الفصل التاسع والعشرون

البخيلان

أحيانًا يتحوَّل مكتبي في الأهرام إلى مضيَفَة كمضايف العُمَد، لا ينقصها الشاي والقهوة، وإن كان ينقصها لتُصبح مضيفة شرقاوية حقيقية، الغداء والعشاء والبيات إن أمكن، وقد تعوَّدَ ضيوفي الأعزَّاء التراكم، بمعنى أن الضيف يكون قادمًا لإنهاء عمل أو تسجيل حديث، فيأتي آخر أو آخرون أو أخريات، فتحلو القَعدة، وتبدأ المناقشات وتعارُفات؛ إذ قد كففت من زمن أن أُعرِّف أحدًا بأحدٍ؛ ذلك أن ذاكرتي ضوئية ورقمية وغير سمعية بالمرة، بمعنى أني من الصعب عليَّ تمامًا أن أتذكَّر اسمًا، ربما لإنسان عشتُ معه سنين أو كان صديقي لعمر طويل. أمَّا الشكل، فأبدًا أنا لا أنسى شكلًا رأيته أو مشهد شارع ولو كان جانبيًّا مررت به، ولهذا فالعناوين عندي ضوئية أيضًا …

وكثيرًا ما تَحدُث متناقضات في هذه القعدات، طالب من جماعات الإسلام يَشتبِك في نقاش مع طالبة مؤمنة تمامًا بأن لا أحد له حقُّ التدخل — تحت أي اسم — فيما يجب عليها أن تفعله أو تؤمن به، مناقشة، تُناقشني. أمَّا النقاد كما أقول أنا إذ هم لم يعودوا يستعملون أشياء هبلاء كالتي علَّمونا طويلًا أن نستعملها مثل «خرط القتاد» و«ثالثة الأثافي» و«القشة التي قصمت ظهر البعير»، بعير «مازدا» والآن «داتسون» المعدَّل، و«فيات ١٣٢»، والفرق بينه وبين «أودي» حيث لا قشة تقسم عامود الكردان ولا في العجلة أي ندامة، وإنما هي «تيوب لس» تُلحَم من تلقاء نفسها إذا حتى دخلها مسمار.

وأنا أحب الناس والشباب والاندماج في نقاش مُستعص، أو إثارة قضية ليس فيها علامات تعصب أو بكاء على أحوالنا التي لا تَسُر. هذا كله أهم عندي من أي قراءة، أو انفراد، وأجد فيه أحيانًا متعة كمتعة الكتابة. أحب الناس إلى درجة أني أحزن حقيقةً حين يصلني خطاب من صديق قارئ يستحلفني فيه أن أردَّ ولو بكلمة، وبعضهم يتكرم ويضع ظرفًا مكتوبًا عليه عنوانه، وملصوقًا به طابع البريد، ومعه الجملة التي أصبحت تقليدية «مع الشكر لساعي البريد». ورغم كل هذا التمزق ألمًا، ولا أملك أن أجيب، شيء ما بيني وبين كتابة الرسائل حتى لو كانت كلمة. لي شقيق في بلد عربي لم أكتب له منذ ثلاثة أعوام؛ أُفضِّل أن أخاطبه بالتليفون، أو بالبرقية، ولا أرسل خطابًا. بعض الناس لهم طبائع مجنونة خاصة، أنا جنوني هو إرسال رسائل، وقد كان من المُمكن للأهرام أن يحلَّ المشكلة ويُعين لي سكرتيرة، ولكن الأهرام لا يفعل، ليس تقصيرًا، وإنما احترامًا لتقاليد الأهرام في هذا المجال بالذات، والتقليد بالطبع ليس من تقاليد الأهرام، ولكنه من صنعِ وابتكار أستاذنا ووالدنا الحبيب توفيق الحكيم؛ فحين أرادوا أن يُعيِّنوا له سكرتيرة أو سكرتيرًا … احتج بشدة ورفض هذا الأمر رفضًا باتًّا، فلما عمل زميلنا وصديقنا الكبير نجيب محفوظ كاتبًا للأهرام، أيضًا عرَضوا عليه حكاية السكرتارية، وعَرفَ برفض أستاذنا وأستاذه توفيق الحكيم … أصرَّ هو الآخر، واحد من إصراراته المبدئية أن يعين له سكرتير، بينما الأستاذ الكبير بلا سكرتير. ولقد ظللتُ أنكش من ناحيتي حين عُنيت في مسألة المبدئية هذه فلم أجد في المسألة أي مبدأ ولا شيء آخر بالمرة. في النهاية وبعد تقصٍّ هائلٍ عرفت أن الموضوع له سبب وحيد خالد، ليس المرأة بطبيعة الحال، ولكنه بخلُ الأستاذ توفيق الحكيم الذي كثيرًا ما أخذتُه على محمل الهزل، ولكن اتَّضح أن المسألة حقيقة لا هزلَ فيها؛ فهو مثلًا لا يكتب إلا بقلم رصاص من النوع المضلَّع الباهت، الرصاص المُتعب جِدًّا في إمساكه والكتابة به، وباختصار أرخص قلم رصاص بيع أو يُباع في السوق، وحين سألتُه عن سرِّ تمسُّكه بالكتابة بالقلم الرصاص قال: حتى إذا ضاعَ لا أحزن عليه.

والأقلام عادةً لا تَضيع … إنها «تُلطَش» في الغالب، أو في النادِر ما تُؤخَذ سهوًا، وهذا القلم الأصفر الذي له أحد عشر عامًا وأنا أرى الأستاذ توفيق الحكيم يَكتُب به، ليس فقط لا يَضيع لأنَّ أحدًا لا يُمكن أن يُفكِّر في لطشِه، بل إنه ليَبلُغ من قُبحِ المنظَر لدرجة لا يُمكن معها لإنسان ما أن يأخذه سهوًا، فقُبحه كفيل بإفاقته من عملية السهو والتخلُّص منه فور انتهاء الكتابة، كما لو كان شبهة أو جريمة، وهو قلم غريب، فتصوَّروا أن له عشرة أعوام على «برية واحدة»؛ إذ اتَّضح أن الرصاص الخفيف لا يتأثَّر باحتكاكه بالورق، ولهذا فسنُّه لا يَتناقص إلا كل حين وحين، وأيضًا هذا هو أحد الأسباب الكبرى وراء اختيار الحكيم له، بل حتى لونه الأصفر له حكمه: لماذا يا أستاذ توفيق؟ لأنه لون باهت مُنفِّر في الأقلام بالذات، الألوان الغامقة في الأقلام هي التي تُغري بالسهو، أو باللطش، الأحمر، والأسود، والأزرق. أمَّا الأصفر فإنه أحد الألوان القليلة التي تجعل الإنسان يسهو عن أن يسهو، ويأخذ القلم سهوًا.

وإذا كان توفيق الحكيم هو الذي يَملك الحضور البُخلي المسرحي، فإن نجيب محفوظ هو البخيل الذي لا يَستطيع إنس أو جن أن يَكتشفه في لحظة بُخل؛ فهو لا يخلع أبدًا ملابس التنكُّر حتى وراء الستار، وحتى بينه وبين نفسه. قال لي الأستاذ توفيق الحكيم مرةً حين سألتُه: لماذا لا يشجع ويُشيع عن نفسه حكاية البُخل هذه؟ أذكر أنه أجابني بما يدل على ذكاء شديد؛ إذ قال لي إن البخيل الذي يحاول أن يكتم أمر بخله عبيط، لأنه سيدفع الناس جميعًا لانتقاده والنَّيل منه دائمًا لبُخله. أمَّا الذي يعرف الناس عنه جميعًا أنه بخيل، فإن أحدًا لا يَذكُرُه بسوء لبُخلِه، وتتحوَّل المسألة من رذيلة مُضطَر أن يدافع عنها إلى نكتة، بل إلى ما هو أكثر، إلى حقيقة لا يُناقِشها أحد، تُوفِّر عليك متاعب الحرج من كل إنسان تصادفه، وبهذا تَبخل دون إزعاج أو استنكار، وتُزاول مُتعتك تلك علنًا وعلى رءوس الأشهاد، ودون ذرة لَوم من أحد.

وهكذا فإن طريقة نجيب محفوظ في البُخل مُتعبة له وللآخرين، فبينما حول توفيق الحكيم بخله إلى نكتة يُنمِّيها ويشجعها، فإن نجيب محفوظ على عكسه يخاف تمامًا أن يُعرَف عنه أنه بخيل، يخاف خوفًا دراميًّا حقيقيًّا يأخذه كرواياته التراجيدية مأخذًا جادًّا لا هزل فيه؛ فهو مثلًا من جلاس المقاهي، ولا بُدَّ أن يطلب لك إذا كنتَ قادمًا وهو جالس قبلك طلبًا، لا يطلب طلبًا، وإنما يُحدِّد قاطعًا عليك طريقة الاختيار قائلًا: مَضبوط ولَّا سادة؟ وهكذا تجد نفسك وقد انحصَرَ اختيارك بين القهوة والقهوة، والقهوة سِعرها معروف، قُل خمسة في المقهى وقِرشين في الأهرام، لكي يُخفي نجيب هذا البخل القهري المركَّب فيه يطلب لكل قادم طلبًا، ولكنه طوال الجلسة يتعذَّب. وأنا لم أجلس معه كثيرًا على المقاهي أو في الأهرام، ولكني كنتُ أُلاحظ أنه لا يندمج تمامًا في أيَّة مناقشة خطيرة تنشأ، أو إذا اندمج فإنه يقول رأيه بسرعة، وبأسرع من البرق يكون قد عاد إلى حالته الأولى، حالة التفكير في شيء ما يُحيِّره. فعلًا تُحسُّ أن هناك شاغلًا مستمرًّا يشغله، ولقد ظللت أسأل نفسي عن هذا الذي يشغل أخانا الأكبر نجيب محفوظ طوال الوقت، إلى أن حدثت أمامي هَنَة بسيطة كشفَت كل شيء؛ فهو قبل أن يُغادر الجلسة يحاسب الجرسون طبعًا، ومرة ذكر الجرسون ثلاثة شاي وأربعة قهوة، فإذا بالأستاذ نجيب محفوظ يُسارع بتصحيح الخطأ ويقول: «لا … أربعة شاي وثلاثة قهوة.»

دُهشت لبعض الوقت، ولكن فجأة ومَضَت الفكرة أمامي. إنَّ أي إنسان عادي نادرًا ما يذكر بالضبط عدد ونوع الطلبات التي طُلبت، خاصةً إذا كانت الجلسة صغيرة، فبقدرِ عدد الحاضرين تكون الطلبات، أمَّا أن يتذكر إنسان أنهم كانوا أربعة شاي وليسوا ثلاثة … وثلاثة قهوة وليسوا أربعة … فمعنى هذا أن المسألة كانت تشغل باله طول الوقت، أيكون هذا هو السر الذي يَحول بين الأستاذ نجيب محفوظ وبين الاستطراد في اندماجه في المناقشات؟ إذ لو تجافى الأمر دقائق، لما استطاعت ذاكرته أن تعود تَقفِش عدد فناجين القهوة وتُفنِّطها على جانب حتى لا تَختلِط بعدد أكواب الشاي.

ويا له من مشهد خالد ما أراه كل خميس، حيث الموعد الذي ضبطناه على ساعة نجيب محفوظ أن يَلتقي كُتَّاب الأهرام أسبوعيًّا، مشهد توفيق الحكيم وهو يُزاول متعة البخل بكل صهللة واستمتاع، بينما بُخل نجيب محفوظ سبَّب له كل هذا الجهد النفسي الخفي لمعرفة كم عدد الشايات التي طُلبت، وكم عدد القهوات، وكم عدد المشروبات الغازية؛ ذلك أنه لو وضع سره البخيلي في بير، يتولى هو — رغم أننا نجتمع في حجرة توفيق الحكيم — طلب الطلَبات للقادمين؛ وحيث إن الحضور أحيانًا قد يصلون إلى العشرين … فتصوَّر محنة صديقنا الكبير أبو النجب، ونحن مُنطلِقون على سجيتنا نُقهقِه ونُحلِّل ونسخر، وتوفيق الحكيم في أوج مزاولته لبخله وتدليله والطبطبة عليه، وتزيينه للناظِرين، الجميع في متعته، والوحيد الذي يَختلِس المتعة اختلاسًا حين يَنتهِز بين كل حين وحين الفرصة ليُلقي برأي سريع مركز حكيم كالزلطة المُصوَّبة بعناية إلى قطار المناقَشات، ثُمَّ بسرعة اللَّهب يعود فيُمسِك بفناجين القهوة والشاي وأعدادها — بنت الذين — التي كادت تَنتهِز الفرصة لتَختلِط أو تُفلت؛ إذ الفارق بينها مهول، فنجان القهوة بثلاثة قروش، بينما فنجان الشاي بقرشَين، كارثة لو اختلط فنجان بفنجان، ومأساة لو تعبَت ذاكرة «بدوي» الساعي واختلط أكثر من زوجين …

•••

في لحظة خلوة جميلة وأنا أوصل الأستاذ توفيق الحكيم إلى بيتِه بعربتي سألته: لماذا رفض — حقيقةً — حكاية السكرتيرة واستنَّ هذا التقليد الذي نُعاني منه جميعًا؟

قال لي: بصراحة بصراحة.

قلت: بصراحة بصراحة.

قال: أنا اتعقدت من مسألة السكرتيرات هذه، حين كنتُ ذات عام أو بالضبط سنة ١٩٤٢ أزور التابعي الله يرحمه في مكتبه، وحين نادى السكرتيرة ليَعهد لها بشيء لاحظ أنها تتثاءب، فسألها فقالت: أصل إمبارح كان عيد ميلادي يا أستاذ، وسهرنا شوية.

قال المرحوم التابعي: عيد ميلادك؟

- أيوة.

– ولا تقوليليش.

– مسألة ماتستهلش يا بيه.

– إزاي ما تستهلش؟

و«ضرب» يده في جيبه فوجد أن ما معه ورقتان من ذات العشرة جنيهات، وقال: دول بدل هدية مُتواضعة جِدًّا، إنما حاعوضهالك السنة الجاية إن شاء الله.

صمتُّ طويلًا، وقلت وأنا أتأمل الموقف: طيب … وماذا في ذلك عقَّدَك؟

قال: سكرتيرة التابعي قالتها ببراءة … دلوقتي بقى بيحتفلوا بعيد ميلادهم مرتين وثلاثة في السنة، أَندَب أنا في هدية عيد ميلاد كل سنة علشان إيه؟

– مش ضروري … تجاهل.

– بيطلعوا أخبث، تروح جايبالي يوم عيد ميلادي كرافتَّة رجالي بجنيه، ولازم غصْب عني أردها لها.

… وهكذا من أجل ألا يُكلِّف نفسه مشقة أن يستعين ويستجير بهذه السكرتيرة أو تلك لتكتب له خطابًا على الآلة الكاتبة للناشر، وعناء الذهاب إلى البوستة، والوقوف في طابور لشراء الطابع، ومشوار آخر للصندوق، يكلِّف نفسه عناء أنه حين يود التحدث في أمر أو إلى شخص خاص، يستعير مكتب إحسان عبد القدوس، أو مصطفى بهجت بدوي، ثلاثة أرباع وقته في الأهرام، وفي غيره، مضيع في مسائل كان من الممكن أن يحلها سكرتير أو سكرتيرة، ليتفرَّغ هو إلى ما هو أخطر.

كل هذا حتى لا يُكلِّف نفسه عناء هدية في عيد ميلاد أو عيدية لسكرتير.

يُكلِّف نفسه ويُكلِّفنا كلنا هذا العناء الذي وضع تقاليده!

أعرف مسبقًا أن ألفَ خطاب احتجاج ستَجيئني على إضاعة وقت القراء في هذه الدردشة التي لا معنى لها، ولكن قبل أن يُفكر أحدكم في امتشاق قلمه وهات يا كتابة أقول لكم: وما لها الدردشة أحيانًا؟ أليسَت خيرًا من جليس السوء أو قول السوء؟ ألم يكن الرسول عليه الصلاة والسلاح يَمزح ولا يقول إلا حقًّا؟

ليست الأهرام مسجدًا، إنه جريدة؛ ولستُ إمامًا، فأنا كاتب، ومن حقكم عليَّ أن أريحكم أحيانًا من الأجزاء الجادة في كلينا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤