مقدمة

عزيزة ويونس وريادة الهلالية

القصة الملحمية الكبرى عزيزة ويونس التي اعتدنا سماعها تُروى بمختلف وسائل التعبير الشعبي، استقلت أصلًا عن الجسم الأساسي لسيرة بني هلال. وهي تؤرخ لعرب نجد المرية، وهجراتهم لتعريب الشمال الأفريقي والغرب، فقد بدءوا من ربوع الجزيرة العربية شمالًا وجنوبًا مرورًا بما بين الرافدين والشام وفلسطين ومصر وليبيا، إلى أن وصل زحفهم إلى تونس وقلاعها الأربع عشرة، فضربوا حصارهم حول قرطاج الذي امتد إلى سنوات سبع، بما يذكرنا بحصار الإغريق لطروادة الذي استغرق سنوات تسعًا، وكلا الحصارين تذرع بحجة المطالبة بالإفراج عن الأسرى، وكان الإغريق قد طالبوا بالإفراج عن «هيلين» زوجة «مينلاوس».

أما الأمراء النجديون الثلاثة وهم يونس ومرعي ويحيى فلهم قصة أخرى، إنهم أبناء السلطان حسن بن سرحان الهلالي سلطان الهلالية الغزاة.

تحايل فرسان الهلالية الثلاثة يونس ومرعي ويحيى، حين ريادتهم المبكرة، كطلائع لتحالف الزحف الهلالي، لاستكشاف تونس وربوعها وتخومها أو قلاعها الأربع عشرة، بصحبة خالهم أبي زيد الهلالي سلامة، واضطرارهم لبيع عقد ثمين من غالي الجوهر توارثوه عن جدتهم الأميرة الأم «شماء»، التي كان لها ثلث المشورة في الحرب وقيادة المهاجرين خلال الثلث الأول من ثلاثية السيرة الهلالية.

إلى أن وصلوا قصر الأميرة «عزيزة» ابنة سلطان تونس «معبد بن باديس» وهم متنكرون في هيئة شعراء جوالين، عن طريق دلَّال ظل يفاخر بدهاء يونس وفروسيته وقبائله تحت شباك قصر العزيزة:

آه يا ستي لو شفتيه
لو شفتي طولو مع معانيه
تفوتي قصرك باللي فيه
واسمك الغالي تنسيه.

فكان أن تحركت لواعج عزيزة نحو يونس، حين وقعت عيناها عليه للمرة الأولى منبهرة.

وقفت عزيزة في ريح القصر ورحاته وقالت:

يا دلال صاحب العقد روح هاته
يا بخت من حدى بوصلك يا يونس في السنة مرة
يسود شعره وتحلى عيشته المرة
ولما قالوا لعزيزة دا يونس في الشجر برا
نزلت تهز اليلك وتقولوه كنت فين سلامات
ومن ابتلا بك يا يونس طق وانسلى مات
خدته على الصدر جوا القصر ورحاته.

أسر أبي زيد والأمراء الثلاثة

إلى أن وقع الأمراء الثلاثة في أسر حاكم تونس، معبد بن باديس الذي من نسله انحدر المعز بن باديس،١ — والزناتي خليفة، ووزير داخليتها العلام بن هضيبة، ووقعت قلوب الفرسان الثلاثة في أسر أكثر عذابًا والتهابًا هو قيوم الغرام، فقد أحب يونس عزيزة، ومرعي سعدى — ابنة الزناتي — أما يحيى فقد أحب الحسناء مي الهلالية.

وامتد أسرهم ذاك لسنوات سبع، لم ينسوا فيها يومًا موطنهم نجدًا، فتحدثوا بجمال نجد وحرية نجد، كما عبر مرعي عن هذا الحب ضارب الجذور في روحه عبر مناجاته لمعشوقته سعدى ابنة الزناتي:

يا سعدى نجد العريضة مريه
ربيت بها أهل وكل جدودي
بلدي ولو جارت عليه مريه
وأهلي ولو شحت عليا تجود.

وهكذا نجحت الفتيات الثلاث — عزيزة وسعدى ومي — في الإبقاء على محبيهم الثلاثة، يونس ومرعي ويحيى، في أسر السجن الملحق بقصر عزيزة الأسطوري الفاخر، وإقناع حكام تونس وفارسها خليفة الزناتي، بإطلاق سراح خالهم أو عبدهم المسن، أبي زيد الهلالي، ليعود إلى نجد والعودة بفديتهم، فما كان منه إلا العودة بجحافل جيوش بني هلال التي أوقعت الحصار الشهير لبوابات تونس السبع، لحين اقتحامها وقتل دياب بن غانم لخليفة الزناتي، وفتح المغرب العربي عامة حتى الأندلس التي حكمها أبو زيد الهلالي.

الهلالية بين التاريخ والفولكلور

ومن المفيد هنا التعرض للبناء الرئيسي الذي عنه استقلت «بالادا» أو «بالادة» حسب تسمية العرب الكلاسيكيين لقصص الحرب والحب الشعرية مثل «عزيزة ويونس» هذه، فمن المفيد التعرف بإلمامة سريعة بهذه السيرة السياسية الكبرى — الهلالية — وموقعها ما بين التاريخ الفعلي والفولكلور.

وتلقي مخطوطة مكتبة المتحف البريطاني الرئيسية للسيرة بالمزيد من الضوء على متابعها وأحداثها الهائلة التي شملت جغرافية الشرق الأوسط عامة عبر حلقاتها الرئيسية الثلاث، التي هي في عداد ثلاث سير متتابعة، أولها يضرب في العصور التي تعارفنا عليها بالجاهلية السابقة لظهور الإسلام، والتي قد تصل بنا إلى بضعة قرون.

إذ تغطي الحلقة الأولى للسيرة بدء تواجد العرب الهلاليين التاريخي في الجزيرة العربية، وهجرتهم الأولى إلى الأردن وفلسطين أو بلاد السرو وعبادة.

إلى أن تتوقف بنا الأحداث مع بدء ظهور الإسلام، وكيف أن هلال بن عامر وفد على النبي محمد على رأس قومه أو قبائله المتحالفة، ولعب أولئك الهلاليون دورًا مهمًّا في ترسيخ أركان الدين الجديد، حتى إن النبي أسكنه وقومه وادي العباس.

وأبدت فيما بعد فروسية وشجاعة الهلالية في حيل «المنذر» أبو العرب المناذرة، وكيف تعرف على الأمير «مهذب»، وتزوج بابنته «هذباء»، لما لم يرزق منها بطفل فقرر الزواج بأخرى.

ثم رحل إلى بلاد السرو وعبادة، أي الأردن وفلسطين، حيث تزوج بابنة الملك الصالح واسمها «عذباء» التي خلف منها «جبير»، بينما وضعت زوجته الأولى «جابرًا».

وينشب الصراع بين الزوجتين طويلًا، فكل منهما تريد المنذر لها وحدها.

وينتهي الأمر بطلاق عذباء ابنة الملك الصالح ورحيلها هي وابنها «جبير» إلى نجد.

المهم هنا أنه من نسل جابر وجبير انحدرت إلينا بطون بني هلال ونسائهم الذين قاموا بالأدوار الهامة في مختلف الأحداث الكبرى التي تضمنتها الحلقة الأولى من حروب وهجرات قارية على طول العالم القديم في أواسط آسيا والأناضول حتى تخوم الصين.

فجابر وُلد له عامر وتامر وهشام وحازم، ومن نسل هؤلاء انحدر «رزق» والد أبي زيد، وسرحان والد السلطان حسن بن سرحان، وأبناؤه الفرسان الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى.

أما جبير — رأس التحالف القحطاني — لعرب اليمن والجنوب العربي، فوُلد له «رباح» وحنظل والنعمان، ومن رباح جاء دياب والد رأس تحالف عرب الجنوب دياب بن غانم، كما أن من نسل رباح انحدر الأمير زيدان الذي قتله الزناتي خليفة على بوابات قرطاج.

وعقب جيل جابر وجبير يرد خبر زواج «رزق» من «خضراء» التي أنجب منها «شيحاء» وفتى يُدعى «بركات».

مولد أبي زيد الهلالي

وجاء الغلام — بركات — أسود اللون كعنترة، لذلك اتُّهمت الأم خضراء في عرضها، وانتهى الأمر برحيلها وابنها إلى بلاد الأمير «الزحلان» عدو بني هلال، فيكرم الأمير الأم ويعتني بابنها، ويوكل أمر تعليمه إلى معلم فكان يعلم بركات أبا زيد الهلالي العلوم والحرف واللغات والحيل والمكائد التي اشتُهر بها وتفوق فيها:

ولسان عبراتي اليهود تنفعك
ولسان سريان تصير مشير.

وكذا الطب والكيمياء والرياضيات والفلك والجغرافيا والصباغة والمعادن:

والطب أيضًا دانيال أعلمك
وعلم الحساب وكل علم جبير
وأعلمك علم الصباغات كلها
تصبغ لروحك ما تريد يا أمير.

ويحدث أن يهاجم الهلاليون بلاد الزحلان فيتصدى لهم بركات ويأخذ والده أسيرًا، ويعترف له الهلاليون بالشجاعة ويطلقون عليه اسم «سلامة»، ويعجب به الزحلان فيزوجه بابنته «غصن البان»، وتعلو مكانته في ربوع الهلالية لمهابته وذكائه ومهاراته المتعددة فيطلقون عليه «أبا زيد الهلالي سلامة».

ثم تنتقل بنا السيرة إلى جبل سرحان، وكيف تعرف بالأميرة «شماء» ووقوعهما في أسر الإفرنج ونجاتهما بحيلة من تلك الحيل التي اشتُهر بها الهلالية وفارسهم أبو زيد.

الأميرة شماء

وكان للأميرة شماء «ثلث المشورة»، ولها القيادة في الحرب والسلم والهجرة والترحال والمعاهدات.

فالسيرة الهلالية تُفرط إلى أقصى قدر بالنسبة إلى ظاهرة شخصياتها الأنثوية، مثل تلك الأميرة «الكاهنة» شماء:

انظر لشامتها
هذي علامتها
انظر لقامتها
شبه الردينية
الشعر مثل الليل
كأنه سباسب خليل
والوجه مثل السيل
بعيون هندية

ومن نسل شماء انحدرت الأميرة «الجازية» وأخوها السلطان حسن بن سرحان أمير نجد وقائد التحالف الهلالي، وكان محبًّا لوالدته:

شما تلفتيني
بحبك ضنيتيني
قومي واسقيني
من فوق شبرية
بالليل أنا أزورك
وها الوقت دا شويه.

ولشماء مآثرها الخارقة، خلال حرب ومنازعات بني هلال في الهند وسرنديب والأناضول واليمن والجنوب العربي عامة، فهي تتشابه مع رموز وإلهات الحرب الأنثيات في الميثولوجيات القديمة، وأبرزهن «أثينا» في قيادتها للتحالف القبلي اليوناني — الإغريقي — في حروب وحصار طروادة.

وهو ما توارثته «الجازية» فيما سيلي من أحداث عزيزة ويونس، والريادة حول فتوحات بني هلال في الشمال وفلسطين ومصر وليبيا، لحين حصار تونس والمغرب العربي للمطالبة بالإفراج عن أسراهم الأمراء، أو الفرسان الثلاثة يونس ومرعي ويحيى.

وهنا نكون قد وصلنا إلى الحلقة الثانية لسيرة الهلالية، التي تبدأ أحداثها بمرحلة السلطان حسن وأبي زيد الهلالي من بلاد السرو وعبادة بوادي الأردن وفلسطين، حيث تعيش قبائل بني زغبة المنحدرة من ذرية جبير إلى أن تصل بنا إلى نسب بطل التحالف اليمني والجنوب العربي عامة الأمير غانم وابنه دياب.

الهلاليون يحاربون يهود خيبر

أما السبب الدافع لتلك الهجرة من ربوع وادي الأردن ومرج بني عامر بفلسطين، فلم يكن سوى السيول والجفاف.

واللافت للنظر هنا أنهم عبر هجراتهم الجماعية إلى سهول نجد المرية يخوضون أولى حروبهم مع يهود بني خيبر، وهي حروب طويلة مضنية تستغرق وقائعها الجانب الأكبر من الحلقة الثانية للهلالية، لحين تحقيق انتصاراتهم على اليهود الخيبريين الذين كانوا في بعض صورهم التاريخية يتصدون لمحاربة الأكاسرة الفرس.

ففي هذا الجزء أو الحلقة الثانية للهلالية وسيرتهم، تستقر تحالفاتهم من عرب نجديين وحجازيين قيسيين أو معدِّيِّين وجنوبيين قحطانيين، وتجيء هذه التحالفات تحت شارة أو راية الهلال، آخذين بالتقويم القمري الهجري فيما بعد.

ويقدم السلطان حسن على الزواج من «نوفلة» أخت دياب بن غانم، ثم يقطع عهده لدياب هذا قائد ورأس التحالف اليمني بتقديمه أخته «نور بارق» أو الجازية له للزواج منها، والتي سترث أمها السالفة شماء قيادتها لحروب وهجرات بني هلال حتى ليصبح لها ثلث المشورة.

تغريبة بني هلال

أما تغريبة بني هلال أو الحلقة الثالثة، فتبدأ بإرسال أبي زيد الهلالي ومعه الأمراء الشبان الثلاثة يونس ومرعي ويحيى لزيارة المغرب العربي بشمال أفريقيا وخاصة تونس الخضراء، حيث يقعون في أسر فارسها خليفة الزناتي ووزير داخليتها المتسلط العلام، لحين قدوم الفيالق الهلالية لحصار تونس وتخليصهم من الأسر.

وهذه الفترة من فترات التاريخ الإسلامي صحيحة، بالإضافة إلى صحة دور بني هلال وحروبهم الجاهلية السابقة على الإسلام، وكيف قاموا بالنصيب الأعظم في سبيل تعريب البلدان المتاخمة للجزيرة العربية جنسًا وثقافة.

فابن الأثير يحدثنا في تاريخه — الكامل — بأن رسول الله تزوج في العام الرابع من «زينب بنت خزيمة» أم المساكين، وهي من بني هلال. ثم يذكرهم مرة بصدد الحديث عن غزوة هوازن، ومرات كثيرة أخرى في مناسبات مختلفة.

أما عن خروجهم إلى شمال أفريقيا، فقد ذكره أكثر من واحد من المؤرخين، مثل ابن خلدون حيث ورد بصفحة ٦٢، ٦٣ من الجزء الرابع من تاريخه ما نصه:

كان المعز بن باديس قد نقض معاهدة العُبَيْديين بأفريقيا، وأيد القائم العباسي ضد المستنصر العلوي سنة أربعين وأربعمائة، فكتب إليه المستنصر يتهدده ببني هلال وبأسهم.

أما عن السبب الدافع إلى تغريبة بني هلال، فمرجعه انقطاع المطر وحلول الجفاف بنجد والجزيرة العربية عامة، حيث لا خلاص سوى الهجرة والترحال وفرض التعريب، وهنا يستقر الرأي على ضرورة استكشاف المسالك إلى البلدان المتاخمة للجزيرة، فيضطلع فارس التحالف الشمالي أبو زيد الهلالي وبصحبته الأمراء الثلاثة باستكشاف الطريق إلى تونس، لحين وقوعهم في أسر زناتي تونس، وإطلاق سراح أبي زيد ليعود إلى نجد، لكنه بدلًا من إحضار فدية الأمراء الأسرى الثلاثة فإنه يجهز الجيش لغزو تونس والمغرب العربي حتى الأندلس، وذلك بعد أن تم لهم فتح المشرق العربي عامة، وفرض نفوذهم على معظم كياناته.

وهكذا ضرب الهلاليون حصارهم على تونس — قرطاج — بحجة المطالبة بالإفراج عن أسراهم الفتيان الثلاثة: يونس ومرعي ويحيى.

وعلى بوابات تونس السبع تدور المعارك الطاحنة لسنوات وهي معارك استشرق فيها خليفة الزناتي بقادة العلويين وحلفائهم وأمرائهم منازلة وتقتيلًا:

ثمانين أميرًا من هلال وعامر
دعاهم أبو سعدى برمح كعيب
أخرب أبو سعدى جميع مساكننا
وما عاد لنا سامح ومجيب
دائر كما الدولاب ولد غانم
ينادي دياب من لقانا هريب.

إلى أن استنجد السلطان حسن بن سرحان وأبو زيد الهلالي بدياب بن غانم، الذي نازل الزناتي إلى أن أصابه برمحه «بين عينيه» وفتح تونس واعتلى عرش الزناتي وأوقع السبي بابنته «سعدى»، وهي التي ساعدت — مع «عزيزة» — الهلاليين إلى أن تحقق لهم فتح تونس والمغرب العربي حتى الأندلس التي حكمها أبو زيد الهلالي.

شوقي عبد الحكيم
١  باني القاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤