القصة كاملة

كانت «لوزة» كالعادة أكثر المغامرين تحمُّسًا للبقاء في الكيلو ١٠١ من الساحل الشمالي الغربي — العجمي — برغم المَخاوف والمَحاذير. فعندما حضر المُغامرون الخمسة والكلب «زنجر» مع صديقهم «نبيل» لقضاء إجازةٍ مُمتعةٍ بين البحر والرمال، حدثت ثلاث مُفاجآتٍ مُفزعةٍ: الأولى اختفاء «عم سالم» حارس الفيلا، والثانية اختفاء «زنجر»، والثالثة اختفاء «لوزة»، واستطاع الأصدقاء بمُساعدة «زنجر» الذي عاد وحده أن يصلوا إلى مكان «لوزة» في بئرٍ غريبةٍ تمتلئ بماء البحر من بابٍ صغير، وأنقذوها ثم أنقذوا «عم سالم» الحارس العجوز … وهكذا كان من الممكن أن تنتهي المغامرة، ولا داعيَ لأن يزجَّ المغامرون بأنفسهم في متاعبَ لا دخل لهم فيها، ولكن بمشاعر المغامرة الكامنة في أعماقهم كانوا جميعًا ميَّالين إلى البقاء وبحث كلِّ شيءٍ.

وكان «نبيل» قد حكى لهم عن قصة السفينة «النجمة الخضراء» التي غرقت منذ زمنٍ بعيدٍ في المياه أمام الميناء الصغير عند الكيلو ١٠١ في طريق العجمي … لقد كانت تحمل ثروةً من الذهب والمُجوهرات، وقد حاول «نبيل» العثور على السفينة بدون جدوى، في حين يقول «عم سالم» إن هناك عصابة تحاول العثور على السفينة.

قالت «نوسة»: أليس من الأفضل أن نسمع القصة من «عم سالم» نفسه … لعل هناك تفاصيل لا يعرفها أو لا يذكرها «نبيل» … يمكن أن توضِّح لنا هل نمضي في البحث أو ننسى المسألة؟

وافق الأصدقاء على هذا الاقتراح … وسرعان ما ذهب «نبيل» ودخل الفيلا، وعاد بعد قليلٍ بصحبة «عم سالم» … العَجوز، وهو يَحمل إبريقًا قديمًا مملوءًا بالشاي، وفي اليد الأخرى مجموعة من الأكواب الصغيرة، وجلس الجميع على الشاطئ يَستمعُون إلى «عم سالم» … وهو يَحكي التفاصيل المُثيرة لحادث غرق الباخرة «النجمة الخضراء».

وأخذ «عم سالم» رشفةً من كوب الشاي، ثم قال: عندما بدأت نُذُر الحرب العالمية الثانية في الأفق، وبَدَا واضحًا أن العالم مُقْبلٌ على حربٍ مُدمِّرةٍ بين ألمانيا من ناحية، والحلفاء من ناحية أخرى؛ فقد قرَّر المرحوم جدُّ الأستاذ «نبيل» أن يُصفِّي أعماله في البحر، وهكذا باع سُفنَه كلها، واحتفظ بواحدةٍ منها فقط، هي الباخرة «النجمة الخضراء»، وقد كانت سفينةً جميلة لا مثيلَ لها … لقد عشتُ حياتي كلها في البحر منذ كنتُ طفلًا صغيرًا، وأستطيع أن أقول إنني لم أرَ سفينة في قوتها وجمالها، لقد صُنِعتْ في إنجلترا بمُواصفاتٍ خاصة!

وتنَهَّدَ «عم سالم»، وعاد يقول: وخوفًا من انهيار أسعار العملات الأجنبية في أثناء الحرب — وهذا ما حدثَ بعد ذلك فعلًا — فقد اشترى جدُّ «نبيل» بالجزء الأكبر من ثروته كميةً من الذهب والمُجوهَرات من فرنسا، وضَعها في صندوق على السفينة «النجمة الخضراء»، وبقيَ هو في فرنسا لتصفية بقية أعماله، وقبل إبحار السفينة بيومٍ واحدٍ مرض قُبطانها المصري المرحوم «طه» ونُقل إلى المستشفى لإجراء عمليةٍ جراحيةٍ عاجلة، وهكذا اضطُررنا إلى البحث عن قبطانٍ آخر، ووجدنا قبطانًا فرنسيًّا يُدعى «روجيه»، ومن النظرة الأولى له لم أحبَّه، كانت تبدو عليه علامات الدهاء والخسَّة، بعكس أكثر العاملين في البحر، فهم على درجةٍ كبيرةٍ من الطيبة والكرم … إنَّ البحر هو المدرسة الأولى في تَعَلُّم الكرم والسماحة … ولكن لم يكن «روجيه» كذلك.

وأقلعت السفينة في يومٍ عاصفٍ من ميناء «طولون» متجهةً إلى الإسكندرية، كان أكثر بحَّارتها من المصريين … ولكن ضابط السفينة الثاني كان إيطاليًّا يُدعى «كوتزيني»، وكان هناك عددٌ من البحَّارة من جنسياتٍ مختلفة.

محب: هل كانت سفينة كبيرة؟

تَنهَّد «عم سالم» العجوز وقال: نعم كانت حمولتها أربعة آلاف طن، وفي ذلك التاريخ — من أربعين عامًا — كانت هذه تُعَدُّ حمولةً ضخمة … وسارت الأمور على ما يُرَام حتى لاحتْ شواطئ الإسكندرية في الأُفق، وبَدَا لي أن تحركات القبطان والضابط الثاني في السفينة ليست طبيعيةً … فهناك أشياء تُنقل بدون سببٍ، والسفينة تُبطئ حركتها قُرب الشاطئ المصري بدون سببٍ … وقابلت الضابط الثاني «كوتزيني» وتحدَّثت معه، وإذا به يحتدُّ جدًّا، ويغضب بدون سببٍ واضحٍ … ثم زاد على ذلك شيئًا أخطر، أنه أمرَ بحبسي بتُهمة التمرد!

وصمت «عم سالم» وسَرَحَ بعيدًا، ثم عاد يقول: كان إجراءً خَطيرًا ليس له ما يُبرره، ولكن عدم الطاعة على السفن يمكن أن يُحطِّم حياة البحَّار … وهكذا نُفِّذت التعليمات، وعندما جاء الليل سمعت حركة غير عاديةٍ على ظهر السفينة، ثم زادت حركتها أيضًا بشكلٍ غير طبيعيٍّ، وأخذت أفكر فيما يَحدُث، وفيما أفعل، وقُرب منتصَف الليل استطعت أن أُحدِّد مكان السفينة، كنَّا قد اقتربنا من شاطئ الإسكندرية تمامًا، وأحسستُ بسعادةٍ لأنَّ الرحلة انتهت، وبعد أن ترسو السفينة في الميناء يكون كل شيءٍ على ما يُرام.

كان الجميع يستمعون في اهتمامٍ وتشوُّقٍ إلى النهاية، وقد كانت نهايةً مُحزِنة كما كانوا يعرفون، وقال «عم سالم»: وفجأةً دَوَّى انفجارٌ ضخمٌ في قلب السفينة … واهتزَّت السفينة بسرعةٍ، ومالتْ على جانبها الأيمن، وأخذتُ أجري كالمَجنون، لم أصدِّق ما حدث إلا بعد أن حاصرَتْني المياه وكدتُ أغرق … ولكني استطعت النجاة بمُعجزةٍ، وأخذت أعوم بسرعةٍ أنا وعدد من زملائي، حتى وصلت إلى الشاطئ … ثم شاهدت اللهب وقد ارتفع من السفينة الغارقة، وشاهدتها وهي تغوص في قاع البحر، وتبتلعها المياه.

وأشار «عم سالم» إلى مسافة من الشاطئ وقال: وعلى بُعْد نحو ثلاثة كيلومترات تلاشت السفينة «النجمة الخضراء» ونجا بعض بحَّارتها وغرق بعضهم، وعندما جاءت لجنة التحقيق أثبتت أن من بين الغرقى القبطان، والضابط الثاني!

ومضى «عم سالم» يقول: وبدأت الحرب العالمية الثانية في اليوم التالي، ونسي الناس سريعًا حكاية السفينة «النجمة الخضراء»، فقد اقتربت الحرب من مصر، بل إن القوات الألمانية لم تكن تبعُد عن المكان الذي نجلس فيه الآن إلا بأقل من مائتي كيلومتر، وأخذت الطائرات تقوم بالغارات الجوية على الإسكندرية كلَّ يومٍ، وهاجر أهلها إلى مدنٍ أخرى، ولكن كل هذا لم يشغلْني عن «النجمة الخضراء»، لم أكن مُقتنعًا أن الانفجار الذي وقع فيها تمَّ قَضَاءً وقَدرًا، ولم أكن مقتنعًا بوفاة القبطان «روجيه» والضابط الثاني «كوتزيني».

زاد انتباه المغامرين للقصة وقالت «لوزة»: ماذا تصوَّرت إذن يا «عم سالم»؟

ردَّ الرجل العجوز: إنَّ غرق سفينةٍ جديدة أمرٌ بعيد الاحتمال جدًّا، خاصَّة في بحر هادئٍ مثل البحر المتوسِّط، وانفجارها أمرٌ لا يُمكن تصديقه؛ لأن آلاتها جديدة … والشيء الوحيد المُمكن هو أن تكون قد انفجرت بفعل فاعلٍ، وقد كان ضبَّاطُها وبحَّارتها المصريون جميعًا يُحبون صاحب السفينة، ولا يمكن أن يُقْدِموا على مثل هذا العمل الخطير المؤلم.

نوسة: أنت إذن تتَّهم «روجيه» و«كوتزيني»؟

عم سالم: نعم.

نوسة: وتقول إنهما لم يَغرقا؟

عم سالم: نعم.

نوسة: ولماذا أغرقا السفينة؟

عم سالم: ليستوليا على كنز المجوهرات والذهب.

نوسة: هل أخذا الكنز معهما قبل أن تغرق السفينة، وهربا به؟

عم سالم: هذا ممكنٌ عن طريق أحد قوارب الإنقاذ.

نوسة: في هذه الحالة فإن العمليات المريبة التي تتمُّ هنا في هذا المكان، وخطفك، ومحاولة التخلص منك، وحكاية البئر القديمة … كل هذا لا علاقة له بموضوع الكنز!

عم سالم: إذا كان الرجلان قد سرقا الكنز من البداية، فمِن المؤكَّد أن ما يحدث هنا ليس له علاقةٌ ﺑ «النجمة الخضراء» وصندوق الكنز الذي كان بها!

نوسة: إذن لماذا تَربط بين غرق «النجمة الخضراء» وما يحدث هنا من تحركاتٍ مريبةٍ؟

عم سالم: هذا ما يُحيِّرني، لماذا يوجد غرباء في هذا المكان؟! إنهم يَتردَّدون على هذا المكان منذ نهاية الحرب عام ١٩٤٥، لا بدَّ أن هناك شيئًا هامًّا يدفعهم إلى هذا المكان، وهو الشيء الوحيد الذي يَجذبُهم إلى هذه الصحراء، ولكن ما هو هذا الشيء؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤