامر بألا يدخل أحد هذه الغرفة.»

خرجت الإمبراطورة سريعًا بالوثيقة، بينما أخذ الشاب يقطع الغرفة جَيئة وذهابًا بفارغ الصبر. بدا وكأن ساعات مرت على عودتها، ولكنَّها عادت في النهاية وقد أنجزت الوثيقة على أكمل وجه. دسَّها رولاند تحت حزامه مرة أخرى، وطمأن والدته التي أخذت تبكي على كتفه، وحاوَلَ أن يُغادر المكان. ولكن الإمبراطورة أبقته حتى فتحت دُرجًا في الخزانة بيدها المرتعشة وأخرجَت منه صرةً أصدرت خشخشة معدنية حين ضغطت عليها وهي تُعطيها لابنها.

قال: «لا يجب أن آخذها.» وأضاف: «أنا أحصل على مبلغ كافٍ. رؤساء الأساقفة الكرام يَمنحونَني سبعمائة تالر شهريًّا، والتي يَجري دفعُها على نحوٍ مُنتظِم بشدة.»

ردت الإمبراطورة قائلة: «يوجد هنا خمسمائة تالر فقط.» وتابعت: «كنتُ أتمنَّى لو كان هناك المزيد، ولكن يَجب عليك أن تقبلها؛ لأنني سأَشعُر في قرارة نفسي براحة أكبر حين أعلم أنك تَملك هذا المبلغ. هل يُسيئون معاملتك في إيرنفيلس، يا بُني؟»

«أوه، لا، لا، لا! أنا أعيش كعُمدة المدينة. لا داعي للخوف عليَّ، يا أمي. إيرنفيلس مكان مُبهج، مع وجود بلدة بينجن القديمة على الجانب الآخر من المياه. أنا أحبها أكثر مما أحببت فرانكفورت، برعاعها الغوغاء، وسأكون سعيدًا جدًّا إذا خرجتُ من المدينة مرةً أخرى.»

ثمَّ، بعد وداعٍ مُتعجِّل، ترك المرأة المُنتحِبة، ونزل من الدَّرج الخلفي، آخذًا الثوب الجَبردين الذي تركه، وارتداه، ووصل إلى حافَة المياه، ودخل في حيِّز قاربه مرة أخرى. أعاد الأغراض إلى صاحبها، واستعاد السيف والعباءة مرة أخرى، وشق طريقه إلى إحدى الحانات؛ حيث طلب وجبة جيدة.

وفي المساء، عاد إلى راينجولد، والتقى بمالك الحانة في القَبو العام الكبير والخالي، وسأل ذلك الشخص الفاضل ما إذا كان أصدقاؤه قد اجتمعوا بعد، وأُخبر بأن الجميع موجودون في قبو القيصر.

صاح قائلًا: «جيد!» وتابع: «لقد قلتُ إنني سأغيب لأسبوع، ولكن ها أنا ذا هنا في غضون يوم. إذا كان هذا لا يُثبت كلمة الرجل، أودُّ أن أعرف ماذا يُثبتها. والآن، أيها المالك، أَحضِر أفضل وجبة يُمكنك تقديمها، مع كمية مُضاعَفة من النبيذ.»

«لكَ، يا سيدي؟»

«لنا جميعًا، يا سيدي. ماذا أيضًا؟ أكاد أجزم أن الفتيان لم يتناولوا العشاء.»

«تناقلَتِ الأيدي لقيمات الخبز الأسمر.»

«كل هذا أدعى لكي تُحضِر لنا فطيرة لحم كبيرة، ساخنة، أو اثنتين أو ثلاثًا منها، إذا كان ضروريًّا. وأفضل نبيذ لديك، يا سيدي. ذلك القادم من راينجاو.»

ولكن صاحب الحانة اعترض.

وقال: «وجبتُك، يا سيدي، باعتبارك القائد، يُمكنني تحمُّلها؛ ولكن إطعام عشرين من الجياع هو أمر مختلف. تذكر، يا سيدي، أنَّني لم أرَ لمعة عملاتهم الفضية منذ وقت طويل، ومنذ أن بدأت تلك الأوقات العصيبة، وأنا رجل فقير.»

«الفضة الدنيئة؟ اللعنة على الفضة! ما لم تكن بعض الأسماك الفضية الآتية من النهر، طازجة ومُكتنزة؛ وهذه فكرة جيدة. سنبدأ بالسمك بينما تُعدُّ أنت اللحم. سأتعامل بالذهب الليلة، وأغلبُه سيَذهَب إلى محفظتك. ضع يدك هنا واستمتع بالإثارة.» وفتح رولاند فوَّهة الصرة التي تحتوي على كنزه.

صاح صاحب الحانة، وقد توهَّج وجهه قائلًا: «أها!» وأردف: «لن تُوزَّع وجبة في مدينة فرانكفورت كالوجبة التي ستُوضَع أمامك.»

كان هناك صياح كبير حين دخَل رولاند قبو القيصر، وعلا هتافُ ترحيب.

صاح أحدهم قائلًا: «ها هو ذا المُنشق!» وأضاف: «هل تملَّصتَ من مُهمتك سريعًا جدًّا؟»

وأضاف: «جبان، جبان، رعديد!» ثم أردف: «أرى على صفحة وجهِه الفشل. لا تأبه بهم، يا رولاند. مقعدك على رأس الطاولة في انتظارك. هناك لُقمة خبز أسمر متبقية، وعلى الرغم من أن النبيذ خفيف القوام، فإنه يروي العطش.»

خلع رولاند عباءته، وعلَّقها هي والسيف على مشجب، واتخذ مقعده على رأس الطاولة. وأزاح الأباريق التي وُضعَت بالقرب منه، وأخرج الصرة الجلدية من حزامه، وسكب العملات الصفراء اللامعة على الطاولة، وعند رؤيتها انطلقت صيحةٌ لدرجة أن العوارض المتينة من فوقهم بدت كأنها تهتز.

طالبهم رولاند حين هدأ الضجيج قائلًا: «اعتذِروا!» وتابع: «والرجل الذي يرفض الاعتذار، ويحتج، فليأخذ سيفه من على المشجب ويُصفِّي حسابه معي!»

كان الرد عبارة عن صيحة اعتذار.

صاح الرجل الذي وصفه بالرعديد قائلًا: «نحن نتذلَّل عند قدمَي سُموِّك!»

«لقد سمحتُ لنفسي أن أطلب سمكًا ولحمًا لوجبة العشاء، بالإضافة إلى كمية مُضاعَفة من نبيذ رودسهايمر. مرةً أخرى، أُبدي استعدادي لقتال أيِّ رجل يعترض على هذا التجاوُز من جانبي.»

صاح أحدهم قائلًا: «يُمكنني أن أبارزك ويدي مُوثَقة خلف ظهري، ولكنِّي ذو طبيعة مُتسامحة، وسأنتظر بدلًا من ذلك لحم الطير المَشوي.»

استطرد رولاند في هدوء: «أظنُّ أن أغلب هذه الأموال ستذهب إلى صاحب الحانة، كتقديرٍ بسيط لكرمِه السابق، ولكني وُعدت هذا المساء بمزيد من المال الذي سيُوزَّع بالتساوي بيننا. ومن ثمَّ أطلب منكم، الاقتصاد في النبيذ.» اضطرَّ هنا إلى التوقُّف لبعض اللحظات، واستمع إلى الآهات والصيحات والصراخات، وقرع الأقداح الفارغة على الطاولة المتينة.

قاطع هذه الضجَّة دخولُ صاحب الحانة، الذي أحضر معه نبيذ الراين الموعود؛ وحين سمع الضجة، ظن أن هذا يعبِّر عن نفاد صبر المجموعة على التأخير، وهو خطأ لا أحد يظنُّ أنه يَستحق التصحيح. ووعد بتقديم السمك بعد بضع دقائق، وخرج ليتأكد من تنفيذ وعده.

سأل سكير، الذي شرب إبريقه قبل أن يطرح السؤال: «لماذا يَنبغي علينا أن نقتصد في شرب النبيذ؟» وأضاف: «مع وجود كل هذه الأموال على الطاولة يبدو لي هذا شرطًا معيبًا.»

أجاب رولاند قائلًا: «هذا ليس بأمر على الإطلاق، ولكنَّه مجرَّد اقتراح. أنا أتحدث من منطلق اللعب بقواعد مُنصفة. لقد حدَّدتُ موعدًا بحلول الساعة العاشرة هذا المساء، وأتمنَّى أن أحافظ على وَعدي وأبقى بعيدًا عن تأثير الخمر.»

سأله السكير قائلًا: «ما اسمها، يا رولاند؟»

«كنت على وشك إفشاء السر حين قاطعتَني. الاسم هو السيد جوبل.»

«ماذا! تاجر القماش المقيم في شارع فارجاسه؟»

«هل يُتاجر في القماش؟ لم أكن أعرف تفاصيل مهنته باستثناء حقيقة أنه تاجر ويعيش في شارع فارجاسه. لقد شرفتُ هذا الصباح بعرض خطةٍ مشتركة مُفيدة على السيد جوبل ستُوفِّر لنا جميعًا فرصة عمل.»

قال كورزبولد: «أوه، هل سيكون جوبل ربَّ عملِنا؟ أنا حدَّاد سيوف، ولا أعمل لدى تاجر قماش تافه.»

واصل رولاند حديثه غير مُلتفت إليه قائلًا: «هذا الموعد في الساعة العاشرة، وأتوقَّع أن أعود إلى هنا قبل العاشرة والنصف؛ ومن ثمَّ …»

«ومن ثمَّ علينا ألا نَشرب النبيذ كله.»

«بالضبط.»

جلس قائدهم حين دخل صاحب الحانة، مَتبوعًا بمُساعِدِه، يَحمل أدوات الطعام للوجبة العامرة، وتقدَّم ليُحضِر المائدة.

حين انتهَت الوجبة المُمتعة، جلستِ الصحبة لمدة نصف ساعة أخرى لتناوُل الخمر، ثم قام رولاند وثبَّت سيفه ووضع عباءته فوق كتفَيه.

«رولاند، أتمنى ألا تكون قد بعتَ رُوحكَ مقابل هذا الذهب؟»

«كلا؛ ولكني رهنتُ أجسادكم، وجسدي أيضًا. جريسل، هلَّا تقوم بدور السكرتير وأمين الخزانة! تفحَّص فاتورة صاحب الحانة بعين السخاء، وسدِّد له المبلغ الذي نَدين به له. وإذا تبقَّى أي شيء، فسنُوزِّعه علينا بالتساوي»، وما إن قال هذا حتى لوَّح لهم بيده، وغادر وسط جولة من الهتافات؛ نظرًا لأن الشباب النشطين كانوا قد سئموا البطالة.

الالتزام بالمواعيد من شِيَم الحُكام، ومع إعلان أجراس فرانكفورت الساعة العاشرة مساءً، كان رولاند يطرق باب منزل التاجر في شارع فارجاسه. وعلى الفور، فتحه البواب العَجوز، الذي قاد الشاب بعد أن أغلق الباب مرة أخرى للصعود إلى السلَّم المتين المؤدي إلى غرفة المكتب في الطابق الأول.

وما إن دخل الأمير حتى وجد التاجر يَجلس على كرسيه المعتاد، كما لو أنه لم يبرح المكان أبدًا حيثما تركه رولاند في ظهيرة ذلك اليوم. ألقت ستُّ شُموع بسطوعها الرقيق على الطاولة، وعند أحد أركانها، بالقرب من مِرفق السيد جوبل الأيمن، رأى الزائر صرةً جلدية مُمتلئة عن آخرها، والتي ظنَّ أنها ربما تحتوي على الألف تالر.

قال الشاب وهو يَخلع قلنسوته: «مساء الخير، سيد جوبل.» ثم أضاف: «أتمنى ألا أكون قد جئتُ قبل موعدي، ومن ثمَّ آخذُك من احتفالاتك قبل الأوان، وأثق بأن أكثر ما تَستمتِع به هو استنشاق هواء الحرية مرةً أخرى.»

«كان الاجتماع جدِّيًا، يا سيدي، لا احتفاليًّا؛ فعلى الرغم من أنني سعيد برؤية أصدقائي القدامى مرة أخرى، وأعتقد أنهم سعدوا برؤيتي، فإن أوضاع المدينة تزداد سوءًا بسرعة لدرجة أن التجار لا يُمكنهم أن يَفرحوا حين يَجتمعون معًا.»

«أها، حسنًا، سيد جوبل، سنُصلح كل هذا قريبًا. كم ستَستغرِق من الوقت لتملأ قاربك بالبضاعة وتختار طاقمك؟»

«كل شيء يُمكن أن يكون جاهزًا بحلول مساء بعد الغد.»

«ستختار واحدة من أكبر مراكبك. تذكَّر أنها لا بدَّ أن تُؤوي واحدًا وعشرين رجلًا على متنِها بالإضافة إلى الطاقم والبضائع.»

«أجل، سأتأكَّد من أن الترتيبات الكاملة قد تمَّت لأجل راحتك.»

«شكرًا لك. ولكن لا تُقدِّم قدرًا كبيرًا من الرفاهية. هذا ربما يثير شكوك البارونات الذين يُفتِّشون المركب.»

«ولكن البارونات سيرَونك أنت ورجالك في المركب.»

«لا أظن ذلك. على الأقل، نحن لا نعتزم أن يرانا أحد. سأزورُك مرةً أخرى غدًا في العاشرة مساءً. هلا تطلُب بكلِّ لُطفٍ من قبطانك أن يلتقي بي هنا؟ أتمنَّى أن تعطيه الأوامر في حضوري بأن يفعل أيَّ شيء أطلبه منه. سننضم إلى المركب على نهر الراين بين إيرنفيلس وأسمانسهاوزن. مُرْه أن ينتظرنا في المنتصف بين المكانين، على الضفة اليُمنى. والآن، الأموال، إذا سمحت.»

قال التاجر، وهو يَنتصِب في جِلسته على كرسيه بمزيد من التيبُّس ويُربِّت على الصرة الممتلئة عن آخرها: «ها هو ذا المال.» ثم أضاف: «المال هنا إذا كنتَ قد أحضرتَ الوثيقة التي تُخوِّل لك الحصول عليه.»

«لقد أحضرتُها معي، يا سيدي.»

قال له التاجر آمرًا: «إذن، أرني إياها»، وهو يضبط نظارته بنبرة شخص لن يسمح لنفسه أن يُخدَع.

رد الشاب، وهو يقف أمامه، قائلًا: «بكلِّ سرور.» فَكَّ عباءته، وتركها تسقط عند قدميه، ثم أخرج سيفه ووجَّه حدَّه إلى رقبة التاجر.

فجأةً أدرك جوبل، الذي تلمَّس نظارتَه، خطورتَه، وانكمش إلى الوراء بقدرِ ما يسمح كرسيُّه، ولكن تبِعه حد السيف.

قال لاهثًا: «ماذا تقصد بذلك؟»

«أقصد أن أُثبت لك أن الحديد في هذه اللعبة يتفوَّق على الذهب. ورقتُكَ على الطاولة، تُمثِّلها هذه الصرة. أما ورقتي فهي لا تزال في يدي، لم ألعبها بعد، ولكنها تتطلب الحيلة، على ما أظن. أتمنَّى أن ترى أن المقاومة عديمةُ الفائدة. ولا يُمكنك حتى الصراخ؛ لأنه مع المحاولة الأولى طعنة واحدة من هذا النصل سيَقطَع أحبال الصوت. سيكون من السهل عليَّ الهروب لأنني سأخرج بهدوء ومعي الصرة تحت عباءتي، لأُخبِر البواب بأنك لا ترغب في أن يُزعِجَك أحد.»

قال السيد جوبل: «أنت أمير اللصوص إذن.»

«سيتَّضح ذلك. مرِّر صُرة الذهب هذه عبر الطاولة بيدك اليُمنى، وتوسَّل إليَّ لأقبلها.»

فعل التاجر على الفور ما أُمر به.

أعاد الشاب السيف إلى موضعه مرةً أخرى، ضاحكًا في ابتهاج، ولكن لم يأتِ الرد بابتسامة على وجه السيد جوبل. كما قال، الأوضاع في مدينة فرانكفورت، لا سيما في تلك الغرفة، لا تَبعث على المرح. سحب رولاند كرسيًّا، دون أن يدعوه أحد لذلك، وجلس على الجهة المقابلة من الطاولة.

وحذَّره قائلًا: «من فضلك، لا تحاول الاندفاع نحو الباب؛ لأنني أستطيع بكل سهولة أن أعترض طريقك؛ نظرًا لأنني أقرب إليه منك، وأكثر نشاطًا منك. استعن بالحكمة وتقبَّل كلَّ ما يحدث بهدوء. أؤكد لك أن هذه هي الطريقة المثلى، والطريقة الوحيدة.»

فكَّ الحبل وسكب العملات الذهبية على الطاولة. راقبه التاجر في ذهول. فجميع اللصوص يَعرفون أن الباب ربما يُفتح في أيِّ لحظة، ولكنه واصل عد العملات في عدم اكتراث وكأنه يَجلس في مكتب خزينة بورصة الذرة. وحين وصَل إلى عدِّ نصف العملات الموجودة في الصرة، سكب حفنات من العملات في المحفظة التي تحتوي على إسهام والدته، ودفع الصرة ناحية التاجر، والتي تبقَّى فيها خمسمائة تالر.

ثم قال وهو يَبتسِم ويعتدل في جِلسته المنحنية إلى الأمام: «لتعرف أنني حين زُرت والدتي بعد ظهيرة اليوم، أعطتني على نحوٍ غير متوقَّع خمسمائة تالر. ولذا سأقبل منك فقط نصف المبلغ الذي طلبتُه اليوم.»

صاح التاجر: «والدتك!» وتابع: «مَن تكون والدتك؟»

«الإمبراطورة، كما قلتُ لك. أوه، في النهاية، أتفهَّم عدم ارتياحك. كنتَ تَرغب في رؤية تلك الوثيقة! لماذا لم تَطلُبها؟ لقد طلبتُ منكَ المال بكل بساطة. حسنًا، ها هي ذِه. تفحَّصِ الختم والتوقيع.»

تفحَّص التاجر الختم العظيم والتوقيع فوقه بكل دقة.

تلعثمَ السيد جوبل في النهاية وهو يُحدِّق عبر الطاولة وارتسمت على وجهه الحيرة قائلًا: «لا أعرف ماذا أقول الآن.»

«قل كم أنا حظي سعيد! قبل لحظات، كنتَ تظنُّ أنكَ فقدتَ ألف تالر. والآن لقد استثمرت خمسمائة تالر فقط، وأصبحت شريكًا مع العائلة الإمبراطورية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤