الجِهادُ في الدِّين الإسْلامي

بعد متابعة الكتب التي تؤلف عن الإسلام في الغرب خلصت لي وسيلة من وسائل الاختبار السريع للنية الحسنة والفهم الحسن عند مؤلفيها؛ وهي النظرة العاجلة إلى مجمل آرائهم حول مسألة الجهاد في الدين الإسلامي؛ فإنها هي المسألة التي شاعت على السماع بين غير المسلمين ففهموا منها أن شريعة السيف وشريعة الإسلام شيء واحد، وقد يكون لهم بعض العذر إذا نظرنا إلى أناس من المسلمين كادوا يحسبون أن انتشار الإسلام بالسيف حقيقة تاريخية مفروغ منها، وقد أشرنا في مقدمة كتابنا عن «عبقرية محمد» إلى واحد من هؤلاء كان يتحدث عن بطولة النبي عليه السلام فإذا هو لا يفهم منها إلا أنها بطولة سيف وقتال. وإن النظرة العابرة إلى البلاد الإسلامية لتكفي لتقرير وقائع التاريخ في هذه المسألة، وخلاصتها: أن أكثر البلاد عددَ مسلمين هي أقل البلاد غزواتٍ إسلاميةً، وأن المسلمين لم يحاربوا قط في صدر الدعوة إلا مدافعين أو دافعين لمن يصدون الدعوة بالموعظة الحسنة من ذوي السلطان، وكذلك كانت وقائعهم مع مشركي الجزيرة العربية كما كانت وقائعهم مع الفرس والروم … وقبل غزو فارس بزمن طويل كان كسرى يبعث بعوثه في طلب صاحب الدعوة الإسلامية حيًّا أو ميتًا؛ لأنه خاطبه داعيًا إلى الإسلام.

ويمتنع حسن النية في الكتابة عن الإسلام بين الغربيين، وبخاصة بين الذين يثورون منهم على رؤسائهم الدينيين ويجتهدون في تصغيرهم إلى جانب غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، فمن هؤلاء من يجتهد في تصغير خصومه، ولكنهم يحتاجون — مع حسن النية — إلى حسن الفهم والنفاذ إلى حقائق التاريخ؛ لتصحيح الأقاويل التي شاعت على السماع عن فريضة الجهاد في الإسلام؛ فإن الذين لم يحسنوا فهم هذه الحقائق يحسبون — مخلصين — أن الإسلام يوجب القتال الدائم على المسلم كما يوجب الصلاة والصيام وسائر الشعائر المفروضة، ويعدون هذه الفريضة بدعة بين الفرائض الدينية أو بين الفرائض الإنسانية التي قدرتها دساتير الأخلاق في أمور العقائد على الإجمال، وحقيقة الأمر أن الأساس الأخلاقي الذي قامت عليه فريضة الجهاد — فضلًا عن الأساس الديني — يستقيم مع كل أساس سليم لكل اعتقاد قويم.

فماذا تقول شريعة الأخلاق في الواجب على الإنسان نحو عرضه؟ إن الإسلام لا يقول شيئًا غير الذي يقوله هداة الوطنية والشرف حين ينكرون على المرء أن ينكص عن الجهاد في سبيل وطنه وكرامته وعرضه، ويعيبون عليه إن سالم من يقاتلونه في سبيل حريته وحرية بلاده؛ وليس بالدين الصالح للإيمان به دين ينزل بحرية الضمير عن مرتبة الحرية في الموطن والمعاش.

من نوادر المؤلفين الغربيين الذين جمعوا بين حسن النية وحسن الفهم في مسألة الجهاد توماس كارليل الحكيم الإيقوسي الذي يسميه نقاد الغرب بنبي الكتاب … فهو ينتهي بزعم الزاعمين أن الإسلام قد انتشر بالسيف إلى الغاية من السخف والغثاثة، ولا يرتضي أن يعتبر هذا الزعم من أكاذيب التاريخ؛ فإنه أضعف من أن يحسب من الأكاذيب التي تحتاج إلى تصحيح، وهو أظهر بطلانًا من أن يبطل بالمناقشة؛ لأن القائل به سواء ومن يقول: إن رجلًا واحدًا حمل سيفه وخرج إلى جميع مخالفيه؛ ليبعث فيهم الخوف من سيفه — وحده — ويسوقهم كرهًا إلى اعتقاد ما ينكرون، فيعتقدونه ويثبتون عليه ثم يحملون السيف معه لتخويف الآخرين؟!

وأول كتاب حديث قرأنا فيه تفسيرًا «سلميًّا» لأخلاق المسلمين التي يستوحونها من دينهم هو هذا الكتاب الذي اخترناه ليكون موضوع مقال اليوم عما يقال في الإسلام، وعنوانه «دولة باكستان» لمؤلفه «البروفسور رشبروك وليامز» صاحب الدراسات الواسعة في شئون الشرق الأوسط وشئون الهند وباكستان؛ فقد سبقه كثير من كتاب اللغات الأوروبية الأخرى إلى تعليل حركات المسلمين في الهند مع الدولة البريطانية ومع طوائف الوطنيين هناك من غير المسلمين، فكانت خلاصة تعليلاتهم لتلك الحركات جميعًا أنها وليدة التعصب الديني أو وليدة الروح العدوانية التي انفردوا بها بين أبناء وطنهم، ولكن مؤلف هذا الكتاب: Rusbrook Williams يعلل هذه الحركات للمرة الأولى بين أبناء لغته وعقيدته بأنها وليدة البحث: «لا عن وطن يستطيع فيه المسلم أن ينطلق من قيود المستغلين وحسب؛ بل هي وليدة السعي إلى إقامة بلاد تسود فيها آداب الإسلام، وتمنع فيها ظلم الأغنياء للفقراء، ويتبع فيها الولاة وصايا العدل الاجتماعي التي يتعلمونها من سماحة الشريعة.»

ويقول عن «تقاليد» الإسلام: «إن هذه التقاليد تشمل مبادئ المساواة بين الأرواح الإنسانية أمام الله، وتقرر أواصر الأخوة العالمية بين جميع المؤمنين بغير نظر إلى العنصر أو اللون، كما تقرر فريضة الدفاع عن الضعيف وحمايته ممن يجورون عليه، وإغاثة المعوزين والمحرومين، وبذل الحياة نفسها في سبيل الصراط المستقيم … ومعاملتهم — من ثم — للبلاد الأخرى لا تجعلهم حريصين على الغلو في إثبات وجودهم والتصلب في إملاء تقاليدهم الحرفية أو الوقوف موقفَ الإحجام والاعتذار.»

ووصف ما يشعر به جمهور المسلمين من أبناء الهند أو يفهمونه بداهة من معنى الدولة، فقال: إن التفصيلات السياسية لم تشغل أذهانهم، «ولكنهم تطلعوا إلى سياسة تسود فيها آداب العقيدة الإسلامية، وتقوم على العدل الاجتماعي والحكم السمح الرفيق، وتستجيب لحاجات الشعب وضروراته، وتحمي الفقير من قسوة المستغلين، وتتكفل بإقرار قواعد الحكم كما تعين على التقدم الاقتصادي … وإن يكن من الحق أن شعور الجماهير من هذه الوجهة غلبت عليه البواعث الدينية من الناحية الاجتماعية أوفر من ناحيتها المذهبية …»

وأطال المؤلف الكلام على النظريات السياسية الإسلامية التي تقابل ما يسمى «بالأيديولوجي» في اصطلاح المذاهب الاجتماعية أو السياسية فقال — ما فحواه: إن تلك النظريات لا تعارض نظامًا من الأنظمة الدستورية في الأمم الديمقراطية على اختلاف هذه الأنظمة في أساليب الإدارة وتوزيع السلطة على طريقة الجمهوريات الرئاسية أو النيابية، وأن الحاكم لا يملك أن يستأثر بالسلطة على أي وجه من الوجوه مستندًا إلى نصوص القرآن.

وقد يعتبر كلام المؤلف عن علاقة الدين بالوطن أبلغ رد على الذين جعلوا الإسلام «مسئولًا» عن اعتبار المشاركة في العقيدة سببًا من أسباب إقامة الدول؛ لأنه لم ينس في بحوثه المختلفة أن دعوى إسرائيل لم تقم على أساس غير أساس المشاركة في العقيدة، وهي — على هذا — موضع العطف والتأييد ممن يعلنون شريعة الديمقراطية ويحسبون رعاية المسلمين لاعتبارات الدين «تعصبًا» مقصورًا على المسلمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤