مأزق خطير!

كان الوقت مبكرًا عندما أخذ القارب يشقُّ طريقه على صفحة الماء، وتحدَّث «نبيل» قائلًا: إذا كان البحَّار «حسني» قد غرق بفعل العبوة التي نسفت السفينة، فمعنى ذلك أنه لم يذهب بعيدًا عنها … ربما أقل من مائة متر.

نوسة: هذا يعني أننا نَحتاج إلى وقتٍ طويلٍ للوصول إلى المكان.

نبيل: نحو ربع ساعة.

ومضى القارب يشقُّ طريقه بين الأمواج، وعلى الشاطئ رفع «عم سالم» رأسه إلى فوق ومضى ينظر، ثم نظر إلى الأُفق، وقال محذِّرًا: يبدو أن هناك عاصفة على وشك الهبوب … إنَّ الريح تتحدث!

أُعجبتْ «لوزة» بهذا التعبير — الريح تتحدَّث — فقالت تسأله: هل تَتحدَّث الرياح؟

عم سالم: بالطبع … إنها فصيحةٌ جدًّا!

لوزة: هل تُعلِّمني لغة الرياح؟

عم سالم: إنها لغة صعبةٌ، وتحتاج إلى وقتٍ طويل؛ ولكن من الممكن أن أُعلِّمك بعض مُفرداتها … هناك رياحٌ صريحة تهبُّ من اتجاهٍ واحد، وهذه يُمكن فهمها ببساطة، ولها علاماتٌ؛ فالرياح الغربية باردةٌ عمومًا، في حين أنَّ الرياح التي تأتي من الشرق دافئةٌ، وهناك رياح «مشكلة»؛ أي تأتي من اتجاهات مُختلفةٍ في وقتٍ واحدٍ، وهذه لا يمكن فهمها إلا بالمران، وهناك رياحٌ جافَّة، ورياح مُحمَّلَة بالبُخار أو الرطوبة، وهناك رياحٌ هادئةٌ كالنَّسيم، وهناك رياح قوية كالثورة …

كانت لوزة تستمع باهتمامٍ واستمتاعٍ إلى صوت الرجل العجوز الذي مضى يقول: يقولون إنَّ هناك كتبًا عن الرياح!

لوزة: نعم … علمُ الجغرافيا يدرس الرياح؛ كيف تهبُّ؟ ونوعها، واتجاهاتها الموسمية والتجارية وغيرها من الاصطلاحات. ولكن لا أظن أن هناك كتبًا قُرِّرت عن لغة الرياح، فهذه لغةٌ خاصة يفهمها البحَّارة.

عم سالم: وكذلك الطيور؛ فإن نظرتِ إلى طيور البحر فستَجدين أنها تتصرَّف كأنها تسمع لغة الريح وتفهمها.

لوزة: من المؤكد أنها تَفهم، فحياتها كلها في قلب الريح!

ابتعد القارب، وعاد الاثنان إلى الفيلا فوجدا «تختخ» قد استيقظ، وقد جلس في الصالة يقضم «ساندوتشًا»، ويشرب كوبًا من الشاي … وأخذت «لوزة» تروي له في لهفةٍ وسرعةٍ الأحداث التي مرت وهو نائمٌ: العثور على الخطاب في القارب، ماذا كان في الصندوق الحديدي، احتمال وجود الكنز في مكانٍ بعيد عن السفينة، مغامرة الثلاثة الذين ركبوا القارب وذهبوا يبحثون عن الكنز.

كفَّ «تختخ» عن الطعام … كانت كمية المعلومات كبيرةً وكأنها وقفتْ في حَلْقِه، وبعد لحظاتٍ قال: لماذا لم تُوقظوني؟

لوزة: لقد رفض «محب» ذلك، وقال إنك سهرتَ طويلًا، ويجب أن تنام!

تختخ: ولكن هذه المعلومات على جانبٍ كبير من الأهمية … متى يعودون؟

لوزة: لا أدري … ولكن ليس قبل الغداء على كل حالٍ، إنَّ «نبيل» متحمسٌ جدًّا، وهو يظن أنه سيتمكن من العثور على الكنز قبل الرجال المجهولين الذين يبحثون عنه.

تختخ: لا أظن … إن المياه عميقةٌ … وستكون رمال القاع قد طمَرتِ الصندوق!

لوزة: إن ثياب الغوص الجديدة ستُساعده على البقاء تحت الماء فترة طويلة، وقد يستطيع العثور عليه!

التفت «تختخ» إلى «عم سالم»: ما رأيك يا «عم سالم»؟

عم سالم: إنني أوافقك في أنه من الصعب أن يعثر «نبيل» على الصندوق بعد أربعين عامًا، صحيح أن الصندوق ثقيلٌ، وأنه لم يَبعُد عن مكانه، ولكن من المؤكد أن الرمال قد غطَّته.

أخذت الريح تهبُّ شيئًا فشيئًا، وتشتدُّ شيئًا فشيئًا، ومضى «عم سالم» إلى نافذة الفيلا، ونظر إلى الخارج ثم قال: من الأفضل أن يعودوا الآن … إنَّ الريح تُوشك أن تتحوَّل إلى عاصفةٍ!

خرج الثلاثةُ ووقفوا أمام الفيلا ينظرون إلى البحر … كان القارب يبدو كنقطةٍ سوداء بعيدة، وقد بدأت الأمواج ترتفع، والأفق يتحول إلى لون التراب.

قال تختخ: يجب أن نُناديَهم.

وأسرع بإحضار فوطة بيضاء من الداخل، ثم سار الثلاثة مسرعين إلى الشاطئ، ووقف «تختخ» يُلوِّح بالفوطة البيضاء لهم، ولكن فاتَ الأوانُ؛ فقد أخذت الريح تلعب بالقارب، وعلى ظهره كانت «نوسة» تتحدث إلى «محب»: لماذا غاب «نبيل» إلى هذا الحد؟

كان «نبيل» قد قفز إلى الماء ثلاث مراتٍ، وفي المرة الأخيرة تأخَّر كثيرًا … وقال «محب»: لعله عثر على الصندوق.

نوسة: إنَّ الموقف سيُصبِح حَرِجًا بعد قليلٍ؛ الريح تشتدُّ، وسيكون من الصعب التجديف.

وأخذت الأمواج تضرب القارب بشدةٍ، و«محب» يحاول بواسطة المجاديف أن يُبقيه في مكانه حتى لا يبتعد عن مكان «نبيل» … ولكن الرياح أخذت تلعب بالقارب، وأصبحت السيطرة عليه أكثر صعوبةٍ، و«نبيل» لا يظهر!

وأحسَّت «نوسة» بالخطر …

وعلى الشاطئ كان القلقُ قد اشتدَّ ﺑ «تختخ» و«لوزة» و«عم سالم»، وفجأةً قالت «لوزة»: أين «عاطف» و«زنجر»؟

كانت الملاحَظة في موضعها … فمنذ أكثر من ساعتين، ومنذ استيقظ «عاطف» وسمع قصة الصندوق والرسالة اختفى بطريقةٍ غامضةٍ هو و«زنجر» … وفي غمرة الحماس والانفعال … لم يلتفت أحد إليهما.

أخذت الرياح تلعب بالقارب بشدةٍ، وأحسَّ «محب» أنه سيفقد السيطرة على القارب تمامًا، خاصة أنَّ الحبال التي كانت تربط المجاديف حبالٌ قديمة، يمكن أن تنقطع عند أول ضغطٍ عليها، وأخذ ينظر إلى المياه كأنه يريد أن يَنفذ ببصره إلى قاع البحر وينادي «نبيل» … ونظر إلى «نوسة» فوجدها تنظر إليه، وقد بَدا القلقُ واضحًا على وجهها … وصاحت تقول له: ماذا سنفعل؟

محب: ليس أمامنا إلا الانتظار.

وجاءت موجةٌ عاليةٌ وضربت القارب فدار في موضعِه بشدةٍ، وعندما حاول «محب» أن يُبقيه في مكانه حدث ما كان يخشاه، وانقطَع حبل المجداف الأيسر، ودار القارب دورةً عنيفةً، ثم أخذ يبتعد من مكانه … وفي هذه اللحظة ظهر «نبيل»، ولكنه كان بعيدًا عن القارب ببضعة أمتارٍ، وأخذ يُشير إليهما ليَقتربا منه، ولكن كان ذلك مستحيلًا، لقد أصبح القارب تحت رحمة الهواء والمياه، وأخذ يبتعد في اتجاه داخل البحر حسب قوة التيار … وعبثًا حاول «نبيل» اللحاق به.

على الشاطئ كان «تختخ» و«لوزة» و«عم سالم» يَرقُبون هذا المشهد من بعيدٍ وقد استولى عليهم الذعرُ … وبلا انتظارٍ خلع الرجل العجوز ثيابه ثم ألقى بنفسه في الماء، كان يعرف أن التيار يمكن أن يحمل القارب بعيدًا جدًّا داخل البحر، وربما يُغرقه، وبروح البحَّار أخذ يعوم — برغم كبر سِنِّه — مندفعًا إلى قلب البحر. اسْوَدَّ الأفق تمامًا، وزَمْجَرَت العاصفة، وانقلب البحر إلى وحشٍ هائجٍ، وبدا «تختخ» و«لوزة» في وسط هذا المشهد الطبيعي المخيف مخلوقَين ضعيفين لا حَوْلَ لهما ولا قوة.

كان قلب «تختخ» يرتجف … فهذه ليست أول مرةٍ يواجه فيها الخطر، ولكن هذه المرة كان خطرًا ضخمًا … خطرًا من صُنْع الطبيعة القاسية التي لا ترحم، خَطرًا لا يمكن مواجهته لا بالشجاعة، ولا بالتفكير … فهناك «محب» و«نوسة» و«نبيل» تحت رحمة العاصفة، و«عم سالم» العجوز تحت رحمة الأمواج، و«عاطف» و«زنجر» مختفيان لا أحد يعرف مكانهما.

برغم هذا كان ذهنه يعمل، وكان الحل هو البحث عن مساعدةٍ خارجيةٍ … نعم يجب العثور فورًا على رجال خفر السواحل، هم وحدهم الذين يُمكن أن يساعدوه … ولكن كيف الوصول إليهم؟

تَذكَّر جهاز «الوكي توكي» الذي أعطاه الضابط «أحمد» إلى «نوسة» … أهو معها … أم تركته في الفيلا؟ … وصاح رافعًا صوته حتى تسمعه «لوزة»: أين «الوكي توكي» الذي كان مع «نوسة»؟ هل أخذته معها إلى القارب؟

لوزة: لا أدري … ولكني لا أذكر أنني رأيته معها.

تختخ: هَيَّا بنا.

أخذا يجريان في اتجاه الفيلا، والرياح تدفعهما إلى الخلف … كان صراعًا من أجل العودة … وأخذا يقفان ويقعان ويجريان، وقد اندفعت الرمال تلفُّ وتدور وتضرب كل ما تُواجهه كأنها سياطٌ، وعندما وصلا إلى الفيلا وقد أنهكهما التعب، كان في انتظارهما مفاجأةٌ قاسية … كانت الرياح قد أغلقت باب الفيلا، وكانت المَفاتيح بالداخل.

أحسَّ «تختخ» باليأس يتسرَّب إلى قلبه؛ إن كل الظروف تعمل ضده. وأمسك بيده «لوزة» ودار حول الفيلا حتى توقَّفا خلف الجدار الأيمن حيث يُمكن اتِّقاء الريح، وفي السكون الذي وفَّرَه الجدار وقفا ولم يتكلما كلمةً واحدة؛ صديقان صغيران يواجهان الطبيعة والظروف القاسية بدون أدنى أملٍ في النجدة أو المساعدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤