الشيخ محمد عبده

في محلة نصر، إحدى قرى مركز شبراخيت بمديرية البحيرة، وُلد الشيخ محمد عبده من أب اسمه عبده خير الدين، كان ممن رزقوا بسطة في جسومهم وقوة، ومرنوا على الرماية والفروسية، وما إليها، فكسبوا من الهيبة بقوَّتهم وبطشهم فوق ما كان لهم من عِزٍّ ومال.

أما أُمُّه فالسَّيِّدة جتينة أيم ذات ولد، من حصة شيشير، من مركز السنطة بمديرية الغربية، تزوجها أبوه في هجرته مطارَدًا من بعض الحكام.

وحفظ الشيخ محمد عبده القرآن في بلده، ثم ذهب إلى طنطا فجوَّده في الجامع الأحمدي، وصُدَّ عن طلب العلم، فعاد إلى بلده ليشتغل بالزراعة، وتزوج يومئذٍ — على حداثة سنه.

وكان في خئولة أبيه رجلٌ متصوفٌ يُدعى الشيخ درويش خضر كفكف من جماح الشَّبَاب، فجعله متصوفًا، ورَدَّهُ إلى طلب العلم في طنطا.

ورحل بعد ذلك الشيخ محمد عبده إلى الأَزْهَر، فحضر دروس كبار العلماء في مختلف العلوم الأَزْهَرية مع الاشتغال بالتصوف، وجاء إلى مصر السَّيِّد جمال الدين الأفغاني فحضر دروسه ولازمه، وظهرتْ في وقت قصير آثارُ انتفاعه بعشرته ومعارفه، فألف في التصوف «رسالة الواردات»، ثم ألف حاشية على شرح التصوواني على العقائد العضدية «في التوحيد»، وأخذ يكتب فصولًا في الجرائد استرعتْ إليه الأنظار.

ثم نال شهادة العالمية من الدَّرَجَة الثانية بعد امتحان ظهر فيه أن الشيوخ ينقمون عليه نزعاته الفكرية المتأثرة بمذهب أُستاذه.

وعين على أثر ذلك مدرسًا في مدرسة دار العلوم وفي مدرسة الألسن الخديوية، ولما نُفي السَّيِّد جمال الدين من مصر عُزل تلميذه وأُمر بالمقام في بلده لا يبرحه، وعفي عنه فجُعل من محرري الجرنال الرسمي «الوقائع الرسمية» ثم عين رئيسًا للتحرير.

وجاءت الثورة العربية، فحوكم مع زعمائها، وحكم عليه بالنفي ثلاث سنين وثلاثة أشهر، قضى شطرًا منها في سورية، ثم دعاه أستاذه السَّيِّد الأفغاني إلى أوروبا فأصدرا في باريس معًا جريدة «العروة الوثقى» التي لم تَعِشْ إلا نحو ثمانية أشهر.

ثم رجع الشيخ إلى بيروت فعُيِّنَ أُستاذًا في المدرسة السلطانية، وكان يشتغل مع التدريس بالتأليف والكتابة، فألَّفَ «رسالة التوحيد» ونقل إلى العربية «رسالة الرَّد على الدَّهْريِّين» التي كتبها السَّيِّد جمال الدين الأفغاني بالفارسية، وشرح «نهج البلاغة» و«مقامات بديع الزمان الهمذاني» ونشر في الجرائد مقالات عديدة.

وفي بيروت تزوج زوجته الثانية بعد وفاة زوجته الأولى.

وعاد من منفاه فعُين قاضيًا أهليًّا، فمستشارًا في محكمة الاستئناف الأهلية، ثم جُعل عضوًا في مجلس إدارة الأَزْهَر، وهو أول مجلس أُسس ليكون رسول الإصلاح، ثم عين مفتيًا للديار المصرية، فظل في هذا المنصب حتى أدركه الأجل.

وفي عهد تَوَلِّيه الإفتاء كتب في إصلاح المحاكم الشرعية تقريرًا جليلًا وأصدر فتاوى ذات شأن، ووضع تفسيرَ جزء عمَّ وتفاسير لبعض السور ولبعض الآيات المشكلة، وألف «كتاب الإِسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» وكتب للمجلات والجرائد فصولًا قيمة في موضوعات دينية وغير دينية.

•••

هذه الصورة المُجْملة من تاريخ الشيخ محمد عبده؛ تبين مناصبه وتعدُّد مؤلفاته، لكنها لا ترسم جوانب عظمته؛ فإن المناصب والكُتُب ليست مجلي عظمة الشيخ محمد عبده، وإن كان ترك نفحة من النبل والعِظَم في كل ما اتصل به.

تخلد ذكرى العالم الكُتُب يودع فيها آيات عبقريته، ويخلد الأثر الفني ذكرى الفنان، أما المصلح فهو يهيئ للجماعة مثلًا أعلى لم تعرفْه من قبله، ويحاول أن يصرف إلى ذلك المثل القلوب محاولة تظهر فيها قوةُ نفسه وقوة عزيمته، ويظهر فيها فيض ما وهب من عبقرية وإلهام.

والشيخ محمد عبده مصلح جريء، حاول الهدم والبناء في أقدس هيكل عند البشر، فيما يعتبره النَّاس دينًا.

عرض لذلك في الشرق موطن العواطف الدينية، وبين المسلمين أشد المتدينين بدينهم كبرًا وأكثرهم غيرةً وحفاظًا على ما له صورة دين.

أرسل صيحته في الأَزْهَر تدوِّي بين شيوخ إن لم يكونوا يومئذٍ هيئة كبار العلماء، فلعلهم لم يكونوا دون هؤلاء جمودًا.

ولم يبال الأُستاذ بما لقي من الأذى، وقد لقي من الأذى كثيرًا.

•••

كان الشيخ محمد عبده رجلًا مربوع القامة أو فوق ذلك قليلًا، ممتلئ الجسم متين البنية شديد العضل رشيق الحركة نشيطها.

ملامح وجهه جميلة في جملتها وتفصيلها، تزيدها جمالًا ومهابةً تلك اللحية البيضاء النضيرة المطيفة بمحيًّا مشرق، ذي جبهة غراء انحسر الشعر عنها رويدًا وارتفعت فسحة ناطقة بالعقل والإرادة والذكاء.

ولعينيه المعتدلتين في السعة من غير ضيق؛ بريقٌ ساحرٌ، يملأ الصدر هيبةً وإعجابًا وحبًّا.

وأشهد لقد كان جمال الشيخ محمد عبده من الجنود التي سخرها الله لعبقريته، وكان صوتُه العذبُ المؤثرُ من جنود عبقريته أيضًا، كنت طالبًا من صغار الطلاب أيام جاء الشيخ محمد عبده إلى الأَزْهَر، وكان أساتذتنا، عفا الله عنهم، لا يفتئون يذمون لنا الشيخ ويمثلونه خطرًا على الدين وأهله داهمًا، فتتأثر بذلك عقولُنا الطفلة، وكنت أَفِرُّ بِدِينِي مِنْ أَنْ ألقى الأُستاذ أو أستمع لدروسه مع أنه صديقٌ لوالدي.

وحضرتْ درسه مرة لأشهد كيف تشيه وجوه الملحدين وتشيه معها عقولهم وقلوبُهم.

فلما رأيتُ الرجل بالرواق العباسي وسمعته يفسر كتاب الله، قلت — منذ ذلك اليوم: اللهم إن كان هذا إلحادًا فأنا أول الملحدين:

إن كان رفضًا حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي

كان الشيخ محمد عبده متميزًا من ناحية الكمال الجسماني بالفطرة والوراثة والنشأة الريفية، ويظهر أنه كان ذا منزلة خاصة عند أبويه؛ لأنه أصغر أبناء أمه وأنجب إخوته، فتربى على شيء من الحرية يكون عادةً للأبناء المميزين ولا يكون لغيرهم؛ فينشئون ذوي استقلال وجرأة وإقدام، ولا ينكر أثر التَّرْبِيَة الصُّوفِيَّة في نفس الأستاذ؛ فإنها وجهتْ كل عواطف الشَّبَاب في نفس الفتى إلى اللذائذ القدسية، لذائذ العَارِفين.

وإذا كانت التَّرْبِيَة الحديثة تدعو إلى تلطيف السر بأنواعٍ من الرياضة البدنية والروحية …

قال ابن سينا في الإشارات:

العَارِف هشٌّ بشٌّ بسامٌ، وكيف لا يهش وهو فرحان بالحق وبكل شيء فإنه يرى فيه الحق.

العَارِف شجاعٌ، كيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت؟ وجواد، وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل؟ وصفاح، وكيف لا وذكره مشغول بالحق؟

هذه التعاليم الصُّوفِيَّة من شأنها أن تربي جانبَ الوجدان، وتلطِّفَ السر وتجمل النَّفس وتزينها، ولا جرم كان الشيخ محمد عبده صوفيَّ الأخلاق، وقد هذبت من صوفيته تربيةُ السَّيِّد جمال الدين الأفغاني، وزاده ما استفاد من الأسفار وتعلم اللغة الفرنسية تهذيبًا.

قال المرحوم قاسم بك أمين في وصف الأستاذ: «بلغت فيه طيبة النَّفس إلى درجة تكاد تكون غير محدودة، كان يجذبه الخير كما يجذب المغناطيس الحديد فيندفع إليه ويسعى إلى كل نفع للغير عام أو خاص، كان ملجأ للفقراء واليتامى والمظلومين والمرفوتين والمصابين بأي مصيبة، وأهل الأَزْهَر الذين هم أكثر النَّاس احتياجًا إلى المساعدة؛ لأنهم في وسط المدنية الحاضرة المتأخرون العاجزون عن الدِّفَاع عن أنفسهم في ميدان حياتنا الجديدة، يبذل إليهم مالَه ويسعى لهم عند ولاة الأُمور بهمة لا تعرف الملل، كَأَنَّما كان يسعى لأعز إنسان لديه، بل كان يسعى لصاحب الحاجة وهو يعلم أنه أساء إليه وقدح فيه، وتحالف مع خصومه في ترويج عبارات القذف والنميمة التي لم تنقطع عنه يومًا مدة حياته، كان الأستاذ يرى أن الشر لا فائدة منه مطلقًا، وأن التسامُح والعفو عن كل شيء وعن كل شخص هما أحسنُ ما يعالج به السوء، ويفيد في إصلاح فاعله.»

•••

اتصل الشيخ محمد عبده بالمناصب الحكومية وبالشئون السياسية وبالحركة العلمية والأدبية وبأعمال البر، وكان له في كل هذه الميادين نشاطٌ مثمر ورأيٌ مصلح، وعزم لا يعرف دون الكمال تراجعًا ولا فُتُورًا، لكن الميدان الذي أنفق في رحابه الشيخُ محمد عبده خير ما وهب من صحة وهمة وعقل وعِلم وفصاحة هو ميدانُ الإصلاح الديني؛ دعا الشيخ محمد عبده إلى الإصلاح الديني باعتباره أساسًا لكل إصلاح في الشرق.

وتنتظم دعوة الشيخ إلى الإصلاح الديني أمورًا ثلاثة:
  • (١)

    تحرير الفكر من قيد التقليد؛ حتى لا يخضع العقل لسلطان غير سلطان البرهان، ولا يتحكم فيه زعماء الدنيا ولا زعماء الأديان.

  • (٢)

    اعتبار الدين صديقًا للعلم لا موضع لتصادمهما؛ إذ لكل منهما وظيفةٌ يؤديها، وهما حاجتان من حاجات البشر، لا تُغني إحداهما عن الأخرى.

  • (٣)

    فهم الدين على طريقة السلف قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى.

ومنابعُ الإِسلام في سذاجته التي ورد بها من صاحب الدين نفسه هي: الكتاب، وقليلٌ من السنة في العمل.

هذا هو الأصلُ الذي ينبغي أن يرد إليه الدين الإِسلامي في مذهب أُستاذنا.

ولما كان الثابت بالتواتر من السنة قليلًا، فقدْ صَرَّحَ الشيخُ في تفسير سورة الفاتحة «أنه يجب أن يكون القرآن أصلًا تُحمل عليه المذهب والآراء في الدين.»

لهذا تَوَجَّهَتْ عزيمة الشيخ في أُخريات حياته إلى العناية بتفسير القرآن عناية كانت تكاد تستغرق كل مجهوده للإصلاح الديني.

وجهة الطرافة في تفسير الأستاذ هي حُسن الطَّرِيقة في البحث ولُطف التصوير لمعاني القرآن على ما يُوافق ذوق هذه العصور وإدراكها حاجاتها. والشيخ في كِلَا الأمرين متأثرٌ بمنهاج الفكر الحديث.

ولا شك أن الشيخ قد تأثر بالحياة الغربية على وجهٍ ما في حياته العقلية ومعيشته الخاصة، ذلك بأنه تعلم اللغة الفرنسية وسافر إلى أوروبا عدة مرات، وعاشر الأوروبيين في مصر وفي غير مصر، فاستفاد من مخالطته وسياحاته ومن مطالعاته لكتب الغربيين في الفنون المختلفة، وظهر أثر ذلك في أفكاره وكتاباته ودعواته الإصلاحية.

•••

ولا يسع المؤرخ حين يترجم للشيخ محمد عبده أن يُغفل الإشارة إلى ما بلغه الرجل في حياته من عِزٍّ وجاه وحرمة موفورة، كان للشيخ محمد عبده خصوم يكرهونه ويكيدون له ويضعون له العقبات في سبيل إصلاحه، ولكن أحدًا لم يكن يستطيع أن يَغُضَّ مِنْ جلال الشيخ أو يُنكر عليه منزلته الرفيعة في النُّفُوس.

كان الشيخ محمد عبده بين الطَّوَائِف الرَّاقِيَة من المصريين وبين طوائف الأجانب في مصر محبوبًا معظَّمًا معترفًا له بمقام الإمامة الذي لا يساميه مقامٌ، وانتشر صِيتُه في أقطار الشرق وتوجهتْ إليه الأنظار.

ولو شاء الشيخ محمد عبده لَكان ذا غنًى، ولترك لأرملته المحترمة المريضة ثروة تكفل لها من بعده رفه الشيخوخة وتصونها من ذلة العسر، ولكن الأستاذ الإمام كان أكبر نفسًا وأشد احتقارًا للدنيا من أن يبذل جهده في جمع المال، فعاش عظيمًا فقيرًا، ومات فقيرًا عظيمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤