في القريب العاجل

وجهان جانبيان يواجه أحدهما الآخر؛ أحدهما لبقرة صغيرة بيضاء اللون يحمل تعبيرًا هادئًا ولطيفًا، والآخر لرجل أخضر الوجه، ليس بصغير أو متقدم في العمر، يبدو عليه أنه موظف صغير، ربما ساعي بريد أو شيء من هذا القبيل؛ فقد كان يرتدي ذلك النوع من القبعات التي يرتديها سعاة البريد. كانت شفتاه باهتتين، ويطل من عينيه بريقٌ لامع، وكانت هناك يدٌ — تقريبًا يده — تمتد لتقدم — من الهامش الأسفل للوحة — شجرةً صغيرة أو فرعًا ضخمًا مثمرًا بالمجوهرات الثمينة.

وفي الهامش الأعلى من اللوحة، ظهرت السحب الداكنة، تظلِّل تحتها بعض البيوت الصغيرة المائلة، وبجوارها لعبة على هيئة كنيسة تحمل صليبًا صغيرًا وقد استقرت على السطح المنحني للأرض، وبداخل ذلك الانحناء بدا رجل ضئيل (غير أنه مرسوم بمقياس أكبر من المباني) يسير بثبات وعزم حاملًا منجلًا فوق كتفه، وبجانبه سيدة رُسمت بنفس المقياس، وكان يبدو أنها تنتظره، لكنها كانت معلَّقة على نحو مقلوب.

كانت اللوحة تتضمن أشياء أخرى؛ فعلى سبيل المثال كانت توجد فتاة تحلب بقرة بجوار البقرة الصغيرة.

قررت جولييت على الفور أن تبتاع تلك اللوحة لوالديها كهدية في عيد الميلاد.

قالت لكريستا، صديقتها التي جاءت معها من ويل باي للقيام ببعض التسوق: «إنها تذكِّرني بوالديَّ.» كانا في متجر الهدايا بمعرض فانكوفر للفنون.

ضحكت كريستا قائلة: «الرجل الأخضر والبقرة؟ سيشعران بالإطراء والثناء.»

كانت كريستا لا تأخذ أي أمرٍ من الأمور في البداية على محمل الجِد؛ إذ كان لا بد وأن تسخر منها بطريقة ما، ولم تشعر جولييت بالضيق من ذلك، وكانت في شهرها الثالث من الحمل وقد وضعت طفلة بعد ذلك أسمتها بينيلوبي. تخلصت فجأة من الشعور بالغثيان؛ ولهذا السبب — أو لسبب آخر — انتابتها نوبات من المرح الزائد. كانت تفكر في الطعام طوال الوقت، لدرجة أنها لم تكن ترغب في الدخول إلى متجر الهدايا؛ لأنها لمحت أحد المطاعم.

راق لها كل شيء في اللوحة، وبخاصة الشخصيات الصغيرة والأبنية المائلة للسقوط فوقها، والرجل ذي المنجل، والمرأة المتدلية بالمقلوب.

نظرت إلى عنوان اللوحة «أنا والقرية».

كان عنوانًا منطقيًّا بامتياز.

قالت كريستا: «شاجال، إنني أهوى شاجال؛ فبيكاسو كان وغدًا.»

كانت جولييت تشعر بسعادة شديدة لما وجدته جعلتها بالكاد تنتبه لما يقال.

قالت لها كريستا: «أتعرفين ما كان يفترض أنه يقول؟ شاجال من أجل بائعات المتاجر.» فردَّت جولييت: «وما العيب في بائعات المتاجر؟ كان ينبغي لشاجال أن يقول إن لوحات بيكاسو هي من أجل الأشخاص ذوي الوجوه المضحكة.»

قالت جولييت: «أعني أن اللوحة جعلتني أفكر في حياتهم، لا أدري لمَ، لكنها كذلك.»

كانت جولييت قد قصَّت لكريستا بالفعل بعض الأشياء التي تتعلق بوالديها؛ كيف أنهما يعيشان في عزلة غريبة، لكنها في الوقت نفسه تفيض بالسعادة؛ عزلة برغم أن والدها كان مدرسًا محبوبًا. كان جزءٌ من تلك العزلة راجعًا إلى مشاكل القلب التي تعاني منها سارة، ولكن كان السبب أيضًا يرجع إلى اشتراكهما في بعض المجلات التي لم يكن أحدٌ بالجوار يقرؤها، أو سماعهما لبرامج في الإذاعة المحلية لا ينصت إليها أحدٌ من المحيطين بهما، أو لأن سارة كانت تصنع ملابسها بنفسها — حتى وإن لم تكن ملائمة — من خلال نماذج التفصيل الخاصة بمجلة فوج، بدلًا من نماذج بيتريك. أو ربما بسبب احتفاظهما بطابع الشباب بدلًا من الحركة بكسل وتباطؤ مثل آباء زملاء جولييت في المدرسة. وصفت جولييت سام بأنه يشبهها — ذو عنق طويل، به بعض النتوءات الخفيفة عند الذقن، وشعر بني خفيف مسترسل. أما سارة فكانت شقراءَ نحيفةً وشاحبة، وذات جمال ناعم غير مهندم.

•••

عندما بلغت بينيلوبي شهرها الثالث عشر، اصطحبتها جولييت وطارت إلى تورونتو، ثم استقلت القطار بعد ذلك، وكان هذا عام ١٩٦٩، ونزلت في إحدى المدن التي تبعد نحو عشرين ميلًا عن المدينة التي نشأت بها، وحيث لا يزال سام وسارة يعيشان. من الواضح أن القطار لم يعد يتوقف هناك.

شعرت باستياء لنزولها في تلك المحطة الغريبة، ولم تتراءى لها، كما اعتادت دومًا، تلك الأشجار، والأرصفة، والمنازل التي ما زالت تذكرها، التي يتبعها على الفور منزلها؛ منزل سام وسارة، الرحب رغم بساطته، بطلائه الأبيض المتقادم خلف شجرة القيقب اليانعة.

وها هما سام وسارة في تلك المدينة التي لم ترَهما بها من قبل، تكسو وجهيهما ابتسامةٌ مشوبة بالقلق، وقد تضاءل حجمهما بعض الشيء.

أطلقت سارة صيحة غريبة قصيرة، كما لو أن شيئًا قرصها، واستدار شخصان بالمحطة ينظران نحوها.

كان من الواضح أنها صيحة نابعة من فرط إثارتها.

قالت: «برغم أن إحدانا قصيرة والأخرى طويلة فإنه ما زال هناك توافق وانسجام.»

لم تفهم جولييت في البداية ما تعنيه سارة، ثم سرعان ما أدركت مقصدها؛ كانت سارة ترتدي تنورة من الكتان الأسود تتدلى حتى منتصف ساقيها، وسترة تلائمها. وكانت ياقة السترة وأطراف أكمامها مصنوعة من قماش أخضر بلون الليمون ومرقط بالأسود. وقد اعتمرت قبعة من نفس القماش الأخضر. لا بد أنها صنعت تلك الملابس بنفسها، أو جعلت إحدى الخياطات تحيكها لها. ولم تكن الألوان تتماشى مع بشرتها، التي بدت وكأن هناك بعضًا من غبار الطبشور الناعم قد استقر عليها.

كانت جولييت ترتدي فستانًا أسودَ قصيرًا.

قالت سارة: «كنت أتساءل عما سيكون رأيك عني، وأنا متشحة بالسواد في فصل الصيف، وكأني في حداد، وها أنتِ وقد ارتديت نفس اللون ليكون هناك توافق بيننا، تبدين أنيقة، تعجبني بشدة تلك الفساتين القصيرة.»

قال سام: «ولها شعر أسود طويل وكأنها من الهيبيز.» ثم انحنى ليتطلع إلى وجه الرضيعة وقال: «أهلًا بينيلوبي.»

قالت سارة: «يا لها من دمية جميلة!»

ومدَّت يديها نحو بينيلوبي لتحملها؛ بالرغم من أن الذراعين اللتين انزلقتا من كميها بدتا شديدتي الوهن بدرجة يصعب معها حمل أي شيء. ولم تكن بحاجة إلى ذلك؛ لأن بينيلوبي التي توترت عند سماعها لصوت جدتها لأول مرة، راحت تصرخ وتبعد نفسها، وتدس وجهها في عنق جولييت.

ضحكت سارة قائلة: «هل أنا مخيفة إلى هذا الحد؟» مرة أخرى لا تستطيع سارة التحكم في صوتها جيدًا؛ فكان يعلو في نبرات حادة ثم يتهدج وينخفض، مما يلفت الأنظار إليها. لم يكن هذا بالأمر الجديد تمامًا. كانت جولييت تدرك أن الناس ربما كانوا يتطلعون دائمًا إلى طريقة أمها عندما تضحك أو تتحدث، ولكن قديمًا، كان الأمر يبدو أنه مرح فجائي، كان شيئًا محببًا وينطوي على الأنوثة والجاذبية (بالرغم من أن ذلك لم يكن يروق للجميع؛ فبعضهم كان يقول إنها تحاول أن تلفت الانتباه فحسب).

قالت جولييت: «إنها متعبة للغاية.»

قدَّم لها سام السيدة الشابة التي كانت تقف وراءهم، وتبعد عنهم بمسافة كما لو أنها تحرص على ألا يعرفها الآخرون كجزء من مجموعتهم، وفي الواقع، لم يَدُرْ بخَلَد جولييت أنها يمكن أن تكون كذلك بالفعل.

«جولييت، هذه آيرين إيفري.»

مدَّت جولييت يدها قدر المستطاع بينما كانت تحمل بينيلوبي، وحقيبة الحفاضات، وعندما رأت أن آيرين لن تمد يدها بالمصافحة — أو ربما لم تلحظ نية جولييت على فعل ذلك — اكتفت بالابتسام. ولكن آيرين لم تردَّ لها الابتسامة بأخرى. كانت تقف ساكنة في مكانها مخلِّفة الانطباع بأنها تريد أن تفرَّ هاربة.

قالت جولييت: «مرحبًا.»

ردَّت آيرين بصوت مسموع بما يكفي، ولكنه خالٍ من أي تعبيرات: «سعيدة لرؤيتك.»

قالت سارة: «آيرين، ملاكنا الطيب.» وتغيَّر وجه آيرين قليلًا، فقطَّبت جبينها وظهر عليها بعض الإحراج.

لم تكن طويلة القامة كجولييت، ولكنها كانت ذات كتفين وفخذين أعرض منها، وذراعين قويتين، وذقن حاد. كان شعرها أسود اللون، يتسم بالكثافة والنعومة، وقد عقصته من الخلف على هيئة ذيل حصان قصير وثقيل، حواجبها سوداء اللون كثيفة تبدو عدوانية، وبشرتها من ذلك النوع الذي يكتسب سمرة بسهولة. وكانت عيناها خضراوين أو زرقاوين لونهما فاتح يثير الدهشة لمخالفته لون بشرتها، يصعب التطلع إليهما طويلًا لفرط ما بهما من عمق شديد، ولأنها كانت تحني رأسها قليلًا وتدير وجهها جانبًا. بدا حرصها شديدًا ومتعمدًا.

قال سام بابتسامته العريضة المتعمدة: «إنها تقوم بالكثير من الأعمال التي تفوق قدرة الملاك، سأخبر العالم كله أنها تفعل ذلك.»

تذكرت جولييت بالطبع الآن أن الخطابات كان يَرِد بها ذكر امرأة كانت تأتي للمساعدة بسبب التدهور الشديد في صحة سارة، لكنها اعتقدت أنها أكبر سنًّا، بالقطع لم تكن آيرين أكبر من جولييت نفسها.

استقلا نفس السيارة البونتياك التي اشتراها سام مستعملة ربما منذ عشر سنوات، وظهرت آثار لونها الأزرق الأصلي في صورة مسحات هنا وهناك، ولكن معظم اللون كان قد بهت، وتحول إلى الرمادي، وكان من السهل رؤية تأثيرات الأملاح المستخدمة في الطريق أثناء الشتاء من خلال بعض الصدأ الذي كسا دواخلها.

قالت سارة وقد تقطعت أنفاسها بعد المسافة القصيرة التي قطعتها سيرًا من رصيف المحطة: «الفرس الرمادية العجوز.»

قالت جولييت: «إنها لا تستسلم أبدًا.» بدا الإعجاب من حديثها كما هو متوقع. كانت قد نسيت أن هذا هو ما أطلقوه على السيارة من قبل، بالرغم من أن ذلك الاسم كانت هي من فكرت به واختارته.

قالت سارة بعد أن استقرت في المقعد الخلفي بمساعدة آيرين: «أوه، إنها لا تستسلم أبدًا، ونحن لن نتخلى عنها أبدًا.»

جلست جولييت في المقعد الأمامي — وهي تلاعب بينيلوبي — التي راحت بدورها تتذمر مرة أخرى. كانت الحرارة داخل السيارة صادمة، بالرغم من أنها كانت واقفة ونوافذها مفتوحة تحت الظلال المتفرقة لأشجار الحور بالمحطة.

قال سام وهو متردد بعض الشيء: «إنني أفكر حقيقة في أن أستبدلها بشاحنة.»

صاحت سارة قائلة: «لا، إنه لا يعني ذلك.»

لكن سام استطرد قائلًا: «من أجل مصلحة العمل، سيكون هذا أكثر نفعًا، وسنحصل على نوع من الدعاية في كل مرة أقود بها الشاحنة عبر الطرقات، فقط من خلال الملصقات الموضوعة على بابها.»

قالت سارة: «إنه يتعمد إغاظتي، كيف لي أن أقود سيارةً مكتوبًا عليها «خضراوات طازجة»؟ هل من المفترض أن أكون أنا إذن ثمرة القرع أم تراني أنا الكرنب؟»

قال: «من الأفضل أن تهدئي الآن يا سيدتي، وإلا لن تتمكني حتى من التقاط أنفاسك عندما نصل إلى المنزل.»

بعد قرابة نحو ثلاثين عامًا من التدريس في المدارس العامة التي تنتشر في المدينة — منها عشر سنوات في آخر مدرسة التحق بها — قرر سام فجأة أن يعتزل مهنة التدريس، ويتجه إلى نشاط بيع الخضراوات لدوام كامل. كان دومًا يزرع الكثير من الخضراوات في الحديقة، ويزرع التوت البري في قطعة الأرض الخالية بجوار المنزل، وكانا يبيعان الفائض لقليل من الأشخاص بالجوار، لكن تغيَّر هذا الآن ليصبح بيع الخضراوات إحدى سبل كسب العيش وذلك من خلال البيع لمتاجر البقالة، أو ربما فيما بعد ينصب كشكًا صغيرًا لعرض السلع قبالة البوابة الأمامية.

قالت جولييت بهدوء: «أأنت جاد بهذا الشأن؟»

«إنني جاد تمامًا.»

«لكن ألن تشعر أنك تفتقد التدريس؟»

«لا سأتركه تمامًا. لقد سئمت. لقد سئمت حتى النخاع.»

إنه حقًّا بعد كل تلك السنوات لم يُعرض عليه في أي مدرسة شَغْل منصب المدير، كانت جولييت تعتقد أن هذا هو مصدر استيائه. لقد كان مدرسًا مميزًا، وكل فرد يتذكر جيدًا كيف كانت تصرفاته مرحة ويشع طاقة؛ فالصف السادس لم يكن كشأن أي صف دراسي يمكن أن يمر به الطلبة في حياتهم. وبرغم ذلك كان هناك من يتخطاه ويشغل المنصب — مرات ومرات — وربما كان هذا هو السبب؛ فالكثيرون ينظرون إلى طريقته على أنها تضعف من السلطات وتجعلها تبدو أقل فاعلية؛ لذا فمن السهل تخيل أن رؤساءه يرون أنه ليس بالرجل الذي يمكن أن يوضع في منصب المسئولية، وربما يكون ضرره في موقعه أقل بكثير من أي موقع إداري.

كان يحب العمل والأنشطة الخارجية، كان بارعًا في التحدث مع الآخرين، وربما كان ماهرًا في بيع الخضراوات.

لكن سارة كانت تكره ذلك.

ولم تكن جولييت تحب ذلك أيضًا، لكن لو كان عليها أن تختار، لاختارت الانحياز لجانبه. لم تكن لتعتبر نفسها من الشخصيات المتكبرة.

والسبب الحقيقي وراء ذلك يكمن في أنها ترى نفسها — ترى نفسها هي وسام وسارة، وهي وسام بوجه خاص — أسمى وأكثر تميزًا في طريقتهم من أي فرد حولهم؛ لذا ماذا يضير في التجول بالخضراوات؟

تحدَّث سام بصوت أهدأ: «ما اسمها؟»

كان يقصد الرضيعة.

«بينيلوبي. لن نناديها أبدًا ببيني. بينيلوبي فقط.»

«لا، أعني … أعني اسمها الأخير.»

«أوه، إنه هندرسون بورتيوس على ما أظن، أو بورتيوس هندرسون، لكني أعتقد أنه سيكون صعبًا في النطق؛ وخاصة أننا قد أسميناها بينيلوبي بالفعل. نحن نعرف أن الاسم كبير، لكننا أردنا اسم بينيلوبي. علينا أن نتعامل مع هذا بطريقة ما.»

قال سام: «إذن أعطاها اسمه، حسنًا، هذا شيء جيد.»

اعترت جولييت الدهشة للحظة، ثم سرعان ما زالت.

قالت وهي تحاول التظاهر بالتحير والدهشة: «بالقطع أعطاها اسمه، إنها ابنته.»

«أوه، نعم، لكن بالنظر إلى الظروف …»

قالت جولييت: «نسيت أمر هذه الظروف، إن كنتَ تعني حقيقة أننا لسنا متزوجَيْن، فهذا شيء قلما نضعه في اعتبارنا؛ ففي المكان الذي نحيا به، وبين الأشخاص الذين نعرفهم، هو أمر لا يفكر به أحدٌ على الإطلاق.»

قال سام: «لنفترض ذلك، ولكن هل كان متزوجًا رسميًّا ممن سبقتك؟»

كانت جولييت قد حكت لهما عن زوجة إيريك التي كان يعتني بها خلال الثماني سنوات التي عاشتها بعد الحادث الذي وقع لها.

«آن؟ لا أعرف حقيقةً، لكن نعم، أعتقد أنه كان متزوجًا بها.»

قالت سارة لمن يجلسان بالمقعد الأمامي: «ألن يكون من اللطيف أن نتوقف لتناول بعضٍ من المثلجات؟»

رد عليها سام قائلًا: «لدينا الكثير منها في المبرِّد بالمنزل.» وأردف بصوت منخفض موجِّهًا كلامه إلى جولييت على نحو صدمها: «اصطحبيها إلى أي مكان لتناول الحلوى وستقدِّم استعراضًا.»

كانت نوافذ السيارة لا تزال مفتوحة، وهبَّت الرياح الدافئة إلى داخل السيارة. كان الجو صيفيًّا تمامًا؛ وهو موسم لا يأتي — حسبما رأت جولييت — إلى الساحل الغربي على الإطلاق. انحنت الأشجار الصلبة بفروعها عند أطراف الحقول البعيدة، راسمةً كهوفًا من الظلال باللون الأزرق الداكن، وظهرت المروج والمحاصيل أمامها بلونيها الأصفر والأخضر اللامعَيْن يحتضنها شعاع الشمس القوي. أما أعواد القمح والشعير والذرة والفول الفتيَّة النشطة، فراحت تتمايل بسرعة وتعكس بريقها في العيون.

قالت سارة: «ماذا يدور في المؤتمر المنعقد في المقعد الأمامي؟ ليس باستطاعتنا أن نسمع بسبب الرياح.»

قال سام: «ليس ثَمَّةَ ما يهم، كنت أسأل جولييت إن كان رفيقها لا يزال يمارس الصيد؟»

كان إيريك يكسب قوت يومه من صيد القريدس، وكان يفعل ذلك منذ فترة طويلة. في يوم من الأيام كان يدرس الطب، ولكن انتهى ذلك الأمر؛ لأنه أجرى عملية إجهاض لإحدى صديقاته (وليست معشوقته). انتهت العملية بسلام، لكن كانت القصة قد عُرفت. كان هذا شيئًا أرادت جولييت أن تُفصح عنه لوالدَيْها ذوَي العقول المنفتحة. ربما أرادت بذلك أن تقدمه كرجل متعلم، وليس مجرد صياد، ولكن ماذا يهم في ذلك؛ وبخاصة أن سام أصبح يبيع الخضراوات؟ بالإضافة إلى أن سعة أفقهما لم تعد شيئًا يعوَّل عليه كما كانت تعتقد.

•••

كانت توجد أشياء أخرى للبيع أكثر من الخضراوات الطازجة والتوت البري، فتبيَّن أن المطبخ يحتوي على المربى، وزجاجات العصير، والمشهيات، وفي أول صباح أعقب زيارة جولييت كانت مربى التوت تُعد، وكانت آيرين هي المسئولة عن ذلك، كانت كنزتها مبتلة إما نتيجة البخار أو العرق، والتصقت بجسمها ما بين لوحي الكتف. وبين الحين والآخر كانت آيرين تلقي نظرة سريعة على جهاز التليفزيون الذي نُقل من الحجرة الخلفية إلى مدخل المطبخ، وقد أصبح لزامًا أن تُقحم نفسك بصعوبة وتلتف من حوله حتى تدلف إلى الحجرة. وكان يُعرض على شاشة التليفزيون أحد برامج الأطفال الصباحية التي تقدم حلقة «بول وينكل» الكرتونية، وكانت آيرين تُطلق ضحكة عالية بين الحين والآخر على حركات الشخصيات الكرتونية المضحكة، وكانت جولييت تضحك قليلًا كي تبدو ودودة، ولكن لم تلحظ آيرين ذلك.

كان لا بد من تنظيف سطح النضد حتى تتمكن جولييت من سلق بيضة وهرسها لتتناولها بينيلوبي في الإفطار، ولكي تصنع بعض القهوة والخبز أيضًا من أجلها. سألتها آيرين بصوت متردد: «هل هذه المساحة الكافية؟» كما لو أن جولييت كانت دخيلة ومن الطبيعي ألا تتوقع احتياجاتها.

وبالاقتراب من آيرين يمكن رؤية بعض الشعر الأسود الناعم الذي نما على ساعدَيْها، وهناك أيضًا بعض الشعر على وجنتَيْها أمام أذنَيْها مباشرة.

واستطاعت وهي تقف جانبًا أن تراقب كل ما تفعله جولييت؛ فرأتها وهي تعبث بمقابض الموقد (حيث لم تتذكر في البداية ما الشعلة التي يتحكم بها كل مقبض)، وراحت تتطلع لها وهي تنتشل البيضة من القِدر الصغيرة، وتنزع القشرة (التي التصقت هذه المرة، وخرجت على شكل فتات صغيرة، بدلًا من أن تخرج بسهولة على شكل قطع كبيرة)، ثم راقبتها وهي تختار أحد الأطباق كي تهرسها فيه.

«أنتِ لا تريدينها أن تُسقط ذلك الطبق على الأرض؟» كان هذا إشارة إلى الطبق الصيني الذي اختارته جولييت. ثم استأنفت متسائلةً: «ألم تُحضري معكِ طبقًا بلاستيكيًّا؟»

قالت جولييت: «سأراقبها.»

واتضح أن آيرين كانت أمًّا هي الأخرى؛ فلديها صبي يبلغ من العمر ثلاث سنوات، وابنة لم تبلغ عامين، وكان اسماهما تريفور وتريسي. لقي والدهما مصرعه الصيف الماضي في حادث بمزرعة للدواجن حيث يعمل. وهي نفسها كانت تصغر جولييت بثلاثة أعوام؛ فكانت تبلغ الثانية والعشرين من العمر. جاءت المعلومات بشأن الأطفال والزوج كإجابة على تساؤلات جولييت، واستطاعت أن تعرف عمرها من خلال ما قالته لاحقًا.

قالت جولييت: «إنني جد آسفة.» كانت تتحدث عن الحادثة، وشعورها بأنها كانت فظة بتطفُّلها، وأنه نوع من الرياء أن تحاول مواساتها الآن. فقالت آيرين: «لا بأس. وقع الحادث في عيد ميلادي الحادي والعشرين، كما لو أن المصائب تجتمع كما تتجمع الأحجار في القلادة.»

بعد أن تناولت بينيلوبي كل البيض الذي تقبَّلته، حملتها جولييت ساندةً إياها على عظام وركها وصعدت بها إلى الطابق العلوي.

وتنبَّهت في منتصف المسافة إلى أنها لم تغسل الطبق.

لم يكن هناك مكان تُترك فيه الطفلة التي لم تمشِ بعد، لكنها كانت تزحف بسرعة كبيرة، ولم يكن من الممكن بالطبع أن تتركها في المطبخ حتى ولو لمدة خمس دقائق وسط المياه التي تغلي في المعقم، والمربى الساخنة، والسكاكين الحادة، وسيكون عبئًا إضافيًّا على آيرين لو طلبت منها أن تراقبها. وكان أول شيء فعلته بينيلوبي هذا الصباح هو رفض صداقة سارة؛ لذا حملتها جولييت وصعدت بها السلم الذي يؤدي إلى الغرفة العلوية أسفل السقف مباشرة — وأغلقت الباب وراءها — ووضعتها على الدرج لتلهو، بينما راحت هي تبحث عن بيت اللعب القديم، ولحسن الحظ كانت بينيلوبي خبيرة في اللعب على الدرج.

كان المنزل على ارتفاع طابقين، وكانت الغرفه ذات سقف عالٍ ولكنها كانت مربعة، أو هكذا تبدو لجولييت الآن، وكان السقف مائلًا بشدة، فيكون بإمكانك أن تتجول في منتصف الغرفة العلوية. وقد اعتادت جولييت أن تفعل هذا عندما كانت طفلة صغيرة؛ فكانت تتجول بالغرفة وهي تقص لنفسها بعض الحكايات التي قرأتها، مع بعض الإضافات أو التعديلات، وكانت ترقص أيضًا أمام جمهور خيالي. وكان الجمهور الحقيقي يتكون من قطع الأثاث المكسورة أو المهملة؛ حقائب قديمة، معطف ثقيل وضخم من فراء الجاموس الأبيض، بيت خشبي لطائر السنونو الأرجواني (وكان هدية من أحد طلاب سام منذ فترة طويلة، والذي فشل في اجتذاب أيٍّ من طيور السنونو)، خوذة ألمانية من المفترض أن جدَّ سام أحضرها من الحرب العالمية الأولى، لوحة كوميدية على نحو غير مقصود لهاوٍ تعبِّر عن غرق سفينة «إمبراطورة أيرلندا» في خليج سانت لورانس، بينما تقفز منها شخصيات صغيرة الحجم في كل اتجاه.

وهناك كانت لوحة «أنا والقرية» موضوعة أمام الحائط، ووجهها للأمام؛ لم يكن هناك أي محاولة لإخفائها، ولم تكن تعلوها ذرات الغبار؛ مما يعني أنها لم توضع هنا منذ فترة طويلة.

عثرت على صندوق اللعب بعد دقائق من البحث. لقد كان عبارة عن قطعة ثقيلة من الأثاث، له أرضية من الخشب، وجوانبه على هيئة أعمدة ملتفة. ثم وجدت عربة الأطفال. احتفظ والداها بكل شيء؛ لأنهما كانا يتطلعان لإنجاب طفل آخر، غير أن أمها عانت من إجهاض حملها لمرة أو أكثر. وكانت الضحكات التي تملأ فراشهما في صباح أيام الآحاد، تُشعر جولييت كما لو أن المنزل قد احتلَّه نوع من الإزعاج الخفي، بل والمخزي الذي لا يروق لها على الإطلاق.

كانت عربة الأطفال من ذلك النوع الذي يمكن طيُّه وفرده، كان هذا شيئًا نسيته جولييت أو ربما لم تكن تعرف بوجوده. وعليها الآن بعد أن تصبَّب منها العرق وعلاها الغبار أن تعمل لكي تتمكن من فردها. لم تكن هذه المهمة هيِّنة بالنسبة لها، ولم تكن تجيد فهم طريقة تركيب الأشياء معًا على نحو سريع، كان بإمكانها أن تقوم بجرها لأسفل، وتذهب إلى الحديقة، وتطلب مساعدة سام، لولا أنها فكرت في آيرين؛ آيرين وعينيها الباهتتين المختلجتين، ونظراتها الحادة غير المباشرة، ويديها الماهرتين، ومراقبتها التي شابها شيء لم تستطع القول بأنه قد ينطوي على الازدراء. لم تعرف جولييت ما الذي يمكن أن يوصف به ذلك؛ إنه سلوك ينم عن اللامبالاة، وينطوي في الوقت نفسه على التصلب والعناد كأسلوب القط تمامًا.

استطاعت جولييت أخيرًا أن تقوم بفرد عربة الأطفال. كانت ثقيلة الوزن، وتكاد تكون أكبر من حجم العربة التي اعتادت عليها بمرة ونصف، وكانت متسخة بالطبع. وبينما هي تجلس بمفردها الآن، وبينيلوبي تحبو على الدرج، وإلى جوار يد الطفلة كان هناك شيء لم تلاحظه جولييت، كان هناك مسمار؛ فهو من بين تلك الأشياء التي لا تلاحظها حتى يكون عندكَ طفل في مرحلة التقاط الأشياء ووضعها في الفم، ويكون عليك أن تراقبه طوال الوقت.

لكنها لم تكن تراقبها؛ فكل شيء كان يشتت انتباهها؛ الحرارة، وآيرين، وتلك الأشياء المألوفة والأخرى غير المألوفة و…

«أنا والقرية».

•••

قالت سارة: «كنت آمل ألا تلاحظي. لا تأخذي الأمر على محمل الجد.»

أصبحت الغرفة المشمسة الآن هي غرفة نوم سارة، وكانت الستائر المصنوعة من الخيزران المعلقة على كل النوافذ تلقي على الغرفة الصغيرة — التي كانت يومًا جزءًا من الشرفة — ضوءًا أصفرَ داكنًا، وحرارة معتدلة. وبرغم هذا، كانت سارة ترتدي منامة من الصوف وردية اللون، وقد بدت لجولييت بالأمس في المحطة بحاجبَيْها الرفيعَيْن المحددَيْن بالقلم، وأحمر شفاهها المائل إلى الحمرة، وبقبعتها وحلتها وكأنها امرأة فرنسية عجوز (بالرغم من أن جولييت لم ترَ الكثير من النساء الفرنسيات المتقدمات في العمر)، لكنها تبدو الآن بشعرها الرمادي المسترسلة خصلاته، وعينيها اللامعتين اللاهثتين تحت حواجب تكاد تكون مختفية، وكأنها طفلة عجوز غريبة الشكل. كانت تسند ظهرها إلى الوسائد والألحفة تغطيها حتى وسطها، وعندما صحبتها جولييت إلى دورة المياه قبلها بفترة اكتشفت أن سارة ترتدي جوارب قصيرة وخفًّا وهي في فراشها بالرغم من أن الطقس كان حارًّا.

بجوار فراشها وُضع مقعد مستقيم الظهر؛ حيث كان من الأيسر لها أن تصل يدها إلى قاعدته بدلًا من المائدة، وقد وُضعت عليه أقراص وزجاجات من الدواء، وبودرة تَلك، وسائل مرطب، وقدح من الشاي بالحليب الذي شُرب نصفه فقط، وكوب به بعضٌ من بقايا أحد المقويات داكنة اللون، ربما كان الحديد. وأعلى الفراش مجموعة من المجلات؛ نسخ قديمة من مجلة فوج، وليديز هوم جورنال.

قالت جولييت: «أنا لا آخذه على محمل الجد.»

«لقد قمنا بتعليقها بالفعل، وكانت موضوعة في البهو الخلفي بجوار باب غرفة المعيشة، ثم أنزلها أبوكِ.»

«لمَ؟»

«لم يقل لي شيئًا بشأنها، لم يخبرني بأنه سيفعل ذلك، وذات يوم لم أجدها في مكانها.»

«ولمَ أنزلها من على الجدار؟»

«أوه، ربما لديه أفكار ما بشأنها.»

«أي نوع من الأفكار هذه؟»

«أوه، أعتقد أنه شيء له علاقة بآيرين؛ فربما تسبِّب بعض الإزعاج لآيرين.»

«إنها لا تحوي أي رسومات عارية؛ فهي ليست كلوحات بوتيتشيلي.»

بالفعل كانت توجد لوحة له تحمل عنوان مولد فينوس، معلَّقة في غرفة المعيشة الخاصة بسام وسارة، وكانت مثار التندر في المناسبات التي يدعون فيها بعض المدرسين إلى العشاء.

«لا، ولكنها «حديثة»، وأعتقد أنها لا تُشعر أباكِ بالراحة، أو ربما ينظر إليها من وجهة نظر آيرين، وهو الأمر الذي جعله يشعر بالانزعاج، أو لعله خشي أن تشعرها بنوع من الازدراء تجاهنا؛ بمعنى أن تشعر بأننا قد نكون غريبي الأطوار، وهو لا يحب أن تعتقد آيرين ذلك.»

قالت لها جولييت: «تقصدين نوع الأشخاص الذين يضعون هذا النوع من اللوحات؟ تعنين أنه يهتم إلى هذه الدرجة بما تعتقده آيرين في لوحاتنا؟»

«أنت تعرفين أباكِ.»

«إنه لا يخشى الاختلاف مع الأشخاص. ألم تكن تلك هي المشكلة التي يواجهها دومًا في عمله؟»

قالت سارة: «ماذا؟ نعم بإمكانه الاختلاف مع الآخرين، لكنه يتحلى بالحرص في بعض الأحيان. وبالنسبة لآيرين، فهو حريص معها؛ إنها تمثل قيمة كبيرة بالنسبة لنا.»

«هل دار بخَلَده أنه يمكن أن تترك آيرين العمل بسبب وجود لوحة غريبة لدينا.»

«كنت لأتركها في مكانها يا عزيزتي. إنني أقدِّر أي شيء تحضرينه لنا. لكن أباكِ …»

لم تتفوَّه جولييت بشيء؛ فمنذ أن كانت في التاسعة أو العاشرة من عمرها حتى الرابعة عشرة، أصبح لديها هي وسارة تفهمًا مشتركًا بشأن سام، يتلخص في «أنتِ تعرفين أباكِ.»

كان هذا هو الوقت الذي تعاملتا فيه معًا كامرأتين ناضجتين؛ فكانت سارة تضع مواد تمويج الشعر على شعر جولييت الناعم العنيد، أما جلسات الحياكة فكانت تنتج عنها ملابس لا يرتدي مثيلها أحد. وعن العشاء في الأمسيات التي كان سيمكث فيها سام لوقت متأخر بالخارج لحضوره أحد الاجتماعات بالمدرسة، فكان عبارة عن شطائر زبدة الفول السوداني مع الطماطم والمايونيز، وقصص ترويها سارة لجولييت، وتعيد روايتها عن أصدقائها وصديقاتها القدامى، والنكات التي كانوا يلقونها، والأوقات الممتعة التي أمضوها في الأيام التي عملت فيها سارة كمدرسة أيضًا قبل أن تعاني من مشاكل في القلب، بل وقصص تحكيها عن أوقات سبقت ذلك؛ تلك الأوقات التي كانت تستلقي في فراشها وهي تعاني من الحمى الروماتيزمية، وتتخيل وجود صديقين متخيَّلين هما رولو وماكسين اللذان كان باستطاعتهما حل كل الألغاز، بل وجرائم القتل، مثلهما مثل بعض الشخصيات في كتب الأطفال. لمحات سريعة عن مغازلات سام وحبِّه المتهور، والكوارث التي أحدثها بالسيارة المستعارة، والوقت الذي كان يظهر فيه أمام منزلها وهو متنكِّر في زي أحد المتشردين.

كانت سارة وجولييت تصنعان الحلوى معًا، والشرائط المزينة لزخرفة أثوابهما الداخلية. لقد ارتبطت كلٌّ منهما بالأخرى ارتباطًا شديدًا. وفجأة، لم تعد جولييت كسابق عهدها؛ فقد أرادت بدلًا من ذلك أن تتجاذب الحديث مع سام في وقت متأخر من الليل في المطبخ؛ لتسأله عن الثقوب السوداء في الفضاء، والعصر الجليدي، والرب. لقد كانت تبغض أسلوب سارة في التقليل من أهمية حديثهما بتساؤلاتها الساذجة التي تتسع لها عيناها، وهو الأسلوب الذي حاولت من خلاله إدارة دفة الحديث نحوها؛ ولهذا كانت الحوارات تتم في وقت متأخر من الليل، وكان لا بد من وجود نوع من التفاهم لم يتحدث عنه كلاهما أمام سارة. «انتظري حتى نتخلص من سارة.» وكان هذا لبعض الوقت بالطبع.

لكن كانت هناك تذكرة لها بأحد الأمور أثناء ذلك: «عليكِ أن تكوني أكثر لطفًا مع سارة؛ إنها خاطرت بحياتها لتحظى بك، هذا أولى أن تضعيه نصب عينيك.»

قالت سارة وهي تأخذ نفسًا عميقًا: «أبوك لا يعبأ بالخلاف مع من هم يفوقونه في المستوى، لكنك تعرفين كيف يكون تعامله مع من هم أدنى منه، فإنه يفعل أي شيء ليتأكد من أنهم لا ينتابهم الشعور بأنه يفوقهم بأي صورة، فهو يحاول أن يقترب من مستواهم …»

كانت جولييت تدرك ذلك جيدًا بالطبع؛ فهي تعرف كيف كان يتحدث إلى الصبي الذي يقف في محطة ضخ الوقود، وأسلوب مزاحه في متجر الأدوات المنزلية، لكنها لم تقل شيئًا.

قالت سارة وقد تغيرت لهجتها فجأة، وأطلقت ضحكة مكتومة تنطوي على بعض من خبث: «كان عليه في بعض الأحيان أن ينافقهم لاقتناص قلوبهم.»

•••

نظَّفت جولييت عربة الأطفال، ثم اغتسلت هي وبينيلوبي أيضًا، ثم شرعت في التجول حول المدينة، وكانت حجَّتها أنها تحتاج ماركة بعينها من الصابون المطهر الذي تغسل به حفاضات ابنتها؛ لأنها إن استعملت الصابون العادي فربما تصاب الطفلة بطفح جلدي.

لكن في حقيقة الأمر كانت لديها أسباب أخرى؛ أسباب مخجلة، لكنها لا تقاوم.

كان هذا هو الطريق الذي ظلت تقطعه لسنوات عند ذهابها للمدرسة، وحتى عندما التحقت بالجامعة، وكانت تأتي للمنزل في زيارات، ظلت كما هي؛ فتاة تذهب للمدرسة. سأل أحدهم سام ذات مرة عند فوزها بجائزة الترجمة اللاتينية التي تُجرى بين الكليات قائلًا: «ألن تنهي ذهابها للمدرسة؟» ورد هو قائلًا: «أخشى ألا تفعل.» كان يقص تلك القصة عن نفسه، وكان لا يرغب أبدًا في أن يقص أمر تلك الجوائز على أحد، كان يترك سارة تفعل ذلك، بالرغم من أن سارة كانت تنسى السبب الذي مُنحت الجائزة من أجله.

وها هي الآن قد تحرَّرت؛ تدفع برضيعتها أمامها كأي امرأة أخرى، تهتم بأمر صابون الحفاضات؛ فهي ليست رضيعتها فحسب، بل ثمرة عشقهما غير المكلل بالزواج. كانت في بعض الأحيان تتحدث بهذا الأسلوب عن بينيلوبي مع إيريك فحسب. كان يأخذ كلامها على أنه مزحة، كانت هي ذاتها تقوله كمزحة؛ لأنهما بالطبع يعيشان معًا، وقد عاشا معًا لبعض الوقت، ويعتزمان أن يظلا معًا. وحقيقة أنهما غير متزوجين لم تكن تعني له الكثير، على حد علمها هي، بل إنها هي ذاتها كانت تغفلها في بعض الأحيان، ولكن بين الحين والآخر؛ وخاصة الآن وهي في بلدتها، فإن حقيقة عدم زواجها تمنحها بعض الشعور بالاستقلالية؛ نفحة قليلة من السعادة لا تفهم كنهها.

•••

قال سام: «إذن، لقد خرجتِ إلى الشارع اليوم؟» (هل كان دومًا يقول الشارع؟ جولييت وسارة تقولان المدينة!) ثم تساءل: «أرأيتِ أحدًا تعرفينه؟»

قالت جولييت: «كان عليَّ الذهاب إلى الصيدلية؛ لذا تحدثت إلى تشارلي ليتل.»

دار هذا الحوار بينهما في المطبخ، بعد أن تجاوزت الساعة الحادية عشرة ليلًا، وقد قررت جولييت أن هذا هو أفضل وقت لإعداد زجاجات رضاعة بينيلوبي لليوم التالي.

قال سام: «تشارلي الصغير»، وكان لا يزال متمسكًا بتلك العادة التي لم تكن تذكرها، وهي مناداة الأشخاص بأسماء التدليل التي أُطلقت عليهم أيام الدراسة، وأردف قائلًا: «هل أعجبته ابنتك؟»

«بالطبع.»

«ربما كثيرًا.»

كان سام يجلس قبالة المائدة، يحتسي بعضًا من الويسكي، ويدخن سيجارة، وكان تناوله للويسكي شيئًا جديدًا. كان والد سارة مدمنًا للخمر — غير أنه لم يكن مدمنًا بلا مصدر للرزق؛ لأنه استمر يمارس عمله كطبيب بيطري، لكنه كان يتسبب في إحداث الذعر بالمنزل بصورة جعلت ابنته تفزع من تناول الخمر — لذا فإن سام لم يعتَد على احتساء الكثير حتى من الجعة أو على الأقل في المنزل على حدِّ علم جولييت.

كانت جولييت قد ذهبت إلى الصيدلية؛ لأنها المكان الوحيد الذي يمكن ابتياع صابون الحفاضات منه. لم تكن تتوقع أن ترى تشارلي هناك بالرغم من أنه متجر عائلته، وآخر ما سمعته عنه، هو أنه سيصبح مهندسًا. وذكرت له ذلك عندما رأته اليوم، ربما بأسلوب خالٍ من الكياسة، لكنه كان سلسًا ولطيفًا عندما أخبرها بأن الأمر لم ينجح. كان قد اكتسب بعض الوزن عند منطقة الوسط، وقلَّت كثافة شعره، وفقد بعضًا من تموجه ولمعانه. حيَّا جولييت بحرارة، مبديًا بعض الإطراء والتملق لها وللطفلة؛ مما أربكها لدرجة أنها شعرت ببعض الحرارة التي انبعثت من وجهها ورقبتها، وسال منها بعض العرق طيلة الوقت الذي تحدَّث فيه إليها. في المدرسة الثانوية، لم يكن لديه وقت من أجلها؛ فيما عدا أنه كان يحييها تحية مهذبة؛ حيث إن أسلوبه كان دومًا لطيفًا محبوبًا. كان يرافق أكثر الفتيات جاذبية في المدرسة، وهو الآن متزوج من واحدة منهن، وذلك كما أخبرها؛ وهي جيني بييل، ولديهما طفلان؛ أحدهما في عمر بينيلوبي، والآخر يكبرها. كان هذا هو السبب — كما قال لها بصراحة بدت أنها نابعة من موقف جولييت المشابه — الذي جعله لم يستكمل دراسته ليصبح مهندسًا.

والآن استطاع أن يحصل على ابتسامة، ثم ضحكة عالية من بينيلوبي، ثم تحدَّث مع جولييت كأب مثلها؛ شخصٍ في نفس مستواها. انتابها شعور أبله بالسرور وبإشباع غرورها، لكن ثَمَّةَ أمرًا آخر جذب انتباهها أكثر من هذا؛ وهو نظرته الخاطفة إلى يدها اليسرى التي لا يزيِّنها أي خاتم، وتندُّره بشأن زواجه. وكان هناك شيء آخر، لقد أطرى عليها ومدحها، بأسلوب خفي؛ ربما لأنه يراها الآن امرأة مكتملة الأنوثة ولا تخجل من ثمرة ارتباطها غير الشرعي. جولييت التي كانت من بين كل الأشخاص الطالبة الخرقاء.

سأل عندما انحنى يتطلع إلى بينيلوبي: «هل تشبهك؟»

قالت جولييت بتلقائية، ولكن بفيض من الفخر والكبرياء، وقد التمعت حبات العرق على شفتها العليا: «إنها تشبه أباها أكثر.»

قال تشارلي وقد انتصب واقفًا، وراح يتحدث كمن يقول سرًّا: «أحقًّا؟ سأخبرك شيئًا، أعتقد أنه من المخجل أن …»

•••

قالت جولييت لسام: «لقد قال لي إنه من المخجل ما حدث لك.»

«أقال هذا حقًّا؟ وبماذا أجبتِ على ذلك؟»

«لم أكن أعرف بماذا أجيب، لم أكن أعرف ما يقصده، لكني لم أكن أرغب في أن يفهم أني لا أعرف.»

«بالطبع لا.»

جلست إلى الطاولة وقالت: «أرغب في بعض الشراب، لكني لا أحب الويسكي.»

«إذن فأنتِ تشربين الآن أيضًا.»

«أحتسي النبيذ فقط، ونحن نصنع النبيذ بأنفسنا، وهكذا يفعل الجميع في ويل باي.»

ثم راح يقص عليها مزحة، وهي من النوع الذي لم يكن يخبرها به من قبل، عن اثنين ذهبا إلى أحد الفنادق الصغيرة، ختمها بقوله: «لذا، الأمر مثلما أُخبر دومًا طالباتي في دروس تعليم المسيحية يوم الأحد، ليس بتناول الشراب وتدخين السجائر يكون قضاء الأوقات الطيبة.»

ضحكت، ولكنها شعرت بحرارة في وجهها مثلما حدث مع تشارلي.

قالت: «لماذا تركتَ عملك، هل تركته بسببي؟»

ضحك سام وقال: «أوه، مهلًا، لا تعتقدي أنكِ على ذلك القدر من الأهمية. لم يُستغنَ عني، ولم أُفصَل.»

«حسنًا، فأنتَ من تركت الوظيفة.»

«نعم، تركت العمل.»

«هل لهذا علاقة بي؟»

«لقد تركت العمل لأنني سئمت من أن يظل ذلك الحبل الملعون ملفوفًا حول عنقي دائمًا. ظللت لسنوات على شفا ترك العمل.»

«ألهذا علاقة بي؟»

قال سام: «حسنًا، دخلت في جدال، وهنالك أشياء قيلت.»

«أي أشياء هذه؟»

«ليس من الضروري أن تعرفي.»

ثم قال بعد لحظة توقف: «ولا تقلقي، فهم لم يفصلوني، لم يكن باستطاعتهم الإقدام على فعل ذلك؛ فهناك قوانين تحكم هذه الأمور، وكما أخبرتك من قبل، لقد كنتُ على استعداد لترك الوظيفة على أي حال.»

قالت جولييت: «لكنك لا تدرك، إنك لا تدرك كمَّ الحماقة والغباء في ذلك، ويا له من مكان مقزز ذلك الذي تعيشون فيه! حيث يتحدث الناس عن مثل تلك الأمور والموضوعات، وكيف يكون الأمر إن أخبرتهم بأنني أعلم ذلك، لن يصدقوا بالطبع، سيكون الأمر حينها أشبه بالمزحة.»

«حسنًا، لسوء الحظ أنني وأمك لا نعيش حيث تعيشين أنتِ. إننا نعيش هنا. هل يعتقد رفيقك أن الأمر أشبه بالمزحة أيضًا؟ لا أريد أن أتحدث بشأن هذا الأمر ثانية الليلة. سآوي إلى فراشي، سأذهب أولًا لألقي نظرة على والدتك ثم آوي إلى الفراش.»

قالت جولييت بطاقة متواصلة، وقد غلب عليها بعض الازدراء: «إن قطار المسافرين لا يزال يمر من هنا، أليس كذلك؟ لم تكن تريدني أن أتوقف وأنزل هنا، أليس هذا هو الأمر؟»

لم يُجِبها أبوها بشيء وهو في طريقه لمغادرة الحجرة.

•••

تسلل آخر ضوء في المدينة من الشارع إلى فراش جولييت الآن. كانت شجرة القيقب الناعمة الضخمة قد قطعت، وحلَّ محلها بعضٌ من أعشاب الراوند الخاصة بسام. وفي البارحة، كانت قد أسدلت الستائر لتظلل الفراش، لكنها شعرت الليلة بأنها ترغب في استنشاق بعضٍ من الهواء المنعش؛ لذا كان عليها أن تغير من وضع الوسائد وتضعها على الناحية الأخرى من الفراش على الطرف الآخر من الفراش، وكذا فعلت مع بينيلوبي التي كانت تغط في النوم كالملاك، وغطى وجهها كله الضوء المنبعث من الخارج.

تمنَّت لو أنها ارتشفت بعضًا من الويسكي؛ إذ كانت متصلبة في فراشها من الغضب والإحباط، تسطر في ذهنها كلمات خطابها لإيريك. «لا أدري ماذا أفعل هنا. ما كان ينبغي لي أن آتي من الأساس. لا أطيق انتظارًا حتى أعود للمنزل.»

المنزل.

•••

عند بزوغ ضوء الصباح الخافت، استيقظت جولييت على صوت المكنسة الكهربائية، ثم صوت — صوت سام — ينبعث ويقطع تلك الضوضاء، ثم لا بد وأنها واصلت نومها مرة أخرى؛ حيث ظنَّت عندما استيقظت بعد ذلك بفترة، أنه كان من المؤكد حلمًا، وإلا لكانت بينيلوبي استيقظت، لكنها لم تفعل.

كان المطبخ أكثر برودة هذا الصباح، ولم يعد ممتلئًا برائحة الفاكهة المطبوخة. كانت آيرين تقوم بتثبيت بعض الأغطية الصغيرة المصنوعة من القماش القطني ذي المربعات، والملصقات على برطمانات المربى.

قالت جولييت وهي تتصنَّع البهجة: «هُيئ لي أني سمعتك تنظفين بالمكنسة، لا بد وأني كنت أحلم، كان هذا في حوالي الخامسة صباحًا.»

ظلت آيرين صامتة للحظة؛ حيث كانت تقوم بالكتابة على أحد الملصقات. كانت تكتب بتركيز شديد، وهي تَعَضُّ على شفتها بأسنانها.

قالت عندما انتهت: «لقد كانت هي، أيقظَت أباك وكان عليه أن يذهب إليها ويجعلها تتوقف عن ذلك.»

بدا أنه من غير المحتمل أن تفعل ذلك؛ إذ لم تغادر سارة فراشها البارحة إلا لكي تذهب إلى دورة المياه.

قالت آيرين: «أخبرني بأنها تستيقظ في منتصف الليل وتعتقد أنه عليها أن تفعل شيئًا، ثم يضطر للاستيقاظ وجعلها تتوقف عما تفعله.»

قالت جولييت: «لا بد وأنها تنتابها دفقة من الطاقة حينها.»

قالت آيرين وهي تواصل الكتابة على ملصق آخر: «نعم.» وعندما انتهت استدارت بوجهها نحو جولييت.

«إنها تريد أن توقظ أباك وتجذب انتباهه، هذا كل ما في الأمر، ويكون هو في شدة التعب، لكنه يضطر للنهوض والذهاب إليها.»

سارت جولييت مبتعدة قليلًا. لم تكن تريد أن تُنزل بينيلوبي — وكأن الطفلة لن تكون بأمان في المطبخ — فحملتها ساندة إياها على جنبها بيدٍ بينما كانت تنتشل البيضة بملعقة، ثم تقوم بتقشيرها وهرسها باليد الأخرى.

وبينما كانت تُطعم بينيلوبي خشيت أن تتحدث حتى لا تنزعج الرضيعة من طبقة صوتها وتشرع في النحيب والصراخ. ومع ذلك، ثَمَّةَ شيء أرادت أن تقوله لآيرين، فقالت بصوت خافت لكنه ينطوي على بعض التحدي: «هذا هو ما يئولون إليه؛ فعندما يمرضون بهذا الشكل، لا يكون باستطاعتهم كبح جماح أنفسهم، ولا يكون بإمكانهم التفكير في أحد سوى ذاتهم فقط.»

•••

كانت عينا سارة مغلقتين، لكنها فتحتهما على الفور وقالت وكأنها تضحك على نفسها: «أوه، أحبائي الأعزاء، جولييت، بينيلوبي.»

بدا وكأن بينيلوبي قد اعتادت عليها؛ فهي على الأقل لم تشرع في البكاء هذا الصباح أو تشيح بوجهها بعيدًا.

قالت سارة وهي تمد يدها نحو إحدى المجلات: «أنزليها هنا، ودعيها تعبث بهذه.»

بدت بينيلوبي متشككة للحظات، ثم جذبت صفحة ومزَّقتها بتحمس ونشاط.

قالت سارة: «ها قد بدأت، كل الأطفال يهوون تمزيق المجلات. أتذكر هذا جيدًا.»

على المقعد الموضوع بجوار الفراش وُضع صحن من كريمة القمح، بالكاد مسَّته وتناولت منه شيئًا.

قالت جولييت: «إنك لم تتناولي فطورك، أليس هذا ما رغبتِ بتناوله؟»

نظرت سارة باتجاه الصحن كما لو أنها تستحضر شيئًا هامًّا، لكنها لم تستطع أن تتذكره.

قالت: «لا أتذكر، أعتقد أنني لم أكن أريده.» وانتابتها نوبة من الضحك واللهاث: «من يدري؟ جال بذهني أنها ربما دسَّت لي السم.»

قالت عندما استعادت هدوءها: «إنني أمزح فقط. لكن آيرين عنيفة، لا ينبغي أن نقلل من قدر تلك المرأة. أرأيتِ الشعر الذي يملأ ذراعيها؟»

قالت جولييت: «إنه مثل شعر القطط.»

«مثل حيوان الظربان.»

«علينا أن نأمل ألا يتساقط أيٌّ منه في المربى.»

«لا تجعليني … أنفجر في الضحك ثانية.»

انهمكت بينيلوبي انهماكا شديدًا في تمزيق المجلات، لدرجة أنه كان بمقدور جولييت بعد فترة أن تتركها في غرفة سارة لتحمل صحن كريمة القمح وتذهب به إلى المطبخ. ودون أن تقول شيئًا، شرعت في إعداد مخفوق البيض بالحليب المُحلى. وكانت آيرين تغدو جيئة وذهابًا حاملة صناديق المربى من المطبخ إلى السيارة. وعند السلالم الخلفية، راح سام يروي الأرض التي تحتضن حبات البطاطس المزروعة حديثًا، وشرع يغني، ولكن بصوت خفيض في البداية يصعب معه تبيُّن كلماته، ثم عندما صعدت آيرين الدرج علا صوته قائلًا:

ليلة سعيدة آيرين
ليلة سعيدة آيرين
طابت ليلتك آيرين، طابت ليلتك آيرين
سأراكِ في أحلامي آيرين.

استدارت آيرين نحوه وهي لا تزال في المطبخ وراحت تصرخ قائلة: «لا تردِّد هذه الأغنية التي تتحدث عني.»

قال سام بدهشة مصطنعة: «أي أغنية تلك التي تتحدث عنكِ؟ من الذي يتغنى بأغنية عنك؟»

«أنتَ، كنتَ تغني لتوك أغنية عني.»

«أوه، تلك الأغنية عن آيرين؟ الصبية التي في الأغنية؟ أوه، يا للعجب! لقد نسيت أن هذا اسمك أيضًا.»

ثم شرع في الغناء ثانية، لكن بهمهمة وخلسة هذه المرة. وقفت آيرين تسترق السمع، واندفع الدم في وجنتيها، وراح صدرها يعلو وينخفض، على وشك الانقضاض إن سمعت كلمة واحدة.

«لا تردِّد أغنية عني. إن ذُكِر اسمي بها، فإذن هي عني.»

وفجأة انفجر سام يغني بكامل قوته:

تزوجت يوم السبت الماضي،
سيستقر بي المقام أنا وزوجتي.

صرخت آيرين واتسعت حدقتا عينيها، واستشاطت غضبًا وقالت: «توقف عن ذلك، إن لم تتوقف سآتي إليك وأسلط خرطوم المياه عليك.»

•••

كان سام يسلِّم المربى بعد الظهيرة لمتاجر بقالة عدة، والقليل من محال الهدايا التي كانت قد طلبت بعضًا منها، ودعا جولييت لكي تصحبه. وكان سام قد ذهب إلى متجر الأدوات المنزلية وابتاع مقعدَ سيارةٍ جديدًا للأطفال من أجل بينيلوبي.

قال: «هذا هو الشيء الوحيد الذي لم يكن لدينا في الغرفة العلوية؛ فعندما كنتِ صغيرة، لم أكن أدري إن كان لديهم مقاعد سيارة للأطفال أم لا، على أي حال لم يكن ذلك يهمُّ كثيرًا، فلم يكن لدينا سيارة.»

قالت جولييت: «إنه أنيق للغاية، أتمنى ألا يكون كلفك نقودًا كثيرة.»

قال سام وهو يُدخلها السيارة: «إنه شيء تافه.»

كانت آيرين في الحقل تلتقط بعض التوت، وقد اعتزمت أن تخصصها لصنع الفطائر. أطلق سام بوق السيارة مرتين ولوَّح بيديه وهما ينطلقان، وقررت آيرين أن تُظهر استجابتها هذه المرة، فرفعت ذراعها تلوِّح كما لو أنها تهش ذبابة.

قال سام: «إنها شديدة الاعتداد بذاتها، لا أدري كيف كنا سنعيش بدونها، ولكني أتصور أنكِ ترينها فظة معك.»

«إنني بالكاد أعرفها.»

«لا، إنها تخافك بشدة.»

«بالقطع لا.» وفي محاولة للتفكير في سبب للمديح، أو على الأقل شيء محايد تقوله عنها، راحت تسأل عن الكيفية التي قُتل بها زوجها في مزرعة الدواجن.

«لستُ أدري إن كان من النوع الإجرامي أم أنه كان طائشًا فحسب. على أي حال فقد دخل إلى المزرعة مع بعض الحمقى الذين كانوا يخطِّطون بدورهم لسرقة بعض الدجاج، وبالطبع دق جرس الإنذار وخرج المزارع وفي يده بندقيته، وسواء أكان ينوي قتله أم لا، فقد فعل …»

«يا إلهي!»

«وهكذا، ذهبت آيرين وأصهارها إلى المحكمة، ولكن الرجل أُخلي سبيله. بالطبع كان ذلك سيحدث. ومن المؤكد أن الأمر كان قاسيًا بالنسبة لها، حتى لو بدا أن الرجل لم يكن بالمكسب الكبير.»

قالت جولييت بالطبع كان الأمر كذلك، وسألته إن كانت آيرين ممن درَّس لهم في المدرسة.

«لا، لا. إنها بالكاد التحقت بالمدرسة، بقدر ما فهمت.»

قال إن عائلتها تعيش في الشمال، في مكان ما بالقرب من هانتسفيل، نعم في مكان ما بالقرب من هناك. وفي يوم من الأيام ذهبوا جميعًا إلى المدينة؛ الأب، والأم، والأطفال. أخبرهم الأب أن لديه بعض الأشياء التي عليه أن يتمها، وسيقابلهم بعد فترة وجيزة، وحدَّد لهم المكان والزمان الذي سيتقابلون فيه. وهكذا راحوا يتجولون وليس معهم أي نقود ينفقونها حتى حان الوقت الذي سيلتقون به، وحينها لم يظهر ثانية.

«لم يكن ينوي الظهور. أراد أن يتخلص منهم. فاضطروا للذهاب إلى الشئون الاجتماعية للحصول على المساعدات، وعاشوا في أحد الأكواخ في الريف حيث الحياة زهيدة هناك. وتوفيت أخت آيرين الكبرى، إثر انفجار الزائدة الدودية على ما أذكر، وكانت لهم بمثابة الدعم والسند أكثر من الأم ذاتها. لم يكن هناك من سبيل لنقلها إلى المدينة؛ حيث هبَّت حينها العواصف الثلجية، ولم يكن لديهم هاتف بالجوار. لم ترغب آيرين في الذهاب إلى المدرسة بعد ذلك؛ لأن أختها كانت تحميها من الطريقة السيئة التي كان يتعامل بها الأطفال الآخرين معها. قد تبدو الآن أنها لا تتأثر بسهولة، لكني أعتقد أنها لم تكن دومًا هكذا، وربما لديها المقدرة الآن على إخفاء مشاعرها.

وتعتني أم آيرين الآن بالولد والبنت الصغيرين، لكن تخيلي بعد مرور كل تلك السنوات ظهور الأب، وهو يحاول أن يجعل الأم تعود إليه مرة أخرى، وإذا ما حدث ذلك فآيرين لا تعرف ماذا ستفعل؛ حيث إنها لا تريد لأولادها أن ينشئوا بالقرب منه.

أطفالها لطفاء أيضًا، وتعاني البنت الصغيرة من مشكلة الحنك المشقوق، وقد أجرت عملية بالفعل، لكنها بحاجة إلى عملية أخرى فيما بعد. ستكون على ما يرام، لكنه عبء إضافي.»

عبء إضافي!

ما الذي ألمَّ بجولييت؟ إنها لا تشعر بأي تعاطف نحوها، إنها تشعر في أعماقها بالثورة تجاه كل تلك الأحداث المملة التي لا جدوى منها. وعندما ظهر موضوع الحنك المشقوق في القصة كان كل ما تريده حقًّا هو أن تتذمر وتشتكي. «لقد زاد الأمر عن الحد.»

كانت تعلم أنها مخطئة، لكن ليس بمقدور المرء تغيير المشاعر، كانت تخشى أن تقول شيئًا إضافيًّا؛ حتى لا تفضح كلماتها ما يكنُّه قلبها القاسي. كانت تخشى أن تقول لسام: «ما الرائع في كل هذا الشقاء؟ هل يجعل هذا منها قديسة؟» أو ربما تقول بأسلوب لا يغتفر: «أتمنى ألا يكون مقصدك هو أن تجعلنا نختلط بأناس مثل هؤلاء.»

قال سام: «في الوقت الذي قدمتْ فيه لمساعدتنا كنت أنا على وشك أن أفقد صوابي؛ ففي الخريف الماضي كانت أمك تمثل كارثة حقيقية، وليس ذلك لأنها تركت كل شيء وأهملته، يا ليتها تركت كل شيء، بل يا حبذا لو أنها لم تفعل شيئًا. ولكن ما حدث أنها كانت تشرع في مهمة ما، ثم لا تستطيع أن تكملها. وكان هذا يحدث مرارًا وتكرارًا، ولم يكن بالشيء الجديد على الإطلاق. أعني أنه كان عليَّ دومًا أن أستأنف العمل وراءها، وأعتني بها وأساعدها في أداء الأعمال المنزلية. كلانا — أنا وأنت — كنا نفعل ذلك، أتتذكرين؟ كانت دومًا تلك الفتاة الرقيقة الجميلة التي تعاني مشاكل في القلب واعتادت أن يساعدها الجميع. وخلال كل تلك السنوات كان يُهيأ لي بين الحين والآخر أنها ربما كان عليها أن تحاول أكثر وتبذل أقصى ما في استطاعتها.»

ثم واصل حديثه قائلًا: «لكن الأمر ازداد سوءًا؛ ازداد سوءًا لدرجة أني كنت أعود إلى المنزل وأجد المغسلة في وسط المطبخ والملابس المبتلة تملأ المكان كله، أو أجد الكثير من الفوضى التي خلَّفتها محاولة كانت بدأتها لخبز بعض الفطائر وعدلت عنها، وقد تفحَّم ما بداخل الفرن عن آخره. كنت أخشى أن تحرق نفسها، أو تشعل النيران في المنزل. كنت أطلب منها دائمًا أن تمكث في الفراش، ولكنها لم تكن تفعل، وكانت تقف وسط الفوضى التي تُحدِثها وهي تبكي. جئت بفتاتين من قبل لكن لم يكن باستطاعتهما التعامل معها، ثم بعد ذلك جاءت آيرين.»

قال وهو يزفر بشدة: «آيرين، إنني أبارك ذلك اليوم، أصدقك القول إنني أبارك ذلك اليوم.»

لكن شأنها شأن كل الأشياء الجميلة، لا بد لها من نهاية، فستتزوج آيرين من أرمل يبلغ الأربعين أو الخمسين من العمر، يعمل مزارعًا. ومن المفترض أنه يمتلك بعض النقود، وتمنَّى سام من أجلها أن يكون هذا صحيحًا؛ لأن الرجل ليس لديه شيء آخر يزكيه.

«بحق السماء ليس لديه شيء، وبقدر رؤيتي ليس لديه سوى سِنَّة واحدة في فمه، وهذا في رأيي مؤشر سيئ؛ فإما أن يكون فخورًا بنفسه هكذا أو أنه بخيل للغاية لا يود تركيب طقم أسنان. فكِّري في الأمر، فتاة ذات مظهر رائع مثلها.»

«ومتى سيكون ذلك؟»

«في الخريف، في وقت ما من الخريف.»

•••

كانت بينيلوبي نائمة طوال كل هذا الوقت؛ فقد غطَّت في النوم في مقعدها بمجرد أن شرعوا في التحرك. كانت النوافذ الأمامية مفتوحة، واستطاعت جولييت أن تشم رائحة القش، كان قد قُطِع لتوِّه وضُم إلى حزم معًا؛ فلم يعد هناك أحد الآن يصنع لفائف القش. وكانت لا تزال تقف هناك بعض أشجار الدردار، وبدت رائعة الآن في عزلتها تلك.

توقفا عند قرية شُيدت بطول الطريق في وادٍ ضيق، وبرزت صخور القاعدة على جدار الوادي، وهو المكان الوحيد بعد عدة أميال قطعوها حيث يمكن رؤية مثل هذه الصخور الضخمة. تذكرت جولييت أنها كانت تأتي إلى هنا عندما كان هناك متنزه يتطلب دخوله دفع بعض الرسوم. وكان بالمتنزه نافورة، ومكان لاحتساء الشاي؛ حيث تقدَّم فطيرة الفراولة، والآيس كريم، وبالقطع أشياء أخرى لا تتذكرها. أما الكهوف الموجودة في الصخور فكانت مسماة على اسم كل واحد من الأقزام السبعة. وذات مرة جلس كلٌّ من سام وسارة على الأرض بجوار النافورة يتناولان الآيس كريم، بينما كانت تهرع هي لاكتشاف تلك الكهوف (التي لم تحوِ الكثير، ولم تكن غائرة للغاية). كانت تريدهما أن يصاحباها، لكن سام كان يقول لها: «تعلمين أن أمك لا تستطيع التسلق.»

وكانت سارة تقول: «اركضي أنتِ، ثم عودي لتحكي لنا عنه.» كانت متأنقة، ترتدي تنورة سوداء مصنوعة من قماش التفتة، وتفترش الحشائش في دائرة حولها. وكانت تلك التنورات تسمى تنورات لاعبات الباليه.

لا بد وأنه كان يومًا مميزًا.

سألت جولييت سام عن ذلك المكان عندما خرج من المتجر، لم يستطع أن يتذكر في البداية، لكنه تذكر بعد ذلك، فقال إنه كان مكانًا يقدم خدماتٍ بأسعار عالية، ولم يعرف متى اختفى.

ولم تستطع جولييت أن تلمح أي أثر للنافورة أو لمكان احتساء الشاي عبر الطريق.

قال سام: «لقد جلبتْ الهدوء والنظام.» استغرق منها الأمر دقيقة لكي تدرك أنه كان لا يزال يتحدث عن آيرين. «إنها تعاون في أي شيء؛ قطع الحشائش، وعزق الحديقة، وتبذل قصارى جهدها في أي شيء تفعله، وتتصرف كما لو أنها تحظى بشرف وامتياز من وراء عملها، وهو ما يجعلني لا أتوقف عن دهشتي.»

ماذا عساها كانت تلك المناسبة المبهجة؟ عيد ميلاد؟ عيد زواج؟

تحدث سام بإصرار، وبأسلوب جاد، وسط الضوضاء التي تُحدِثها السيارة وهي تصعد فوق التل بصعوبة.

«لقد أعادت ثقتي في النساء.»

•••

كان سام يهرع نحو كل متجر بعد أن يخبر جولييت أنه لن يستغرق سوى دقيقة واحدة، ويعود إلى السيارة بعد فترة موضحًا لها أنه لم يكن باستطاعته أن يتملص منهم؛ فبعض الناس كان يريد التحدث معه، والبعض الآخر كان يدخر النكات ليلقيها على مسامعه، واتبعه القليل إلى الخارج لرؤية ابنته وطفلتها الرضيعة.

قالت إحدى السيدات: «إذن هذه هي الفتاة التي تتحدث اللاتينية.»

قال سام: «لقد علاها الصدأ هذه الأيام؛ فيداها مشغولتان في الوقت الحاضر.»

قالت السيدة وهي تمد رقبتها لتلقي نظرة على بينيلوبي: «أراهن على ذلك، لكن أليسا هبةً من الله؟ وتلك الصغيرة.»

فكرت جولييت أنه بمقدورها أن تتحدث مع سام عن الرسالة الدراسية التي تنوي استئنافها، بالرغم من أنها تدرك أن هذا الأمر يُعد مجرد حلم الآن. كان من المعتاد أن تثار تلك الموضوعات بينهما بصورة تلقائية، ولكن الأمر ليس كذلك مع سارة؛ فسارة كانت تقول: «والآن عليكِ أن تخبريني بما تفعلينه في دراستك.» وتشرع جولييت في إيجاز بعض الأشياء لها، وربما تسألها سارة عن كيفية حفظ كل تلك الأسماء اليونانية. أما سام فكان يعي جيدًا ما تتحدث عنه، وكانت تذكر لهم في الجامعة كيف أن والدها شرح لها معنى الثاوماتورجي (أي صناعة المعجزات)؛ وذلك عندما قابلت تلك الكلمة وهي لا تزال في الثانية أو الثالثة عشرة من عمرها، وسألها مَن حولها إن كان والدها من المدرسين.

كانت تقول: «بالطبع، إنه يدرِّس للصف السادس.»

اعتراها شعور بأنه ربما يحاول بمهارة أن يقلل من مكانتها. أو ربما ليس بمهارة؛ فقد يستخدم كلمة «غير عملي»، وربما يدَّعي أنه نسي أشياء لا تستطيع أن تصدق أنه نسيها.

لكن ربما يكون نسيها حقًّا؛ فحجرات عقله أغلقت، ونوافذها أظلمت؛ فما كان في الداخل كان يحكم هو عليه بأنه غير ذي فائدة، وأنه مخزٍ ومعيب بدرجة لا يستحق معها أن يخرجه إلى النور.

تحدثت جولييت بصورة أكثر حدة مما أرادت.

«هل تريد آيرين الزواج؟»

أدهش سام هذا السؤال؛ خاصة بعد أن خرج بتلك اللهجة وبعد فترة كبيرة من الصمت.

قال: «لا أدري.»

وأردف بعد دقيقة: «لا أدري كيف يمكنها أن تفعل.»

قالت جولييت: «اسألها، من المؤكد أنك ترغب في ذلك، أرى ذلك من خلال ما تشعر به حيالها.»

قطعا مسافة ميل أو ميلين تقريبًا قبل أن يتحدث. كان من الواضح أنها أساءت إليه.

قال: «لا أدري ما الذي تتحدثين عنه.»

•••

قالت سارة: «سعيد، غاضب، متبلد، ناعس، كثير العطاس.»

قالت جولييت: «طبيب.»

«طبيب، طبيب، سعيد، كثير العطاس، طبيب، غاضب، خجول، كثير العطاس، لا، كثير العطاس، خجول، طبيب، غاضب، ناعس، سعيد، طبيب، خجول.»

قالت سارة وهي تعد الصفات على يديها: «أليست ثمانيًا؟»

قالت: «ذهبنا إلى هناك أكثر من مرة، لقد اعتدنا أن نطلق عليها مقام كعك الفراولة. أوه، كم أود أن أذهب إلى هناك ثانية.»

قالت جولييت: «حسنًا، لا يوجد شيء هناك، لم أستطع حتى أنْ أتبين أين كان مكانه.»

«أنا واثقة بأنه كان بإمكاني ذلك. لماذا لم أذهب معكما؟ إنها جولة صيفية بالسيارة. ما القوة التي تتطلبها نزهة بالسيارة؟ يقول أبوك دائمًا إنني ليس لديَّ أي نوع من القوة.»

«لقد أتيتِ لاستقبالي.»

قالت سارة: «نعم، لكنه لم يكن يرغب في أن آتي، كان عليَّ أن أُظهر له غضبي.»

مدَّت يدها لتجذب الوسائد الموضوعة خلف رأسها وتصحِّح وضعها، لكنها لم تتمكن من هذا، فقامت جولييت بذلك.

قالت سارة: «يا إلهي! أي سلعة عديمة النفع صرت أنا؟! وبرغم هذا بمقدوري أن آخذ حمامًا بنفسي. ماذا لو جاءنا زوار؟»

سألتها جولييت إن كانت تنتظر أحدًا.

«لا، لكن ماذا لو قدم أحدهم؟»

لذا اصطحبتها جولييت إلى دورة المياه، وراحت بينيلوبي تزحف خلفهما، ثم عندما أصبح الماء مُعدًّا، واستلقت فيه الجدة، رأت بينيلوبي أنه ينبغي أن يكون الحمام من أجلهما هما الاثنتان. فجرَّدتها جولييت من ملابسها، وهكذا اغتسلت الرضيعة والمرأة العجوز معًا. ولم تبدُ سارة وهي عارية كامرأة عجوز بقدر ما كانت تبدو كفتاة كبيرة؛ فتاة يمكن القول بأنها تعاني من مرض غريب، أضعفها وسلبها قوتها.

تقبَّلت بينيلوبي وجودها دون أي إزعاج، لكنها تشبَّثت بصابونتها الصفراء على شكل بطة.

وفي حوض الاستحمام استطاعت سارة أخيرًا أن تسأل عن إيريك، وكان ذلك بحذر.

قالت: «إنني على ثقة أنه رجل لطيف.»

قالت جولييت بتلقائية: «أحيانًا.»

«لقد كان طيبًا مع زوجته الأولى.»

قالت جولييت مصحِّحة: «إنها زوجته الوحيدة، حتى الآن.»

«لكني على ثقة أنكِ سعيدة، بما أن لديك الآن هذه الطفلة؛ أعني، أنا واثقة أنك سعيدة.»

قالت وقد فاجأت أمها عندما أخذت منشفة تقطر ماء وعصرتها على رأس أمها المليء بالصابون: «سعيدة بقدر ما يسمح لي شعوري بالعيش في الخطيئة.»

قالت سارة بعد أن تفادت قطرات المياه وخبأت وجهها وهي تطلق صيحة تنم عن السعادة: «هذا ما أعنيه.» ثم أردفت قائلة: «جولييت.»

«ماذا؟»

«تعلمين أنني لا أقصد شيئًا سيئًا عندما أتفوه بأشياء كريهة عن والدك؛ فأنا أعلم أنه يحبني، لكن كل ما في الأمر أنه غير سعيد.»

•••

حلمت جولييت بأنها عادت طفلة من جديد في هذا المنزل، بالرغم من أن ترتيب الغرف كان مختلفًا بعض الشيء. نظرت عبر نافذة إحدى الغرف التي بدت غير مألوفة، فرأت قوسًا من المياه يتلألأ في الهواء، وكانت المياه مندفعة من خرطوم الري، ووقف أبوها يروي الحديقة، جاعلًا ظهره في مواجهتها. تحرَّك شخص ما وسط حقول التوت، وبعد وهلة اتضح بعد ذلك أنها آيرين، ولكنها كانت أكثر طفولة، وقد بدت أكثر رشاقة وليونة في حركتها وتشع مرحًا. كانت تحاول تفادي المياه المتناثرة من الخرطوم، تختبئ حينًا ثم تعاود الظهور حينًا آخر، تنجح محاولاتها في الابتعاد، ولكن تطولها المياه ثانية للحظات قبل أن تجري مبتعدة. كان من المفترض أن تكون هذه اللعبة مرحة، إلا أن جولييت كانت تراقبها ببعض الازدراء والاشمئزاز من خلف النافذة. كان أبوها يدير ظهره لها دائمًا، لكنها اعتقدت أنها «رأته» على نحو ما وكأنه يصوِّب الخرطوم لأسفل أمام جسمه، وأنها لم تكن سوى فوهة الخرطوم التي كان يحركها للأمام والخلف.

كان الحلم يغلب عليه الرعب الكريه؛ فلم يكن ذلك الرعب الذي يترك أثره عليك من الخارج، إنما من ذلك النوع الذي يمر ويتسرب عبر كل نقطة من دمائك.

عندما استيقظت كانت لا تزال تستشعر آثاره، ووجدت أن الحلم كان باعثًا على الخجل، وبدا وكأنه يتسم بالتفاهة والابتذال، ولم يكن سوى انعكاس للأفكار السيئة بداخلها.

•••

في منتصف فترة ما بعد الظهيرة، كان هناك طَرْقٌ على الباب الأمامي، لم يكن هناك أحد يستخدم الباب الأمامي، وقد وجدت جولييت أنه لا يفتح بسهولة.

كان الرجل الواقف هناك يرتدي قميصًا أصفر مفرودًا بعناية، ذا أكمام قصيرة، وسروالًا بني اللون، وربما كان يكبرها ببضع سنوات، كان طويلًا ولكنه يبدو ضعيف البنية، صدره غائر بعض الشيء، وكان يحييها بحرارة والابتسامة لا تفارق شفتيه.

قال الرجل: «جئتُ لمقابلة سيدة المنزل.»

تركته جولييت واقفًا في مكانه وذهبت إلى الحجرة المشمسة.

فقالت: «هناك رجل بالباب، ربما كان يعرض أشياء للبيع، هل أصرفه؟»

دفعت سارة بنفسها وهي تحاول النهوض وقالت بأنفاس لاهثة: «لا، لا، هلا ساعدتِني على أن أهندم مظهري؟ لقد سمعت صوته، هذا دون، إنه صديقي دون.»

كان دون قد دلف بالفعل إلى المنزل وبدا صوته مسموعًا من خارج الغرفة قائلًا:

«ما من داعٍ للقلق والضجيج يا سارة، إنه أنا فقط، هل أنت محتشمة؟»

وبنظرة ملأتها السعادة والكثير من المشاعر والانفعالات مدت سارة يدها نحو فرشاة الشعر التي لم تستطع الوصول إليها، فعدلت عن ذلك ومررت أصابعها بين خصلات شعرها وقالت وقد علا صوتها وامتلأ مرحًا: «أخشى أنني محتشمة وأنيقة بأقصى قدر ممكن بالنسبة لي. تفضَّل بالدخول.»

ظهر الرجل وتوجَّه مسرعًا إليها فرفعت ذراعيها نحوه قائلة: «رائحتك مثل رائحة الصيف، ما هذا؟» وتحسست قميصه قائلة: «قميصك تم كيه بعناية، إنه من القطن، إنه جميل.»

قال لها: «لقد كويته بنفسي، إن سالي بالكنيسة، تعبث ببعض الزهور، ليس سيئًا، أليس كذلك؟»

قالت سارة: «بل رائع، كدتَ ألا تتمكن من الدخول إلى المنزل، ظنَّتك جولييت أحد البائعين. جولييت هي ابنتي، ابنتي العزيزة، لقد أخبرتك عنها، أليس كذلك؟ أخبرتك أنها قادمة. ودون كاهن يا جولييت، إنه صديقي وكاهن.»

اعتدل دون في وقفته وأمسك بيد جولييت قائلًا:

«جميل أنكِ هنا، سعيد بلقائك، وأنت لم تخطئي كثيرًا في الواقع؛ فأنا نوع ما من البائعين.»

ابتسمت جولييت برقة على دعابة الكاهن، ثم سألته قائلة: «أنت كاهن بأي كنيسة؟»

أضحك السؤال سارة، وقالت: «يا عزيزتي، هذا يفصح عن الكثير من الأسرار، أليس كذلك؟»

فأجابها دون بابتسامة غير منزعجة: «أنا من كنيسة ترينيتي، وبالنسبة للإفصاح عن الأسرار، إنه ليس بجديد عليَّ أن سام وسارة لا يذهبان لأي كنيسة من الكنائس في المجتمع المحيط، إنني فقط آتي للزيارة على أي حال؛ لأن أمك امرأة شديدة الجاذبية.»

لم تتمكن جولييت من تذكُّر ما إذا كانت هي الكنيسة الإنجيلية أم الكنيسة المتحدة تلك التي تتبعها كنيسة ترينيتي.

فقالت لها سارة: «عزيزتي، هلا تحضرين مقعدًا مناسبًا لدون حتى يجلس؟ فهو هنا يقف منحنيًا فوقي كطائر اللقلق. أتود أن تشرب شيئًا منعشًا يا دون؟ ما رأيك في مخفوق البيض؟ فجولييت تعد لي أشهى مخفوق بيض. ولكن لا، لا، ربما يكون دسمًا جدًّا على الأغلب؛ فلقد أتيت من طقس شديد الحرارة بالخارج، ما رأيك ببعضٍ من الشاي؟ هذا أيضًا شراب ساخن، أم جعة الزنجبيل؟ أو ما رأيك في بعض العصير؟ ماذا لدينا من عصائر يا جولييت؟»

فقال دون: «أنا لا أحتاج أي شيء سوى كوب ماء، سيكون هذا جيدًا.»

قالت سارة بأنفاس لاهثة: «ألا تريد قدحًا من الشاي؟ حقًّا؟ ولكنني أظن أني أريد القليل منه، تستطيع أن تشرب نصف قدح بالتأكيد، أتسمحين يا جولييت؟»

•••

وقفت جولييت بمفردها في المطبخ — وكان يمكنها رؤية آيرين وهي تعزق الأرض حول حبوب الفاصوليا — وتساءلت إن كان الشاي ما هو إلا حيلة لإخراجها من الغرفة كي تتبادل معه بعض الكلمات على انفراد. بعض الكلمات على انفراد، أم تراها بعض الصلوات؟ لقد أصابتها الفكرة بالاشمئزاز.

لم ينتمِ سام وسارة لأي كنيسة طيلة حياتهما، برغم أن سام قد أخبر أحدهم في بادئ حياتهم هنا أنهم ينتمون لطائفة الدرويد. وهكذا تناثرت الأقاويل بأنهم ينتمون إلى كنيسة لا توجد في المدينة، وأدت هذه المعلومة إلى الاعتقاد بأنهم لا ينتمون لأي دين على الإطلاق. وظلت جولييت لفترة تذهب أيام الآحاد إلى الكنيسة الإنجيلية؛ وذلك في الغالب لأنها كان لها صديقة تنتمي للطائفة الإنجيلية. ولم يعترض سام قط على قراءة الكتاب المقدس في المدرسة، أو أن يتلو الصلوات كل صباح، تمامًا مثلما لم يعترض على النشيد الوطني «فليحفظ الله الملكة».

وكان سام يقول: «هناك أوقات للمجازفة وأخرى لا تستطيع فيها ذلك؛ فأنت ترضيهم بهذه الطريقة. ربما أمكنك في بعض الأحيان أن تحكي للأطفال بعض الحقائق عن نظرية التطور والإفلات بذلك دون أن يلحظ أحد.»

ولفترة من الفترات، كانت سارة مهتمة بالديانة البهائية، ولكن جولييت اعتقدت أن هذا الاهتمام قد تلاشى.

صنعت من الشاي ما يكفي لثلاثتهم، ووجدت بعضًا من البسكويت المهضِّم في الخزانة، وعثرت أيضًا على صينية التقديم النحاسية التي كانت سارة عادة ما تُخرجها في المناسبات الهامة فقط.

لم يعترض دون على قدح الشاي، وتجرَّع الماء المثلج الذي تذكَّرت أن تحضره له، إلا أنه هز رأسه رافضًا تناول البسكويت.

«لا، لا أريد أيًّا منه.»

وبدا وكأنه يؤكد على رفضه بشدة، وكأن إيمانه بالله منعه من ذلك.

ثم سأل جولييت عن محل إقامتها، وعن طبيعة المناخ في الساحل الغربي، وعن العمل الذي يقوم به زوجها.

فأجابته جولييت بعذوبة: «هو صياد جمبري، ولكنه في الحقيقة ليس بزوجي.»

أومأ دون برأسه إيجابًا. آه، نعم.

ثم أضاف: «هل الأمواج عالية هناك؟»

«أحيانًا.»

«ويل باي، لم أسمع بهذا المكان من قبل، ولكنني سأتذكره الآن. إلى أي كنيسة تذهبين في ويل باي؟»

«لا نذهب، نحن لا نذهب إلى الكنيسة.»

«أليس هناك كنيسة قريبة تتبع طائفتكم؟»

هزت جولييت رأسها مبتسمة وقالت:

«ليس هناك كنيسة لطائفتنا، نحن لا نؤمن بوجود الله.»

أحدث فنجان دون بعض الجلبة وهو يعيده إلى صحنه، ثم قال إنه آسف لسماع هذا.

«أنا حقًّا آسف لسماع هذا، منذ متى وأنتِ على هذا الرأي؟»

«لا أعلم، ربما منذ أن أعملت عقلي في هذا الأمر.»

«أخبرتني والدتك أن لديك طفلًا، لديك ابنة، أليس كذلك؟»

قالت جولييت إن لديها ابنة بالفعل.

«ولم تُعَمَّد حتى الآن؟ هل تريدينها أن تنشأ وثنية؟»

قالت جولييت إنها تتوقع أن تتخذ بينيلوبي قرارها في هذا الشأن يومًا ما بنفسها.

«أجل، نحن نريدها أن تنشأ دون أن تتقيد بأي دين أو معتقدات.»

قال دون بهدوء: «هذا شيء يبعث على الحزن، إني آسف لك ولرفيقك — أيًّا كان ما تعتبرينه — فلقد قررتما أن ترفضا نعمة الله. حسنًا؛ فأنتما ناضجان، ولكن أن تنكراها على ابنتكما، فهذا كحرمانها من التغذية السليمة.»

شعرت جولييت بأنها تفقد رباطة جأشها، قالت: «ولكننا لسنا مؤمنين، نحن لا نؤمن بنعمة الله، وهذا لا يشبه حرمانها من التغذية السليمة، إننا نرفض أن تنشأ على الأكاذيب.»

«أكاذيب؟ ما يؤمن به ملايين من البشر حول العالم تسمينه أكاذيب؟ ألا تعتقدين أنه من الغطرسة أن تدَّعي بأن الله كذبة؟»

قالت جولييت وقد شاب صوتها بعض الحدة: «الملايين من الناس لا يؤمنون به، هم فقط يذهبون إلى الكنيسة، هم لا يفكرون. إن كان هناك إله، فهذا الإله قد أعطاني عقلًا، ألم يقصد أن أستخدمه؟»

«وأيضًا …» استطردت في محاولة لكي تبقى ثابتة: «وأيضًا، يؤمن ملايين الناس بشيء مختلف؛ فهم يؤمنون ببوذا على سبيل المثال؛ فهل إيمان الملايين بشيء يجعله حقيقة؟»

قال دون بلا تردد: «المسيح حي، بوذا ليس كذلك.»

«هذا مجرد كلام يتردد، ماذا يعني؟ أنا لا أرى أي دليل على حياة أيٍّ منهما على حد علمي.»

«أنتِ لا ترين، ولكن الآخرين يرون الحقيقة. أتعلمين أن هنري فورد، هنري فورد الثاني الذي كان لديه كل شيء يمكن أن يتمناه المرء في الحياة، ومع ذلك، كان يجثو كل ليلة على ركبتيه ويصلي لله؟»

صاحت جولييت: «هنري فورد؟ … هنري فورد؟ وماذا يعنيني أي شيء بشأن هنري فورد؟»

اتخذ النقاش ذلك المسار الذي تتخذه مثل هذه النقاشات، واكتسى صوت الكاهن — الذي كان قد بدأ بنبرة الأسى أكثر منه الغضب، بالرغم من أن صوته ينم دائمًا عن اقتناع في صلابة الحديد — برنَّة الإدانة والاستنكار ولهجة حادة تنم عن التوبيخ، بينما شعرت جولييت الآن — التي اعتقدت في البداية أنها كانت تقاوم آراءه وتتمرد على مفاهيمه بهدوء، ومهارة، وأدب جم — بقدر من الغضب اللاذع، وكلاهما ينقب عن الحجج والأفكار التي تسبِّب الإهانة وليس تلك التي تقنع الآخر.

وأثناء ذلك النقاش، كانت سارة تمد يدها لتتذوق القليل من البسكويت وهي لا ترفع بصرها نحوهما، وكانت تقشعر بين الحين والآخر، كما لو كانت تصدمها كلماتهما، ولكنهما لم يلاحظا هذا.

وما أنهى ذلك العرض هو صراخ بينيلوبي العالي، التي استيقظت من نومها مبللة، وتذمرت على نحو هادئ للحظة، ثم عبَّرت عن تذمرها بصورة أقوى وبصوت أعلى، وأخيرًا أطلقت العِنان لغضبها. سمعتها سارة أولًا وحاولت أن تلفت انتباههما.

فقالت بوهن: «بينيلوبي!» ثم بذلت جهدًا أكبر: «جولييت، إنها بينيلوبي.» فنظر إليها كلٌّ من جولييت والكاهن بشرود، ثم قال الكاهن وقد هدأت حدة صوته: «طفلتك.»

أسرعت جولييت خارج الحجرة. كانت ترتجف وهي ترفع بينيلوبي، وكادت أن تؤذيها بالمشبك وهي تشبك حفاضها الجاف، فتوقفت بينيلوبي عن البكاء؛ ليس لأنها شعرت بالارتياح، بل لأنها انزعجت من ذلك الاهتمام الحاد المفاجئ. وقد نجحت عيناها الواسعتان المبللتان بالدموع، ونظرات الدهشة التي اعتلت وجهها، في أن تخرج جولييت من حالة الشرود والانشغال التي مرَّت بها. حاولت أن تهدِّئ من نفسها متحدثة برفق قدر ما استطاعت ثم حملت طفلتها إلى الردهة بالطابق العلوي وراحت تذرع المكان جيئة وذهابًا بها. لم تطمئن بينيلوبي على الفور، ولكن زال التوتر منها بعد مرور بضع دقائق.

شعرت جولييت بنفس الشيء يحدث معها، وعندما اطمأنت إلى أن كليهما قد استعادا بعضًا من الهدوء والسيطرة، حملت بينيلوبي وهبطت بها إلى أسفل.

خرج الكاهن من غرفة سارة وكان ينتظرها، فقال في صوت يشوبه بعض الندم وإن بدا منزعجًا في حقيقة الأمر: «يا لها من طفلة لطيفة!»

قالت جولييت: «أشكرك.»

ظنت أنه يمكن لكلٍّ منهما توديع الآخر على نحو مناسب الآن، ولكن كان هناك شيء يمنعه من ذلك، فظل ينظر إليها دون أن يتحرك، فمدَّ يده وكأنه سيضعها على كتفها، لكنه أنزلها.

«أتدرين إن كان عندك …» قالها ثم هز رأسه برفق، فقد تلعثم في قوله كلمة «عندك.»

«بعض من العصير.» قال هذا ثم ربَّت بيده على حلقه، ثم أشار في اتجاه المطبخ.

ظنَّت جولييت في بادئ الأمر أنه لا بد وأن يكون ثملًا، كانت رأسه تهتز قليلًا للأمام والخلف، وبدت عيناه وكأنهما مغطاتين بغشاء رقيق. هل أتى إلى هنا وهو ثمل أم أنه أحضر معه شرابًا في جيبه؟ ثم تذكرت إحدى الفتيات التي كانت طالبة في المدرسة التي عملت بها لنحو نصف عام. كانت تنتاب هذه الفتاة — المصابة بداء السكري — بعض النوبات المرضية، فتشعر بثقل في لسانها، وببعض الدوار لو ظلت بلا طعام لمدة طويلة.

حملت بينيلوبي ساندة إياها على أحد جانبيها وأمسكت بذراعه وقادته نحو المطبخ. إنه العصير، هذا ما كانوا يمنحونه للفتاة، هذا ما كان يتحدث عنه هو.

فقالت له: «دقيقة، دقيقة واحدة. ستكون على ما يرام.» حاول أن يتماسك ويستقيم في وقفته، واتكأ بيديه على الطاولة وأخفض رأسه.

لم يكن هناك عصير برتقال، تذكَّرت أنها قد أعطت ما تبقى منه لابنتها هذا الصباح، وفكرت في أنها يجب أن تبتاع منه، غير أنه كانت هناك زجاجة من المياه الغازية بنكهة العنب، الذي يحب سام وآيرين تناوله عندما يدلفان بعد الانتهاء من العمل في الحديقة.

«تفضل.» قالتها بعد أن نجحت في أن تصبَّ له كوبًا منها بيدٍ واحدة، كما اعتادت أن تفعل دائمًا، وأردفت وهو يحتسي الشراب: «أنا آسفة، ليس لدينا عصير، لكن المهم هو تناول السكر، أليس كذلك، ينبغي أن تتناول بعضًا من السكريات في تلك الحالة.»

احتسى الشراب وهو يقول: «أجل، السكر، أشكرك.» وبدأ صوته في التعافي بالفعل. لقد تذكرت هذا أيضًا بشأن الفتاة التي كانت في المدرسة، وكيف أنها كانت تتعافى بسرعة وبطريقة عجيبة. لكن قبل أن يتعافى أو يهدأ، عندما كان لا يزال يمسك برأسه التي كانت تتمايل، التقت عيناه بعينيها، وقد بدا أنها مصادفة وليست عن عمد، ولم تكن تلك النظرة تعبر عن الامتنان، أو التسامح؛ لم تكن نظرة لشخص، بل بدت لحيوان مشدوه زائغ النظرات، يريد أن يتشبث بأي شيء يراه أمامه.

وفي غضون لحظات، تحولت عيناه ووجهه إلى وجه ذلك الإنسان، الكاهن، الذي وضع كوب المياه الغازية على المنضدة، وبدون أن يتفوه بكلمة غادر المنزل.

•••

عندما ذهبت جولييت لكي تأخذ صينية الشاي كانت سارة إما تغطُّ في النوم، أو تتظاهر بذلك، وقد تحولت تمامًا طريقة نومها، وغفوتها، حتى حالتها عندما تستيقظ، فقد زال الفرق بين الحالتين بحيث يصعب فيها تبيُّن حالتها. وأيًّا كانت حالتها، فقد تحدثت بصوت يكاد يقترب من الهمس وقالت: «جولييت.»

توقفت جولييت عند عتبة الباب.

قالت سارة: «لا بد وأنك اعتقدتِ أن دون ربما يكون أحمق، لكنه ليس على ما يرام. إنه مريض بداء السكري. إن حالته جد خطيرة.»

قالت جولييت: «نعم.»

«إنه يحتاج إلى إيمانه.»

قالت جولييت بهدوء: «لقد كان جدالًا عقيمًا.» لكن يبدو أن سارة لم تسمعها؛ إذ إنها استمرت في حديثها.

قالت سارة بصوت مرتعش (وقد بدا لجولييت في هذه اللحظة أنه يبعث على كثير من الشفقة والتعاطف): «إن ما أومن به ليس شيئًا بسيطًا يمكن شرحه، ولا أستطيع وصفه، لكن كل ما يمكن قوله إنه شيء ما؛ شيء رائع. عندما تبدو الأمور سيئة بالنسبة لي، وعندما تزداد سوءًا، أتدرين ما يدور بخَلَدي حينها؟ أعتقد أن كل شيء سيكون على ما يرام. أعتقد … حسنًا أعتقد أنني سأرى جولييت قريبًا.»

عزيزي إيريك

من أين أبدأ؟ إنني بخير وكذلك بينيلوبي. إجمالًا؛ فهي تسير الآن بكل ثقة حول فراش سارة، ولكنها لا تزال حذرة عندما تحاول الاعتماد على نفسها والوقوف دون مساعدة. طقس الصيف هنا في غاية الروعة مقارنة بالساحل الغربي، حتى عند سقوط الأمطار. وأمر جيد أن تسقط الأمطار؛ لأن سام يركز جلَّ اهتمامه الآن على مشروع تجاري لتسويق منتجات الحديقة، وقد صاحبتُهُ منذ بضعة أيام في الشاحنة القديمة لتوصيل بعض طلبات التوت البري ومربى التوت (التي تصنعها شخصية تشبه إلسي كوخ (مجرمة نازية) وهي تحتل مطبخنا الآن)، وبعض من محصول البطاطس الجديد لهذا الموسم. ويغلب على سام الحماس الشديد. أما عن سارة، فهي تمضي أغلب الوقت في فراشها إما نائمة أو تطالع بعض مجلات الموضة القديمة. ولقد أتى أحد القساوسة لزيارتها، ودخلت أنا وهو في شجار أحمق بشأن وجود الله، وبعض الموضوعات الساخنة التي تدور في هذا الإطار. ومع هذا فالزيارة تسير على ما يرام …

عثرت جولييت على هذا الخطاب بعد مرور سنوات. لا بد وأن إيريك احتفظ به مصادفةً؛ فهو لا يمثل أي أهمية في حياتهما.

•••

عادت إلى المنزل الذي شهد طفولتها مرة أخرى؛ وذلك لحضور جنازة سارة، بعد بضعة أشهر من كتابة هذا الخطاب. ولم تجد آيرين بالمنزل، ولم تتذكر جولييت إن كانت قد سألت عن مكانها أو أن أحدهم أخبرها به. من المرجح أنها تزوجت، تمامًا كما فعل سام، بعد مرور عامين؛ فقد تزوج من إحدى زميلاته في التدريس، وكانت امرأة لطيفة، حسنة المظهر، ذات مهارات كثيرة. وعاشا بمنزلها، وهدم سام المنزل الذي عاش فيه هو وسارة، وقام بتوسيع الحديقة. وعندما تقاعدت زوجته، اشترى عربة مقطورة كبيرة، وكانا يذهبان في رحلات طويلة في فصل الشتاء. وزارا جولييت مرتين في ويل باي، وقد اصطحبهما إيريك في نزهة بمركبه، وسارت الأمور بينه وبين سام على ما يرام؛ كما قال سام: إن كل شيء سار على نحو جيد بينهما سريعًا.

جفلت جولييت عندما قرأت الخطاب كما يفعل أي شخص عندما يكتشف تلك الأصوات الخفية الباعثة على القلق التي تتولد من ذاته القديمة الزائفة، وتعجَّبت من التستر الشديد الذي يناقض تمامًا آلام ذكرياتها، ثم اعتقدت أنه لا بد وأن حدث تحوُّلٌ ما، في ذلك الوقت، وهو تحوُّل لم تتذكره؛ تحول يتعلق بمكان وطنها، ليس وطنها في ويل باي حيث تعيش مع إيريك، ولكن هناك حيث كانت تعيش في الماضي؛ كل حياتها السابقة بأكملها.

لأن ما يحدث في وطنك هو ما تحاول حمايته، بكل ما أوتيت من جهد، ولأطول فترة ممكنة.

لكنها لم تقم بحماية سارة؛ فعندما قالت سارة: «حسنًا، أعتقد أنني سأرى جولييت قريبًا.» لم تعثر جولييت على إجابة مناسبة. ألم يكن من الممكن البحث على كلام مناسب؟ لمَ بدا الأمر صعبًا؟ أن تقول فقط نعم. كان سيعني هذا الكثير بالنسبة لسارة، لكنه بالطبع لن يعني لها شيئًا كبيرًا. لكنها استدارت، وهي تحمل الصينية إلى المطبخ، وهناك راحت تغسل وتجفف الأقداح والكوب الذي كان يحتوي على المياه الغازية بنكهة العنب، ووضعت كل شيء في مكانه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤