حروب الهلاليين على أول بلاد العرب وحصار تونس

ما إن أيقن حاكم تونس وفارسها الذي طبَّقت شهرته الآفاق خليفة الزناتي بخبر نزول جحافل العرب الهلاليين بين جبلين بوادي الرشراش المزهر على أبواب قرطاج؛ حتى أمر من فوره بجمع مجلس حربه، وعلى رأسه ابن أخته الأمير الملقب «الهصيص» الذي هوَّن قليلًا من مخاوف الزناتي وتوجسه من وصول الهلاليين إلى تونس على شكل ذلك السيل الجارف المفاجئ، فتحت يدى الهصيص «أربعة وعشرون أميرًا، وكل أمير يحكم مائة ألف عنان».

وعلى الفور أمره الزناتي بإحضار قلم وقرطاس، وأشار إليه أن يكتب إلى ملوك وأمراء بلاده على طول الديار التونسية والمغرب العربي والأندلس، طالما جمع الشمل والمشورة. فمضى يكتب لهم طالبًا تجميع فلولهم وقوادهم ونجداتهم دون إبطاء بعدما أرسل لهم برسله.

أرسل العلام إلى الأندلس، وأرسل زيتون لقاعة، وعضرون لناسة، وضرغام لمغيرة، ومقداد للمنذرة وأرض زيلالي، وشمعون لأكرة، وعماد لأعمداس، وجفال لكسرة، وحماد لأرض مكناس، وشداد لقابس، وسليمان لقيروان وقابس الغربية.

وما إن وصلت رسائل خليفة الزناتي التي حملها ممثلوه الشخصيون حتى تدافعت الوفود والقواد على العاصمة التونسية قرطاج، مشهرة من فورها أسلحتها وحرابها الهمجية ذات الأربعة والعشرين نصلًا، مطالبة بالخروج ومداهمة عرب المشرق المغيرين الطامعين قبل أن يتاح لهم الاستقرار بوادي الرشراش لتنظيم صفوفهم، ونفض عناء تلك الرحلة الطويلة المضنية بحروبها ووقائعها منذ خروجهم من مركز تجمعهم في «نجد المرية» إلى أن وصلوا إلى تخوم تونس وقلاعها.

وهو حقًّا طلب واقعي جدًّا الذي تقوم به حلفاء الزناتي وقواد عشائره ومعهم العلام بن هضيبة.

ذلك أن رحلة الهلاليين منذ عشية وصول أبي زيد الهلالي إلى نجد والخروج كانت رحلة مضنية جدًّا، فلقد اجتمعت القبائل مع مطلع نهار الرحيل يتقدمها شيوخ القبائل والفرسان، من أمثال السلطان حسن بن سرحان وأبي زيد الهلالي ودياب بن غانم والقاضي بدير والأمير زيدان شيخ الشباب والأميرة القائدة الأم الجازية.

فخاضوا سلسلة من الحروب والمنازعات في بلاد الأعاجم والعراق الأعلى وبلاد التركمان ضد الحكام والأمراء الموالين لبقايا الإمبراطورية الفارسية وسطوتها، سواء في العراق الأعلى أو بلاد التركمان أو على طول كيانات وقبائل شط العرب والجنوب العربي عامة.

وكانوا يتمثلون في تلك الحروب الطاحنة ببطولات جدهم السالف الأمير حمزة — البهلوان — وسيرته وحروبه المناوئة للأكاسرة منذ أقدم العصور، وهو الذي نبت من بين صفوف القبائل العربية في مكة المكرمة، وجمع نواة جيشه من فرسان القبائل وتحدى بهم في البداية اليهود الخيبريين إلى أن قويت شوكته ضد التسلط الفارسي على كيانات وقبائل عرب الجزيرة شمالًا وجنوبًا، إلى أن حاصر الفرس وأسقطها.

أما حروب الهلاليين في وادي الرافدين فكانت طاحنة.

وهي حروب أبلى فيها رأس التحالف اليمني القحطاني — أو اليقطاني — دياب بن غانم البلاء الحسن، حيث بانت بطولاته خاصة بعد أن نازل الملك «الدبيسي» وقتله رغم تحذيرات ابنته التي تسمى بها، «وطفا» التي أنشدت:

قد رأيت بحرًا من دم
وأنت بوسطه غرقان.

ومن العراق اصطحب الهلاليون حليفهم الملك المسمى ﺑ «الخفاجا عامر»، الذي اصطحبهم بقواته مخاطبًا سلطانهم حسن بن سرحان:

نحن يا أمير لنا بالغرب سادة
بأرض الزناتي يا ملك بالجزاير.

إلى أن نزلوا فلسطين ووادي الأردن وحاربوا حاكمها «السركسي» في القدس وغزة، وقتل أبو زيد الهلالي الملك «التبع شبيب بن مالك» حاكم دمشق، وبكته زوجته النائحة «جنوب» وانتحرت في أثره.

ألا يا حمام النوح توجهوا واندبوا
وابكوا على فقد الأمير شبيب
شبيب الذي بكته الناس كلها
وصاحت ديوك العرش مات شبيب
تقول فتاة الحي «جنوب» مما أصابها
لا عيش في بُعد الحبيب يطيب.

ودخلوا مصر السفلى عن طريق برزخ السويس بحيلة مهرب الكواعب قشمر بن منصور، الذي هو أبو زيد الهلالي ذاته متنكرًا في هيئة مهرج.

إلا أن الحرب امتدت بين الهلالية والملك «فرمند مصر» وابن أخته المدعو الأمير محمود، إلى أن قتل أبو زيد الفرمند.

وكان السلطان حسن قد استحسن مصر كل الاستحسان لكبرها وما فيها من الأبنية الحسان، فصمم أن يبني له فيها جامعًا على اسمه ليكون ذكرى له على طول الزمان، فأمر البنائين والمهندسين ببناء الجامع المذكور في ظرف ستة شهور.

وبعد أن أتموه أمر أن يفرشوه بنفيس الفرش وتنقش حيطانه بأحسن النقش، فكان جامعًا عظيم المنال يزهو كالهلال، وكان مكتوبًا على بابه بالذهب: هذا جامع الأمير حسن الهلالي سيد العرب …

وبالطبع ما يزال جامع السلطان حسن من معالم القاهرة إلى اليوم.

وواصل الهلالية طريقهم عبر صعيد مصر للإفراج عن أسراهم الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى.

محابيسهم عند الزناتي خليفة.

لهم عنده مدة سبعة أعوام …

بما يشير إلى أن رحلتهم ومنذ تجميع فلولهم وخروجهم من نجد إلى وادي الرافدين والعراق الأعلى وحروبهم ضد بقايا الفرس وتسلطهم، ثم نزولهم إلى فلسطين وحلب ودمشق لحين دخولهم مصر ثم الوصول إلى تونس قد استغرق سبع سنوات …

وبعد تلك الرحلة المضنية وما صاحبها من أخطار وفتوحات، لم يغفل الهلاليون عن عقد تحالفاتهم مع البلاد المفتوحة؛ ضمانًا لتأمين ظهورهم وإرساء لضرائعهم وتعاليمهم التي لا تخلو من سماحة.

ومرورًا بصعيد مصر أو مصر العليا، رحب بهم حليفهم — الذي سبق لأبي زيد زيارته — الأمير «ماضي بن مقرب» الذي وقع من فوره صريعًا في حب الأميرة الجازية وحاول الزواج منها وهي في طريقها كقائدة للهلاليين إلى الحرب.

فكتب إلى السلطان حسن بن سرحان منشدًا:

نحن نعرف يا أمير مكارمك
أريد فتاة الجازية أم محمد
هي بنت عمي بغيتي ومرادي …

فما أن التهب حب الأمير ماضي بن مقرب للجازية وحاول التقرب منها بالزواج، حتى نصحه المقربون منه بطلب فرسة دياب بن غانم — الخضراء — لأن روحه معلقة بها، وفي حال رفض السلطان ذلك يطلب بدلًا منها يد الأميرة الجازية …

إلا أن السلطان حسن حقق طلبه بإرسال «الخضراء» مع هدايا كثيرة، فردها الأمير ماضي طالبًا مقايضتها بالجازية منشدًا:

يقول الفتى ماضي بن مقرب
بدمع جرى فوق الخدود بدار
أرسلت لك خضراء دياب بن غانم
وأبذلت فيها أموال مع أجياد
ونحن نعرف منك يا أمير مكارمك
كفك سخي طول المدى مداد
أريد فتاة الجازية أم محمد
هي بنت عمي بغيتي ومرادي

وعلى الفور قام الماضي — حاكم الصعيد — بتزيين القصر بفاخر الحرير والديباج وأقام الأفراح والزينات.

وهكذا لم يجد الهلاليون بدًّا سوى تقبل الزواج الذي لم يستغرق سوى ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع استأذن السلطان حسن بالرحيل إلى المغرب العربي، فقامت الجازية تبكي بدمع غزير، فلما زاد عليها الحال سمح لها الماضي بالرحيل، بل هو سار في وداعهم لمدة ثلاثة أيام إلى أن دخلوا الديار الليبية.

وخلال المرور عبر ليبيا وقعت بين الهلالية بضع مشاحنات ومنازعات داخلية، أي بين القبائل والأفراد، منها بضعة منازعات بين رأسي قطبي التحالف الهلالي العدناني لعرب الشمال — النجديين — والجنوبي القحطاني، وهما هنا أبو زيد الهلالي ودياب بن غانم، واستطاع السلطان حسن بن سرحان رأب الصدع وهو في المهد وقبل استفحال الأمر.

وكذلك ما وقع من مشاحنات نسائية بين الأميرة — القائدة — الجازية التي كانت قد لحقت بالهلاليين بالديار الليبية، وبين العالية بنت جابر زوجة أبي زيد الهلالي، حين تنازعا على تملك آبار أو مخاضات المياه، فكان أن تهورت الجازية وهي التي كانت تحب وتطمع في الزواج من أبي زيد قبل العالية بنت جابر، أهانتها بقولها: يا عشيقة عبدنا!

وكان ذلك بمثابة الجرح الدامي لأبي زيد، الأكثر غورًا من جراح المعارك، خاصة إذا ما كانت قائلته أميرة في حجم الجازية، التي أنذرت لأبي زيد بحرارة وعلى رءوس الأشهاد فهو: حامي المحصنات!

إلا أن أبا زيد تجاوز مثل تلك الصغائر مركزًا كل طاقاته على الإسراع بفك وثاق رفاقه الأسرى عبر أقصر الطرق وأسلمها، وهو الذي عرفها عن قرب، واختبر متعرجاتها ومدى صلاحيتها، بل وحتى طبيعة تربتها وأخاديد كمائنها.

وهكذا عكف أبو زيد بعدما وصل بالقوات والهجرة الهلالية إلى هنا، على استكمال وضع خططه على ضوء ما في حوزته وتوصل إليه منذ الريادة.

فكان يختفي أيامًا معدودات لمعاودة الاتصال بعيونه وبصاصيه المنبثين في كل صوب حتى داخل بوابات تونس وحصونها المنيعة ذاتها، بل ومراكز صنع قراراتها.

وكان أكثر ما أثار ارتيابه هو مدى القوة الضاربة التي تمكن الزناتي وابن أخته العلام بن هضيبة من جمعها واستجلابها بعتادها من قلاع وكيانات وقبائل المغرب، من قابس ودير مكناس، والقيروان، والجزائر، والأندلس.

مما أعاد الثبات والثقة إلى الزناتي الذي ركب رأسه معلنًا بدء المعارك قبل أن تدعوه الهلالية إلى ذلك، وكما لو كان على موعد مع الحرب مستعيدًا صولاته وجولاته التي عُرفت عن «أبي سعدى».

وما إن تجمعت محصلة المعلومات المستجدة التي توصل إليها أبو زيد الهلالي، حتى نقلها من فوره إلى قادة الهلالية ومجلس مشورتهم، مشيرًا إلى مدى الأخطار المحدقة، فكل ما حدث لهم من مواجهات وحروب يمكن وضعها في كفة، وما هم مقبلون عليه مع زناتي تونس وحلفائه هو في كفة أخرى.

وأبلغ أبو زيد الهلالي السلطان حسن ومجلس المشورة بمدى التحصينات والجيوش التي تجمعت تحت يدي الزناتي خليفة وابن أخته — الأرقط — العلام بن هضيبة.

توالى وصول القوات والإمدادات المساندة لزناتي تونس على «قرطاج» العاصمة من كل حدب وصوب، بشكل فاق كل توقع، حتى استحالت المدينة إلى قوة ضاربة متقدة حماسًا ورغبة في الخروج لملاقاة عرب المشرق.

إلا أن العلام بن هضيبة وقف هذه المرة بالمرصاد محبذًا التروي وعدم الانجراف لمجرد الحماس، قبل التعرف على مواضع القوة والضعف لذلك الزحف الذي أطبق على تونس فجأة دون سابق إنذار، بما يشير الى أنه أمر «مبيَّت» وتم تنفيذه عن سابق تصور وتصميم، وما أولئك المتسللون الغرباء يونس ومرعي ويحيى الذين ما زالوا يحيون هانئين بسجن قصر العزيزة برغم كل ما يحدث؛ سوى مجرد ذريعة تستر تحتها الغزاة الطامعون في تونس وخيراتها ومروجها؛ البقرة الحلوب.

وما إن تعرف العلام — بالتحديد — على مناطق الضعف في ذلك الجيش الجرار، الذي لا يمكن التفريق فيه بوضوح كافٍ قواته عن عوامه؛ حتى بدأ بسلسلة من الكمائن والحروب الصغيرة، وذلك عن طريق الإغارة هو وقواته على مؤخرة الزحف الهلالي بهدف تقطيع أوصاله واستنزافه.

وهي خطة نجح فيها العلام الي حد إلحاق ضربات محققة بالهلاليين، وذلك بتركيز الالتفاف على مؤخرتهم بدلًا من طلائعهم، حيث توجد المؤن والإمدادات أو ما يُعرف ﺑ «البوش» من أسلحة وعتاد وثروات وغذاء وخيول وجمال ورءوس أغنام، وكل ما تحتاجه أمة مهاجرة قبل أن تكون جيشًا مغيرًا أو فاتحًا.

وهكذا مضى العلام وفيالقه يوقعون الخسائر تلو الأخرى في «بوش»، عن طريق قتل المواشي ونهب الثروات وإحراق المؤن الغذائية وحظائر رءوس الضأن، بالإضافة إلى سبي الشيوخ والأطفال والنساء والخيول والعتاد والثروات.

وهو ما أثار الذعر والفزع حقًّا في صفوف الهلالية إلى حد إحداث الانشقاقات والتشتت، مما دفع بالشيوخ والنساء إلى الاستغاثة بالسلطان حسن بن سرحان طالبين الحماية.

فما كان منه إلا أن جمع مجلس مشورته، في مقدمته الجازية التي تنفرد بثلث المشورة، وأجمعت المشورة أو الشورى على انتداب الأمير دياب بن غانم لحماية المؤخرة أو «البوش»، فهو وحده القادر على رد المعتدين والساطين على قوت وعتاد الهلالية غدرًا وخلسة.

إلا أنه عندما استقر الرأي عليه لاضطلاعه بهذه المهمة أخذته من فوره ثورة من الغضب غير مصدق ما تسمعه أذناه، وكأنه واجه إهانة جماعية كبرى، سددتها إليه الهلالية على هذا النحو المزري:

– أي أن تصبح مهمة دياب بن غانم هي حماية المؤن والنساء ليس غير!

من هنا تجدد اعتقاد دياب الراسخ بالإهانة فيما انطوت عليه هذه المهمة غير اللائقة بدياب الخيل، في أن يُنتزع من القيادة والمقدمة ليصبح ذيلًا في المؤخرة على هذا النحو المزري.

بل إن غضب دياب بن غانم هذا لم يقتصر عليه، بل امتد ساريًا بين شيوخ وأمراء عرب اليمن وجنوب الجزيرة عامة، بما يعني الإخلال بقطبي التحالف الهلالي.

فحتى نساؤهم أصبن بالنفور من ذلك الرأي الذي أجمعت عليه المشورة إنقاذًا للأرواح والمؤن والعتاد، ومن ذلك التسلل والسطو غير المتوقعين اللذين أحكم وضعهما العلام ذو الخطط الجهنمية.

وتبارت الأميرة وطفا بنة دياب في إلقاء موثباتها وأشعارها التحريضية ضد قرار المشورة الهلالية بانتداب دياب لحراسة المؤخرة، بدلًا من إطلاق عنانه على رأس بني زغبة أو الزغابة لمنازلة الزناتي ذاته.

إلا أن دياب امتثل للمشورة وقبلها مرغمًا مضمرًا الأحقاد الانتقامية السوداء لقادة التحالف — القيسي أو العدناني — عندما يحين الوقت المناسب.

وهكذا تحرك منسحبًا بفيالقه المحاربة إلى أن وصل «البوش»، فأخذه وسار به إلى وادٍ يطلق عليه وادي الغباين — وهو وادٍ حصين بين التلال المزدهرة حيث الزهور فائحة والمياه سابحة — وأنشد في مرارة:

أنا دياب بن غانم حسن طيب
لا تخافوا عليَّ لو سطا الديب
طيبًا لقلبك على بوشك يا ملك
ولا تخافوا عليه من المحاريب
وأنتم كونوا حذارى نحو أنفسكم
وحافظوا على حريمي والمراكيب
ثم احضروا للزناتي حين يطلبكم
كونوا قومًا عوابس في المضاريب
أنتم هلال ما حد يقهركم
حكمتم الأرض شرقًا وتغريب.

وسار أبو زيد مع دياب بن غانم مودعًا بأروع أشعاره دون إنقاص من قدرته وقدرته:

كم واقعة أشفيت هلال
أنت يا زكي الجدود!

لكن كيف لدياب بن غانم أن ينسى يومًا أو يتناسى تلك الواقعة المهينة، التي ستظل دومًا ذكرى سوداء يختزنها داخله طيلة العمر ضد ثالوث العرب الشماليين السلطان حسن وأبي زيد الهلالي والجازية؟

وكان أكثر من استبشر بهذا الخبر حول إبعاد دياب بن غانم عن المقدمة والقيادة خليفة الزناتي ذاته، الذي يخاف دياب ويرهب حربته التي كثيرًا ما أودت بطلائع الأبطال والقواد.

وتأكد ابن أخته العلام من نجاح خطته بإبعاد دياب أولًا وقبل كل شيء عن المقدمة لدى الاقتراب من حصون تونس.

وهكذا استشرى العلام والأمير الهصيص في تصديهم وقتالهم للهلالية، موقعين بهم الخسائر وموقعين أمراءهم وقادتهم صرعى دون رحمة في أرض المعارك قبل أن يحين دور الزناتي فيما سيلي.

ويبدو أن أبا زيد الهلالي تفرد في تلك الوقائع بمبادرة اتخاذ القرار بالنزال والحرب وحده، بعد أن أُخليت له ساحة المعارك برحيل دياب بن غانم لحراسة المؤخرة، مما أغضب السلطان حسن بن سرحان الذي استدعاه إثر إحدى الغزوات أو الغارات التي أبلى فيها أبو زيد البلاء الحسن إلى حد قتل الهصيص الذي أحدث قتله فزعًا كبيرًا في صفوف جند الزناتي؛ لأن الغارة تمت دون مشورة أحد، فجمع السلطان حسن مجلس المشورة أو الحرب وواجهه قائلًا: «لماذا يا أبا زيد تقاتل القوم أنت بنفسك دون أن تخبرني؟! ما عدت تركب معنا!

وأمره بالامتثال للسجن، ووضع قدميه في قيود الحديد بإرادته واختياره!

فما كان من أبي زيد إلا أن امتثل للقيد ووضعه في رجله، وجلس وحيدًا صاغرًا لأمر السلطان حسن الهلالي لا يقرب زادًا.»

لكن في صباح اليوم التالي، وما إن دقت طبول الحرب، وعلم الزناتي من العلام وبصاصيه بغياب أبي زيد عن صفوف الهلالية، حتى قاد بنفسه فيالقه وخرج لقتال الهلالية موقعًا بهم وبقادتهم أفدح الخسائر، انتقامًا لابن أخته الأمير الهصيص.

وعندما علم أبو زيد بمدى الخسائر والقتلى في صفوف قومه الهلاليين وهو حبيس قيوده، أحاطه الحزن والضيق إلى حد عدم احتماله، فما كان منه إلا أن فك وثائق قيوده ثائرًا ممتطيًا صهوة جواده، ليفاجئ الجميع بوجوده في ساحة المعركة.

وهكذا استطاع أبو زيد ترجيح كفة الهلاليين ورد جنود الزناتي منسحبين مدحورين على «أربع عشرة مرحلة أو انسحابًا»، إلى أن ارتد الزناتي داخلًا أبواب تونس التي أغلقت خلفه سريعًا، وأبو زيد يواصل مطاردته إلى أن خلع أبوابها بحرابه مشرفًا.

وما إن انتهت الواقعة حتى عاد أبو زيد الهلالي إلى حبسه وقيوده كما كان التزامًا بأمر السلطان حسن، رغم أنه على ما يبدو قد أُصيب، أو على حد قول حاكم العراق الخفاجا عامر الذي ذكر في أشعاره: كان ملسوعًا، يعاني في قيوده الآلام المبرحة.

ولكن رغم هذه الانتصارات المؤقتة خلت الساحة للزناتي ليصول ويجول موقعًا الهزائم بالهلاليين نتيجة لغياب قطبي التحالف الهلالي دياب وأبي زيد، ووصل الزهو بالزناتي إلى حد إعلان تحديه بالحرب والنزال للسلطان حسن بن سرحان ذاته، الذي نازله مرات على رأس قواته لكن دون إحداث تقدم محقق، إلى أن طالبته القبائل الهلالية بالكف عن منازلة الزناتي.

واستقر إجماع مجلس المشورة على أن ينازل الخفاجا عامر الزناتي بدلًا منه، رغم محاولة خليفة الزناتي تحييد الخفاجا عامر عن طريق مفاوضاته ومساوماته له بهدف إخراجه من التحالف الهلالي، كما يتضح من شعر الخفاجا:

أمس أرسل الزناتي يقول لي
كلامًا أكيدًا واضح الأسرار
يقول لي يا أمير اترك قتالنا
وكف عنا جملة الأضرار
وعدني بالمال والملك والعطا
يرغبني في معدن وإبهار.

إلا أن الخفاجا عامر رفض تلك المراسلات والمفاوضات الجانبية، معلنًا ومقسمًا على رءوس الأشهاد أنه سيتصدى لحرب خليفة الزناتي عشرة أيام متصلة دون توقف، وذلك برغم مخاوفه الداخلية وأحلامه وكوابيسه الليلة، وكذلك تحذيرات ابنته ذوابة من منازلة الزناتي. وأنشد حاكم العراق الخفاجا عامر يقول مخاطبًا الزناتي:

وما أود أخون العيش يا أبو سعدى
أخاف ترخص عندها أسعارها
أود لا أكون الخفاجا عامر
في جاه صغارها وكبارها
أصبح هزيل في هلال مسخ
ويكشفون غروضها وصخورها
لكن اليوم جئت إلى حربك
لا بد أسقيك كأس مرارها.

وما إن فرغ من إنشاده حتى التقى الفارسان في حرب وصدام شديدين والخفاجا عامر يواصل تسديد ضرباته إلى أن انفك عزم خليفة الزناتي أمامه فولى هاربًا للنجاة طالبًا.

واستعر لهيب النزال بين الخفاجا عامر وخليفة الزناتي ثلاثة أيام متصلة، أحرز فيها الخفاجا تفوقًا على الزناتي وجنده في كل واقعة، كان يعود بعدها إلى الهلاليين منتصرًا كأرجوان أحمر مخضب بالدم.

ولم يجد الزناتي من وسيلة أمامه للإيقاع بالخفاجا عامر سوى اللجوء للحيلة والمكيدة التي دبرها ابن أخته العلام، حين أرسل في أعقابه عقب عودته من إحدى المعارك مظفرًا باتجاه جناين الورد فارسًا تونسيًّا يُدعى «الخطيب»، فكمن له بين الأشجار وهو متعب واغتاله بخنجره المسموم.

وأنشد الخفاجا عامر مرثيته القومية الكبرى وهو يسلم روحه بين يدى ابنته ذوابة، وفيها يوصي الهلاليين بمواصلة القتال وجمع الشمل العربي من العراق ومصر والمغرب العربي:

يا أيها الطير الذي طار بالفلا
تسعى إلى الدهر الذي بك طالع
تأكل ربيعًا بأرض مصر وزرعها
وتبيض بأرض العراق المواضع.

وبموت الخفاجا عامر العراقي حطت الأحزان القاتمة السوداء على الهلالية، ورثته ابنته ذوابة والنساء العامريات، أو نساء بني عامر من عراقيات وفلسطينيات، بأبلغ المراثي والأشعار الجنائزية لذلك الفارس المغتال على بوابات قرطاج السبع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤