بلقيس ملكة سبأ العربية

تُعَدُّ بلقيس من أوفر الملوك القحطانيين اليمنيين — أو العرب الجنوبيين — حظًّا بالنسبة لما تواتر حولها وتناثر من أساطير وحكايات، ما تزال تواصل سرياتها وتوالدها المتوالي في مأثورات شعوب الشرق الأدنى، بل والعالم أجمع.

خاصة ما يتصل بمعاصرتها واتصالها بالنبي الملك سليمان — ١٠١٥ق.م — حين انتقل وطار سليمان إليها بعد أن أمر الريح، فأقلَّت عرشه وكراسي وزرائه، وأجلس الإنس عن يمينه وشماله، وأجلس الجن من ورائهم، وأظلته الطير والخيل واقفة، والطباخون في التوابيت جلوس على أعمالهم، وأمر سليمان الريح بالمسير متجهًا إلى — ممالك — تدمر،١ لكنه توقف في مكة؛ إذ إن ابن قيدار بن إسماعيل كان قد استجار به فنزل سليمان وأقرَّه على مكَّة، وعاد فسار بعرضه حتى نزل بنجران على القلمس بن عمرو، وهو الملقب بأفعى نجران، وكان من بني عبد شمس بن وائل بن حمير بن سبأ، وهو عامل بلقيس على نجران والبحرين.٢

ويبدو أن الأفعى كانت الشعار أو الحيوان المقدس لذلك القلمس — الذي يُقال إنه كان أحكم العرب.

كما كان النسر هو الطائر المقدس — الطوطم — لدى العرب البائدة، خاصة قبائل عاد.

وكذلك الهدهد، الذي تسمَّى به الملوك اليمنيون، ومنهم الهدهاد بن شرحبيل، والد بلقيس، وتسمَّت هي أيضًا به، وما تزال تواتر فابيولات الهدهد وبلقيس؛ منها أن هدهدها لقي هدهد سليمان حين افتقد سليمان هدهده قبل زيارته لبلقيس، فتساءل الملك النبي الكاهن سليمان: ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين؟ لأعذبنه عذابًا شديدًا أو لأذبحنه أو ليأتين بسلطان بلقيس.

فكان أن حدث أكثر من لقاء — طوطمي — بين الهدهدين، أقرب إلى التلصص، فسأل هدهد بلقيس هدهد سليمان — أو طموطمه — حين لاقاه: أخبرني ما هذا الذي أرى؟! ما رأيت ملكًا أعجب من هذا الراكب الريح. وعاد هدهد سليمان فسأل نظيره اليمني حين أخبره من أرض سبأ عن ملكهم؟ فأجابه: ملكتنا امرأة لم يسر الناس مثلها في حسنها وفضلها وكثرة جنودها، والخير الذي أعطته في بلدها، وهي من ولد جمير، وأمها من الجن، وقومها يسجدون للشمس.

وبعد أن انتهى هدهد سليمان من تجسسه، عاد إلى سليمان بالخبر المعروف وأَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ.

ويُنْسَبُ للشاعر الجاهلي الأسطوري الكبير أمية بن أبي الصلت أن الهدهد كان سبب انقضاء ملك بلقيس في أشعاره الأسطورية أو أساطيره الشعرية، التي تتناول مواضيع خلق العالم، والجنة والنار، وخطيئة آدم، والطوفان، وخرافات ذي القرنين، وبلقيس (انظر: يعرب أبو العرب أمية بن أبي الصلت).

من قبله بلقيس كانت عمتي
حتى تَقَضَّى ملكها بالهدهد

ولا تنتهي مأثورات الهدهد الخرافية، ومنها حين امتحنته بلقيس، فأرسلت إليه بمائة وصيف ومائة وصيفة، ولدوا في شهر واحد في ليلة واحدة، ليفرق بينهم، محملين — طبعًا — بالجواهر والخير والهدايا.

ثم كيف جاراها سليمان في أحبولاته ومحاذيره، فبعث بعفريته الذي أتى له بعرشها، وكان ذهبًا صامتًا، مرصعًا بالدر والياقوت، عشرين في عشرين ذراعًا، وتاجها كالعنقل، معلق إلى رهو المجلس بالسلاسل، ثم حين التقيا وراحت بلقيس تقول له الحذور أو الألغاز ليحلها، مثلما سألته: «أخبرني عن ماء لا هو في الأرض ولا هو في السماء.» فأجابها سليمان بأن ركب فرسه وأجراها طويلًا، وحين عرقت شرب من عرقها وارتوى. وهو شائع جدًّا في التراث الشفاهي العربي، كما أن التراث الشفاهي ما يزال يحفظ لسليمان أنه أول من جاء بالمادة أو العجينة التي تزيل شعر النساء، وذلك عندما رأى أن جسد ملكة سبأ اليمنية بلقيس أحسن جسد، إلا أنه مُغَطًّى بالشعر، فلقد٣ اعتقد سليمان بأن بلقيس ما هي إلا العفريتة ليليت — انظر الليليت — وحواء الأولى، المنحدرة إلى البابليين من سابقيهم السومريين — اللاساميين — ووردت في التراث السومري للمرة الأولى في أحد نصوص ملحمة جلجاميش «جلجاميش وانكيدو والشجرة الصفراء»، والتي كان سكناها الخرائب والأماكن المهجورة، سواء في نصوصها الأم عند السومريين والبابليين، أو ذلك التراث المتواتر المعاش اليوم على رقعة بلداننا العربية.

وورد في العهد القديم أن جن سليمان هم الذين شيدوا مدينة «تامار» أو «تدمر»؛ أي التمر أو مدينة التمر، وهذه الحكايات وغيرها كانت شائعة بكثرة شديدة بين العرب الجاهليين حول أحداث وخرافات ومأثورات وأساطير سليمان وبلقيس ملكة سبأ.

ويرى البعض أن اسم بلقيس مشتق من تسمية إله القمر عند السبأيين الذي لُقِّبَ في اليمن ﺑ «المقة»، ومنه جاء اسم الملكة بلقيس، كما يُذْكَرُ أن من اسمه تواترت تسمية مكة المكرمة.

ومما يؤكد هذا الرأي أن نقوش المسند حفظت أسماء مجموعة من المعابد خُصَّصَتْ لعبادة الآلهة القمرية «المقة»، من أشهرها هذا المعبد الذي زارته إحدى البعثات الحفرية الأمريكية، وهي بعثة «وندل فيلبس» وما تزال بقايا هذا المعبد قائمة، ويُعْرَفُ لدى اليمنيين باسم حرم بلقيس أو «محرم بلقيس».

كما أن في مدينة صرواح عاصمة ممالك سبأ معبد آخر لآلهة القمر «المقة» يُعَدُّ أكثر قدمًا، ذكر المؤرخ «هاليفي» أن به بقايا جدران شاهقة، عليها كتابات بالخط المسند، ويُطْلَقُ على ما تبقى من خرائبه «عرش بلقيس».٤
وتروي بعض هذه الخرافات أنه بعد تزوج سليمان بلقيس، وأنجب منها «رحبعم» الذي خلفه بعده على ملك اليمن، ضاع من سليمان خاتم ملكه، أو أن الأقدار ابتلته فضاع ملكه، وكيف أن ساحرًا كتب سحرًا وجعله تحت ملك سليمان، وسحر به أصف بن برخيا — كاتبه الذي ما تزال الذاكرة الشعبية تحفظ اسمه — وكيف أن الشيطان تمثَّل في صورة سليمان، ودخل على نسائه، وكن يبلغن ثلثمائة زوجة، وسبعمائة جارية ومحظية. وعندما سأل الشيطان نساء سليمان عن أسراره الجنسية قلن له: «إنه يأتينا في المحيض،٥ وإذا طهرنا لم يقربنا.» فقال الشيطان: «أنكرت سليمان لما رأيت من عدله، وأظهره لما رأيت من جوره.» أي إن سليمان توحد به؛ أي الشيطان.

ورواج خرافات الجن والشياطين في ثنايا تاريخ هذه الحضارة الحميرية، والتي تداخلت في نسب ملوكهم مثل بلقيس، وذي القرنين، والملك ناشر النعم، بالإضافة إلى أن قبائل بكاملها، أرجعت إلى الجن، مثل بني ملك وبني يربوع، ومن المرجح أن تكون فكرة الجن في منشأها فكرة دخيلة، جاءت بها هذه الحضارة الحميرية المبكرة خلال حروبها وفتوحاتها، واتصالاتها الأسيوية المبكرة فيما يجاورها من حضارات، خاصة الآرية في الهند وفارس (انظر: فرس إيرانيين آريين).

١  انظر: تدمر ابنة التبع، حسان اليماني.
٢  المصدر السابق، التيجان، وهب بن منبه.
٣  روبرت جريفز.
٤  يحق لي التقدم بوافر الشكر لما أتاحه لي معهد الإنماء العربي من جهود لإنجاز كتاباتي، ومنها الموسوعة التي أصدرتها سابقًا. وبخاصة د. علي بن الأشهر، والأستاذ طاهر عراب.
٥  العادة الشهرية، وتابو: دم الحيض، وما يُشَاعُ عنه في الفولكلور وبقية الأنساق الأنثروبولوجية، مثل «التابو». انظر دراستنا المستفيضة عن التابو، في كتاب «الفولكلور والأساطير العربية» دار ابن خلون. شوقي عبد الحكيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤