دَوْرُ الإسْلام في مُسْتَقبل القارَّة الأفريقية

للإسلام حصة بارزة — لا تزال — في كل كتاب حديث يصدر من المطابع الأوروبية أو الأمريكية عن القارة الأفريقية، وقد تنوعت موضوعات هذه الكتب على الزمن وتنوعت معها وجهة البحث في المسائل الإسلامية.

ففي الفترة الأولى منذ ابتداء العناية بهذه القارة قبل نحو السنوات العشر كانت الموضوعات كلها — أو أكثرها — متجهة إلى الإحصاء، وجمع المعلومات العامة عن السكان، وموارد الرزق، وينابيع الثروة، وتقسيمات المواقع، وتسجيل الظواهر الجغرافية والاستعمارية، وكأنما كان المؤلفون يفكرون في الناحية التي يستفيد منها المسيطرون من الخارج وهم يديرون حكومات البلاد أو تملكون أزمة الحكم ووسائل السيطرة والاستغلال فيها.

فلما تقررت في الأذهان فكرة الاستقلال الوطني أصبحت إرادة الأفريقيين بين حاكمين ومحكومين هي الناحية التي تتجه إليها أنظار المؤلفين، وأصبحت إرادة الأجنبي تبعًا للإرادة الوطنية في تحصيل المعلومات والتعليق عليها بعد قيام الحكومات المستقلة وتركيز السلطان فيها على العوامل النفسية والاجتماعية التي ترجع إلى أبناء البلاد أولًا، ثم ترجع بعد ذلك لمن يحسن فهمها والانتفاع بها من أصحاب السياسات الأجنبية.

وقد أسفر هذا التنويع في موضوعات التأليف عن وجهتين من وجهات البحث المخصص للمسائل الإسلامية؛ وهما:
  • أولًا: دور الإسلام المنتظر في إقامة نظم الحكم بعد استقلال الأمم الأفريقية.
  • ثانيًا: معنى انتشار الإسلام قديمًا وحديثًا بين الأفريقيين باعتباره حركة من حركات التاريخ، والاستطراد من ذلك إلى استطلاع مصير هذه الحركة بين حركات الحضارة أو الحضارات العصرية.

وفي أكثرَ من بحث هام يميل المؤلفون إلى ترجيح فرص الإسلام على فرص العقائد الأخرى — دينية كانت أو اجتماعية — في توجيه دفة الحكم واتخاذ السند الموافق للأنظمة الإدارية أو الدستورية التي يختارها الأفريقيون حيثما توقف الأمر على تقاليد المسلمين أو قواعد الإسلام كما يفهمونها هناك.

ففي كتاب أفريقية الاستوائية — وهو كتاب ضخم في مجلدين تزيد صفحاتهما على مائة وألف صفحة — يقول الأستاذ جورج كمبل Kimble رئيس قسم الجغرافية بجامعة أنديانا: «إنه من المشكوك فيه أن تكون الأنظمة الغربية القائمة على النفاذ والجد، ملائمة لمطالب الثقافة في بيئة يغلب فيها أن يكون السبق للماكر لا للسريع، والفوز في المعركة للخفيف في العمل لا للقوي في الخلق؛ حيث لا معنى لكلمة الفساد والرشوة؛ لأن كل خدمة تُعطى تتبعها فائدة تُؤخذ، ويسود الشك على العموم في جدوى المطابقة بين النظم المحلية والنظم الغربية، ولا يخلو مكان من فكرة الحيدة بين الكتلتين: الغربية والشرقية؛ إذ يعتقدون أن الأمة يستحيل أن تحكم نفسها إذا هي كانت متعلقة بأخلاق الأمم الأخرى ولغاتها وعقائدها، ولا يقتصر النفور هنا على كرامة السير على المنهاج الغربي، بل يتعداه إلى وجوب البحث عن منهاجٍ آخرَ أوفقَ للعقل الأفريقي والظروف الأفريقية، مع تفضيل الإسلام — لتسليمه بمواطن الضعف الإنساني، وإغضائه عن فوارق الألوان — على المسيحية بما تدعو إليه من الدقة وما تشتمل عليه من الكهنوتية المعقدة والاعتراف بالفوارق الكثيرة، فضلًا عن الارتباط بين وجودها ووجود الطبقات الحاكمة والعلم بأنها تكون في موضعها صحيحة مألوفة كلما تسربلت بسربالها الفضفاض الذي لا يضيق حتى يشبه كسوة الشغل في المصنع، وهي على هذا تصر على التشبث ببعض القيم التي احتواها النظام الاجتماعي القديم بروابطه العائلية وشعائره المتبعة وإجراءاته القضائية وسائر فنونه التي لا يُعلى عليها، ويكاد الرجل الأبيض نفسه ألا يرتفع إلى أوجها.»

يقول المؤلف ذلك في الصفحة اﻟ ٤٣٦ من المجلد الثاني، ولكنه يقرر في الصفحة اﻟ ٢٧٦ من المجلد نفسه كلامًا ينقض هذا الكلام في فحواه؛ إذ يقول: إنه على نقيض الحالة بالنسبة إلى المسيحية يشاهد «أن الإسلام كان له أثر ضعيف في الوطنية الأفريقية، وهو مع ضعفه الشديد سلبي لا إيجاب فيه؛ لأن المثال المميز للحكومة الإسلامية — كما يقول جورج كاربنتر — إنما هو مثال الحكم الشخصي المطلق، مستندًا إلى ولاء الجماهير، قائمًا على قواعد الدين، وعلى الخوف والرهبة، وسلطان الحكم العسكري، ولا ملاءمة بين هذا المثال وبين تركيب النظام الإداري المتشابك وتعدد الكفايات الفنية التي تتطلبها الأعمال المنوعة في الأمم العصرية؛ إذ ليس في وسع هذا المثال أن يخلق ولاءً للوطن يرتفع به فوق منازعات العقيدة والأفكار المختلفة، ولا أن يهيئ المجال لنشأة الزعماء المنتظرين وضمان الأمان للأكفاء من الموظفين.»

•••

ويرد هذا البحث في كتاب ضخم آخر عن شبه جزيرة «سيراليون» يقع في أكثرَ من سبعمائة صفحة، ويقول مؤلفه كريستوفر فايف Cristophe Fyfe في متفرقاته: «إن تعاليم البعوث التبشيرية المسيحية — على خلاف تعاليم الإسلام — تهدم الاستقلال الذاتي في الأفريقي وتعطل تصرفه المطبوع، والحل الذي يقترحه بلايدين Blyden هو إقامة جامعة خاصة بأفريقية الغربية تسند فيها وظائف التعليم إلى أفريقيين من نصفي الكرة ومعهم أفريقيون مسلمون من داخل القارة؛ لتنشئة الطلاب على سليقتهم والابتعاد بهم عن محاكاة المثل الغربية.»

•••

أما البحوث التي تعرض لتفسير معنى انتشار الإسلام في القارة الأفريقية باعتباره حركة من حركات الأمم في التاريخ العالمي، فهذه أمثلة منها: يرى باتين Batten في سلسلة كتبه، عن أواسط أفريقية إلى انتشار الإسلام بين الأفريقيين — إذا روجعت أسبابه جميعًا — إنما هو نتيجة لا محيد عنها لانتشار حضارة إنسانية ممتازة لم تكن في العالم حضارة تضارعها أو تقوى على مغالبتها، وأن وصول الإسلام إلى القارة الأفريقية كان ملازمًا لوصوله إلى القارة الأوروبية نفسها وامتداده إلى الأقطار البعيدة من القارة الآسيوية، وقد كان امتياز حضارته سببًا كافيًا لسيادته على العالم المعمور والعالم المجهول الذي يصل إليه العربي المطبوع على الترحل والسياحة، يعينه على مطاوعة هذه النزعة أنه اقتبس كل ما يقتبس من اليونان والأمم القديمة من علوم الجغرافية والفلك وزاد عليها حب الكشف الذي سرى إلى جميع المسلمين مع سريان الشوق إلى زيارة مكة ومعاهد الإسلام الأولى. «وبينما كان الأوروبيون يعولون على السحر كان أطباء العرب يجرون عمليات الجراحة الصعبة ويحسنون الانتفاع بكثير من العقاقير، ولا تزال طرق العلاج عندهم مما يستفيد منه الأطباء في علاج بعض الأمراض إلى هذه الأيام.»

ومثل هذه الحضارة لا سبيل إلى حصرها في بقعة محدودة من العالم، مع إقدام العربي على احتمال الجهد والخطر ورغبته في الرحلة والارتياد، فانتشار الإسلام إنما هو في حقيقته انتشار حضارة جديرة بالانتشار، وهو حركة من حركات التوسع «الأممي» تبعثها دواعي النشاط التي تمهدها المعرفة، وتشحذها العقيدة التي تسود الدنيا؛ لأنها لا تبالي أن تقتحمَها ولا تكترث لفراقها.

•••

ومن أحدثِ المؤلفات عن أفريقية تاريخ موجز للقارة ألفه كاتبان لهما خبرة حسنة بالشرق من طريق الدراسة ومن طريق السياحة والمعاشرة؛ وهما: رولاند أوليفر، وجون فاج Fage، وهما يفصلان بين دور الفتح الإسلامي ودور التغلغل الإسلامي إلى مجاهل القارة الأفريقية؛ فإن الإسلام لم يسلك طريقه إلى ما وراء الصحراء إلا بعد زوال دولته الكبرى في المغرب، ولكن الشعوب الأفريقية إلى الشمال لم تكن لتجتاز الصحراء التي لم تجاوزها قبل ذلك لولا دفعة من الحضارة يعززها إيمان العقيدة … «وإن الفترة بين سنتي ٨٠٠ و١٣٠٠ ميلادية هي الفترة التي ازدهرت فيها حضارة للإسلام لم تشتمل حضارة أخرى على مثل ما اشتملت عليه من ثمرات الفكر والفن والعلم والسياسة، وهي كذلك فترة نمت فيها دول من أهم دول القارة الأفريقية؛ إذ قامت شعوب البربر بدور تاريخي كبير في العالم الغربي والبلاد الآسيوية القريبة، وقامت من خلفها إلى جنوب الصحراء ممالكُ من أعظمِ الدولِ التي كان للإسلام هناك شأن في إقامتها.»

وكأنما ابتدأت مرحلة الامتداد إلى داخل القارة الأفريقية — في تقدير المؤلفين — بعد انتهاء مرحلة الاستقرار في شمال أفريقية وجنوب أوروبة، على أثر انحلال الدول الإسلامية القوية في كلتا القارتين.

•••

ويتخطى جاك بولن Bulin مراحلَ الماضي في كتابه عن «دور العرب في أفريقية» ليسأل عن دور الإسلام في المستقبل القريب بين القوى التي يمكن أن تعمل في توجيه القارة؛ وهي قوة التبشير وقوة السياسة الدولية وقوة الوطنية غير الإسلامية.

ويقول المؤلف — وهو صحفي فرنسوي يعرف العربية والإنجليزية: إن الكنائس تتغاضى عن الإسلام ولا تشتد في مقاومته؛ لأنها لا تنزله منزلة العدو الأول مع ما تحذره من خطر الشيوعية، ولهذا لم تعقب صحيفة الفاتيكان بشيء على البيان الصريح الذي أعلن فيه شيخ الأزهر في مستهل سنة ١٩٦١ وجوب محاربة البعثات التبشيرية؛ لأنها أداة من أخطر أدوات الاستعمار، ولا يلوح من مسلك الوطنيين الأفريقيين غير المسلمين أن الدول الغربية التي كانت تستعمر بلادهم ستلقى منهم عونًا في السياسة التي قد تتبعها لمقاومة الإسلام، فما لم يأتِ المستقبل بنبأ جديد عن علاقات الوطنيين الأفريقيين بهذه القوى المتقابلة فهناك دور هام للعرب أو للإسلام في القارة الأفريقية يحسب له حسابه الكبير في توجيه مستقبلها القريب.

وهذا جواب معلق على سؤال المؤلف عن المصير، ولكنه يخرج بجوابه المعلق من تردد الشك والإبهام إلى بعض الوضوح حتى يشيرَ تلك الإشارةَ إلى الدور الإسلامي المحتمل؛ لأن الفريق الأكبر من الباحثين يحجمون عن الجواب النافع إذا قابلوا بين العدة التي استعد بها الإسلام أمس للإيغال في قلب القارة الأفريقية وبين عدته التي قد يستعد بها اليوم للثبات والمزيد من التقدم، ولا يبدو على أكثرهم أنه ينتظر من القارئ جوابًا إلى الإيجاب إذا سألوا عن القوة الكامنة في المسلمين: هل هي كفؤ لرسالتها الجديدة في القارة الأفريقية؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤