الفصل الثالث

الحب ومشكلات الزواج

(١) هل الحب إثم؟

من أبرز أوجه التطور التي نُشاهدها في مجتمعنا منذ حوالَي ربع قرن، خروجُ الفتاة من الدائرة الضيِّقة التي كانت تعيش فيها داخل المنزل إلى الحياة الاجتماعية الخارجية؛ فهي الآن تلتقي بالشاب في مدرَّجات الجامعة، وتشترك معه في الحفلات والرحلات وغيرها من أوجه النشاط الاجتماعي. ومن جهةٍ أخرى اتسعت أمام الفتاة العصرية ميادين جديدة للعمل ولكسب العيش؛ فهي قد تكون مُعاوِنة للرجل، وقد تكون مُزاحِمة له تريد أن تقتحم أبوابًا جديدة بِاسم ما اكتسبته من علم، وما أبرزته من قدرة على القيام بأعمالٍ كانت وقفًا على الرجال، سواء في مجال الأعمال الحرة أو في القضاء والسياسة. ويبدو أن الدافع الأساسي للقيام بمثل هذه الحركة ليس في الواقع ضرورة كسب العيش فقط، بل الرغبة المُلحَّة الغامضة في التحرير وطلب الاستقلال وإثبات شخصيتها.

ولا شك في أن مثل هذا التطور الإجباري الخطير قد أدَّى إلى حل بعض المشاكل التي كانت تُعانيها المرأة، ولكنه أثار في الوقت نفسه مشاكل جديدة، أو على الأقل زاد من حدَّة بعض المشاكل التي تنطوي عليها طبيعة المرأة ورسالتها الأصلية في الحياة؛ فإذا كانت حركة التحرُّر والاستقلال قد أدَّت إلى إثبات شخصية المرأة في الوجهة الاجتماعية، فكثيرًا ما يتم هذا النجاح الاجتماعي على حساب شخصيتها النفسية وتوازُنها الوجداني العاطفي.

ليس غرضي البحث في حركة تحرير المرأة والحكم عليها، بل الكشف عن بعض المشاكل التي تعترض المرأة في حياتها الجديدة، وتشخيص هذه المشاكل، والإشارة إلى طُرق معالجتها وحلها. وفيما يلي عرضٌ وجيز لحالةٍ نفسية من الحالات التي ترد للعيادات السيكولوجية؛ حالة تبدو في بادئ الأمر غريبة غير أننا سنُحاول فهمها وتعليلها. قال لي السيكولوجي الذي قصَّ عليَّ هذه الحالة:

جاءتني مرةً طالبةٌ جامعية وهي في شبه ثورة، وقالت لي: «إن حياتي أصبحت لا تُطاق، إني أصبحت عاجزة عن متابعة المحاضرات واستذكار الدروس والامتحان على الأبواب، وأنا في السنة النهائية؛ فمستقبلي مهدَّد، وأخشى أن يضيع ما كنت آمله من نجاح وتفوق في خوض مُعترَك الحياة العامة التي تنتظرني.»

فحاولتُ أن أُهدئ من عصبيتها، وسألتها عن سبب انفعالها وتأثرها: «هل اقترفتِ ذنبًا؟ هل أساء أحد إليك؟»

– «لم يُسئ إليَّ أحد، ولم أُسئ إلى أحد، بل أعتقد أنني ارتكبت ذنبًا لا يُغتفَر، خاصة وأني طالبةٌ جامعية كما تعلَم!»

– «وما هو هذا الذنب يا آنسة؟»

فقالت بعد فترة: «تصوَّرْ أنني بدأت أشعر بشعورٍ غريب نحو أحد زملائي، وأخشى أن يكون هذا الشعور هو الحب.»

فاحمرَّ وجهها، ولا أدري إذا كان سبب هذا الاحمرار هو الغيظ أو الخجل أو الحب نفسه. وكأنها شعرت باحمرار وجهها، فحاولت إخفاءه بتصنُّع الترفع وعدم المبالاة، وظهرت على ملامحها إشاراتٌ خفيفة من القسوة.

– «وهل الحب ذنب؟»

– «هو على الأقل من دلائل الضعف والخذلان، خاصةً عندما يتَّخذ هذه الصورة الخيالية التي وضعها الشعراء، والتي أصبحت لا تتَّفق مع عصرنا الذي يمتاز بالكفاح والمنافسة والروح الواقعية.»

•••

تُصوِّر لنا هذه الحالة الصراع الذي يقوم في نفس الفتاة عندما يختلُّ التوازن بين مطالب القلب وبعض المطالب الاجتماعية، وتكون الفتاة عاجزة من التوفيق بينها. وأعتقد أن أقرب حل لهذه المشكلة هو أن نُحاول الكشف عن دوافع الحب لدى المرأة، والوقوف على دلائل الحب عندما يكون صادقًا صحيحًا، وسنقصُر الحديث على أهم مظاهر الحب الكامل عندما يقتحم قلب الفتاة، ويغمره من كلِّ جانبٍ دون مقاومة أو انحراف.

تغنَّى الشعراء بالحب ووصفوه وصفًا رائعًا جميلًا، وحلَّله الأدباء في قصصهم، وحاولوا تحديد وُجوهه العديدة. ويبدو أن الكلمة الأخيرة الشافية لم يقُلها بعدُ أحد، كأن الصمت في هذا المجال أفصح من الكلام. هل محكوم على الحب أن يظل لغزًا مُغلَقًا وسرًّا غامضًا؟ وإذا كان الشعراء لم ينجحوا في التعبير عن كُنْهه وجوهره، فهل يحقُّ للعلماء أن يقولوا كلمتهم في هذا المجال؟ ألا يخشى أن تُزيل كلمتهم الجافَّة ما يُحيط بالحب من رونق وجاذبية؟

الحق أن علماء النفس، وخاصةً علماء التحليل النفسي، قد نجحوا في إماطة اللثام عن بعض أسرار الحب، وهم متَّفِقون مع الشعراء والقصصيين في وصف علاماته الصادقة، ولكنهم ذهبوا إلى أبعد من غيرهم في تعليل دوافعه، وتفسير وجوهه المختلفة المُتعددة، السويَّة منها والشاذَّة.

ويمكن تلخيص أهم دلائل الحب الصادق الكامل في النقط التالية:

أولًا: الشعور الذاتي بالسعادة. ولتفسير هذا الإحساس بالسعادة يجب أن نذكُر ما يقوله التحليل النفسي عن تركيب النفس الإنسانية؛ فالذات الشاعرة أو الأنا شبيهةٌ بساحة قتال تتصارع فيها القُوى الغريزية اللاشعورية والانفعالات المكبوتة، مع قوًى أخرى هي أيضًا لا شعورية تُكوِّن ما يعرف بالأنا الأعلى، وهو أشبه ما يكون بالضمير الخلقي البدائي الذي تكوَّن منذ الطفولة الأولى بتأثير التربية؛ من أوامر خلقية، والتزامات يفرضها الوالدان على الطفل لكي يصبح اجتماعيًّا بمقاومة أنانيته وحبه لنفسه. وكثيرًا ما يكون الأنا الأعلى صارمًا في معاملته للذات الشعورية. وإذا كان التوتر بين الأنا الأعلى شديدًا نتج عنه الألم والقلق والشعور بالإثم. وبالعكس، عندما ينخفض هذا التوتر تعود الراحة إلى النفس، وتشعر بالسعادة.

والحب في نظر المُحلِّلين هو إسقاط الأنا الأعلى على المحبوب، كأن الشخص عندما يُحب يبحث عن نفسه في صورة المحبوب؛ ففي حالة الحب السعيد، أي الحب المُتبادَل، يكون المحبوب الذي يُمثِّل الأنا الأعلى راضيًا عن الآخر. وهذا يُفسِّر لنا حالة السعادة والاطمئنان التي يحياها الشخص.

ولكن هذه السعادة لا تكون دائمًا صافيةً مُستقرة، بل يتخلَّلها فتراتٌ من الشك في صحة اختيار موضوع الحب، كأن هناك في النفس نزعةً إلى التعذيب الذاتي تُقاوِم الميل إلى السعادة القصوى.

وبما أن الشخص الذي يُحب يبحث إلى حدٍّ ما عن نفسه، أي بما أن المحبوب هو صورة للذات، فمن الطبيعي أن يُغالي الشخص في قيمة محبوبه؛ ولذا قيل إن الحب أعمى. ويترتَّب على هذه المغالاة في قيمة المحبوب التقليلُ من قيمة الواقع، وعدم الخوف من العالم الخارجي، والشعور بالقوة في مُقاومة الصعاب والتغلب عليها؛ إذ إن ما دام الأنا الأعلى راضيًا عن هذا الحب، وبما أن الأنا الأعلى يُمثِّل في النفس اللاشعورية سلطة الوالدَين، فلا بد أن تكون النفس راضيةً مُطمئنة لا تخشى شيئًا.

وإذا كان حب الآخر هو في نهاية الأمر حبًّا ذاتيًّا، فمن الطبيعي أن ينحصر الحب في شخصٍ واحد، ويتركَّز فيه دون غيره، وأن يصبح المُحب تابعًا كليةً للمحبوب، محاولًا دائمًا أن يتجنَّب دواعي التوتر والخلاف خوفًا من أن يفقد السعادة والاطمئنان.

وأخيرًا لا تكمل صورة الحب إلا بالإشارة إلى ما يعتري المُحب من تغيير في سلوكه الخارجي من جهة، ومن مضمون تأمُّلاته وتخيُّلاته من جهةٍ أخرى؛ فلا يكون الحب صادقًا إلا إذا اصطبغ السلوك والتفكير بصبغةٍ عاطفية، وصاحَبته حالاتٌ انفعالية خاصة من عطف وحنان، تمتزج فيها دوافع الحياة العميقة بالعواطف والحركات المعنوية اللطيفة.

وإذا عُدنا الآن إلى حالة الفتاة التي ذكَرناها في بدء هذا الحديث، وجدنا أن مشكلتها تعود إلى عوامل لا شعورية ترجع إلى الطفولة، وإلى تكوين ما سمَّيناه بالأنا الأعلى. فهي تُعاني توترًا عنيفًا بين الجانب الشعوري في نفسها والجانب اللاشعوري؛ فهي تميل إلى تعذيب نفسها، وإنكار ما يجب عليها أن تقوم به، في سبيل إرضاء حبها لذاتها. وقد أدَّى هذا التوتر الداخلي إلى الفصل بين العنصرَين الأساسيين في الحب؛ العنصر الجسمي والعنصر العاطفي الروحي؛ فهي تعتقد أن الاستسلام للعواطف ضعف، وأن الجانب الجسمي بمثابة انحطاط وإهانة لكرامتها.

فالطريق السوي الذي يجب أن يسير فيه الحب هو تحقيق التكامل بين نزعات الإنسان من حيث هو كلٌّ مُتكامل من جسم ونفس. وكما أن الحب العاطفي البحت حبٌّ ناقص، كذلك الحب المقصور على مجرد الرغبة الجسمية ناقصٌ بدَوره.

ومعظم المشاكل التي تعترض سعادة الإنسان في حياته العاطفية وحياته الزوجية ترجع إلى هذا الفصل بين عنصرَي الحب، وبقدر تحقيق الانسجام بينهما تكون سعادة الزوجين؛ وبالتالي سعادة الأطفال الذين هم بحقٍّ أجمل ثمرة للحب الصحيح السعيد.

(٢) الزواج والسعادة

سنتناول في الصفحات التالية مشكلات الزواج، مع الإشارة إلى وسائل التكيُّف بين الزوجَين، ومختلف العوامل التي تُهدِّد هذا التكيُّف.

إن موضوع الزواج مُتعدِّد النواحي، تلتقي فيه مجموعةٌ كبيرة من العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية والقضائية والروحية. وهو مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بموضوع الأسرة؛ إذ الأسرة في مجتمعنا المُتحضِّر تقوم على زواج الرجل والمرأة طبقًا لتقاليد ونُظُم وقوانين يُعينها المجتمع، والأسرة تُعتبَر بحقٍّ النواةَ الاجتماعية الأصلية. وعلى الرغم من أن كثيرًا من وظائف الأسرة قد ضعف أو تلاشى مع تطوُّر المدنية، فلا تزال هناك وظائف أساسية تؤدِّيها الأسرة إذا أراد المجتمع أن يحتفظ بكيانه، وأن يضمن بقاء الثقافة والمدنية والحضارة التي حقَّقتها منذ فجر الإنسانية حتى يومنا هذا. ويمكن تلخيص وظائف الأسرة في النقط الآتية:

  • أولًا: إعطاء العلاقة الجنسية بين الزوج والزوجة قيمتَها القصوى من الوجهة الوجدانية والروحية؛ إذ إن سعادة الإنسان تقتضي بأن يكون الرباط الذي يربط بين الزوجَين رباطًا جسميًّا وروحيًّا في آنٍ واحد.
  • ثانيًا: تنشئة الأطفال في جوٍّ من المحبة المتَّزِنة والتفاهم الودِّي.
  • ثالثًا: إعداد الفرد لكي يصبح عضوًا نافعًا في المجتمع يُدرِك بوضوحٍ ما عليه من واجبات وما له من حقوق، لا ينشأ فقط على الأخذ والمطالبة، بل يُحسِن العطاء والبذل.
  • رابعًا: إعداد الطفل بطريقةٍ تدريجية ولا شعورية لكي يُحقِّق في المستقبل زواجًا سعيدًا ناجحًا.

وهذه الوظائف، كما هو واضح، مرتبطةٌ بعضها ببعض؛ فالوظيفة الأولى خاصة بالزوجَين، وبطبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بينهما، وهي الشرط الأساسي لتحقيق الوظائف الثلاث الأخرى الخاصة بالأطفال؛ فالأسرة لا تكمل إلا بهم، كما أن شخصيةَ كلٍّ من الزوج والزوجة لا تزدهر وتكتمل إلا بهم؛ غير أن عدم إنجاب الأطفال إذا كان غير متعمَّد لا يعني حتمًا شقاء الزوجين، وضرورة قطع أواصر الزوجية بينهما.

أما إذا كان عدم إنجاب الأطفال أمرًا متعمدًا مقصودًا مع عدم وجود أي مبرِّر طبي لذلك، فعندئذ نكون بصددِ حالةٍ شاذَّة مَبعثُها الأنانية الزائدة، أو أعراضٌ مرَضيةٌ نفسية تتطلَّب العلاج. ودراسة الزواج من الوجهة السيكولوجية تقتضي البحث في الأمور الآتية:

ما هو المقصود بالسعادة الزوجية؟ هل يمكن دراسة هذا الموضوع دراسةً علمية؟ وما قيمة البحوث التي عملت في هذا الميدان؟ ما هي العوامل التي تضمن السعادة الزوجية؛ وبالتالي أسباب الشقاء بين الزوجَين؟ وأخيرًا، هل في إمكان عالم النفس أن يُساعد الزوجَين على إزالة أسباب الشقاء وإعادة الوفاق والانسجام بينهما؟ وسنحاول الإجابة على هذه الأسئلة، مع الإشارة بصفةٍ خاصة إلى الدور الهام الذي تؤدِّيه الزوجة في تدعيم الأسرة وتحقيق سعادتها.

لا شك في أن معنى السعادة ومعنى النجاح من المعاني النسبية؛ فالسعادة حالةٌ نفسيةٌ ذاتية تختلف باختلاف الأشخاص، وباختلاف حاجات كل شخص وميوله وأغراضه ومُثُله العليا، بل تختلف باختلاف العوامل اللاشعورية التي تُعين الميول والاتجاهات، والتي قد تحُول دون تحقيق السعادة على الرغم من توافُر الأسباب الخارجية الظاهرة التي يُعتقَد عادةً أنها كافية لتحقيق السعادة والرضا. ومعنى النجاح مختلف عن معنى السعادة؛ فهو مرتبط أكثر من السعادة بالعوامل الثقافية والاجتماعية. ومن الخطأ أن يُتَّخذ النجاح كما يبدو للمجتمع معيارًا لسعادة الأفراد؛ فقد يكون النجاح الاجتماعي ستارًا يُخفي وراءه التعاسة التي يُعانيها الشخص في حياته الداخلية الخاصة.

ثم إن السعادة ليست حالةً مُستقرة يمكن الاحتفاظ بها في ركن من أركان النفس بعيدًا عن مُعترَك الحيلة، وعن الجهود التي يتطلَّبها الكفاح اليومي؛ بل ما تمتاز به السعادة من جاذبية وفتنة وإغراء يرجع إلى أنها هدفٌ يُثير الاهتمام، ويدفع إلى العمل والنشاط والإنتاج وبذل الخير والمحبة للآخرين؛ إذ إن اكتمال السعادة لا يتم إلا بنموِّ جميع إمكانيات المرء وازدهارها في مجال الأسرة والمجتمع.

وكما أن السعادة ليست حالةً مستقرة، فهي ليست من جهةٍ أخرى بذل النشاط بإسراف ومواصلة العمل إلى حد الإنهاك لجمع المال واكتساب الجاه والمجد؛ فالطموح الأعمى يُلهي صاحبه عن نفسه، ويحُول دونه ودون الغذاء العاطفي الذي يُحقِّق الاتزان النفسي والسعادة الحقَّة.

فالسعادة إذن، وإن كانت حالةً ذاتيةً ونسبية، مرتبطةٌ بالاتزان النفسي. وبما أن للاتزان النفسي مظاهر خارجية يمكن مشاهدتها في سلوك الشخص، فيترتَّب على ذلك أنه من الممكن تعيين أهم شروط السعادة بالوقوف على أسباب الاتزان النفسي وعوامله. ومعنى الاتزان قريب من معنى الاعتدال، وهو يُوحي دائمًا بوجود طرفَين أو جانبَين مُتقابلين يسعى المرء في التوفيق بينهما، ويتَّخذ هذان الجانبان أشكالًا عدَّة تبدو مختلفة في الظاهر وإن كانت متشابهة ومتحدة في جوهرها. نذكُر منها الحقوق والواجبات، الأخذ والعطاء، حب الذات وحب الغير، الإمكانيات والمطالب، الوسائل والأهداف، الحاجة إلى الأمان والاطمئنان والميل إلى المُجازفة والاستزادة … إلخ. والتوفيق بين هذه الأزواج من الأطراف لا يتم أبدًا بصورةٍ ساكنة مُستقرةٍ نهائية، بل يتطلَّب مُواصلة العمل وبذل النشاط لإعادة تحقيقه كلما تعرَّض الاتزان للاختلال بتغير الأحوال؛ فأحوال المعيشة اليومية مُتغيِّرة حتمًا، والحياة في صميمها مُقاوَمة وكفاح.

ويمكن توزيع نشاط الإنسان في ميادين ثلاثة: المهنة، الأسرة، المجتمع الخارجي. أو بعبارةٍ أخرى: العمل، الحب، وشغل أوقات الفراغ. والنجاح في هذه الميادين الثلاثة كفيل بتحقيق الاتزان والسعادة، بشرط أن يبذل الشخص المجهود المُلائم المؤدِّي إلى التكيُّف. وبالنجاح في هذه الميادين يُرضي الإنسانُ ثلاث حاجات جوهرية: الحاجة إلى الأمان والاطمئنان، الحاجة إلى العطف والحب، الحاجة إلى تقدير الآخرين والسمعة الطيبة. ويبدو أن الأسرة نظرًا لكونها نواة الحياة الاجتماعية وصورةً مصغَّرة لها، تُتيح للشخص فرصة إرضاء هذه الحاجات الأساسية، وخاصةً الحاجة إلى العطف والحب؛ فسعادة الأسرة تقتضي من جميع أفرادها المُساهمة في أعمال المنزل والاهتمام بشئونه المادية، ثم خلق جو من التفاهم والمحبة والانسجام، وأخيرًا تنظيم أوقات الفراغ وإتاحة أسباب الترفيه عن النفس؛ ولذلك يُعَد تحقيق السعادة في حياة الأسرة من أشق الأهداف، وخاصةً تحقيق التكيُّف بين الزوج والزوجة وبينهما والأطفال.

فالتكيُّف الذي يجب أن يُحقِّقه الإنسان في مجال عمله بينه وبين رؤسائه أو أقرانه يتطلَّب أحيانًا كثيرًا من التضحية والجهد، غير أنه أخفُّ وطأة من التكيُّف المطلوب من الزوجَين؛ إذ إن الصلة التي تربط الإنسان بعمله تكون متقطعة وخارجية إلى حدٍّ ما، في حين أن الصلة التي تربط بين الزوجَين مستمرةٌ داخلية يجب أن تصل إلى حد الاتحاد والتوحيد، وهذا الاتحاد يشمل جميع النواحي الجسمية والنفسية؛ فعَلى الزوجين التوفيق بين أمزجة وعادات وأخلاق ومعتقدات وميول خاصة بكل واحد منهما، وهذا أمرٌ شاقٌّ عسير لا يمكن أن يتم في وقتٍ وجيز، بل يتطلَّب مُواصلة المجهود سنواتٍ طوالًا.

•••

وعندما نُحلِّل معنى السعادة١ نجد أن الطابع الذي يَغلب عليها هو أنها حالةٌ نسبيةٌ غير ثابتة، تتوقَّف خاصةً على عوامل ذاتية، غالبًا ما تكون مجهولة من الشخص.

وكما أن هذه العوامل الذاتية مرتبطة بالظروف الخارجية، وتتفاعل معها، قام بعض علماء النفس بدراسة السعادة الزوجية دراسةً موضوعيةً إحصائية بطرح بعض الأسئلة على مجموعاتٍ كبيرة من المُتزوجين. وقد وُجد أن نِسب حالات الزواج السعيد تختلف باختلاف الطبقات؛ فهي أعلى بوجهٍ عام في الأوساط المُتعلمة وخاصةً الأوساط الجامعية، كما أنه لُوحِظ أن نسبة حالات السعادة في النساء المُتزوجات تقلُّ عادةً عن نِسبتها في الرجال المُتزوجين. وهذه النتيجة يمكن تفسيرها إلى حدٍّ كبير؛ فقد سبق أن تحدَّثنا في الفصل الثاني عن تطلُّع المرأة إلى المُطلَق والكمال، وبالتالي عن الصعوبات الجمَّة التي تعترض سبيلها إلى السعادة. ونعلَم من جهةٍ أخرى أن عقل المرأة يميل إلى التأليف وإلى النظرة الكلية أكثر من ميله إلى التحليل والتفكير المنطقي الاستدلالي؛ فهي تُحس أكثر من الرجل أن الزواج فعلٌ اجتماعي يقتضي تكامُل النواحي الجسمية والعاطفية والروحية داخل مُحيط الأسرة؛ فهي لا تفهم أن يُفصَل بين هذه النواحي، وإن قبِلت الفصل مُرغَمةً طائعة فسيكون هذا القبول على حساب سعادتها الداخلية وتوازُنها النفسي. أما الرجل فهو أميل إلى التقسيم والتشتت، يُوزع نشاطه؛ وبالتالي يُوزع عوامل إرضائه بين الأسرة وبين عمله الخارجي ومشاغل مهنته، وفي إمكانه أكثر من المرأة أن يلجأ إلى عمليات التعويض.

وهناك نتيجةٌ أخرى أسفرت عنها البحوث التي أشرنا إليها، وهي أن حالات السعادة الزوجية تزداد مع طول مدة الزواج؛ فإذا تناولت الدراسة حالات الزواج التي تتراوح مدتها بين سنة وست عشرة سنة، فتكون نسبة حالات السعادة ٧٥٪، في حين أن هذه النسبة تهبط إلى ٦٨٪ في حالات الزواج التي لا تزيد المدة فيها عن ست سنوات.

ومن اليسير تعليل هذه النتيجة؛ فالسنوات الأولى في الحياة الزوجية تتطلَّب مجهوداتٍ شاقَّةً لتحقيق التكيُّف بين الزوجَين الجديدين؛ وذلك لعدة أسباب:

أولًا: الأسباب التي ترجع إلى المرحلة السابقة للزواج والمُمهِّدة له. وتختلف هذه المرحلة في الشرق باختلاف الأوساط وبالنسبة إلى كلٍّ من الرجل والمرأة؛ فقد يُفرَض الزواج على البنت فرضًا دون أخذ رأيها في اختيار الزواج.

وفي هذه الحالة كثيرًا ما تشعر البنت بأنها ضحية أو فريسة، فتدخل الحياة الزوجية وهي حذِرةٌ مُتحفظة تلجأ في بادئ الأمر إلى أساليب الدفاع والمقاومة، أو تحتمي في موقف من الاستسلام والخضوع السلبي بدون تعاوُن ولا مشاركة. كما أن الرجل في هذه الحالة يدخل الحياة الزوجية وعقليته عقلية السيد المُسيطِر، أو المالك الأناني الذي أضاف إلى مُتَعه متعةً جديدة ووسيلةً جديدة لإرضاء سيطرته وسلطته، أو وسيلةً جديدة للتعويض عمَّا يُعانيه من نقص وتقصير في مهنته أو في مجال نشاطه الاجتماعي. ولا شك في أن مثل هذا الجو لا يصلح مُطلَقًا لتهيئة الزواج السعيد؛ إذ إن الزواج فعلٌ اجتماعي مُتكامل النواحي يقتضي التبادل، الأخذ والعطاء، والتأثير المُتبادَل الحكيم المؤدِّي إلى الانسجام.

أما في حالة إمكان التعارف بين الشاب والشابَّة، سواء قبل الخطوبة أو في أثنائها، فإنه يصبح من الأيسر التمهيد لتحقيق الانسجام بينهما بعد الزواج؛ غير أنه في هذه الحالة أيضًا تنشأ بعض العقبات التي سيكون من شأنها تعكير الجو فيما بعد، وأول هذه العقبات التصنُّع الذي يلجأ إليه كلٌّ من الخطيبَين للظهور في أجمل صورة خلقية، لا لتضليل الآخر دائمًا، بل للاحتفاظ به وتنمية الجاذبية، خاصةً إذا كان دافع الزواج المصلحة المادية أو الاجتماعية أكثر منه دافع الحب والتقدير المُتبادَل.

أما العقبة الثانية فقد تنشأ من طبيعة الحب نفسه؛ فقد يبحث المُحِب لا عن قرين أو رفيق، بل عن بديل لشخصٍ آخر، وكثيرًا ما يكون الأبَ أو الأم، وذلك في حالة تعلُّق البنت بأبيها تعلقًا جنسيًّا لا شعوريًّا، أو تعلُّق الشاب بأمه. أو قد يتخذ الحب شكلًا شعريًّا خياليًّا مُسرِفًا في الشعر والخيال، وهو ما يعرف بالحب الرومنتيكي الخالص. نعم إن عنصر الشعر والخيال من أهم مُقوِّمات الحب؛ لأن العاطفة من أهم دعائم الشخصية المُتكاملة المتَّزِنة، ولكن كما أن الشخصية تفقد توازُنها إذا طغت العاطفة وطغى الخيال على العقل والفكر، فكذلك يفقد الحب قدرته على الخلق والابتكار، ويصبح عقبة بدلًا من أن يظل قوةً فعَّالة، إذا طغى الخيال على الواقع، وإذا تاقَ العاشقان إلى مثلٍ أعلى أسمى من أن يُحقِّقه الإنسان في مجتمعٍ تزداد مشاكله يومًا بعد يوم. فالحب الشعري ينمو في الغفلة والأحلام، وكثيرًا ما يكون مآله الخيبة واليأس. أما الحب الذي يريد أن يكون رباطًا وثيقًا بين اثنين، جسمًا وقلبًا وروحًا، وأن يكون درعًا قوية لوقاية الزوجَين من أحداث الدهر، فيجب عليه أن يكون يقظًا من حين إلى آخر، وأن يقوم على دعامة العاطفة من جهة، ودعامة العقل المُستنير من جهةٍ أخرى؛ أي على التوفيق بين الخيال والواقع.

وأخيرًا سواء أُتيحَت فرصة التعارف أو لا، فإن المرحلة السابقة لعقد الزواج كثيرًا ما تكون منشأ متاعب للخطيبَين؛ نظرًا لما يدور حول مشروع الزواج من مناقشات بين الأهل فيما يختصُّ بالمسائل المالية والمادية الأخرى من سكن وإقامة وكيفية فرش المنزل، إلى آخره من هذه الأمور التي لا بد من تنظيمها. هذا فضلًا عن المتاعب التي قد تنشأ من غَيرة الإخوة والأخوات، بحيث يصل الخطيبان إلى عتبة الزواج وهما في حالة توتُّر عصبي أو إنهاك؛ ممَّا يُهدِّد تحقيق السعادة الزوجية منذ مَطلعها، خاصةً إذا أضفنا متاعب شهر العسل، حيث يحتدم الصراع بين الخيال والواقع.

وقبل أن نعرض لمشاكل التكيُّف في بدء الزواج، نُشير إلى نتيجةٍ أخرى من نتائج الأبحاث التي تناولت نسبة حالات السعادة والشقاء في الزواج؛ ففي أحد البحوث كانت نسبة السعادة الزوجية ٤٥٪ لدى الزوجات و٥١٪ لدى الأزواج، فطُرح على أفراد المجموعة السؤال الآتي: «إذا كان في إمكانك أن تضغط على زرٍّ فتصبح بأعجوبةٍ أنك لم تتزوَّج قط، فهل تضغط على هذا الزر؟» فكانت النتيجة ٩٤٪ لا و٦٪ نعم.

ومَغزى هذه التجربة أن الشخص يعجز عن تقدير سعادته أو شقائه حق التقدير، وأنه ما دام يمتلك الشيء فهو يغفل عن بعض مزاياه، ولا تتَّضح هذه المزايا إلا إذا هُدِّد هذا الشيء بالضياع والفناء. ثم إن السعادة ليست حالةً مستقرةً ثابتة، وإنها تتحقق في السعي وراءها أكثر من امتلاكها، أو في الاعتقاد بأننا حصلنا عليها.

الواقع أن حياة الإنسان لا تسير على وتيرةٍ واحدة من السعادة أو الشقاء، بل هي مزيج من الاثنين، ومع مر السنوات يتعوَّد المرء الحياة في جوٍّ يلتقي فيه النقيضان من فرح وحزن، بحيث يصبح الألم أحيانًا عنصرًا من عناصر تحقيق السعادة؛ فيصبح المثل الأعلى أكثر اعتدالًا من ذي قبل، وشروط السعادة والهناء، أو على الأقل شروط الرضا، أيسر تحقيقًا.

(٣) عند مستهل الحياة الزوجية

قد يُؤلِم القارئَ أن يعرف أن المشكلات التي تعترض الزوجَين الحديثين تبدأ منذ اللحظات الأولى، في هذه الفترة التي تُعرَف بشهر العسل، فلنتتَّبع الزوجَين منذ حفلة الزفاف لتحليل نفسيتهما، ووصف موقف كل منهما من الآخر. تم عقد الزواج بما يُحيط به من ضمانات وتأييداتٍ اجتماعية. اشترك الأهل والأصدقاء في الفرح، وقدَّموا التهاني الودية والتمنيات الطيبة بالسعادة والرفاهية، وأخذوا ينصرفون الواحد بعد الآخر. انتهى الحفل مُعلِنًا بانتهاء عهد وبدء عهد جديد. وطلبًا للراحة والاستجمام بعد متاعب الاستعداد للزواج، يقوم العروسان عادةً برحلةٍ قصيرة لتمضية شهر العسل في بقعةٍ هادئة. ولنفرض أن كلًّا من الزوجَين مستعدٌّ لبذل أقصى مجهوده من لطف وحب وتسامح لكي يكون هذا الشهر جديرًا بتسميته، أن يكون فترة هناء صافٍ وسعادة حلوة. غير أن الأمر ليس في هذه الدرجة من اليسر والسهولة كما يتصوَّره الشعراء وكُتاب القصص الغرامية؛ فهناك مشكلاتٌ عدَّة تعترض الزوجَين في بدء حياتهما الجديدة؛ مشكلاتٌ خاصة بتكيُّف كل واحد للآخر، والتوافق معه من الجهة الجنسية والمزاجية والأخلاقية.

هل شهر العسل هو امتداد لفترة الأحلام التي سبقت الزواج، أم مرحلة استعداد للحياة الجديدة وما تتطلَّبه من واجباتٍ واقعية؟ أعتقد أن كلما كان الانتقال من عالم الأحلام إلى عالم الواقع سريعًا كان التكيُّف المطلوب أسهل تحقيقًا. ومن أهم عوامل نجاح هذا التكيُّف أو فشله، طبيعة الدور الذي يؤدِّيه كلٌّ من الزوجَين نحو الآخر. الواقع أن الشخص يدخل الحياة الزوجية في بادئ الأمر وعلى وجهه قناعٌ مُستعار، ثم يسقط هذا القناع تحت ضغط الظروف، وضرورة مواجهة مواقف جديدة، وخلق صور جديدة من العلاقات بين شخصَين، ولا يلبث الشخص طويلًا حتى يستردَّ طبعه الأصلي، ويخضع للاتجاهات والعادات التي اكتسبها من قبل، وكثيرًا ما يحدث تعارُض بين الدور الجديد الذي يجب على كلٍّ من الزوجَين أن يتعلَّمه لكي يؤدِّيه على أحسن وجه، وبين الأدوار التي اعتاد أن يقوم بها قبل الزواج، وتبعًا لدرجة النضج العاطفي والاجتماعي التي وصل إليها الشخص تكون درجة السهولة في تعلُّم الدور الجديد.

يعتقد بعض الشُّبان أن العامل الأساسي للسعادة الزوجية التشابهُ التام بين الزوجَين، من حيث الأذواق والأفكار والاتجاهات العاطفية، فكل واحد من العروسَين يريد أن يجد في الآخر صورةً صادقة لنفسه، وأن الاتحاد بين نفسَين يجب أن يقوم على تجاوبٍ تام بينهما. إن طلب مثل هذا التجاوب التام ينطوي على خداعٍ خطير، ولا بد أن يؤدي إلى الخيبة؛ فالاتحاد في الغرض لا يعني بالضرورة الاتحاد التام في الآراء والعواطف والاستجابات الحسية والانفعالية. نعم إن المثل الأعلى للزوجَين أن يصبحا شخصًا واحدًا، وأن يتَّحدا اتحادًا كليًّا إذا أمكن؛ غير أن الوحدة التي تربط بين الزوجية يجب أن تكون وحدةً حيةً منظَّمة، تسمح للعناصر التي تتكوَّن منها بأن تنمو وتزدهر في جوٍّ من التبادل الحر والتعاون المُثمِر.

إن الإلحاح الذي يُبديه أحد الزوجَين في أن يكون الآخر شبيهًا به كل المشابهة لا يرجع إلى قوة الحب وكماله، بل إلى ضعفه ونقصه؛ فهو دليل على عدم نضج الحب، كأن الشخص عاجز عن أن يحب شخصًا آخر سوى نفسه، والإسراف في حب الشخص لنفسه صورةٌ من صور الحب كما يشعر به الطفل. ومثل هذا الموقف يؤدي حتمًا إلى عرقلة التكيُّف الجنسي في بدء الحياة الزوجية؛ إذ يكون الدور الذي يؤديه الزوج أو الزوجة دور الطفل المدلَّل.

ثم هناك عاملٌ آخر، غير الحب الذاتي المُسرِف، يدفع الشخص إلى البحث عن صورةٍ صادقة لنفسه، وهذا العامل هو الخوف. وقد برع أصحاب التحليل النفسي في وصف أثر الخوف في العلاقات الزوجية؛ فمن الوسائل التي يلجأ إليها المرء لمقاومة الخوف التشبُّهُ بالشيء المُخيف؛ ألا ترى الطفل الذي يخاف من الغول أو من الكلب يتقمَّص شخصية الغول أو الكلب، ويسلك سلوكهما مُحدِثًا في نفسه في آنٍ واحد الخوف والأمان. ولننظر كيف أن هذا الموقف المُزدوج من خوف وعدوان يلعب دوره في العلاقات الأولى بين الزوجَين، وكيف أن التكيُّف الجنسي والعاطفي يكون عسيرًا لدى الزوج الذي يبحث في الآخر عن صورةٍ صادقة لنفسه.

لا شك في أن الحب عند بدء العلاقات الزوجية يتَّخذ شكلًا مُزدوجًا مُتناقضًا، ينطوي على العدوان والهجوم من جهة، وعلى الدفاع والاستسلام بدرجاتٍ مُتفاوتة من الرضا من جهةٍ أخرى. ويرجع هذا الازدواج المُتناقض إلى الاختلاف القائم بين وظيفة كل من الزوجَين؛ فالحب الذي سيؤدِّي في الحالات السوية إلى أنبل صورة من الاتحاد بين نفسَين، يبدأ في شكل صراع ينطوي حتمًا على عنصر العدوان.

ومن المعلوم أن العدوان كثيرًا ما يصحب الخوف لدفع مصدر الخوف أو تجنُّبه. وكذلك كثيرًا ما يشعر المُعتدي بالخوف؛ لأنه يخشى من المُعتدى عليه أن يردَّ على هذا العدوان بعدوانٍ آخر. وعندما يبحث أحد الزوجَين عن شخصٍ آخر شبيه به كل المشابهة، أو يعتقد أنه كذلك، فإنه لا يسلك هذا السلوك إلا لتهدئة خوفه من عدوان الآخر.

إنه من السهل أن نجد تأييدًا لهذا الوصف في سلوك الحيوانات. طبعًا إننا لا نذهب إلى القول بأن سلوك الإنسان شبيهٌ تمام المشابهة بسلوك الحيوانات؛ فلا يمكننا أن نجهل تطوُّر الحب الإنساني في أشكاله ومظاهره تحت تأثير العوامل الروحية والعقلية والعاطفية وأثر الحضارة والتربية والأخلاق؛ غير أنه من الخطأ أيضًا أن تتجاهل الجزء المُشترك بيننا وبين الحيوانات؛ فإن جهلنا للجانب البهيمي في الإنسان إما أن يُعرِّضنا لانفجار هذا الجانب دون الاستعداد لمواجهته بحزم وحكمة، أو يجعلنا نحرم أنفسنا ممَّا قد تمدُّه بنا هذه القُوى الحيوانية من حيوية وطاقة نستخدمها في تحقيق الأغراض الروحية والاجتماعية الراقية.

فمن الواجب إذن على الزوجَين الحديثَين أن ينظر كل واحد منهما إلى الآخر على أنه يُواجه كائنًا حيًّا وشخصًا واقعيًّا، لا مخلوقًا خياليًّا يتصوَّره حسب رغباته أو مخاوفه. فلا ينظر إليه من وجهةٍ جنسيةٍ بحتة، كما لا ينظر إليه من وجهةٍ مثالية وروحيةٍ بحتة فيُجرِّده من حساسيته ومن ميوله الجنسية. وليست هذه النظرة الروحية البحتة دليلًا على الاحترام والتقدير، بل مَبعثها هو الخوف، بل أحيانًا الكبت المرَضي.

ذكرنا فيما سبق أحد العوامل التي تجعل تحقيق التكيُّف في بدء الحياة الزوجية أمرًا عسيرًا، وأرجعنا هذا العامل إلى عدم نضج الحب ووقوفه عند صورة من صوره الطفلية، وسنتناول في الفقرة التالية عوامل أخرى تتعلق بمختلف الأدوار التي قد يقوم بها كلٌّ من الزوجَين، وبعض هذه الأدوار التي يرجع عهدها إلى سِنِي الطفولة والمراهقة تتعارض مع طبيعة الحياة الزوجية وواجباتها الجوهرية.

(٤) آثار الماضي

يُركِّز علم النفس الحديث اهتمامه في دراسة السلوك، ودراسة الاستجابات التي تصدُر عن الشخص في مختلف المواقف الاجتماعية. وهذه الاستجابات تتعيَّن أشكالها وأساليبها تبعًا لما اكتسبه المرء من عادات، وما تعلَّمه من اتجاهات، وتبعًا لنظرته إلى الأشخاص الآخرين الذين يتعامل معهم؛ فاختلاف المواقف التي تُواجهه يستلزم منه أن يُغيِّر أحيانًا من أسلوبه في الاستجابة والمعاملة، ويعتبر مدى قدرته على التغير مقياسًا للتكيُّف الناجح؛ غير أن هذه القدرة محدودة، تحدُّها الأنماط السلوكية التي اكتسبها الشخص في سِنِي الطفولة والمُراهقة.

وعندما يتزوَّج الشخص فإنه يحمل معه هذه الأنماط السلوكية القديمة، وكثيرًا ما يكون غافلًا عن وجودها، فيعتقد أن سلوكه يصدر عن تفكير وروية، في حين أن هناك عوامل لا شعورية تؤثِّر تأثيرًا كبيرًا في تعيين السلوك وتوجيهه، وما يكون التفكير إلا وسيلة للتبرير أو لإخفاء الدافع الحقيقي.

والإنسان طولَ حياته يؤدِّي أدوارًا مختلفة، وتظهر هذه الأدوار وتُكتسَب منذ الطفولة؛ فأحيانًا يلعب المرء دور المُسيطِر المُتعسِّف العنيد الذي يريد فرض رأيه وتنفيذه فورًا دون مناقشة ولا مُماطلة، وأحيانًا يقوم بدور الشخص الخاضع المُستسلم الخائف الذي يخشى بذل المجهود، ولا يبغي إلا راحة البال والاطمئنان، وأحيانًا أخرى يؤدِّي دور المُتملِّق الذي يلجأ إلى الخداع والمُواربة للوصول إلى غايته. وهذه الأدوار وغيرها تتفاعل بعضها مع بعض بحيث يصعب تمييزها بوضوح، وتكون في نهاية الأمر اتجاهاتٍ لا شعورية تتبلور فيما يُسمَّى بأسلوب الحياة.

والمظاهر السلوكية المختلفة التي تحدث بين الزوجَين في حياتهما اليومية ليست في معظم الأحيان سوى تعبيراتٍ رمزية للأساليب الاستجابية التي تكوَّنت في الطفولة والمُراهقة، كما أن المواقف الجديدة التي يقفها كل زوج من الآخر تكاد تكون صورةً صادقة للمواقف التي اشترك فيها الشخص في أسرته عندما كان طفلًا؛ مواقفه مع والدَيه ومع إخوته وأخواته. وتوضيحًا لذلك نذكُر الأمثلة الآتية:

فقد تقوم الزوجة في نظر زوجها بالأدوار الآتية: دور الأم التي يعتمد عليها الطفل كل الاعتماد، وعندئذٍ يكون سلوك الزوج نحو زوجته شبيهًا بسلوك الطفل الذي يأوي إلى صدر أمه طالبًا حمايتها، ومُتعطشًا إلى عطفها وحنانها؛ ثم قد تنقلب الزوجة في نظر الزوج إلى هذه الأخت التي كان يكرهها الزوج عندما كان طفلًا، أو تقوم بدور الأخ الذي كان يحبه؛ ولكن ما يحدث غالبًا هو سيطرة صورة الأم في لاشعور الزوج، فيقوم التعارض بين الدور القديم الذي كان يؤدِّيه عندما كان طفلًا، والدور الجديد الذي يجب عليه أن يتعلَّمه من حيث هو زوجٌ يتعامل لا مع أم له، بل مع زوجةٍ تنتظر منه أن يكون رجلًا بالغًا قويًّا واثقًا من نفسه، لا طفلًا مدلَّلًا خائفًا.

وما يُقال عن الزوج يُقال أيضًا عن الزوجة؛ فقد تنظر إلى زوجها نظرتها القديمة إلى الأب الذي كانت تخشاه أو تحترمه احترامًا أعمى، أو الذي كان يُرضي كل نزواتها، ويغضُّ النظر عن أخطائها ونقائصها؛ فهي تبحث في زوجها عن صورة الأب، وتستجيب له بالأسلوب نفسه الذي كانت تصطنعه عندما كانت طفلة.

غير أنه يجب أن نقول إن استعادة هذه الأساليب القديمة في الحياة الزوجية تحدث بدرجاتٍ متفاوتة، تبعًا لدرجة النضج الانفعالي الذي يكون الشخص قد وصل إليها؛ فإن تحقيق النضج الانفعالي ونمو الحياة العاطفية نموًّا سليمًا دون كبتٍ مرَضي، ودون تثبيت في مراحل النمو الأولى، يُحرِّرالعقل والفكر من القيود اللاشعورية، ويُخفِّف وطأة الأساليب الدفاعية والاستجابات العدوانية التي تُهدِّد العلاقات الزوجية بالتوتر والفشل.

ومن الاتجاهات المُكتسَبة في الطفولة، والتي تؤثِّر فيما بعدُ تأثيرًا بليغًا في موقف كل زوج من الآخر، الاتجاهُ الخاص بوظيفة الجنس وقيمته. إن القاعدة الأساسية في التربية الجنسية هي أن يُربَّى الصبي بحيث يتَّجه نحو الرجولة الجسمية والخلقية دون احتقار الجنس الآخر، ودون أن يُلقَّن أن جنسه هو الأفضل، بل أن الجنسَين مكمِّلان الواحد للآخر.

وكذلك يجب أن تُربَّى البنت، بحيث تتَّجه نحو الأنوثة الجسمية والخلقية دون الخوف من الجنس الآخر، ودون تلقينها أو الإيحاء إليها بأنها ناقصة، بل أن كل جنس لا يكمل إلا بالآخر. ولنتخذ حالة البنت التي تُوجَّه في تنشئتها الجنسية توجيهًا شاذًّا لتحليل هذه الحالة، ومعرفة العواقب السيئة التي ستُهدِّد فيما بعدُ السعادة الزوجية.

إن المقارنة التي تقوم بها البنت بينها وبين أخيها قد تُوحِي إليها أنها دونه من حيث التركيب الجسمي، وقد تُثبِت معاملة الوالدَين هذا الاعتقاد في ذهن البنت، ويصحب هذا الاعتقادَ شعورٌ بالألم والخيبة لا يلبث أن يُكبت فيما بعد. ثم تأتي مرحلة الطفولة المُتأخرة التي تسبق مرحلة المُراهقة، وفي هذه المرحلة يتَّجه اهتمام البنت نحو العالم الخارجي والنشاط الاجتماعي والتحصيل المدرسي. وعند بدء المُراهقة تأخذ العواطف الجنسية الغامضة تثور من جديد، فتشعر البنت بالجاذبية الطبيعية نحو أقرانها من الجنس الآخر. وقد يحدث في هذه المرحلة أن تصطدم العواطف الناشئة بالتقاليد الاجتماعية السائدة، ويعجز الوالدان أو المُربُّون عن فهم دلالة هذا التطور الجديد في النمو العاطفي؛ فبدلًا من تهذيبه وتوجيهه بلينٍ وحكمة يُحدِث سلوك الوالدَين التعسفي شعورًا بالإثم والخطيئة في نفسية البنت، فترتدُّ العواطف إلى أعماق النفس، ثم تبحث عن وسيلة للإرضاء لا تحرمها التقاليد الاجتماعية، فتتعلَّق البنت بزميلة لها أكبر منها سنًّا، أو بمُدرِّستها التي قد تكون مدفوعة بشيء من الإسراف إلى بذل الحب والحنان بصورةٍ تكاد تكون شاذة، وعندئذٍ يتكوَّن في البنت اتجاهٌ جديد هو التعلق الغرامي بشخصٍ من نفس الجنس، والنظر إلى الجنس الآخر نظرة خوف أو بغض أو اشمئزاز. وكثيرًا ما يحدث أن تستنكر الفتاة الناشئة أنوثتها، أو تخجل منها، ويحدث كل ذلك في هامش الشعور، ثم يتغلغل في أعماق النفس اللاشعورية، ويتكتَّل مع الاتجاهات الشاذة التي نشأت في الطفولة.

ثم تجتاز الفتاة مرحلة المُراهقة بدرجاتٍ متفاوتة من النجاح أو الفشل في تحقيق التكيُّف العاطفي، وتُقبِل على الزواج دون مُقاومة صريحة، ولكن بشيء من الفتور، جاهلةً الدوافع اللاشعورية الشاذة التي قويت في أثناء المراهقة، وعاجزةً عن أن تُطهِّر نفسها من هذه الشوائب، ومن موقفها السلبي نحو الجنس الآخر؛ نتيجة لاستنكار أنوثتها. وعندما ستُواجَه الزوجة بواجباتها الجديدة ستجد صعوبةً كبيرة في تحقيق التكيُّف المطلوب منها؛ ممَّا يؤدِّي إلى تعكير صفو الحياة الزوجية. وهنا نلمس ضرورة تثقيف الشباب من الجنسَين بالثقافة السيكولوجية التي تُنير لهم خبايا النفس الإنسانية، وتُرشِدهم إلى وسائل التغلب على الاتجاهات المُنحرفة، وتحقيق التوافق في بدء الحياة الزوجية.

(٥) الغيرة

أشرنا في الفقرات السابقة إلى بعض العوامل التي تُعكر صفو الحياة الزوجية، وتُهدِّد السعادة العائلية، كالتفاوت الكبير بين الزوجَين من حيث المستوى الثقافي أو الاقتصادي، والاختلافات البيِّنة في الآراء والمعتقدات والعادات، ثم عدم التكيُّف العاطفي والجنسي، ومن أسباب عدم التكيُّف لدى المرأة استنكار أنوثتها أو الخوف اللاشعوري من الجنس الآخر، والإحساس الخفي بأن العلاقة الجنسية تنطوي على الاعتداء والأذى.

والتحليل النفسي، كما نعلَم، يُوضِّح لنا أسباب هذه المواقف الشاذَّة مُرجِعًا إياها إلى بعض خبرات الطفولة، وعدم تصفية بعض العُقَد النفسية اللاشعورية، وخاصةً عقدة أوديب.

ونودُّ الآن أن نُفصِّل القول في سببٍ هام من أسباب شفاء الزوجَين، هو الشعور بالغيرة؛ هذا الانفعال الغريب الذي يلعب دورًا هامًّا في حياة الإنسان منذ طفولته، ويطبع بطابعه كثيرًا من العواطف الاجتماعية. ويجب ألا ننسى شقيقه الأقرب «الحسد»؛ فالغيرة والحسد توءمان يسيران جنبًا إلى جنب في ظل توءمَين آخرين هما الحب والبغض. وهذه الانفعالات الأربعة هي بمثابة الاتجاهات التي تُعين أركان أو محاور المجال الوجداني، وما يقوم عليه من دوافع وحوافز وميول.

وتسلك الغيرة في نشأتها ونموها وظهورها مسالكَ شتَّى مُتنوعة؛ فقد تتكوَّن في الظلام وتنمو ببطء، ولا تكاد تظهر في مجال الشعور حتى تجد صاحبها في حالة خور وإعياء عاجزًا عن إبداء أي مقاومة، فتعمل الغيرة عملها الخبيث الدفين في هدم الأمل وتحطيم الصحة النفسية والجسمية في آنٍ واحد. وأحيانًا أخرى تتفجَّر الغيرة كالصاعقة، فتهزُّ بُنيان الحياة الزوجية هزًّا عنيفًا تاركةً وراءها الخراب والدمار.

ليس من السهل تحليل الغيرة، ووصف ما يُعانيه الغيران من حالاتٍ نفسية؛ نظرًا لتضارُب هذه الحالات وتعقُّدها؛ فقد نجد الشخص الذي يسلك سلوك الغيران يؤكِّد أنه لا يعرف الغيرة، وأن الغيرة ليست من أخلاقه، كما يحدث أن الشخص الذي يحق له أن يغار على زوجه يجهل تمامًا الظروف التي من شأنها أن تبعث الغيرة، كأنه لا يريد أن يرى أو أن يسمع، وذلك تحت تأثير دوافع لا شعورية، ولكن إذا حلَّلنا الغيرة كما تبدو في شعور الشخص، فيمكننا تعريفها وتفسيرها بكل سهولة، فهي: إحساسٌ مُزعِج مُؤلِم ناشئ عن كُره الغيران مشاركة شخص آخر في حقه بالشخص المحبوب.

فالغيرة عادةً تنشأ في موقفٍ ثلاثي يضم الحبيبَين والمُنافِس، وتنطوي على عدوانٍ موجَّه نحو المُنافس، وعلى الخوف من فقدان موضوع المنافسة. في مثل هذه الحالة يرجع منشأ الغيرة إلى ما يشعر به الغيران بما جرح كرامته، وبما يُهدد حقَّه في التملك المُطلَق للمحبوب.

وقد تنشأ الغيرة دون وجود شخص ثالث مُنافس، فتنحصر في موقفٍ ثنائي بضم الحبيبَين فقط، وتصبح الغيرة مجرد تعلُّق غرامي مُطلَق لا يعرف الغضب ولا المنافسة، بل يُثير باستمرار الخوف من فقدان المحبوب دون وجود أي أمر جدير بتبرير هذا الخوف، فيغار الغيران من كل شيء، كأن يغار من النسيم الذي يُداعِب شعر حبيبته.

ويمكن إرجاع جميع حالات الغيرة إلى التفاوت بين الرغبة والواقع، بين النزعة إلى التملك المُطلَق وما يُهدد هذه النزعة، بين ما يمكن أن نُسميه بالشراهة الوجدانية والقدرة على إشباع هذه الشراهة.

ويؤكد لنا التحليل النفسي أن الغيرة التي يُثيرها تدخُّل المُنافس لا تُحدِث في نفس الغيران هذه الألوان من العذاب المُضني إلا لأنها تُحرِّك عقدةً قديمة ترجع إلى الطفولة، هي عقدة أوديب التي تجعل الصبي يتعلق جنسيًّا بأمه، وينظر إلى أبيه نظرة الخصم إلى مُنافسه. وبقاء هذه العقدة يرجع إلى أن الحب الذي كان يشعر به الطفل، ولا يزال يشعر به الشخص في كِبَره، هو من نوع الحب التملكي الأناني الذي لم يتطوَّر إلى الحب القائم على إنكار الذات، وعلى هبة الذات بدون قيد ولا شرط. ونستنتج من ذلك أن الغيرة ليست حتمًا ودائمًا من مُستلزمات الحب.

فالحب الذي يُوحِّد بين قلبَين ويجعل منهما قلبًا واحدًا يتنافى مع الغيرة. وبقدر ما يكون الحب حبًّا تملكيًّا تكون الغيرة أشد درجةً وأكثر إيلامًا وتعذيبًا.

ولا يتحتَّم لإثارة الغيرة أن يكون الموقف ثلاثيًّا فعلًا، وأن يُوجَد المُنافس في الواقع، فكثيرًا ما تكون الغيرة غير مدعَّمة بأمورٍ خارجية، بل يكون مَبعثها الوهم والتخيل المرَضي.

وقد تكون الغيرة ضربًا ممَّا يُسميه علماء النفس بالإسقاط؛ أي إلصاق صفة ذاتية بشخصٍ آخر، واتهامه بما يعتلج في النفس من رغباتٍ لا شعوريةٍ آثمة كوسيلة من وسائل التبرير والدفاع عن النفس. فالغيران يُسقِط على زوجه رغبته اللاشعورية في الفرار من قيود الزوجية، أو خيانة العهد الذي قطعه على نفسه، وهذه الرغبة عندما تدخل مجال الشعور تنقلب إلى عكسها: الزوجة هي التي ترغب في الخيانة وتسعى إليها. ويصبح التأويل في ذهن الزوج تأويلًا مرَضيًّا، وليس في إمكان أقوى الأدلة على براءة المرأة تغيير رأي الزوج الغيران؛ لأنه يجد في محاربة زوجته ما يُخفِّف الألم الذي تُحدِثه في نفسه رغباتُه المكبوتة.

وهناك نوعٌ آخر من الغيرة مصبوغٌ بصبغةٍ مرَضيةٍ واضحة، ولا يمكن فهمه إلا في ضوء العلاج بالتحليل النفسي؛ فمن الحالات الشاذة تعلُّق الشخص بشخص من نفس الجنس، وقد يتزوَّج مثل هذا الشخص بعد أن يكون انحرافه قد كُبت إلى حدٍّ كبير، غير أن المكبوت لا يلبث أن يظهر في صورةٍ مُقنَّعة؛ فهذا الزوج المُنحرِف يُعاني اتجاهاتٍ لا شعوريةٍ نحو الأنوثة، أي نحو الاتصاف بصفات الأنثى؛ فهو في آنٍ واحد يتقمَّص شخصية زوجته، ويتمنى أن يكون له مُنافس لكي يُرضي نزعاته نحو الأنوثة عن هذا الطريق الالتفافي؛ أي عن طريق تقمُّص شخصية زوجته، بل لا يكتفي أن يتمنَّى وجود ما يُنافسه في حب زوجته، بل يسعى من حيث لا يدري إلى تهيئة الفرص لجذب المُنافس وخلق الموقف الثلاثي.

إن هذا التحليل قد يبدو للبعض تعسفيًّا خياليًّا وبعيدًا عن الواقع، ولكن ما العمل والنفس الإنسانية أكثر عمقًا وظلمة من قاع البحار، وأعقد مسلكًا من الغابات الاستوائية؟ والأدلة على صحة هذا التفسير كثيرةٌ تُقدِّمها لنا العيادات السيكولوجية؛ فقد وجد علماء التحليل النفسي ارتباط الغيرة بالجنسية المثلية في عددٍ كبير من الحالات التي عالجوها.

الواقع أن عوامل الانحراف والمرض النفسي تتفاعل باستمرار مع عوامل الصحة والسواء. ويمكن أن نؤكِّد أن غير قليل من التصرفات التي تبدو سليمة ومعقولة، خاصة في حالات الطلاق، هي في الواقع تصرفاتٌ مرَضية تحتمي وراء ستار من التبرير الكاذب. ونعتقد أن المشرع الذي يريد تنظيم أمور الزواج والطلاق من واجبه أن يُقيم حسابًا للعوامل النفسية اللاشعورية، التي تُعين كثيرًا من هذه التصرفات التي تبدو سليمة في حين أنها بعيدة عن الطريق السوي.

(٦) تصدُّع الحياة الزوجية

رأينا في الفقرة السابقة أن الغيرة سببٌ هام من أسباب شقاء الزوجَين، وأنها دليل على نوع من الحب سمَّيناه بالحب التملكي، هو مزيج من الشره الوجداني ومن الخوف؛ شرَهٌ وِجداني يُلح في الأخذ وفي الاستيلاء، ويجهل العطاء والبذل والتبادل؛ وخوفٌ من فقدان الطرف الآخر لضعف الثقة في النفس والشعور بالنقص. وكثيرًا ما تنفجر الغيرة بعد فترة من التوترات العصبية الصامتة، فتهزُّ بعواصفها بُنيان الحياة الزوجية؛ ولكن هناك خطرًا آخر يُهدد سعادة الزوجَين لا يقلُّ أثره عن هذه المُشاحنات العنيفة التي تُثيرها الغيرة وإن كان هادئًا ساكنًا، وهذا الخطر هو تحويل الحياة الزوجية إلى سلسلة من الأفعال الآلية الرتيبة التي تتتابع في جوٍّ من الاستسلام والرضا السلبي. في مثل هذا الجو من الجفاف العاطفي يفقد الحب قيمته كعامل من عوامل تقوية النفس وتكامُل الشخصية، ويكتفي كل زوج بالقيام بما يعتقد أنه الواجب. ولا شك في أن القيام بالواجب في جوٍّ من عدم الاهتمام والمبالاة لا يلبث أن يُحوِّل الواجب إلى أمرٍ مُمل.

ولكي يتفادى الزوجان الحديثان التعرض لهذا الخطر، يجب عليهما أن يذكُرا أن الزواج ليس عقدًا كبقية العقود التي تُنظم معاملات الناس بعضهم مع بعض. ليس الزواج نهاية عهد يتصف بعدم الاستقرار، ثم الدخول في عهد من الثبات والاستقرار لا يتطلَّب مُواصلة المجهود لكي يحتفظ كل زوج بزوجه. كما أن الزواج لا يعني الدخول في منطقةٍ مجهولةٍ غير ظاهرة المسالك، يستسلم فيها المرء للصُّدف ولإلهامات اللحظة الراهنة.

إن الزواج عملية بناء وتكوين وتقدُّم متَّصلة الحلقات، تعترضها عقباتٌ يجب أن تكون موضع تبصُّر وتفكير؛ عمليةٌ تتطلَّب أحيانًا بعض التضحيات، ولكنها تتطلَّب دائمًا بذل المجهود لكي تسير إلى الأمام. فمن النادر أن يكون الحب في بدء الحياة الزوجية حبًّا كاملًا ناضجًا؛ فإن الجانب الحسي في الحب — وخاصةً عند المرأة — في حاجة إلى تربيةٍ دقيقة، على الزوج أن يقوم بها بكل رفق ولطف مدةً طويلة من الزمن؛ فقد قرَّرنا مرارًا أن طريق الأنوثة أشد وُعورةً من طريق الرجولة، وأن المرأة تستكمل نموها الجنسي في السنوات الأولى من حياتها الزوجية.

إن اتحاد الزوجَين جسمًا وقلبًا لا يمكن أن يتم دفعةً واحدة؛ فالتوافق العاطفي بينهما أمرٌ يجب تعلُّمه. وككُلِّ تعلُّم فإنه يقتضي اجتياز مرحلة من المحاولات والأخطاء والقدرة على الاستفادة من التجارب السابقة؛ فإن حسن الرويَّة مع الصبر والمثابرة كفيلٌ بتذليل العقبات والصعاب التي تعترض الحياة الزوجية في أطوارها الأولى.

ذكَرنا أن عقد الزواج ليس عقدًا تجاريًّا كبقية العقود ينصُّ بجانب الالتزامات والواجبات على العقوبات التي سيُطبقها القانون في حالة عدم القيام بالواجبات أو عدم تنفيذ الالتزامات. إن المثل الأعلى في الزواج أن يشعر كلٌّ من الزوجَين وفي كل لحظة من حياتهما أنه مُقبِل على شريك حياته حرًّا راضيًا، لا مجبورًا مضطرًّا تحت ضغط تعهُّد لا يلبث أن يُثير الندم. فإذا كان كلٌّ من الزوجَين يشعر بأنه يهبُ نفسه للآخر في جوٍّ من الحرية والتقدير المُتبادَل، فلا شك أن هذا الشعور بالحرية أقوى عامل من عوامل إسعاد الزوجَين وتدعيم أواصر الحب والاتحاد.

بهذه الكيفية فقط يمكن مُحاربة المَلل الذي يستولي على كثير من الأُسر، والذي يُحول الحياة المنزلية إلى سلسلة من حالات القلق والتذمر واضطراب المزاج.

وكذلك لا بد من هذا الجو من الحرية والتقدير المُتبادَل لكي تحتفظ الأمانة الزوجية بكل قيمتها؛ فقد يظن بعضهم أن معيار الحياة الزوجية الناجحة هو أن يكون كلٌّ من الزوجَين أمينًا نحو الآخر، لا يُقدِم على عمل من شأنه أن يمسَّ سمعة الأسرة وشرفها. إن مثل هذا المعيار معيارٌ سلبي إذا كانت الأمانة مفروضة فرضًا ومبعثها هو الخوف من الآخر، والرغبة في تفادي المواقف المُعضِلة المُحرِجة؛ فإن مثل هذه الأمانة التي يتحمَّلها الزوج كحملٍ ثقيل لا قيمة لها؛ لأن الأمانة الحقَّة هي قبل كل شيء أمانةُ القلب والفؤاد، لا أمانة العبد المكبَّل بالقيود المادية. يجب أن تصدُر الأمانة عن حبٍّ صادق يقوم على الهِبة لا على التملك والسيطرة، ويجب أن يستند الإخلاص إلى الاعتقاد القوي والشعور العميق بأن الزوج في نظر الزوجة وبأن الزوجة في نظر الزوج هو الشخص المختار، وأن القلب عرشٌ مقدَّس لا يحتلُّه إلا هذا الشخص المُختار.

يتَّضح لنا ممَّا سبق أن الحب في الزواج لا يمكن أن ينمو ويقوى ويزدهر إلا في جوٍّ من الثقة والحرية والتقدير. فإذا سلك أحد الزوجَين سلوكًا يُثير الشك والريبة، أو إذا حاول أن يفرض قيودًا تعسفية لا مُبرِّر لها، أو إذا صدرت عنه أقوال أو أفعالٌ تمسُّ كرامة زوجه وتجرح إحساسه؛ فإن بُنيان الحياة الزوجية يأخذ يتصدَّع شيئًا فشيئًا، ولا يلبث الفتور الذي أصاب الجاذبية المعنوية التي كانت تجمع بين الزوجين أن يُصيب الجاذبية الجسمية فيزداد التوتر بينهما، ويصبح التكيُّف العاطفي والجسمي أمرًا عسيرًا. وممَّا يُضاعف سوء الموقف اعتقادُ كلٍّ من الزوجَين أنه ضحية الآخر، فيُحاول التعويض عمَّا يُعانيه من الاستياء والخيبة بالسعي وراء ما يُرضي رغباته وميوله خارج نطاق الأسرة، وقد يُركِّز الزوج كل اهتمامه في مهنته والزوجة في العناية الزائدة بأطفالها. وقد يكون التصرف حلًّا للموقف غير أنه حلٌّ ناقص؛ لأن فيه اعتداءً على حقوق الزوجية. والدليل على ذلك أن الزوجة قد تغار من مهنة زوجها، ويغار الزوج من أطفاله.

ومن الأسباب التي تُعكِّر صفو الحياة الزوجية وتزيد التوتر بينهما، عدمُ فهمِ كلٍّ من الزوجَين طبيعةَ الآخر، والفصل بين العنصرَين اللذين يُكونان الحب؛ العنصر الجسمي والعنصر العاطفي. فمن واجب الزوج أن يُدرِك أن المرأة تُقدِّر إلى أقصى حدٍّ دلائلَ العطف والحنان، وأنها في حاجة إلى أن تشعر أنها موضع إعجاب وتقدير، وأنها ليست مجرد وسيلة لإشباع رغبات زوجها. ومن جهةٍ أخرى يجب على الزوجة أن تُدرِك أن مطالب الطبيعة البشرية في الزواج ليست مقصورة على مجرد العطف والحنان، بل تشمل رغباتٍ جسميةً في حاجة إلى الإشباع. وبهذا الصدد ينبغي أن نعلم أن عدم الأمانة الزوجية لا يرجع إلى المُغرِيات التي قد تُصادف المرء في الخارج، بل إلى تجاهل مطالب الزوجية الجسيمة وعدم إرضائها. لا نريد أن نقول إن ما يجب اتباعه هو الاستسلام للغريزة والاهتداء بنزعاتها، بل إنه من الضروري إخضاع الغريزة لنور العقل، ولكن دون أن يؤدي سلطان العقل إلى إماتة الغريزة وخنقها، بل إلى إرشادها وتهذيب قُواها الحيوية.

(٧) الطلاق

تمرُّ الحياة الزوجية بمراحل مختلفة، شأنها في ذلك شأن الكائنات الحية والمنظمات الاجتماعية، وتتطوَّر خلال هذه المراحل العلاقات بين الزوجَين، ويتَّخذ الحب الذي يربط بينهما صورًا جديدة من القوة أو الضعف، من التوتر أو الهدوء. وعوامل هذا التطور مُتعددة، بعضها خارجي وبعضها داخلي. ومن العوامل الخارجية التغيرُ الذي يلحق بالمستوى الاقتصادي للأسرة إما صعودًا أو هبوطًا، والحوادث الطارئة من أمراض وحروب وكوارث طبيعية … إلخ. أما العوامل الداخلية المُلازمة لطبيعة الأسرة فأهمها اتساع دائرة الأسرة بولادة الأولاد؛ مما يؤدي إلى ظهور وظائف جديدة، وتكوين علاقات جديدة، أو إعادة تنظيم العلاقات الزوجية بحيث تضم عاطفة الأبوة والأمومة.

ويكون تطوُّر العلاقات الزوجية مصحوبًا بتطوُّر الحب بين الزوجَين. ونعني بالحب الحب الإنساني الواقعي الذي تتكامل فيه عناصر الحس والعاطفة والعقل، لا الحب البهيمي الأعمى، ولا الحب الخيالي الأفلاطوني، لا الأنانية التي تتقنَّع بقناع الحب، بل هذه الحركة الشاملة التي تدفع الشخص إلى أن يهبَ نفسه للآخر، ويعمل على إسعاده، هبةً تتجدَّد في كل لحظة؛ لأنها لا تقوم على نزوةٍ مُتقلِّبة أو رغبةٍ عابرة أو غرضٍ رخيص، بل لأنها تقوم على وعدٍ أبدي!

إن طريد الفردوس يحنُّ دائمًا إلى الجنة المفقودة. وإذا كان الإنسان كثيرًا ما يُخطئ اختيار الوسائل، ويضلُّ الطريق المؤدِّي إلى الخير والسعادة؛ فإنه لا يمكنه أن يُسكِت هذا الصوت الذي يتصاعد من أعماق نفسه داعيًا إياه إلى تحقيق جميع إمكانياته من حق وخير وجمال.

هذا هو الدعاء الذي يظلُّ يسمع صوته، إن عاليًا أو خافتًا، خلال هذه المراحل التي يجتازها الحب الكامل عندما ينمو في جوِّه الطبيعي وفي تربته الطبيعية؛ أي في جو الحياة الزوجية وتربتها. ويمكن تحديد هذه المراحل في ثلاث: مرحلة التكوين الأول، وهي مرحلة اكتشاف وحماس؛ ثم مرحلة الأزمة والتوتر المُمهِّدة لنضج الحب، فترة توتر وعواصف لا بد منها لاستمرار عملية النمو؛ وأخيرًا مرحلة النضج، وهي مرحلة هدوء واستقرار تكون الاختلافات التي كانت قائمة بين الزوجَين قد تلاشت، فيزداد التشابه بينهما في العادات والأخلاق والآراء، بل قد يصل إلى حدِّ التشابه الجسمي. تلك هي صورةٌ تخطيطية لمراحل الحياة الزوجية: تكوين ثم أزمة ثم نضج. غير أن كل مرحلة جديدة لا تنفي السابقة، بل تتمثَّلها وتحتفظ بأهم عناصرها لكي تُواصل سيرها؛ فالحركة الطبيعية للنمو والاكتمال ليست تشتتًا وتفريقًا، بل حركة صعود لعناصر وعوامل أكثر غزارة وثراءً. ثم يجب أن نقول إن كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث الكبرى تمرُّ بعدة أطوار جزئية ثلاثية في تركيبها أيضًا؛ أي أطوار جزئية مُتعددة من النمو والأزمة والنضج.

وسبق أن تحدَّثنا عن بعض هذه الأزمات، وبعض عوامل تصدُّع الحياة الزوجية كالغيرة والملل والجفاف العاطفي والمظاهر العدوانية، غير أننا لم نتناول بعدُ هذه الأزمات التي تؤدِّي إلى انهيار الحياة الروحية، وقطع الصلة نهائيًّا بين الزوجَين، ونقصد الأزمات التي تنتهي بهجر منزل الزوجية والطلاق، وليس غرضنا أن نتناول جميع العوامل والأسباب التي تؤدِّي إلى الطلاق، بل سنقتصر على ذِكر أهم العوامل النفسية.

إن الطلاق كالزواج خاضعٌ للتشريع وللإجراءات القانونية، والسلطة التي تحكم بالطلاق أو ببطلان الزواج أو بفصل الزوجَين تعتمد في حكمها على أدلة ووقائع خارجية، ولا تعتني كثيرًا بالدوافع العميقة التي تتفاعل في نفس الزوج أو الزوجة. نعم إنه من واجب القاضي ومن واجب من يُعاونونه أن يُحاولوا تقريب وجهات النظر، وإرشاد الزوجَين لتصفية الجو وإتمام الصلح بينهما، ولكن من النادر أن تؤدِّي هذه المساعي إلى نتيجةٍ مُرضية؛ إذ كثيرًا ما تكون التهدئة مؤقَّتةً، ثم تعود الأزمة من جديد وتنبعث في صورةٍ أعنف ممَّا كانت عليه؛ وذلك لأن الأسباب التي يستند إليها طالب الطلاق ليست هي الأسباب الحقيقية، بل هي نوع من التبرير؛ فهو يعتقد أن الطرف الآخر هو السبب الوحيد لشقائه وبؤسه، وأن الوسيلة الوحيدة لينال قسطه من السعادة، وإن كانت سعادةً جزئية، هي أن تُتاح له الفرصة ليبدأ حياةً زوجية مع شخصٍ آخر.

قد يكون الأمر هكذا في بعض الأحيان، ولكن المُحلِّلين النفسيين يعتقدون أن معظم حالات الطلاق ترجع إلى عوامل نفسية لا شعورية، وتدخل في نطاق علم النفس المرَضي؛ أي إن الشخص الذي لا يرى حلًّا للأزمات التي تتخلَّل بالضرورة الحياة الزوجية إلا الانفصال والطلاق ليس بالشخص السوي، وإن السبب الرئيسي الجوهري الذي يجعله يُفكر في الطلاق ثم يُهدد به ثم يُنفذه هو مرضٌ في نفسه، هو عدم نضجه العاطفي، هو هذه الأساليب السلوكية التي اكتسبها عندما كان طفلًا، والتي كانت عاجزة عن تحقيق التكيُّف الناجح في ميادين نشاطه المختلفة مع والدَيه وإخوته وأصدقائه وزملائه في المدرسة وفي المهنة. فهو يستخدم في حياته الزوجية نفس الأساليب الخاطئة التي اعتاد استخدامها من قبل؛ الأساليب التي تُوحي بها الأنانية الزائدة، وعدم الثقة في النفس، والخوف من المسئولية، وحب التملك والسيطرة الزائفة. وقد تصل هذه الاتجاهات في السلوك إلى حدِّ المرض النفسي الخفي الذي ينتهز مئات الفرص التي تُقدمها الحياة اليومية لكي ينشط ويتحرَّك وينفجر في جوٍّ من القلق والتوتر.

والمُشاهَد أن الشخص المُنحرِف مِثلَ هذا الانحراف النفسي لا يجد ما ينشُده من سعادة في محاولته الزوجية الثانية أو الثالثة؛ لأن أسباب الداء موجودة فيه، وهو يحملها معه مهما تغيَّرت الظروف الخارجية وتنوَّعت شخصية الزوجة الثانية أو الثالثة، إلا إذا كانت الزوجة الجديدة مُنحرِفة نفسيًّا بنوع من الانحراف يتلاءم مع انحراف الزوج، فيكونان وحدةً شاذة لا يمكن أن تقوم إلى حين إلا في جوٍّ خاص من الشذوذ والتوتر.

إن الدراسات النفسية التي قام بها المُحلِّلون النفسيون في عياداتهم لحالات الطلاق أو الرغبة في الطلاق، بيَّنت بوضوحٍ أن الطلاق لا يصلح أبدًا ليكون علاجًا لمثل هذه الأزمات، بل العلاج الناجع هو أن يفهم الراغب في الطلاق الدوافع اللاشعورية التي تجعله يُفكر في مثل هذا الحل؛ فعليه أن يُعالِج نفسه من العُقَد التي تعمل في أعماق نفسه، بل من المفيد — كلما هدَّد أحد الزوجَين الآخر بالهجر والطلاق — أن يستشير كلٌّ من الزوجَين المُحلِّل النفسي، وأن يطلبا العلاج المُلائم لحالتهما؛ فمن شأن العلاج النفسي أن يزيد المُعالَج استبصارًا ومعرفة بنفسه، وأن يُمكِّنه من تقدير الأمور تقديرًا واقعيًّا؛ ومن شأن هذا الاستبصار وهذا التقدير السليم أن يجعل المرء يُدرِك أن الأزمات والمشاكل ملازمةٌ للطبيعة البشرية، وأنها ضرورية لرقيِّ الإنسان وصعوده في سُلَّم الكمال، وأن بعض الأزمات العنيفة التي تهزُّ بناء الحياة الزوجية لا حل لها سوى التضحية.

(٨) الأطفال

في بدء كلامنا عن الزواج ومشكلاته أشرنا إلى أهم وظائف الأسرة، وذكَرنا أن الوظيفة الأولى هي إعطاء العلاقة الجنسية بين الزوجَين قيمتها القصوى من الوجهة الحسية والروحية؛ لأنه لا يمكن تحقيق السعادة بين الزوجَين إلا إذا كان الرباط الذي يربط بينهما رباطًا جسميًّا وروحيًّا في آنٍ واحد، ثم تأتي الوظيفة الثانية وهي الخاصة بتنشئة الأطفال وإعدادهم للحياة الاجتماعية.

وقد تناولنا الوظيفة الأولى بالبحث والدراسة مُبيِّنين طبيعة الحب المعقَّدة، وكيف يتم التوفيق بين الغريزة الجنسية وبين الحب من حيث هو عاطفةٌ سامية تقوم على الهِبة والبذل وإنكار الذات، ثم رأينا كيف تتطوَّر العلاقة بين الزوجَين مارَّةً بمراحل التكوين والأزمة والنضج. وفي كلامنا عن أزمات الحياة الزوجية تعرَّضنا لمشكلة الطلاق، وذكَرنا بعض العوامل التي تدفع أحد الزوجَين إلى هجر الحياة الزوجية وطلب الطلاق، واتَّضح لنا أن في كثير من حالات الطلاق تلعب الانحرافات النفسية دورًا خفيًّا تحت قناع من التبريرات العقلية.

ونودُّ الآن أن نتناول مشكلة الطلاق في ضوء وظيفة الأسرة في تنشئة الأطفال وإعدادهم للحياة الاجتماعية، وسنقتصر على الموضوعَين الآتيَين؛ أولًا: هل عدم إنجاب الأطفال سبب كافٍ لتبرير الطلاق؟ ثانيًا: ما هو مصير الأطفال من الوجهة النفسية في بيتٍ هدمه الطلاق؟

للإجابة على السؤال الأول، وهو هل عدم إنجاب الأطفال سبب كافٍ لتبرير الطلاق، يجب أن نعرف أولًا ما إذا كان للزواج غرضٌ أوليٌّ أساسي وغرضٌ ثانويٌّ فرعي. هل الغرض الأساسي هو الذي يتحقَّق في بدء الحياة الزوجية، وهو إشباع الرغبات الجنسية والعاطفية والروحية لكلٍّ من الزوج والزوجة، في حين يكون إنجاب الأطفال هو الغرض الثانوي المُتفرِّع من الأول؟ أو على العكس من ذلك، نعتبر أن غرض الأسرة الأولي والأساسي هو التناسل وإنجاب الأطفال، في حين يكون إشباع الرغبات الجنسية والروحية مجرد تمهيد للتناسل؟

لا شك في أن علماء الاجتماع والتشريع سيُقرِّرون أن الغرض الأساسي للحياة الزوجية هو إنجاب الأطفال لضمان بقاء الجنس، وأن من واجب الأفراد خدمة المجتمع والعمل على بقائه ونموه. ولسنا مُحتاجين إلى جمع الأدلة لتدعيم هذا الرأي؛ فقوانين الطبيعة البشرية وتاريخ الإنسانية والنُّظم التشريعية والاجتماعية، كل هذه الأمور تؤيِّد القاعدة التي تجعل إنجاب الأطفال الغرض الأساسي للحياة الزوجية.

وإذا كانت هذه القاعدة صحيحة، فهل يتحتَّم أن يكون عكسها خطأً، وأن عدم إنجاب الأطفال يستلزم حتمًا فصل الزوجَين بعضهما عن بعض بالطلاق؟

ليس هذا الموضوع ممَّا يُسمَح بحله بنعم أو لا؛ فلا بد من تمييز الحالات المختلفة التي تعترض الباحث، والنظر في أسباب عدم الإنجاب والتناسل. فالقاعدة التي ذكَرناها تُحرِّم طبعًا تعمُّد منع النسل لأغراضٍ أنانية وفرارًا من المسئوليات، أما إذا كان عدم التناسل راجعًا إلى أسبابٍ خارجة عن إرادة الشخص دون تعمُّد ولا قصدٍ إرادي، ففي هذه الحالة يجب التمييز بين أمرَين؛ أولًا: عدم توافُر الشروط العضوية لإتمام الزواج. وفي هذه الحالة يُعتبَر الزواج كأنه لم يكُن، ويحقُّ للسلطة التشريعية إبطال عقد الزوج. ثانيًا: توافُر الشروط العضوية التي تسمح بإرضاء الغريزة الجنسية مع عدم توفُّر الشروط الفسيولوجية؛ أي في حالة العُقم الناتج عن نقص في وظائف الجهاز التناسلي؛ ففي هذه الحالة نجد اختلافاتٍ بيِّنةً بين علماء الاجتماع وعلماء النفس؛ فمن الوجهة الاجتماعية البحتة قد يُبرِّر العقم طلب الطلاق، غير أن علماء النفس ينظرون إلى أعمق من ذلك، فيُدافعون عن حقوق الفرد عندما يطغى سلطان المجتمع ولا يُراعى حق الفرد في تنمية ذاته وتحقيق إمكانياته العاطفية والروحية، ما دام استخدام هذا الحق لا يُلحِق بالمجتمع أي ضرر إيجابي.

ولتوضيح ذلك نقول إن الرجل الذي يُطلِّق زوجته لأنها عقيم لا يسلك هذا السلوك إلا لأن حبه ناقص، ولأنه ينظر إلى زوجته لا من حيث هي شخص يتمتَّع بالفكر والحرية، وبالخصائص التي تُميِّز الإنسان عن الحيوان، بل من حيث هي آلة ووسيلة؛ فالمشكلة ترجع إذن إلى طبيعة الحب القائم بين الزوجَين، وأن طلب الطلاق لسبب عُقم الزوجة لا يختلف في جوهره في نظر علم النفس عن طلب الطلاق لأسباب عدم الوفاق المزاجي والخلقي؛ أي إننا بصددِ أسبابٍ نفسيةٍ معظمُها لا شعورية ترجع إلى عدم النضج الانفعالي.

وما نريد أن نؤكِّده هو أنه من الممكن تحقيق السعادة الزوجية في حالة عدم إنجاب الأطفال؛ لأن الغرض الأساسي الذي يرمي إليه الحب هو اكتمال شخصية الرجل والمرأة أحدهما بالآخر. ثم يجب أن نذكُر أن العواطف مرِنة إلى حدٍّ كبير، وأن الميول قابلة للتحويل والإعلاء، وأن الطاقة العاطفية التي كانت ستُبذَل في رعاية الأطفال وتنشئتهم يمكن إشباعها في ميادين أخرى من النشاط الاجتماعي أو الفني أو العلمي دون تفكُّك الحياة الزوجية.

نعم إن أنوثة المرأة لا تكتمل إلا بالأمومة، ولكن في حالة تعذُّر هذه الأمومة العضوية هناك أنواع من الأمومة الروحية قد تُرضي المرأة، وتمنحها لونًا من السعادة قد لا تقلُّ عن سعادة الأمومة العضوية، خاصةً أن معيار السعادة معيارٌ «ذاتي».

وما يُقال عن الزوجة يُقال أيضًا عن الزوج؛ فهو يشعر بأن الطفل الذي أنجبه والذي يحمل اسمه، هو إتمام لشخصيته الاجتماعية وتزكية لرجولته، ولكن في حالة تعذُّر الأبوة العضوية تُوجَد كذلك أنواع من الأبوة الروحية في إمكانه تحقيقها في صحبة شريكة حياته، دون أن يضطرَّ إلى تحطيم قلب، والحكم على امرأة، لا ذنب لها، بأن تعيش على هامش المجتمع.

وممَّا يدعم رأينا هذا هو أن الرجل الذي يعجز عن أن يحب زوجته من حيث هي غاية في ذاتها، لا من حيث هي مجرد أداة أو وسيلة، لا يتردَّد في طلب الطلاق حتى ولو كان له أطفال، نعم إن وجود الطفل قد يحمل الزوج أو الزوجة على التريُّث قبل الإقدام على الطلاق، غير أن وجود الطفل لا يحُول دائمًا دون تفكُّك الأسرة وتحطيمها؛ ممَّا يُقيم الدليل على أن إنجاب الأطفال لم يكن الغرض الأساسي للحياة الزوجية. فإن كانت الزهرة الجميلة أو الثمرة الطيبة دليلًا على جودة الشجرة وسلامتها، فليست الزهرة أو الثمرة هي جوهر الشجرة؛ فلا بد أن تكون الشجرة في جوهرها سليمة لكي تزدهر وتُنتج الثمار. وهل من الحكمة أن نقتلع الأشجار التي لا تُثمر، وأن نعدَّ شكلها الجميل وظلها الوريف أمرًا لا قيمة له؟ فالظل قد يكون رمزًا للأمان، وحاجة الإنسان إلى الأمان والطمأنينة لا تقلُّ عن حاجته إلى الطعام والشراب؛ فقد تفُوق السعادة المعنوية ما قد تُقدِّمه لنا الحواس من لذة ومتعة.

(٩) الأطفال هم الضحايا

تقول الباحثة الاجتماعية الفرنسية لويز هرفيو Louise Hervieu في حديثها عن جرائم الأحداث: «لا يُوجَد أطفالٌ مُذنِبون، بل الأطفال هم دائمًا ضحايا.» لا شك في أن الطفل في السنوات الأولى من حياته هو مُحصِّلة العوامل الوراثية والبيئية التي تؤثِّر فيه، وتتفاعل باستمرار في ميدانٍ لا يكاد تُوجَد فيه في بادئ الأمر أيُّ مقاومةٍ صادرة من الطفل نفسه؛ فهو في حاجة لكي ينمو إلى تلقِّي الآثار المادية والمعنوية في الوسط العائلي.

وفي حالة اضطراب نشأته وإصابته بشتَّى الانحرافات في طبعه وسلوكه، أي عندما يكون ضحية الظروف التي تُحيط به، هل يقع الذنب كله على الوالدَين وعلى البيئة العائلية؟ ألا يمكن القول بأن الوالدَين إلى حدٍّ كبير أو صغير هما بدَورهما من ضحايا الظروف التي أحاطت بطفولتهما؟ قد يكون ذلك. وإذا استرسلنا في هذا اللون من التفكير والتعليل لانتهينا إلى القول بأن المُذنِب الأكبر هو المجتمع ونُظُمه الناقصة الظالمة، ولكن مثل هذا القول لا يُجدي ولا يُفيد، ويجب أن نذكُر دائمًا أن في إمكان الإنسان بفضل ما أُوتِي من عقل وإرادة أن يُقاوِم الآثار السيئة التي تُحيط به، وأن يصبح إلى حدٍّ كبير مسئولًا عن نفسه وسيد مصيره.

وما دام مستقبل الإنسان من اتزان أو انحراف، من توافُق أو فشل، من سعادة أو تعاسة، يتوقَّف إلى مدًى بعيد على سنوات الطفولة، وطبيعة الجو الاجتماعي الذي اكتنف هذه السنوات؛ فمن واجبنا أن نبحث جديًّا في أثر الأسرة التي فكَّكها الطلاق في تنشئة الطفل وتكوين اتجاهاته وتوجيه ميوله.

من الحقائق الثابتة عقلًا وتجريبًا أن البيئة الوحيدة المُلائمة لنمو الطفل الجسمي والنفسي ولتنشئته الاجتماعية هي البيئة العائلية؛ هذه المجموعة الموحَّدة المكوَّنة من الأم والأب والابن. في هذه البيئة يجد الطفل المَعونة المادية والمعنوية، وأحسن الفرص لتقوية شخصيته، ولتعلُّم أساليب التضامن والتعاون وضبط النفس. وإذا اختلَّ توازُن الأسرة فلا بد من أن يؤدِّي هذا الاختلال إلى اضطراب تنشئة الطفل بطريقةٍ صالحةٍ مُتكاملة. وقد يختلُّ هذا التوازن إما بوفاة أحد الوالدَين، أو بهجره المنزل، أو بتغيُّبه عنه فتراتٍ طويلةً، أو بتفكُّك الأسرة بالطلاق؛ ففي جميع هذه الحالات يُحرَم الطفل من سندٍ قوي هو في حاجة إليه لنموه الوجداني والاجتماعي؛ غير أن أثر كل حالة قد يختلف عن الآخر، والآثار التي يُحدِثها الطلاق أو انفصال الوالدَين تفُوق في خطرها آثار الوفاة أو الغياب؛ لأن الأولى تحدُث في جوٍّ من التوتر والبغض، وتبدأ هذه الآثار تعمل عملها بطريقةٍ خفيةٍ خبيثة قبل إتمام الطلاق، كما أنها تستمرُّ بعده. فحالة الطلاق وإن كانت تُعتبَر من الوجهة القانونية انتهاءً وخاتمة لمرحلةٍ سابقة، فهي من الوجهة النفسية والاجتماعية حالةٌ معلَّقةٌ غير مُنتهية ولا مغلقة على نفسها. ومن شأن الحالات المعلَّقة أن تُحدِث القلق المستمر، وأن تُثير النزاعات القديمة، وأن تبعث ألوانًا جديدة من الصراع النفسي.

ولا يقتصر أثر العائلات المفكَّكة على حالة الطفل من الوجهة النفسية فحسب، بل يتعدَّاه إلى سلوكه الاجتماعي. وتُوضِّح لنا الدراسات الاجتماعية والقضائية مدى هذا الأثر في جرائم الأحداث؛ فقد وُجد أن نسبة الأطفال المُجرِمين الذين يأتون من عائلاتٍ فكَّكها الطلاق والانفصال أو وفاة أحد الوالدَين، تتراوح بين ٥٠ و٦٥ في المائة. ولا يتناول هذا التقدير الكمِّي إلا الأحداث الذين أُحيلوا إلى محاكم الأحداث ودخلوا الإصلاحيات. ولا شك في أن هناك حالاتٍ أخرى ظلَّت محصورة داخل جدران المنزل، ولم تتحوَّل إلى أعمالٍ عدوانية ضد المجتمع.

ويظهر من بعض الإحصاءات التي تناولت جرائم الأحداث وانحرافات سلوكهم، أن نسبة الأُسَر التي يمكن اعتبارها من الأُسَر السوية هي ١٢٪ فقط، في حين أن نسبة الأُسَر المفكَّكة بلغت ٨٨٪. ومن أسباب تفكُّك الأسرة التي ذُكرت في هذا البحث:

الطلاق – انفصال الزوجَين – وفاة أحد الوالدَين – زواج أحد الوالدَين مرةً ثانية – الحياة الزوجية غير الشرعية – المرض.

وممَّا هو جدير بالملاحظة، أن نسبة حالات الطلاق والانفصال تُعادِل نسبة وفاة أحد الوالدَين؛ ممَّا جعل بعض الباحثين يذهبون إلى أنه ليس الطلاق في حد ذاته هو السبب في تشويه نمو الطفل الانفعالي وانحراف سلوكه، بل العامل الأساسي هو حرمان الطفل من أحد والدَيه، سواء كان هذا الحرمان نتيجة الطلاق أو الوفاة.

لا شك في صحة هذا الرأي، غير أنه ناقص، ولا يذهب إلى ما وراء الأرقام للبحث عن أوجُه الاختلاف بين آثار الطلاق وآثار الوفاة في نفسية الطفل، وفي نوع علاقته مع من يعيش معه من الوالدَين.

فكثيرًا ما يحدث أن يصبح الطفل بين الوالدَين المطلَّقين وسيلةً من وسائل الضغط أو الإغراء، ومجالًا للمنافسة بينهما، مُحاوِلًا كلٌّ منهما أن يُوحي إلى الطفل، بواسطة الهدايا والوعود، أنه موضع حبه ورعايته؛ فإذا كان الطفل يعيش مع أمه، فيُحاول الأب بجميع الوسائل اجتذاب حب الطفل وتنفيره من أمه، فيظل الطفل يُعاني من والدَيه، ومن اتجاهاتهما الانفعالية المُنحرِفة.

وقد يحدث أن يستغل الطفل الحالة الشاذة الناشئة من طلاق والدَيه، فيُحاول التلاعب بهما لإرضاء أنانيته ونزواته، فيُضيف إلى ما أصابه من انحراف واضطراب في نموه الوجداني اتجاهاتٍ سلوكيةً شاذة، ستعُوق في المستقبل توافُقه الاجتماعي، وتُعرِّضه لألوانٍ جديدة من الحرمان والإحباط عندما تُواجهه مواقف معقَّدة تتطلب منه قسطًا غير يسير من المرونة والأمانة والتضحية.

غير أنه يجب علينا ألا نُعمِّم بسرعة، خاصة ونحن بصدد موقف تتفاعل فيه عددٌ كبير من العوامل قد نجهل بعضها؛ فآثار الطلاق على الأطفال قد تختلف من حالة إلى أخرى، كما قد تختلف آثاره على الزوجَين.

كما يجب أن نقول إنه لا يكفي أن تكون الأسرة في ظاهرها مُتماسكة لكي نقول بأن تنشئة الأطفال ستكون حتمًا صالحة وجيدة؛ فالمواقف السلبية في التربية لا تُجدي بل هي ضارَّة؛ فهناك المجهود الإيجابي الذي يجب بذله باستمرار لإحكام تربية الطفل على أُسسٍ صالحة حتى ينشأ متَّزنًا ناضجًا مُتوافقًا في مجتمعه.

فالأم التي تُدلِّل طفلها وتُعامله معاملةً ضعيفةً غير حازمة، قد تُسيء إلى طفلها إساءةً تفُوق ما قد يلحقه من أثر الطلاق، أو حرمانه من والده بسبب الغياب الطويل أو الوفاة؛ فواجب الأم أو الأب أن يتساءل دائمًا: ما هي أحسن الوسائل في هذه الظروف أو تلك الظروف لكي أضمن لطفلي تربيةً أخلاقيةً سليمة؛ وبالتالي لكي أضمن له مستقبلًا سعيدًا؟

(١٠) الزواج المثالي

عندما يتناول عالم النفس موضوع الزواج بالبحث والدراسة في ضوء الحالات التي تُعرَض عليه، نجده يميل إلى إبراز العوامل التي تجعل من الزواج مهمةً عسيرةً شاقَّة، مُشيرًا إلى نواحي الشذوذ والانحراف، مُتحدثًا خاصَّةً عن أسباب الشِّقاق والنفور وعدم التكيُّف بين الزوجَين. ومن اليسير تعليل مثل هذا الاتجاه لاهتمام السيكولوجي بالنواحي العملية، وبتقديم العلاج للمشكلات التي يُستشار فيها. ثم إنه من المعلوم أن تحليل الظواهر السوية، وكشف العوامل التي تُعينها، أصعب بكثير من تحليل الظواهر المرَضية الشاذة؛ وذلك لانسجام هذه العوامل بعضها مع بعض، واختفائها وراء النتيجة النهائية، في حين أن المرض يُفكِّك الظاهرة، ويكون بمثابة التجربة العلمية التي يقوم بها العالم لتغيير الظروف والشروط.

فقد قيل بحقٍّ إن الشعوب السعيدة لا تاريخ لها، وكذلك يبدو الزواج الهادئ السعيد أمرًا يسير التفسير؛ لأن تفسيره يتلخَّص في عبارةٍ واحدة، وهي أن كلًّا من الزوجَين وُفِّق في اختيار الآخر. غير أن هذا التفسير عديم الفائدة في الوجهة العملية؛ فالأمر الذي يهمُّنا هو معرفة الشروط التي يجب توافُرها لكي يُوفَّق كلٌّ من الزوجَين في اختيار الآخر.

أما في حالات الزواج الفاشل، فإن الاضطراب الذي يُصيب الحياة الزوجية من شأنه أن يُبرِز بعض العوامل بصورةٍ واضحة، فيسمح بدراستها وتحليلها، وبالوقوف على نواحي التضخم أو النقص أو الانحراف. وقد سبق أن تحدَّثنا بالتفصيل عن المشكلات التي تعترض الزوجَين في مستهلِّ حياتهما الزوجية، ثم عن الغيرة وبعض عوامل تصدُّع الأسرة، وعن الطلاق وأثره في مصير الأطفال من الوجهة النفسية والاجتماعية. وقد يبدو لنا في ضوء هذه الدراسة أن تحقيق السعادة والوئام في الزواج أمرٌ شاقٌّ جدًّا؛ ممَّا قد يدفع البعض إلى التشاؤم واليأس. غير أنه يجب أن نذكُر أن معرفة أسباب المرض والانحراف هي في الوقت نفسه معرفة أسباب الصحة والسواء، ومعرفة حقائق الأشياء من أنجع الوسائل لمُحاربة التشاؤم وبعث التفاؤل في النفوس. ونودُّ اليوم أن نستخلص من دراسة الحالات الشاذة أهمَّ الشروط لتحقيق السعادة في الزواج، وسيتبيَّن لنا أن الزواج الناجح السعيد ليس أسطورة من الأساطير، بل أمر في وُسع الطبيعة البشرية أن تُحققه بشرط أن نفهم جوهر هذه الطبيعة وما يُلائمها من نُظمٍ اجتماعية، وبشرط أن نعمل بكل إخلاص لتهيئة الظروف المناسبة لتنمية جميع إمكانيات الإنسان، ولصيانة النُّظم الاجتماعية الكفيلة بتنمية هذه الإمكانيات إلى أقصى حد.

لا شك في أن الزواج نظامٌ يخضع لقيودٍ اجتماعيةٍ معيَّنة، وأن الرابطة التي تربط بين الزوج والزوجة يجب أن تكتسب صفةً شرعية. وقد اتخذ الزواج في تاريخ الإنسانية صورًا مختلفة تحت تأثير بعض العوامل الاقتصادية أو الدينية، غير أن هناك صفةً ثابتة تُلازم الزواج في جميع المدنيات، القديمة والحديثة، وهذه صفة الدوام والاستقرار؛ فالرابطة الزوجية رابطةٌ مُستديمة لا يقطعها إلا الموت.

ثم يتَّضح لنا من دراسة التاريخ وتطوُّر الوعي الإنساني أن الاتجاه السائد في تنظيم الحياة الزوجية هو الانتقال من نظام تعدُّد الزوجات إلى الزواج بواحدة. وليس من الغريب أن تكون المرأة نفسها هي التي تُطالب بأن تكون شريكة الرجل الوحيدة، عندما تُدرِك أنها ليست سلعةً اقتصادية، أو وسيلة من وسائل إرضاء شهوة الرجل، بل غاية في ذاتها، لها من حيث إنها إنسانٌ نفسُ حقوق الرجل من احترام وكرامة.

والآن علينا أن نطرح السؤال الآتي: هل صفة دوام رابطة الزواج حتى الموت، ومُطالبة المرأة بأن يكون الزواج بواحدة من الأمور التي أحدثها تطوُّر الإنسانية ونمو الوعي النسائي، أم هي مُتأصلةٌ في الطبيعة البشرية، وأن التطور الذي نُشاهده اليوم هو مجرد بُزوغ لأصولٍ موجودة في طبيعة الإنسان؟

للرد على هذا السؤال يجب أن نستطلع رأي علماء النفس؛ فمعظمهم يعتقدون أن صفة الدوام وميل المرأة إلى أن تكون هي الزوجة الوحيدة جزءٌ من الطبيعة البشرية؛ فقد دلَّت الدراسات التي تناولت المبادئ التي يخضع لها نمو الحياة الإنسانية على أن هذا النمو، عندما يكون سويًّا، يرمي دائمًا إلى تحقيق هدف نهائي مُستقر. فالدوام والثبات والاستقرار من دلائل النضج الوجداني والعقلي، أما الشخص المُنحرِف غير الناضج، فإنه يكون دائمًا في حالة تردُّد وشك، مُتقلِّب المزاج، غير مُستقر في سلوكه، غير ثابت في عمله، قد يعتقد أنه أرقى من غيره لأنه يتمتَّع بحريته كيفما شاء، والواقع أنه أسير نزواته، واندفاعه إلى العمل لا يدوم طويلًا؛ لأنه لا يُحسِن اختيار الهدف، بل يعجز عن إدراك الأهداف الإنسانية العليا؛ فقانون النمو السوي إذن هو الاتجاه نحو تحقيق هدف معيَّن.

وهذا القانون ينطبق أيضًا على الحياة الجنسية؛ فالإنسان يميل إلى تحقيق صورة ثابتة مُستقرة من العلاقة الجنسية، وهذه الصورة تتحقَّق في الزواج الدائم المُستقر.

وبجانب هذا الميل إلى الثبات والاستقرار، يُوجَد ميلٌ آخر يُميِّز العقل الإنساني، هو رد المُتعدِّد إلى الواحد والبسيط، وإرجاع الأنواع المختلفة إلى نوعٍ واحد، ومحاولة الكشف عن مبدأٍ واحد للتفسير والتعليل. وليست هذه النزعة إلى التوحيد مقصورة على التفكير الفلسفي والعلمي، بل هي تُسيطر أيضًا على حياتنا العملية. ثم يجب أن نذكُر أن لُبَّ الزواج ليس الحب وحده، بل أمرٌ يفُوق الحب في عمقه وشموله. إن عالم الحب مُغلَق، في حين أن عالم الزواج متَّجِه نحو الخارج نحو عالم النشاط والإنتاج، ومن الخطأ أن يعتقد بعض الرجال أن الزوجة تحدُّ من حرية الزوج. إن مهمة الزوجة أن تتوسَّط بين زوجها وبين العالم الخارجي، أن تزيد من قدرته وكفاءته؛ فرِضاها وتقديرها لنشاط زوجها في مهنته من أهم أسباب نجاحه في كفاحه اليومي.

فالرجل الذي يُحجِم عن الزواج خوفًا من فقدان حريته لا يفهم معنى الحرية الحقَّة؛ فالحرية في نظره هي عدم المسئولية، أما الحرية الحقَّة التي يتمتَّع بها الرجل المُتزوج المتَّحِد بزوجته بكل إخلاص ووفاء، فهي شعوره بالطمأنينة، وبأنه يعيش في سلام مع نفسه ومع العالم.

وهنا تتَّضح لنا عظمة الرسالة المُلقاة على المرأة؛ رسالة النهوض بالإنسانية، والمحافظة على كرامتها، والعمل على إسعاد الأجيال القادمة؛ فعَليها كأمٍّ أن تُنمي في أولادها روح الواجب، روح إنجاز العمل ومواصلته حتى تحقيق الهدف، أن تُنمي فيه الشعور بأن الحياة تصبح عديمة المعنى إن لم تجذبها أهدافٌ عالية. بهذه الكيفية ينضج الطفل تدريجًا حتى يُدرِك قيمة الثبات وإنجاز العمل، وقيمة الإخلاص الدائم للمبادئ التي تعلَّمها.

وعلى المرأة كزوجةٍ أن تزيد زوجها ثقةً في نفسه، وأن تُوفِّر له أسباب النشاط المُثمِر المُنتِج، وأن تجعله يشعر أنه في وُسعها أن تملأ حياته، وأن تحقق كل ما كان يتمنَّى من سعادة وهناء في حياته الزوجية.

(١١) الوفاء في الزواج المثالي

إن التحليل العلمي بطبيعة الرجل والمرأة من الوجهتَين الجسمية والنفسية يؤدِّي بنا إلى نتيجةٍ هامَّة، وهي أن الزواج ليس أمرًا عرَضيًّا يُوجَد في ظروفٍ اجتماعية معيَّنة، ويتغيَّر ويتلاشى إذا تغيَّرت هذه الظروف، بل هو أمرٌ مُلازم لطبيعة الإنسان، وعنصرٌ جوهريٌّ ضروري لكي تكتمل الحياة البشرية. والزواج في لُبِّه وأساسه هو قبولُ كلٍّ من الرجل والمرأة أن يعيشا معًا حتى الموت في ظل الشرع والأخلاق؛ أي إن معنى الزواج يستلزم حتمًا معنى البقاء والدوام والاستقرار؛ غير أن المهم هو ليس تحقيق الدوام والاستقرار بطريقةٍ خارجيةٍ مادية على الرغم من الشِّقاق الداخلي وتوتُّر الحياة الزوجية، بل المهم هو أن يقوم الاستقرار والدوام على أساس من الوئام والتفاهم، وعلى نيةٍ صادقةٍ قوية للمحافظة على هذا الوئام، ولتقوية هذه الرابطة الجسمية والمعنوية في آنٍ واحد، التي تجعل من الزوج والزوجة وحدةً مُتماسكةً مُتضامنة الأطراف. ويمكن تلخيص جميع الشروط التي تضمن بقاء هذه الوحدة وتنميتها في كلمةٍ واحدة: الوفاء.

وكما أن هناك صورًا مختلفة لحالات الزواج التي تبدو لنا مُستقرة إذا نظرنا إليها من الخارج، يُوجَد أيضًا صورٌ مختلفة للوفاء؛ فبجانب الوفاء الخالص الحر الذي لا تشوبه شائبةٌ تُوجَد أشكال من الوفاء المزيَّف، أو من الوفاء السلبي الذي فقد روح الإخلاص، أو من الوفاء المُصطنَع الكاذب الذي لم يعُد سوى قناع لإخفاء ما وراءه من انحلال وموت.

ولكي نفهم تمامًا طبيعة الوفاء الخالص الذي يقوم عليه الزواج المثالي، يجدر بنا أن نقف قليلًا عند طبيعة الزواج من الوجهة السيكولوجية، وأن نكشف عن سِمته الجوهرية بعد أن نستعرض أهم عناصره كما تبدو لنا خلال خبرتنا النفسية.

لا شك في أن الزواج المثالي يستلزم وجود عنصرَين أساسيين، هما الجاذبية الجنسية أولًا ثم الحب. غير أن الزواج المثالي لا يمكن أن يقوم على الجاذبية الجنسية وحدها؛ لأنها معرَّضة للتغيُّر والزوال كسائر الأمور الحسية، ولا بد من أن تدعمها عاطفة الحب. وحتى الحب وحده لا يكفي لإقامة الزواج المثالي؛ لأنه هو أيضًا عُرضة للتقلب والزوال، بل للانقلاب إلى ضده، خاصةً عندما يأخذ صورة الولوع والغرام. فالحب الذي لا يندمج في الحياة الزوجية، ولا يستمدُّ منها أسباب النمو والبقاء، هو بمثابة مُغامرة يستسلم لها الإنسان دون وعي أحيانًا، ودون أن يدري أبدًا كيفية تطوُّرها ووقت انتهائها. ففي الحب من حيث هو مجرد اندفاع عاطفي جانبٌ غريريٌّ لا إرادي؛ ولهذا السبب قد يُصاب بتطوراتٍ فجائية تؤدِّي به إلى الفتور والزوال، أو تُحوله إلى مأساةٍ مؤلمة.

أما الحب في ظل الحياة الزوجية فإنه يكتسب روحًا جديدة؛ لأن الزواج مهمةٌ جديَّة تقوم على جانبٍ كبير من التفكير الموجَّه ومن العزم الإرادي؛ ولذلك قد لا نلوم أنفسنا إذا خاننا الحب، ولكن فشلنا في الزواج يترك فينا دائمًا الشعور بأننا أخطأنا وأسأنا التصرف.

ويتَّضح لنا الفرق بين عالم الحب وعالم الزواج بالمقارنة بين العلاقة السيكولوجية التي تربط بين العاشقَين وتلك التي تربط بين الزوجَين؛ ففي الحالة الأولى يعيش العاشقان في عالمٍ مُغلقٍ مُنعزلٍ أنانيِّ النزعة، وينظران إلى الآخرين نظرةَ شك وريبة قد تتطوَّر إلى نوع من الاتهام، كأن يخشى كلٌّ منهما أن يفقد الآخر. وفي مثل هذا الجو من التملك المُطلَق تنبت بُذور الغيرة بسهولة، ويصبح الوفاء أمرًا مهدَّدًا باستمرار.

أما في حالة الحب الزوجي، فلا يكون الزوج مُستغرقًا في حب الآخر كما هو الحال لدى العاشقَين، بل يكون عالم الزواج قابلًا للنمو والتوسع مُرحبًا بكل جديد، وكلما اتَّسع نطاق الأسرة زادت أواصر الحب بين الزوجَين قوةً وشدة؛ لأن الحب في كنف الزواج يكون قد تطهَّر من النزعة إلى الامتلاك والاستئثار ليصبح قدرةً لا نهاية لها للبذل والعطاء والتضحية.

فالشعور الذي يربط الزوج هو الشعور بأن كلًّا منهما للآخر، لا بأن الواحد هو ملك الآخر؛ الشعور بأن الاثنين مُكملان لبعضهما بعضًا، وتنمو شخصيةُ كلٍّ منهما في جوٍّ من الحرية داخل هذه الوحدة التي نُسميها بحقٍّ الوحدة الزوجية. والحياة الزوجية تطبع شخصية الزوجَين بطابَعٍ خاص لا يمكن امِّحاؤه، فيشعر كلٌّ منهما أنه أصبح جزءًا من كلٍّ. إنه انضم إلى الجزء الذي يُكمله، إنه يُكون معه المجتمع الأصغر؛ هذه الخلية التي تدخل في بناء المجتمع البشري الأكبر. وبتكوين هذا المجتمع الأصغر المُستقر يُرضي الإنسان نزعةً عميقة في طبعه؛ النزعة إلى الحياة الاجتماعية، إلى الفرار من العزلة والوحشة، كما أنه يُحقق صورةً جديدة، وإن كانت مختلفة في عناصرها، للرابطة التي كانت تربط الطفل بوالدَيه. إننا نعلَم أن في سن المُراهقة يثور المُراهق على القيود المفروضة عليه، ويضيق ذَرعًا بسلطة والدَيه، فينشُد التحرر من القيود، ويطلب الاستقلال، ولكن بعد سنوات يصبح عبء الحرية ثقيلًا، ويبدأ يشعر بالوحشة المعنوية رغم نشاطه وأعماله، وعندئذٍ يُدرك أنه ليس من الخير أن يظل الإنسان مُنفردًا، فيسعى إلى اختيار شريك حياته، إلى اختيار هذا الشخص دون غيره لكي يقضي حياته في معيَّته؛ ولهذا السبب يكون الزواج من الوجهة السيكولوجية، وفي ضوء معرفتنا لطبيعة الإنسان، مطبوعًا بطابع الدوام وعدم الانفصام؛ فهو ليس مغامرةً غرامية تُسجَّل في محكمة أو تُدمغ بدمغةٍ رسمية، بل المرحلة الطبيعية التي يجب اجتيازها لإتمام الطبيعة البشرية، وإرضاء نزعتها الاجتماعية العميقة.

ولكن على الرغم من أن الحب ليس هو أساس الزواج وجوهره، غير أنه يؤدِّي دوره الضروري في جميع مراحل الحياة الزوجية. فبفضل الحب يكشف الإنسان من هو جديرٌ بأن يُشاركه في حياته؛ لأن عاطفة الحب وسيلة من وسائل المعرفة قد تفُوق في دقتها ونفوذها وسائل المعرفة العقلية البحتة. ولكن إذا كان يجب أن نحب الشخص الذي اعتبرناه جديرًا بأن يكون شريك حياتنا، فليس معنى هذا أن كل من يُحرِّك فينا عاطفة الحب يصلح لكي يكون زوجًا؛ لأنه، كما سبق أن قلنا، الزواج مهمةٌ يقتضي تنفيذها الحكم السليم والعزم الإرادي وروح المسئولية.

وبفضل الحب تتلوَّن الحياة الزوجية بألوانٍ زاهية، فيشعُّ في الجو العائلي روح الأمل والتفاؤل، وتصبح الأعباء اليومية أيسر وأخف وطأة، وعلى رغم من تطوُّره مع السنوات يظل الحب الزوجي مَبعث الاطمئنان والهناء.

غير أن جوهر الزواج ليس الجاذبية الجنسية ولا الحب نفسه، بل كما قلنا تحقيق هذه الرغبة العميقة في الإنسان إلى أن يكون مع الشطر الثاني الذي يُكمله؛ ولهذا السبب تظل الرابطة قوية بين الزوجَين بعد أن تكون الحواسُّ قد هدأت؛ فسعادتهما هي أن يكون الواحد مع الآخر، أن يجلس معه، أن يعيش معه، أن يُشاركه جميع ظروف الحياة في السرَّاء والضرَّاء. وليس المهم أن يعمل أحد الزوجَين شيئًا ما لكي يُثبت للآخر أنه يحبه كأن هناك شكًّا يجب تبديده، بل المهم أن يُدرك بل أن يُحس دون تفكير أنه مع زوجه؛ فلُبُّ الزواج الحقيقي هو هذا الشعور بالمعيَّة، وبأن هذه المعيَّة أمرٌ طبيعي لهذه الوحدة الزوجية التي اندمج فيها الطرفان اندماجًا كليًّا. وفي مثل تصوُّرنا هذا للزواج الحقيقي يصبح الوفاء أمرًا طبيعيًّا ونتيجة حتمية لهذه المعية الزوجية؛ لعدم وجود ما من شأنه إصابة الرابطة الزوجية بأي ضعف أو تفكُّك.

(١٢) ألوان من الوفاء

ليس من العبث أن نتحدَّث عن الزواج المثالي بحجة أن الأمور المثالية أمورٌ خياليةٌ بعيدة المنال؛ فإن الإنسان ينزع دائمًا بطبيعة عقله وفؤاده إلى ما هو أحسن وأرقى، هو ينزع دائمًا إلى تحقيق أهداف، وقد لا يُحسِن أحيانًا اختيار الهدف، فنراه يبحث عن هدفٍ آخر يجد في تحقيقه إشباعًا لرغباته العميقة، ولما ينشُده من استقرار وثبات.

وعندما تحدَّثنا عن الزواج المثالي وصِلته بالوفاء انتهينا إلى النتيجة الآتية، وهي أن الزواج المثالي لا يُعاني أبدًا مشكلة الوفاء من حيث هو عملٌ خلقي يتطلَّب بذل المجهود لمُواجهة الظروف المُعادِية والتغلب عليها؛ وذلك لأن تعلُّقَ كلٍّ من الزوجَين بالآخر وإخلاصهما القوي من شأنهما أن يُحصِّنا الزوج والزوجة ضد أي إغراء جنسي يأتي من الخارج. وهذا لا يمنع الزوجَين من أن يختلطا بالآخرين، وأن يُعاشرا الناس وأن يُقدرا صفاتهم؛ غير أن نظرة الزوج إلى أي امرأة أخرى أو نظرة الزوجة إلى أي رجل آخر، تكون نظرةً مجردةً نزيهةً غير مُغرِضة. تلك هي الحال في الزواج المثالي الذي يكون فيه الزوجان متَّحِدَين اتحادًا كليًّا. أما إذا انحرف الزواج، وأخذ يتصدَّع لسبب من الأسباب، فعندئذٍ يصبح العالم الخارجي وما فيه من رجال ونساء مصدر إغراء وفتنة. وفي هذه الحالة يتَّخذ الوفاء شكلًا جديدًا، فيصبح واجبًا خلقيًّا، بل عبئًا خلقيًّا قد يكون من العسير تحمُّله. وعندما يتَّخذ الوفاء في شعور الزوج أو الزوجة شكل الواجب، فهذا دليل على أن هناك خطرًا يُهدد الزواج من الداخل، وأن تصدعًا قد حدث في بناء الزوجية سيتسلَّل منه العدو الخارجي للقضاء على هذا البناء.

والنتيجة التربوية التي نستخلصها من هذا التحليل هي أنه لا يكفي تلقين المبادئ الخلقية من الخارج على صورة تدريب يعتمد على الضغط أو التخويف، بل ليس من الكافي أن يقتنع العقل بسموِّ المبادئ الخلقية دون أن تصبح هذه المبادئ جزءًا لا يتجزَّأ من الشخصية والدافع الأساسي العميق الذي يُعين السلوك ويُوجهه؛ فليس من المنطق أن نتهاون مع الطفل أو مع المُراهق إذا لجأ في بعض تصرُّفاته إلى أساليب الغش والكذب والخداع، سواء في ألعابه أو في تأدية واجباته المدرسية، ثم نُطالبه فيما بعدُ أن يكون وفيًّا مُخلِصًا في عمله أو في حياته الزوجية؛ فإن الاتجاه نحو الوفاء أو نحو الغدر والخيانة من الاتجاهات العامة التي تصبغ الشخصية بصبغتها الشاملة؛ فإذا كان أسلوب الشخص في حياته هو الوفاء بالوعد والإخلاص في العمل، فمن المُحتمل جدًّا أن يكون وفيًّا مُخلِصًا في جميع أمور حياته، وأن يُبدي هذا الاتساق الذي يُميِّز الشخصية المُتماسكة المُتكاملة.

والحياة الزوجية عملٌ جِديٌّ متَّصِل الحلقات، لا يمكن الشروع فيه ومُواصلة السعي بنجاحٍ ما لم تكن الشخصية متَّسِقة في تصرُّفاتها، مُتكاملة في دوافعها وأهدافها، متَّصِفة بالوفاء والإخلاص.

فالاستعداد للزواج لا يبدأ قبل توقيع عقد الزواج بسنة أو بسنتَين. قد تكفي هذه المدة للاستعداد المادي أو الاقتصادي، ولكنها لا تكفي للاستعداد المعنوي؛ فكثيرًا ما قلنا إن الزواج ليس نهاية عهد وبداية عهد جديد، بل هو الامتداد الطبيعي لنمو المرء العقلي والخلقي، هو إحدى الغايات التي تُحدِّد مراحل الحياة، والتي لا تتحقَّق إلا بتحقُّق الغايات السابقة المُمهِّدة لها؛ وعلى ذلك فالاستعداد للزواج من حيث شروطه المعنوية والخلقية يبدأ منذ الطفولة المُبكرة، ويستند إلى التربية التي يتلقَّاها الطفل من والدَيه، مُتأثرًا بمختلف العوامل التي تؤثِّر في تنشئته الاجتماعية، والتي تُكون فيه الاتجاهات والأساليب التي سوف يستخدمها فيما بعدُ في معاملاته مع الآخرين؛ فإذا شبَّ الطفل وفيًّا مُخلِصًا فمن المرجَّح أن يظل هكذا في المستقبل عندما يشرع في بناء أسرته الجديدة.

وعندما يصبح الوفاء من مُقوِّمات الشخصية وطبيعةً ثابتة في الإنسان، فلا يعود يشعر الزوج أو الزوجة أن الوفاء واجب أو عبء، بل أمرٌ طبيعي تستلزمه طبيعة الزواج؛ أي إنه والزواج شيءٌ واحد، جوهرٌ واحد.

ولا يصبح أمر الوفاء مشكلة من المشاكل إلا عندما ينحرف الزواج عن صورته المثالية، وعندما تتحوَّل الرابطة الزوجية من رابطةٍ معنويةٍ روحية إلى رابطةٍ شكلية تقوم على المنفعة أو حتى على احترام التقاليد. ففي هذه الحالات قد تبدو الحياة الزوجية حياةً هادئةً سعيدةً موفَّقة، ولكن إذا دقَّقنا النظر لوجدناها حياةً فارغةً فاترةً أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. فالوفاء في مثل هذه الحالة أشبه ما يكون بالهُدنة التي تقوم بين فريقَين من المُحاربين، فيتعهَّد كل فريق بأن يحترم شروطها، غير أن هذه الهدنة لا يمكن أن تتحوَّل إلى سِلمٍ حقيقي، بل هي أقرب أن تنقلب إلى شجار وحرب.

حياةٌ هادئة في الظاهر، ولكن لا عن انسجام في النشاط، بل عن فراغ وعدم اهتمام، هو الهدوء الذي يُخيِّم على المقابر. وفي مثل هذه الحياة الزوجية التي انعدم فيها الابتكار والتجديد، يدور الزوجان كالأشباح حول مقبرة الحب، والوفاء بينهما وفاءٌ سلبي لا عاطفة فيه ولا حيوية.

وكذلك لا وجود للوفاء في الحالات التي يكون فيها الزواج عبارة عن صفقةٍ تجاريةٍ قائمة على تبادُل المنفعة، وخاضعة لشروطٍ معيَّنة؛ قيود من ناحية، حرية مُطلَقة من ناحيةٍ أخرى. فمِثل هذا الاتفاق ليس جديرًا بأن يُسمَّى زواجًا، والإخلاص المقيَّد بشروط ليس إخلاصًا، بل ضربٌ من الحساب النفعي.

وبين هذَين الطرفين — طرف الجمود من جهة، وطرف الإباحية من جهةٍ أخرى — يُوجَد الزواج غير المُستقر، حيث تنبعث مشكلة الوفاء باستمرار في جوٍّ من الحذر ومن الغيرة الكامنة. فكلٌّ من الزوجَين عاجز من جهة عن التمسك الصارم بالتقاليد وبالأوامر الخلقية، ومن جهةٍ أخرى عن تحمُّل عبء الحرية الكاملة والاستهتار؛ فهو يعيش في جوٍّ من القلق لا يدري ما إذا كان يجب الرجوع إلى تقاليد الماضي، أو الاتجاه نحو نداء المستقبل الغامض.

وأمثال هذه الحالة كثيرة جدًّا، وهي ليست إلا صدًى للأزمة الروحية والخلقية التي يُعانيها المجتمع في الوقت الحاضر؛ فقد زاد عدد الرُّسل الذين يُوجِّهون نداءهم إلى الإنسان الحديث، واعدين إياه بأن يضمنوا له السعادة والاطمئنان إذا استمع إليهم؛ فهذا يتحدَّث بِاسم العلم، وذاك يُنادي بِاسم الدين، وثالث يستوحي الفلسفة، ورابع يُشِيد بمبادئ سياسية واجتماعية جديدة، وهناك من يتكلَّم بِاسم الفن داعيًا إلى الحرية المُطلَقة إن لم يكن إلى الفوضى والإباحية.

والإنسان اليوم حائرٌ بين هذه النداءات المختلفة المُتضاربة. وليس من الغريب أن تضطرب القيم المعنوية، وأن يصل هذا الاضطراب إلى داخل الأسرة، فيؤثِّر أثره في الحياة الزوجية، جاعلًا مهمة تحقيق الوفاق بين أعضاء الأسرة أمرًا شاقًّا عسيرًا.

والواقع أن المذاهب المُتطرِّفة، أو التي تنحصر في ناحيةٍ دون الأخرى من نواحي الطبيعة البشرية، تعجز لتطرُّفها أو لقِصر نظرها عن أن تُقدِّم لنا حلًّا وافيًا لمشكلات العصر. فلا بد من أن ننظر إلى الإنسان نظرتنا إلى وحدةٍ حيةٍ معقَّدة يجب أن تُراعى فيها نواحيها المادية والعقلية والروحية في آنٍ واحد، أن نُراعي فيما يختصُّ بالموضوع الذي نُعالجه ما يقتضيه الجنس والحب والزواج في آنٍ واحد.

١  انظر «مشكلة السعادة» في كتاب «شفاء النفس» للمؤلف، الفصل الأول، الطبعة الثانية ١٩٥٣، دار المعارف بمصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤