الفصل الرابع

الرحلة المضنية للأب أمبروز

كانت شمس المَغيب الصيفية تعلو الجانب الغربي من قلعة ساين، عاكسةً ظلَّ هذا الصرح، الذي يعود تاريخ تشْييده للقرن العاشر، على المرج الموجود في الوادي العُلوي. وحينما أطلَّت فتاة جميلة في الثمانية عشرة من عمرها من شُرفتها البارزة من الجانب الشَّرقي لقلعة ساين وكأنَّها طائر سنونو يُطلُّ من عُشِّه، كانت تَنظر مُتأمِّلة مُستنِدة بذراعَيها على سور الشُّرفة، الذي خفَّف من قسوة سطحه الحجريِّ المَلمَسُ الناعم للرداء المُزخرَف الذي كانت ترتديه والذي انساب فوقه. مثَّل هذا الرداء الفضفاض — الذي أحضَرَه من الشَّرق أحدُ أسلاف هذه الفتاة ممَّن شارَكُوا في الحملات الصليبية — رُقعةً زاهية تجمع بين اللونين القرمزي والذهبي في مقابل الجانب الكئيب من القلعة.

تابعت الكونتيسة الشابة هيلديجوندي فون ساين تَثاقُل خُطى الراهب القادِم باتِّجاه القلعة والتعب البادي على وجهِه وهو يُجاهد صاعدًا جانب التلِّ في ظلِّ القلعة وكأن ظلها البارد يُظهر له امتنانه. ولم يَحرِم الأب المبجَّل، الذي يَنتمي إلى طائفة البندكت العمَلية جدًّا والتي تنصُّ عقيدتها على أن العمل جزء من العبادة، نفسَه من التمتُّع بهذا الملاذ المؤقَّت بعد أن لفحتْه أشعة الشمس التي غمرته طوال اليوم.

نظر إلى الأعلى وهو يَقترب من القلعة ورأى الفتاة وهي تُمنِّي نفسَها بالمُهمة الطائشة التي ستقترحها، فلوَّح لها بيدِه وردَّت عليه بلُطف بلَفتة مُماثلة.

في الحقيقة، على الرغم من احتمالية مُعارضة الراهب الشديدة للقرار الذي توصَّلت إليه السيدة الشابة؛ فقد كان هناك الكثير من الأمور المؤيدة له. فقد تلقَّت تعليمًا جيدًا وربما كانت أغنى وريثة في ألمانيا، وكانت فائقة الجمال وهي الحقيقة التي أيقنتْها راهبات دير نونينويرث الصالحات، ولكنهن حرصن على إخفائها عنها، وعلى الرغم من أن وادي ساينباخ كان ملاذًا آمنًا باعثًا على الطمأنينة، فإن ذلك لم يمنع تسلُّل الشعور بالوحدة إليها وتشوَّقت إلى معرفة شيء عما يدور في الحياة والبلاط الملكي في فرانكفورت، وهو ما كانت تستحقُّه بالتأكيد بالنظر إلى مكانتها العالية.

صحيح أنها وصلت إليها إشاعات مُزعجة بشأن وضْع العاصمة إلا أنها عزمت على التأكُّد من صحة هذه الأقاويل من مصدر موثوق؛ لهذا اختارت الأب أمبروز المعارض لهذه الفِكرة ليُسافر جنوبًا ليتحقَّق لها مما إذا كانت إقامتها المؤقتة في فرانكفورت ستكون آمنة أم لا.

لقد تجاوز الأب أمبروز الستين من عمره، ولو كان ينتمي إلى الدنيا، لا إلى الدين، لحصل على اسم هنري فون ساين. وكان انتماؤه لطائفة البندكت تجسيدًا لحقيقة أن المال لا يُمكنه تحقيق كل شيء. كان سلفه الشهير — أو بالأحرى السيئ السمعة — كونت فون ساين هنري الثالث الذي تُوفِّي عام ١٢٤٦ لصًّا وقاتلًا، أثار رعبًا حقيقيًّا على طول نهر الراين. ونظرًا لوجود حصنه بعيدًا عن الأنظار في وادي ساين، على بُعد نصف فرسخ من النهر العظيم؛ فقد كان في وضْع يُؤهله للنهب. لقد ملأ مَخازنه بالبضائع التي سلَبها من السفن التي تَعبُر النهر، وبالذهب الذي استولى عليه من التجار التُّعساء وهم في طريقهم إلى هنا. وكان تركيزه موجَّهًا للسرقة أكثر من قطع الرقاب وبعد أن مضت السنون وصار فاحش الثراء حينها فقط استيقظ ضميره الذي ظن الجميع أنه قد مات. ولإراحة ضميره شيَّد دير ساين ومنَحه لرهبان ذلك المكان. ولكن عندما حان أجله راودتْه المَخاوف بشأن المصير الذي ينتظره بعد موته وهي مَخاوف مُبرَّرة؛ لذا حاوَل تطهيرَ ثروتِه التي لم تَعُد لها فائدة بأن وهبَها للكنيسة، وبإتمامه تلك الصفقة ضمن لنفسِه أن يَرقد جسده بسلام في القبر الذي أعدَّه لنفسه داخل جدران الدير.

دُفنَ جثمانه بعد مراسم جنائزية مهيبة، وبذَلَ الرهبان ما بوسعِهم للوفاء بجانبهم من الاتفاق الذي وهَبَهم ثروته على أساسه. بُني قبرُه بحجارة ثقيلة للغاية حتى لا يستطيع أي شبح عادي أن يتسلَّل من بينها، ولكن زيادة في الاطمئنان وضعوا جذع شجرة ضخمًا فوقه وثبَّتوه جيدًا بأربطة حديدية خفية، وحتى لا يَنكشِف الغرض من استخدام هذا الجزع نحته الرهبان ليُشبه ملامح هنري ذاته حتى بدا وكأنه تمثال راقد للكونت الوغد الراحل.

إلا أن خُطتهم باءت بالفشل رغم كل هذه الاعتبارات؛ ففي زيارتهم التالية لقبره وجدوا التمثال راقدًا على الأرض ووجهه مواجهٌ للأرض، وكأنَّ قوة هائلة خفية طرحته فوق البلاطات الحجرية للأرضية. ولم يُجدِ استبدال التمثال وحراسة القبر نفعًا. فكان الحراس يغالبهم النعاس دومًا وحين يُفيقون يجدون وجه التمثال الخشبي الكبير على أرضية الدير محدقًا لأسفل في الاتجاه العكسي، بعد أن كان محدقًا قبالة السقف قبل قليل في آخر لحظات يقظتهم، وهو ما اعتبره الرهبان على نحوٍ ما دلالة على مصير مشئوم.

كان كونت فون ساين الجديد ووريث لقب الراحل هنري الثالث وضَيعته رجلًا تقيًّا جادًّا يَختلِف تمامًا عن سلفه الطائش. وكان بطبيعة الحال مُتحيرًا بشدة بشأن سلوك التمثال الخشبي. في البداية لم يؤمن بالظواهر التي تحدُث رغم تأكيدات الرهبان له، وبعدها أعرب الرهبان البسطاء عن أسفهم العميق لذكر أي ظواهر. وتولَّى الكونت الجديد مهمة مراقبة القبر بنفسه، وأخذ يسير طوال الليل أمام قبر هنري الثالث. لم يكن بالرجل الذي ينام في أثناء تأديته لمهمة مهيبة كتلك، وكانت نتائج مراقبته مُذهلة جدًّا لدرجةِ أنه في الصباح جمع الرهبان معًا في القاعة الكبرى بالدير ليرويَ تجربته لهم.

لقد انقلب التمثال الخشبي وسقط على الأرض كالمُعتاد، ولكنه هذه المرة تأوَّه عند سقوطه. أثار هذا الصوت الحزين الرعب في قلب المُراقب الوحيد الذي اعترف الآن بأسَفِه لرفض عرض الرهبان مشاركته نَوبة مُراقَبة منتصف الليل. ومع ذلك فإن الشجاعة تُعدُّ إحدى السمات المعروفة لدى كونتات ساين وهي صفة يمتلكها الحامل الجديد للقب الكونت، إلى جانب تقواه؛ إذ على الرغم من اعترافه بأنه راودتْه أحيانًا فكرة الهروب وطلب المساعدة من الرهبان، الذين كانوا على أتم استعداد لذلك؛ فقد ظل ثابتًا في مكانه وبصوت مرتجف سأل عما يُمكنه فعله إرضاءً لقريبه المتُوفى.

أجابه التمثال ووجهه لا يزال مواجهًا للأرضية الحجرية بأنه يَستحيل أن يرقد الكونت الملعون الراحل بسلام ما لم يتحمَّل وريث ألقابه وأراضيه مسئولية الخطايا التي ارتكبها هنري خلال حياته، بينما يجب أن يُصبح أحد أفراد أسرته الأصغر سنًّا راهبًا ينتمي لطائفة البندكت ليتشفَّع له يوميًّا حتى تستريح روحه.

تابع النبيل المتدين كلامه قائلًا: «بتردُّد بالغ، أبديت موافقتي على هذا الاقتراح البغيض شرطَ أن ينال قبول رئيس الدير والإخوة في دير ساين آملًا أن تكون حياة الاستقامة الدائمة التي أعيشها، إلى حدٍّ ما على الأقل، شفيعًا كافيًا لغفران خطايا هنري الثالث، وأنا واثق بأنكم إذا أعطيتموني هذه الموافقة المقدَّسة التي أطلبها منكم الآن فإن هذا سيزيل أي شكوك حول صحة الوعد الذي قطعته.»

عندئذٍ انحنى الكونت أمام رئيس الرهبان المتوَّج، وباكتراث أقل، للإخوة المجتمعين. نهض رئيس الرهبان وبكلمات قليلة موزونة شكر النبيل على تضحيته وتنبَّأ بأن يساهم ذلك بشدة في سعادته الروحية. أما هو فلم يتردد في إعطاء الموافقة المطلوبة، لكن بالنظر إلى أن الكونت اشترط موافقة الإخوة فقد طلب الآن موافقتهم.

جرى ذلك بإجماع صامت وعندها تحدَّث كونت فون ساين، متنهدًا بعمق وكأنه يقبل حمل عبء ثقيلٍ لا يَقدر عليه، بنبرة حزن في صوته.

فقال: «أنا لا أجرؤ على التشكيك في حكمتكم أو التراجع عن المهمة التي أخذتها على عاتقي. فما أنا إلا إنسان في النهاية، وحتى هذه اللحظة كنتُ أتمنى، عبثًا للأسف، أن يكون في مكاني مَن هو أجدر منِّي. وما يُقلقني حقًّا هو الجزء الأخطر من المهمة الذي ذكره التمثال الخشبي في كلماته الأخيرة. سيَحين الوقت الذي تصبح فيه صلوات أصغر فرد في عائلتي الذي سيصبح راهبًا، قادرةً على أن تَمحوَ الخطايا التي ارتكبها سلفي، ولكن الذهب المكتنز يحمل معه لعنة مستمرة لن يمحوها سوى جعل كل عملة تعود بالفائدة على التجار الذين تعرَّضوا للنهب. لذا يجب عليَّ أن أتحمَّل الدنس الذي لحق بهذه النقود لأنه يزيد من معاناة سلفي الذي، دون أن يُدرك ما كان يفعل، ورث هذا الإرث الخبيث للدير الذي أسَّسه. أنا مُطالب بإقراضها في فرانكفورت، بأمان تام وفائدة مناسِبة، بحيث يُمكننا تشجيع وتحسين التجارة هناك، تمامًا مثل كومة من السماد التي رائحتها كريهة وتدنِّس يد مَن يلمسها ولكنها حينما تُنثر في الحقول تنتج الزهور والثمار والطعام، وتنشر السعادة والبهجة في أجسادنا البشرية.»

انحنى الكونت للمرة الثالثة أمام الحضور، وغادَرَ بخُطوات حزينة ووجه بائس، عندئذٍ رأى الإخوة أنهم قد جُرِّدوا من الثروة التي كانوا يَطمحون للتمتُّع بها، وفاقت تأوهاتهم بلا شك التأوه المُنبعث من التمثال المنحوت الذي يُمكن رؤيته اليوم في متحف قلعة ساين الحديثة لمن يهتم بدفع خمسين فنيكًا رسم الدخول.

حدث كل هذا منذ أجيالٍ مضت قبل أن تتولَّى الكونتيسة هيلديجوندي شئون قلعة ساين، أما الأب أمبروز فكان حلقة الوصل مع هذا الماضي؛ إذ كان سليل ساين الحالي الذي بصفته أحد المُنتمين لطائفة البندكت كان يحرص على أداء الصلوات يوميًّا ترحُّمًا على روح هنري الثالث الملعون. ولكن الذهب الذي نجح الخليفة التالي مباشرة لهنري أن يحصل عليه ببراعة من أيدي الرهبان بدا أنه مباركًا وليس ملعونًا؛ لأنه تضاعَف أضعافًا هائلة بين يدي هذا المُدير الماكر في فرانكفورت، وأكَّد مُروِّجو الإشاعات أنه بجانب أموال الربا التي تلقَّاها الكونت التَّقيُّ فقد استغل السفن المحمَّلة بالكنوز التي يُسيِّرها التجار في نهر الراين بنجاح مُماثل لنجاح هنري الدنس؛ بل فاقه. وبهذا أصبح بيت ساين من أغنى بيوت ألمانيا.

كان الراهب المسن والكونتيسة الشابة تجمعهما صلة قرابة بعيدة، لكنه اعتبرها ابنته وكانت تشعر بالفعل أنه أبوها، بخلاف المعنى الروحي.

عمل أمبروز البندكتي في شبابه بالبلاط الملكي في فرانكفورت نظرًا لبلاغته في الحديث وأيضًا لمكانته الأرستقراطية. وأصبح لاحقًا مُستشارًا روحيًّا ودنيويًّا للأسقف الكبير، رئيس أساقفة كولونيا، وبصفةِ رئيسِ الأساقفة وصيًّا على كونتيسة فون ساين فقد أرسل الأبَ أمبروز إلى قلعةِ سلفِه ليتولَّى رعايةَ شئون ساين، على الصعيدين الديني والدنيوي. وزادت ثروات بيت ساين تحت حكمه الرصين ورغم أنه سبَّب هذا الرخاء، فإنه لم يكن له نصيب فيه؛ إذ كان كما كتب عن المنتمين لطائفة البندكت:

«لقد نالوا مكانتهم المرموقة على مرِّ التاريخ بصفتهم راعين للبشرية من خلال كونهم معلِّمي الزراعة الحديثة ومجفِّفي الأحواض والمستنقعات ومُزيلي الغابات ومُمهِّدي الطرق وحرَّاث الأراضي المُستصلَحة والمهندسين المعماريين القائمين على بناء المباني العتيقة والفخمة، ومقدمي نوعٍ واضح من الإدارة المنظمة، ومرسِّخي فكرة أن السلام يفوق الحرب باعتبار ذلك الوضع الطبيعي في الحياة، وطلابًا في المكتبة التي أقرَّها الحكَّام في كل دير، ومعلمين لا يستقبلون طلابهم المرشَّحين للرهبنة فقط ولكن أبناء العائلات العلمانية أيضًا.»

•••

حين أتى إليها الأب أمبروز أخيرًا، صاحت الفتاة قائلة: «أوه، أيها الأب أمبروز، كنت أُراقبك وأنت قادم من بعيد. كنتَ تمشي بخُطوات مُتثاقلة وقد زاد انحناء كتفيك. إنك تُرهق نفسك في سبيل خدمتي وهو ما لا يُمكنني السماح به. لقد عُدتَ مُتعَبًا هذه الليلة.»

أجاب الراهب بابتسامة: «التعب ليس جسديًّا.» وتابع: «فرأسي يَنحني بسبب التأمُّل والصلاة وليس الإرهاق. في واقع الأمر، الآخرون هم مَن يؤدون العمل اليدوي الشاق بينما أنا أكتفي بالتوجيه والإرشاد. حتى إنني أُفكِّر في بعض الأحيان بأنني عبء ثقيل في حقل الكروم، وأنني كسول أستخدم عقلي بدلًا من يدي.»

صاحت الفتاة: «هذا هراء! — لولاك لأصبح حقل الكروم أرضًا قاحلة؛ وهذا الحديث يُذكِّرني بأنَّني ملأت بيدي تلك كأسًا من أعتق وأفخم أنواع النبيذ في أقبيتنا، ولا أسمح لسواك أن يَنعم بمذاقه. أرجوك اجلس واشرب.»

ابتسم العجوز الحكيم مُتسائلًا: أيُّ فخٍّ حسن النية ينتظره؟ وأخذ بكأس النبيذ ورفعها إلى شفتيه وبالكاد أخذ رشفة واحدة. وجلس بعدها ونظر إلى الفتاة وهو لا يزال يبتسم. وواصلت الفتاة حديثها سريعًا وبدا تورُّدٌ خفيف على خديها الجميلين.

«أيها الأب، إنك أكثر أهل الزراعة صبرًا، ولا تعرف الكلل، ولا تدَّخر أنت ومَن معك جهدًا، ولكن من الخطر أن تُصبح ريفيًّا مُنقطعًا عن الشئون العظيمة التي تدور في هذا العالم.»

«وهل هناك أعظم يا صغيرتي من زيادة إنتاجية الأرض وتدريب الرجال على توفير كل احتياجاتهم من الأرض الخصبة؟»

صدَّقت الفتاة على كلامه وقالت بعينين متلهفتين: «ولكن الاستمرار في العمل سيرهقك بشدة في نهاية المطاف حتى وإن كان في فعل الخيرات. وإذا كان الأجير يستحقُّ أجْرته التي يَتقاضاها نظير عمله، فلا شك أن سيده يستحق المِثل. إذن، لا بد أن تستريح، وبما أنني أعلم ولَعَك بالسفر فقد خططتُ لك القيام برحلة.»

تناول العجوز رشفة أخرى من النبيذ.

وسألها: «إلى أين؟»

«أوه، رحلة يسيرة؛ فقط إلى مدينة فرانكفورت الإمبراطورية، للتجوُّل بين ذكريات صِباك، ولتخصيص بعض الوقت لتمارس الأنشطة التي يمارسها رفاقك. لقد قضيت وقتًا طويلًا مع مَن هم أدنى منك فكرًا وثقافةً، وأنا واثقة أن لقاءك أمثالكَ سيُعيد تنشيط ذهنِك كما يفعل النبيذ المعتَّق هذا بالجسد، فقط لو طاوعتني وشربته، رغم شكِّي بأنك ستُقابل مَن هم مثلك حتى في فرانكفورت.»

أومأ الأب أمبروز برأسِه بهدوء.

وقال: «ما سمعتُه عن فرانكفورت يقول بأنها بعيدة تمام البُعد عن كونها مدينة ملهمة. في شبابي كانت بالفعل رمزًا للبهجة والعلم والازدهار، لكنها باتت الآن مدينة الخراب.»

«أيها الأب، أنت تعلم أن الشائعات التي تَصل إلى مسامعنا ربما يكون مبالغًا فيها، وحتى إن كانت المدينة نفسها كئيبةً، وهو ما أشكُّ في صحته، فأنا واثقة أن أروقة البلاط الملَكي وقصور النبلاء ستكون مليئة بالبهجة والمرح.»

«وما شأني أنا بالبلاط أو القصور؟ فواجبي يكمن هنا!»

صاحت الفتاة بمكر: «ربما يكون هذا جزءًا أيضًا من واجبك. إن كانت فرانكفورت بالفعل في وضعٍ سيئ، فربما تكون مشورتك الحكيمة ذات نفع هائل. فيبدو أن الخير يَجري بين يديك كما أنك كنتَ أحد رجال الدين بالبلاط الملَكيِّ ذات يوم، ولا شك أنك لم تَفقِد اهتمامك بمهمتك السابقة بالكامل، أليس كذلك؟»

مرةً أخرى أضاءت ابتسامة هادئة جذابة وجه الراهب بملامحه المُنهَكة، ثم سألها صراحةً هذا النوع من الأسئلة التي تجعل مَن توجَّه إليه يشعر بالحرج في بعض الأحيان، فقال:

«ابنتي هيلديجوندي، ماذا تُريدين؟»

أجابتْه الفتاة وهي تَعتدل في جِلستها: «حسنًا أعترف أنني أشعر بالوحدة. إن رتابة العيش بين جدران هذه القلعة تفوق طاقتي وهذا الضجر المُستمر الذي يُحيط بي هنا يجعلني أشعر بأنني أشيخ قبل الأوان. أتمنَّى أن أستمتع بقضاء شهر أو اثنين في فرانكفورت، ولا شكَّ أنك خمَّنت أنني أُرسلك أولًا كرسول لي لاستطلاع أحوال البلاد.»

«في هذه الحالة، يا ابنتي، سيتعيَّن عليكِ تقديم التماس إلى الأسقف الكبير هذا، رئيس أساقفة كولونيا؛ فهو وصيُّك.»

صاحت الفتاة مُؤكِّدةً: «كلَّا، كلَّا، كلَّا، كلَّا! أنت بذلك تَخلِط الأمور بعضَها ببعض. فقبل أن أُزعج مَعالي رئيس الأساقفة بطلبي لا بدَّ أن أعرف أولًا ما إذا كان ذلك مُمكنًا أم لا. وإن كانت المدينة بالفعل في حالة اضطراب فبالطبع لن أُفكِّر بالذهاب إلى هناك. هذا كلُّ ما أردتُ معرفته، ولكن إن كنت خائفًا فما باليد حيلة.» وهزَّت كتفَيها وبسطت يدَيها.

وهنا ضحك الراهب العجوز، كما لم يَضحك من قبل.

«هيلديجوندي، يا لكِ من ماكرة، ولكن هذا ليس ضروريًّا. فلا داعيَ لأن تدفعيني لفعلِ ما تُريدين بالتشكيك في مدى شجاعتي وهي الصفة التي يُشتهَر بها عِرقنا. سأذهَب أينما ووقتما تأمُرينَني وسأَنقُل لكِ بصدقٍ كلَّ ما أراه أو أسمعه. وإن بدا الوقت مُناسبًا لزيارتك لفرانكفورت، وإن وافَق وصيُّكِ فلن أُبديَ أيَّ اعتراض.»

«اعذُرني أيها الأب العزيز؛ فأنا لا أقصد أن يبدوَ هذا أمرًا عليك طاعته.»

«لا عليكِ؛ فقط اطلُبي ما تشائين. سأَنطلِق صباح الغد.»

سألته الفتاة بلهفة شديدة: «عبر الراين؟» ولمعَت عينا الرجل العجوز اندهاشًا من سرعة قبولها لعَرضِه.

وقال: «أعتقد أن الرحلة برًّا فوق التلال ستكون أكثر أمانًا. لقد ظلَّ لصوص نهر الراين عطشى لأيِّ فريسة تقع بين أيديهم وربما يَنسَون أنني لستُ سوى الأب أمبروز؛ ذلك الراهب الفقير، وربما يَنظُرون إليَّ بصفتي هنري سليل بيت ساين الثري، وربما يَحتجزونَني للحصول على فِدية. فلن أكون سببًا للصراع طوعًا؛ لذلك سأذهب عن طريق ليمبورج على رافد لان، وهناك أزور صديقي العزيز الأسقف، وأَستمتع مرة أخرى بمَشهد الكاتدرائية القديمة الواقعة على الجَرف بجوار النهر.»

عندما استيقظَت الكونتيسة الشابة في صباح اليوم التالي واستعادَت الأحداث التي دارت البارحة، تذكَّرت إحجام الأب أمبروز عن القيام بالمهمَّة التي خطَّطت لها دون موافَقة رئيس الأساقفة واجتاحها شعور بالندم. ووبَّخت نفسها على أنانيتها وقرَّرت أنها ستُرسل التماسًا إلى وصيِّها رئيس الأساقفة وأنها ستَمتثِل لقراره.

وعندما أنهَت إفطارها طلبت من خادمتها أن تستدعيَ لها الأب أمبروز، ولكن أتتها أخبارٌ مزعجة بدلًا من الراهب.

«يقول كبير خَدَمه إن الأب أمبروز غادَر القلعة فجر اليوم، ولم يأخذ معه سوى بعض المُؤن التي تكفيه لرحلة مدتها ثلاثة أيام.»

سألت سيدة ساين: «ذهب في أيِّ اتجاه؟»

«ذهَب إلى الوادي على ظهر حصان بعد أن سأل عن الطريق إلى ليمبورج على رافد لان.»

قالت الكونتيسة: «أها!» وتابع: «لقد تحدَّث بالأمس عن قيامه بهذه الرحلة لكنَّني لم أعتقد أنه سيُغادر مُبكرًا هكذا.»

كانت تلك بداية القلق الهائل الذي أصاب سيدة القلعة. لقد أدركت في الحال أن هذا المَسعى لا طائل منه؛ فالفجر يَبزُغ مُبكِّرًا في فصل الصيف والأب الصالح شقَّ طريقه منذ خمس ساعات مضَت بالفعل؛ ذلك الطريق الذي يَثِق بأنه سيتُوه فيه عدة مرات قبل أن يجد سبيله إلى العاصمة. لو كان رسولًا عاديًّا لشعر بالرهبة، ولكن الأب المتأمل سيَذهب حيثما يحمله فرسه وحينما يفيق من تأمُّلاته وصلواته سيَسأل عن الطريق ويُكمل مسيرته. بعد مُضيِّ يوم أو اثنين جاءت رسالة مَفادها أنه نزل في ضيافة أسقف ليمبورج، ولكن بعدها لم تَصِلها منه أي أخبار.

مرَّ أسبوعان تقريبًا حتى تلقَّت هيلديجوندي أخبارًا من الجانب الآخر، وهو ما زاد من مخاوفها المُؤلمة. لقد كانت رسالة من وصيِّها في كولونيا يُخبرها بأنه سيلقاها خلال أسبوع بقلعتِها في ساين.

واختتم رئيس الأساقفة الرسالة بقوله: «أمور في غاية الأهمية لي ولكِ تلوح في الأفق. وسأُوجِّه لكِ دعوة لاجتماعٍ رسميٍّ يضمُّ زميلَي كبير أساقفة ماينتس وكبير أساقفة تريفيس في حصن ستولزينفيلس معقل الأخير شمال كوبلنتز. في اللحظة التي ندخل فيها هذا الحصن، سأتوقَّف عن أن أكون وصيًّا عليكِ، مؤقتًا على الأقل، وسأُصبح أحد القادة الثلاثة فقط. لكن على الرغم من احتمالية جُلوسي عابسًا كأحد الأمراء الناخِبين، تأكَّدي بأنَّني سأظلُّ دائمًا صديقك. أخبري الأب أمبروز أنني أودُّ التشاور معه بمجرَّد وصولي إلى قلعتك، وأنه لا بدَّ أن يَلقاني أولًا وألَّا يتغيَّب عن الحضور لأيِّ عذر.»

وهنا تمامًا كانت تَكمُن المشكلة؛ فقد اختفَى الأب أمبروز تمامًا وكأنما ابتلعتْه تنانين تونوس. لم يَسبق أن انقطعت أخباره عنها في أيٍّ من رحلاته السابقة، حتى تلك الرحلات التي كان رئيس الأساقفة على علمٍ بها، ولكن ليس هذا هو الحال هذه المرة التي هي الوحيدة التي على علمٍ بالأمر. لقد راودتْها أسوأ الهواجس جراء هذا الصمت الهائل. ولك أن تتخيَّل إذن مدى الراحة التي ستَشعُر بها إذا رأتْه عائدًا عبر الوادي، بعد أسبوعين تمامًا من مغادرته لقلعة ساين. وكما رأته آخر مرة، فقد كان يَسير على قدميه ساحبًا فرسه الذي لم يَعُد يقوى على السير.

لم تُلقِ بالًا لآداب السلوك وهُرعت على الدرج وركضت لتُرحِّب بصديقها أشد الترحيب.

أدركت بحزن أنه مُنهَك، والابتسامة التي رسمها على شفتيه لتحيتها كانت فاترة ومثيرة للشفقة.

صاحت قائلة: «أوه، أيها الأب! ما الذي حلَّ بك؟ لقد ملأتْني الشكوك والخوف حين لم يَصِلني منك أيُّ خبر منذ رسالتك عندما كنت في ليمبورج.»

قال العجوز بهدوء: «لقد كنتُ سجينًا ولم يُسمح لي بالتواصُل مع أيِّ شخص خارج زنزانتي. إنها قصة طويلة ومُحزنة، وهي أسوأ من جميع القصص التي تُنذر بالسوء بالنسبة للإمبراطورية. كان من المفترض أن أصل مُبكرًا هذا الصباح، ولكن حصاني المسكين الصبور أصيب بالعرج.»

ردت الفتاة بسخط: «نعم! وبالطبع آثرتَه على نفسك!»

وضع الراهب يده اليسرى بحنان على كتفها.

وقال: «كنتِ ستَفعلين الشيء ذاته، يا عزيزتي»، ونظرت إليه بابتسامة عذبة. كانا أقارب؛ لذا فإن انتقادها لأيِّ صفة من صفاته سيكون على نحوٍ ما انتقادًا لنفسِها.

أخذ أحد الخدم الفرس الأعرج؛ بينما انتظره الآخر في حُجرته الصغيرة، التي كانت حجرة بسيطة مثل غرف الدير، ويُوجد بها القليل من الأثاث. بعد تفكيرٍ قليلٍ تلقَّى الأب أمبروز أمرًا قاطعًا بالراحة لمدة ثلاث ساعات كاملة، وأخبرتْه سيدة القلعة أنها لن تستقبله أبدًا قبل انقضاء هذا الوقت. تلقَّى الراهب المُتعَب هذا الأمر بالترحيب على الرغم من معرفته بمدى نفادِ صبر هيلديجوندي لتَعرف ما في جَعبته من أخبار، ونام بعد أن أعطى تعليمات بإيقاظه في التاسعة.

نزل في ذلك الوقت، وهو وقت العشاء في القلعة، ووجد وجبةً لذيذة تنتظره، وحولها إبريق من هذا النبيذ النادر الذي كان يرتشفه باعتدال.

قال: «نزلت مع إخواني في ديرهم الهادئ الصغير الموجود على الجانب الآخر من رافد ماين جهة فرانكفورت في ضاحية العُمال التي تسمَّى زاكسينهاوزن. وحتى إن لم أرَ بعينيَّ خراب المدينة حيث نَما العُشب الصيفي في العديد من شوارعها، لكان سماع الوصف المؤسف للوضع من جانب إخواني سيكون محزنًا بالقدر الكافي. يبدو أن السلطة تتهاوى. فقد فرَّ النبلاء عائدين إلى أراضيهم؛ لأن الدفاع في المدينة سيكون مُستحيلًا إذا اندلعت أعمال شغب عام؛ فأصحاب الفكر يتوقَّعُون حدوث تمرُّد عندما ينفد صبر العامة وينهكهم الجوع. حتى وقتنا هذا قُمعَت حالات العصيان المتفرِّقة بقسوة وسقط الرجال الجائعون وقد مزَّقتهم سيوف الجنود إلى أشلاء؛ ولكن الآن فقد تغلغل الشعور بالسخط بين صفوف الجيش نفسه بسبب نقص المؤن والأجور المؤجَّلة، وعندما يعلم العامة أن الجيش يَميل للانضمام إليهم بدلًا من التصدي لهم سيحلُّ الدمار على فرانكفورت بأكملها. الإمبراطور في معزل تحت تأثير الخمر، ويُقال إنه لن يصمد أكثر من ذلك؛ فقد استمر لفترة طويلة بالفعل؛ بينما الإمبراطورة في عزلتها وكأنها راهبة في دير.»

قاطعته الكونتيسة بسؤالها: «ولكن أين الأمير الشاب؟» ثم أردفت: «ماذا عنه؟ ألا يوجد أيُّ أمل إذا ما اعتلى العرش؟»

صاح الراهب: «آه!» ثم تنهَّد الراهب تنهيدة طويلة وهو يهز رأسه نافيًا.

«لكن أيها الأب أمبروز أنتَ عرفتَه صبيًّا، تقريبًا وهو شاب. لقد سمعتُك تتحدَّث عن كونه شخصًا واعدًا.»

«لقد أنكر معرفته بي، وأنكر هُويتَه؛ وهدَّد بقتلي بسيفه، وأخيرًا زجَّ بي داخل أحقر زنزانة في جميع أنحاء فرانكفورت!»

فزعت الفتاة لسماعها هذا الكلام. فإذا كان هذا النقد القاسي الموجَّه للوريث المنتظر صادرًا عن ناقد لطيف ومُعتدِل مثل الأب أمبروز فلا بد أن هذا الشاب أكثر دناءة حتى من والده الهمجي.

قالت الفتاة محدِّثة نفسها: «وماذا كنتِ تتوقعين غير ذلك؟» ثم تمتمت قائلة: «تابع حديثك وقُصَّ عليَّ ما حدث منذ البداية.»

قال: «في إحدى الأمسيات، وأنا أعبُر الجسر القديم من فرانكفورت إلى زاكسينهاوزن، رأيت شخصًا يَدنو منِّي بخُطًى واثقة، وشعرتُ بأنه مألوف لي، وعندما اقترب أدركت أنه الأمير رولاند، نجل الإمبراطور، على الرغم من أنَّ عباءته كانت تُغطي الجزء السفلي من وجهه كما لو كان يخشى أن يتعرَّف عليه أحد في وقت الغسق.»

صحت في دهشة: «صاحب السمو!» وفورًا استلَّ سيفه وسقطت العباءة التي كانت تُغطِّي وجهه، وظهرت شفتان تَكشفان عن شرٍّ مُخيف، وأدركتُ حينئذٍ أنني لم أكن مُخطئًا. وأخذ يتلفَّت سريعًا حوله من جانبٍ لآخر، ولكن الجسر الأشبه بالشوارع الصامتة كان مهجورًا. فوقفنا وحدنا إلى جانب الصليب الحديدي، وهناك تحت تمثال المسيح أنكر معرفته بي، ووجَّه حدَّ سيفه الحاد إلى صدري.

وقال: «كيف تجرؤ على مناداتي بهذا اللقب؟»

«أنت الأمير رولاند نجل الإمبراطور.»

وهنا ضغط بقوة أكبر على حد السيف الموجَّه لصدري.

وصاح قائلًا: «أيها الكاذب! ورغم زي الرهبان الذي ترتديه، إذا تفوهتَ بهذا البهتان مرة أخرى فستدفع حياتك عقابًا لك على الفور. أنا لا أب لي.»

«حسنًا سيدي، هل لي أن أسألك عن هويتك؟»

«يُمكنك أن تسأل، ولكن لا يوجد ما يدعوني لأجيب سؤالك. ولكن لا بأس سأُرضي فضولك الوقح وأُخبرك أنني حدَّاد، صانع سيوف، وإن كنتَ ترغب في اختبارِ جودةِ ما أصنع فما عليك سوى الاستمرار في استجوابك هذا. أنا أُقيم في حي العمال في زاكسينهاوزن، وأنا الآن في طريقي إلى فرانكفورت، وبالتأكيد لديَّ الحق في الدخول إليها دون أيِّ استجواب غير مُصرَّح به بموجب القانون.»

فقلت له: «في هذه الحالة أستميحُك عذرًا.» وأضاف: «فإن الشبه بينكما مُذهل للغاية. لقد شرفتُ بالعمل قسِّيسًا في البلاط الملكي ذات يوم، وهناك رأيت كثيرًا الأمير الشاب بصحبة والدته الإمبراطورة، تلك السيدة النبيلة بكلِّ ما تَحمله الكلمة من معنًى.»

وراقبتُ الشاب عن كثب وأنا أقول كلماتي تلك، وعلى الرغم من تمالُكِه لنفسه فقد جفل بنحوٍ ملحوظ، ورأيتُ لحظة تمييز في عينَيه. وأعاد سيفه إلى غمده مرةً أخرى، وقال بضحكة خافتة:

«أنا الذي يَجب أن أستميحك عذرًا على تسرُّعي وفظاظتي. أؤكد لك أنني أحترم الزي الذي ترتديه، ولم أكن لأعاملك بعنف تلقائيًّا. ولكننا جميعًا عرضة للخطأ في بعض الأحيان. أنا أُسامحك تمامًا وأثق أنك ستفعل معي المثل.»

قال هذا ورفع قبَّعته تحيةً لي وغادر وتركني واقفًا في مكاني.»

قالت الكونتيسة وهي مهتمة جدًّا بالقصة: «أرى بالتأكيد أنه غيَّر مجرى حديثه تمامًا.»

«أجل يا ابنتي؛ هذا الكلام لا يصدر أبدًا عن حدَّاد.»

«هل أنت مُقتنع أنه كان الأمير؟»

«لم أشكَّ في هذا ولو لحظة.»

«ولكن لنَفترض أن هذا صحيح أيها الأب أمبروز، أليس من حق الشاب أن يسير في شوارع عاصمته وحتى أن يَستكشِف حي العمال في زاكسينهاوزن إن أثار هذا اهتمامه؟ أليس من حقه أن يحمل سيفه ويذهب حيثما شاء؛ وهل من المشين جدًّا رفضه الإجابة عن أسئلة الغرباء؟ فقد باغتَّه على حين غفلة منه.»

أومأ الراهب برأسه، لكنه لم يُضيِّع وقته في تبريرِ فعْلِه.

وتابع حديثه قائلًا: «لقد تبعتُه عبر شوارع فرانكفورت الضيقة والمتعرجة وكانت مغامرة يسيرة لأن الظلام قد حل، وحتى إن كنا في وضح النهار كان المسار الذي سلكتُه آمنًا بالقدر الكافي؛ فهو لم يَلتفِت وراءه أبدًا، ولم يُبدِ أيًّا من سمات الشك التي تتميز بها طبقة العُمال هنا.»

قالت الفتاة بإصرار: «أظنُّ أن ما تقوله في صالحه.»

«لقد وصل إلى دَرَج راينجولد، وهو قبوُ نبيذ سيئ السمعة، وعلى الدَّرج غاب عن الأنظار. استقبلوه بصيحات وضجيج الكئوس فوق الطاولة؛ فقد بدا أنه اجتمع بعصبته. وأنا واقف بالخارج سمعتُ غناءً وكلامًا بذيئًا. من الواضح أن الوريث المُنتظَر لعرش الإمبراطورية كان شابًّا مُستهترًا محبًّا للخمر، وأنه صديق ورفيق لأحقر حثالة في فرانكفورت.

بعد قليل خرج بمُفرده وتبعتُه مرةً أخرى. وانطلق ببصيرة رجل يَعرف وجهته واتجه إلى فارجاسه، شارع التجار الأثرياء، وطرق أحد الأبواب وسُمح له بالدخول. في واجهة الطابق الأول كانت هناك ثلاث نوافذ مُضاءة ورأيته يَعبُر أول اثنتين ولكني لم أستطِع معرفةِ ما يدور بالداخل من مكاني في الشارع. نظرتُ حولي فوجدت عن يميني زقاقًا ضيقًا به سلَّم خارجي. صعدت هذا السلَّم ومن أعلى درجاته رأيت الجزء الداخلي للغرفة الكبيرة على الجانب الآخر من الطريق.

بدا لي أنهم كانوا يتوقَّعُون مجيء الأمير رولاند؛ لأن الرجل العجوز الجالس على الطاولة والذي كان وجهُه الهادئ في مواجهتي، لم يُبدِ أيَّ اندهاش حين دخل عليه الأمير. جلس سموه مديرًا ظهره لي ولفترة من الوقت بدا أن ما يدور بينهما مجرَّد نقاش ودي. لكن فجأةً نهض الأمير وألقى عباءته واستلَّ سيفَه ووجَّه حدَّه إلى رقبة التاجر.

بدا واضحًا من الفزع الذي بدا على ملامح التاجر أن الخطوة التي اتخذها الضيف لم تكن متوقَّعة تمامًا، لكن تبيَّن هدفها سريعًا. فقد دفع العجوز بيده المرتجفة صرةً مملوءة بالأموال فالتقطها الأمير وفتحها في الحال. وسكب كومة من الذهب الأصفر وبدأ في عد النقود بتروٍّ هائل يُخالف طبيعة الوضع المحفوف بالمخاطر الذي هو فيه مما يُوحي بأنه مُعتاد الإجرام. وأعاد للتاجر كومةً من الذهب. ووضع الباقي في صرة فارغة، وعلَّقها بحزامه.

لم أنتظر لأرى المزيد، ولكنَّني نزلت إلى أسفل الدَّرج لأعرف ما إذا كان رولاند أخذ أمواله إلى رفاقه الفاسقين. لقد خرج وتبعتُه مرة أخرى وقادني مرة أخرى إلى قبو راينجولد. لكن في هذه المرة سرتُ خلفه خطوة بخطوة حتى دخلنا غرفة النبيذ الكبيرة أسفل الدرج، حتى لم يَعُد يَفصل بيني وبينه سوى أقل من قدمٍ وهو لا يزال يتوهم أنه بمفرده. على الرغم من ثقتي بأنه الأمير فقد عزمت على مجادلتِه وإقناعه بإعادة الذهب إن أمكن.

لمستُه برفق على كتفه وقلت: «سموك!»

التفتَ إليَّ على الفور وبدأ بالتلفُّظ بسبابٍ همجي، وقبض على رقبتي بيدَيه، ودفعني باتجاه حائط القبو.

وصاح بي قائلًا: «لقد تسللتَ لتتجسَّس عليَّ!» وأضاف: «وقد تتبَّعت خطواتي على الرغم من تحذيري لك!»

في اللحظة التي حاولت فيها الرد، اشتدت قبضته على رقبتي ليمنعني من الكلام. وعندئذٍ اقترب منَّا رجل بدين عريض، وبدت علامات الذعر على ملامحه المتورِّدة وخاطبه الأمير بصفته مالك الحانة وكان هو المالك بلا شك.

وقال رولاند بهدوء شديد: «أيها المالك، هذا الراهب التَّعِس أحمق، ورغم أنه لا يقصد أيَّ ضرر بتدخُّله؛ فإنه قد يسبِّب كارثة لي ولزملائي. في وقت مبكر من المساء دنا مني على الجسر وتحدَّث إليَّ، ولكني عفوتُ عنه على أمل ألا يُريَني وجهه مرة أخرى. يُمكنكِ أن تُدركَ مدى سوء حالته العقلية عندما أُخبركَ بأنه يتهمني بأنني نجل الإمبراطور، والله وحده يَعلم ماذا سيقول عن رفاقي حين يراهم.»

حاولت أن أتحدَّث مرتين أو ثلاث، وفي كل مرة تَحُول قبضة أصابعه على رقبتي دون ذلك، وحتى عندما أرخى قبضته قليلًا كنت قادرًا بالكاد على التنفس.»

أنصتت الكونتيسة باهتمام بالغ، وحدَّقت عيناها البراقتان في الراوي، وكانت عيناها تُشعان جمالًا يعكس أنوثتها ونعومتها، لكنها عكست كذلك الاستياء والغضب الشديد للمعاملة التي تلقَّاها قريبها، وشعرت بشرارة الخطر وتلبَّستْها رُوح أسلافها على مرِّ العصور الذين كانوا مُستعدِّين للقتال من أجل كنيسة القيامة في فلسطين أو من أجل الذهب على حدود نهر الراين. وعندما توقَّف عن السرد ليمسح جبينه المجعَّد من العَرق الذي أحسَّ به لتذكُّره شعوره بالإهانة التي تعرَّض لها، طغت نظرات الحنان على نظرات الوعيد في عيون الكونتيسة وقالت بلطف:

«أنا واثقة تمامًا أيها الأب أن وغدًا كهذا لا يُمكن أن يكون الأمير رولاند. لا شك أنه حِرَفيٌّ كما ادعى. فلا يُمكن لرجل نبيل أن يتصرف هكذا.»

استأنف الأب أمبروز حديثه قائلًا: «دعيني أُكمِل يا طفلتي وأنصتي.» وأردف: «لقد التفتَ الأمير إلى المالك وسأله:

«هل هناك غرفة آمنة وخاوية في مَبناك يُمكنني وضع هذا القس المتطفل فيها لعدة أيام؟»

أجابه المالك قائلًا: «هناك مخزن نبيذ أسفل هذا القبو.»

فسأله رولاند: «هل يدخله أحد سواك؟»

«لا.»

«هل تتولَّى مسئولية هذا القس لتتأكَّد من أنه لا يتواصَل مع أي شخص بالخارج؟»

«بالتأكيد، أيها القائد.»

«جيد. سأَدفع لك مقابلًا جيدًا وهذا مقدمًا.»

قاطعته الكونتيسة بحزم قائلة: «لا يُمكن أبدًا أن يكون هذا الهمجي هو الأمير.»

«أتوسَّل إليكِ أن تُنصتي يا هيلديجوندي وستَقتنعِين عندما أُخبركِ بما سيلي. تابع الأمير قائلًا:

«لا يَكفي أن تمنع اتصاله مع الآخرين، بل عليك أنت أيضًا ألا تنصت إليه. سيُحاول إقناعك بأن اسمه الأب أمبروز وأنه راهب يتمتَّع بسُمعة طيبة في طائفة البندكت. وإن وجَدَك غير مُكترث بذلك فربما يتظاهر بأنه من أصلٍ نبيل، وأنه هنري فون ساين؛ لذا عليك مُقاوَمة أيِّ تعاطُف تشعر به تجاه الأرستقراطيِّين. لكنِّي أُؤكد لك أنه لا ينتمي إلى بيت ساين مثلما أنَّني لست بالأمير رولاند.»

أجابه المضيف: «بكل تأكيد، أيها القائد؛ فالأرستقراطيون شأنهم شأن الرهبان لديَّ، كلاهما لا يحظون بإعجابي، فاطمئنَّ يُمكنك الاعتماد عليَّ بأنني سأُبقيه في مأمن حتى تأمُر بإطلاق سراحه.»

الآن، يا عزيزتي هيلديجوندي، يُمكنك إدراك أنني لم أُخطئ. أكَّد هذا الشاب أنه لا يعرف شيئًا عنِّي، وأنا واثق بالتأكيد أنه نسيَ فترة خدمتي بالبلاط الملكي رغم استماعه إلى خطاباتي في كثير من الأحيان، ولكنه عرفني طوال الوقت، والآن بوقاحة غير مسبوقة لم يُظهر أيَّ تردُّد في إثبات صحة ظني في أنه هو نجل الإمبراطور. ولكن للإنصاف أعترف أنه أعطى تعليمات للمالك عندما دفع له المال بأن يُعاملني برفق، وأن يحرص على توفير الكثير من الطعام والشراب لي. وكان من المتَّفق عليه أن يطلق سراحي بعد ثلاثة أيام.

واختتم الأمير حديثه مع المالك قائلًا: «لن يُمكنه التسبُّب في أي ضرر بعدها؛ لأنني بحلول هذا الوقت سأكون قد نجحت أو فشلت في مسعاي.»

قادَني مالك الحانة إلى دَرج ضيق مكسور، ودفعني إلى مخزن مظلم ورطب مملوء جزئيًّا ببراميل النبيذ وبقيت به حتى أطلق سراحي منذ أيام قليلة.

عدتُ على الفور إلى دير طائفة البندكت حيث كنت أقيم سابقًا، مُتوقعًا أن أجد إخواني قلقين بشأني، لكن لم يحدث أيٌّ من ذلك. لا أحد يفتقد أحدًا في هذا العالم، وظنَّ رفاقي أنني دُعيت إلى البلاط، ونسيتُ أمرهم كما نسوا أمري؛ لذا لم أقُل شيئًا عن مغامرتي لكنني اعتليت فرسي الذي كان ينتظرني وسافرت عائدًا إلى قلعة ساين.»

ساد الصمت فترةً طويلة بين الاثنين، ثم تحدَّثت الفتاة قائلة:

«هل تَنوي اتخاذ أيِّ إجراء بشأن احتجازك غير المشروع؟»

أجاب الراهب المتسامح قائلًا: «أوه، لا.»

«هل من المؤكَّد أنه سيقع الاختيار على هذا الشاب الماجِن ليُصبِح إمبراطورًا؟»

«هناك احتمال ولكنه ليس مؤكدًا.»

«ألا يكون انتخاب شخصٍ كهذا لتولِّي أكبر منصب في الدولة شرًّا أكبر على البلاد مقارنةً باستمرار النظام الحالي؛ لأن هذا الشاب يتمتع، إلى جانب رذيلة السُّكر الذي يُعاني منها والده، بصفات خبيثة مثل الكذب والقسوة والبذاءة وعدم احترام مكانة النبلاء والكنيسة؟»

«هذا بالفعل رأيي، يا ابنتي.»

«إذن أليس من واجبك أن تُخبر الأساقفة الثلاثة على الفور بما قصصته عليَّ، لعلنا يُمكننا تجنُّب كارثة انتخابه؟»

«لقد فكَّرتُ مليًّا في هذا الأمر في أثناء رحلتي إلى هنا، وناجيت الرب ليُلهمني الصواب.»

«وما هو الصواب أيها الأب؟»

«ألا أقول شيئًا عما شاهدته في فرانكفورت.»

«لماذا؟»

«لأنه ليس لرجل مُتواضعٍ مِثلي يَشغل منصبًا لا سُلطة له أن يفهم ما يدور في أذهان رؤساء الأساقفة العظماء هؤلاء. فهم بالفعل مَن يَحكُمون البلاد، وربما يرَون أنه من الأفضل لهم أن يَضعُوا على العرش شخصًا مخمورًا لن يقف عائقًا أمام طموحاتهم بدلًا من انتخاب شابٍّ ذي أخلاق يتجاوزهم بمرور الوقت.»

«أنا واثقة أن ذلك لا يُمكن أن يكون دافعًا يُحرِّك رئيس أساقفة كولونيا.»

«فلتَعلمي يا صغيرتي أن سلطة رئيس أساقفة كولونيا ليست مُنفصلة عن سلطة رئيسَي أساقفة تريفيس وماينتس؛ لذا تأكَّدي أنه إذا رغب هذان الاثنان في انتخاب رولاند إمبراطورًا، فلن يُجديَ قولي أي شيء لرئيس أساقفة كولونيا في منع ذلك الخيار.»

«أوه، لقد نسيتُ في خضمِّ الحماس الذي انتابني في أثناء سماعي لمغامراتك، ولكن حديثنا عن رئيس أساقفة كولونيا ذكَّرني بزيارة جلالته لنا غدًا، وهو يرغب في رؤيتك بنحوٍ خاصٍّ. لك أن تتخيَّل مدى قلقي عندما تلقيت رسالته قبل بضعة أيام وأنا لا أعرف شيئًا عن مكانك.»

صاح الأب أمبروز متسائلًا في حيرة: «يرغب في رؤيتي؟» وأضاف: «ما السبب يا تُرى؟ هل يُمكن أن يكون قد علم شيئًا بشأن زيارتي لفرانكفورت؟»

«كيف ذلك؟»

«يمتلك رؤساء الأساقفة عيونًا لهم لا نعلم عنهم شيئًا. فإذا اتهمني بالتغيب عن منصبي، فلا بد أن أعترف بالحقيقة.»

«بالطبع. سأعترف له أنا فور وصوله؛ فإن رحلتَك لم يكن لها باعثٌ سوى إصراري. ولا يوجد مُلام غيري.»

هز العجوز رأسه ببطء.

وقال: «أنا مُذنب مثلكِ تمامًا.» ثم أضاف: «وسأُجيب بصدق عن أي سؤال يوجَّه إليَّ، لكنَّني لن أتطوَّع بالإفشاء عن أيِّ معلومات قبلها، وأتمنَّى أن أكون صائبًا بقراري هذا.»

نهضت الفتاة.

وقالت: «لا يُمكنك أن تخطئ أيها الأب وإن حاولت؛ والآن أتمنَّى لك ليلة طيبة. نم في سكينة ولا تخشَ شيئًا. فلطالَما تمكَّنتُ من تهدئة رئيس الأساقفة الكريم في المرات النادرة التي غضبَ فيها مني، ولن أُخفق هذه المرة.»

تمنَّى لها الأب أمبروز ليلة هانئة وغادر الغرفة بخُطًى ثقيلة لشخص يُعاني شدةَ التعب. وبينما وقفت الكونتيسة الشابة تُراقب انصرافه واختفاءه عن نظرها، أطبقت قبضتها الصغيرة الرقيقة وعقدت حاجبَيها وعلا وجهَها الجميل تعبيراتُ الحزم التي ميَّزت بعض أسلافها الصليبيين الذين زيَّنت صورُهم جدران القلعة.

وحدَّثت نفسها قائلة: «فقط لو يسقط هذا الأمير الهمجي رولاند في قبضتي سأجعله يندم على معاملته تلك للأب أمبروز؛ هذا الرجل الكريم المتسامح.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤