غَيْرَة الجازية من حب العالية وأبي زيد

هكذا وجد فارس الهلالية أبو زيد نفسه بين لحظة وما أعقبها ينبض قلبه بلا هوادة أو توقف بحب العالية بنت جابر، وهو الذي منذ بضع سنوات فقط ليست بالبعيدة قطع بحسامه — المهند — رأس شقيقيها الأميرين عقيل وزيد، حين اشتد به الغضب ووصل به الهياج من جشعهما وتسلطهما حين تفتحت عيونهما على أسلاب الهلالية من كنوز أكاسرة الهند وسرنديب وعروشهم وثرواتهم.

وصل به الغضب والغيرة دفاعًا عن حقوق المجاهدين من معدِمين ومعوزين وجرحى وأسرى وشهداء، إلى حد التهديد بغزو مضارب الأمير الأكبر «جابر» ذاته واستباحتها.

إلا أن العالية بصائب بصيرتها تمكنت منذ أن تصافحا داخل معازي الحريم من أن تضمد له غائر جرحه الدفين الذي عاناه أبو زيد وحده السنين الطوال، وهو أن يرفع سلاحه يومًا ليشهره في ذات — قبائله — جسده كمثل رجل ينتحر …

تمكنت العالية بعمق مشاعرها من تجفيف دماء إحساسه الدفين بالذنب والإدانة، وعفا الله عما سلف، فيبدو أنه كان محقًّا فيما أقدمت عليه ذراعه الضاربة في عنقي فارسين من أخلص فرسان الهلالية وأقدرها على المنازلة سوى من هفوة الجشع المفضي إلى التسلط، حتى إذا ما انتهت جلستهما القصيرة المؤثرة وعاد أبو زيد متخذًا طريقه إلى ديوان السلطان حسن والرجال معتذرًا مرحبًا رواده من فورة الإحساس الذي عرفه كثيرًا عقب فك قيود الأسر وانتزاع سلاسل الإدانة، فاستراحت عضلات وجهه وعاد استرخاؤها وحبورها على مشهد من عيون الجميع وأولهم صديقه وموضع سره المقرب الأمير الشاب يونس.

فكان يونس هو الوحيد الذي استنجد به السلطان ليعود إليه برقبة أبي زيد، فهو الوحيد الذي يعرف مكمنه.

هنا اعتلى يونس جواده قاطعًا السهول والوديان إلى أن تسلل وهو يغوص سراديب وزوايا ذلك الحصن الذي غيبت السنون والعصور معالمه وأبهاءه حتى توقف عند رأس أبي زيد الهلالي الذي هبَّ من إغفاءته، كما لو كان يعاود الإطلال على عالم غريب غير مألوف هاتفًا: يونس.

هنا عاجله يونس بدوره وهو يحط عن رأسه تعبًا وإعياءً مُقْعيًا قائلًا وهو يتفرس عبر الظلام الخفيف في عينيه: العالية بنت جابر.

انتفض أبو زيد في أقصى انفعاله ونشيجه مبتعدًا مخفيًا وجهه بين ساعديه كمن يكتم لهبًا اندفع في غائر أعماقه …

– يونس، ألا يكفي ما أنا فيه؟! اتركني، اتركني، كفاك سخرية!

ولعلها المرة الأولى التي اندفع فيها يونس ضاحكًا مقهقهًا وهو الذي لم يضحك أبدًا منذ سنين.

ومن فوره تمدد في استرخاء وهو يدق الأرض بقبضته من غرابة أطوار خاله، هذا أبي زيد فارس الفرسان، والذي يبدو الآن أمام عينيه كمثل طفل محب لا يعرف من عالمه سوى البراءة.

– العالية ابنة الأمير جابر.

قاربه سائلًا: أليس كذلك يا خال؟

انتصب أبو زيد واقفًا معدلًا من هيئته مواصلًا عناده كمثل طفل: لن أعود يا يونس.

داعبه يونس بصوت محايد خفيض: خائف؟

هنا انتفض أبو زيد وكما لو كان يخوض إحدى معاركه أو وقائعه أو ملاحمه: خائف؟

واصل يونس: أجل، من امرأة.

– امرأة!

– الأميرة عالية.

شبك أبو زيد ذراعيه على صدره، وبدا وكما لو كان يحدث نفسه مناجيًا زافرًا: ماذا أفعل؟

هنا انشغل يونس بالبحث عن بقايا زاد أبي زيد من تمر ولبن ولحم القديد المجفف، الذي لا يخلو منه جرابه، ملتهمًا في نهم إلى أن عاود الاقتراب منه ومواجهته بالسؤال: أنت تحبها؟

أخفض أبو زيد عينيه مبتعدًا وهو في أقصى حالات انفعالاته التي يعرفها عنه يونس: أجل يا يونس يا بني.

وساد صمت طويل بينهما لم يقطعه سوى صهيل فرقة الفرسان المصاحبة ليونس الرابضة على أبواب قلعة يثرب المهجورة بانتظارهما.

ولم يتمكن أبو زيد الهلالي من إقناع يونس بتركه والعودة إلى نجد، وإبلاغ السلطان والجميع بعدم العثور عليه — أي على أبي زيد — بعد أن أخبره يونس بغضب السلطان حسن والجميع لتغيبه، وخاصة حاكم العراق الخفاجا عامر، وأيضًا دياب بن غانم صديق صباه ومدى صعوبة المأزق والحرج اللذين اعتريا الجميع في نجد.

– الجميع يسألون عنك، قف.

هنا لم يجد أبو زيد بدًّا من العودة.

وخلال الطريق أطلع أبو زيد يونس على ما يعانيه، ولم يكن يخفي عنه خافية، برغم صغر سنه فإنه كان يصطفيه ويصطحبه عبر رحلاته ومغامراته، بل إن أبا زيد هو الذي دربه بنفسه على الفروسية منذ مطلع شبابه، وما تستلزمه من معرفة عميقة موثقة بالكثير من الأمور والعلوم، ما بين إلمام كبير بجغرافية البلدان وطبائع القبائل والأقوام ولهجاتها ولغاتها واختلاف الألسن والطبائع ووصف المسالك من أرضية جبلية لصحراوية وبحرية وأقصرها توصلًا للغاية.

كما كان دائم الحديث معه خاصة عن تاريخ عرب نجد والجزيرة الهلاليين، وحروبهم وفتوحاتهم وغزواتهم من مشرق الأرض إلى مغربها.

إلى أن وصل الحديث بينهما إلى أحد الفتوحات الهامة التي أوكل والده السلطان حسن قيادتها إليه، أي إلى أبي زيد، وشملت شبه القارة الهندية وآسيا الصغرى. وكان في مثل سنه — ٢٥ عامًا — منجرف الحماس والتوقد، كل مبتغاه هو الإعلاء من شأن الهلاليين دون انتكاسة واحدة تودي بحياة الآلاف المؤلفة من محاربي الهلالية، فيصبح مضغة في أفواه نسائهن قبل الرجال.

وأصغى يونس بكل حواسه إلى أبي زيد مقاربًا وهما يقطعان السهول والوديان عائدَين إلى نجد مندهشًا إلى أقصى حد.

فلقد كان يظن — قبل هذه الرحلة — أنه على دراية بما وهن من تفاصيل ودقائق، خاله أبي زيد وحياته، لكنه بدا في عينيه هذه المرة مختلفًا وكأنه يصطحبه ويراه ويستطلعه لأول مرة.

– ما الخبر؟

دعني أتخفف معك يا يونس دون مقاطعة، وسأترك لك الحكم والمشورة بعد معرفة ذلك الدافع البغيض المخجل حقًّا الذي دفعني إلى الاختفاء عن عينها على هذا النحو المزري المشين.

قاطعه يونس: تقصد الأميرة العالية؟

– نعم يا يونس، هي وحدها دون غيرها من نساء العالمين.

ترجَّلا لأخذ لحظات من الراحة داخل بستان متشابك الأشجار يفيض بمختلف صنوف الفاكهة والزهور البرية على غير المألوف.

– العالية بنت جابر ونصلا عينيها الناريتين اللتين واجهتني بهما منذ لحظة ترجلها من هودجها في أثر والدها الأمير جابر، حين مددت لها يدي مسلِّمًا ووالدك السلطان ينطق اسمي لها مقدمًا: أبو زيد الهلالي سلامة.

ووصل الانبهار بأبي زيد حين عاجله يونس مقاطعًا وكأنه يكمل له تفاصيل ما خفي عنه قائلًا: رأيت كل شيء، أتعرف ماذا حدث؟

– ماذا؟

– أغمي على الأميرة، وهي تخطو في أثر والدها عتبة الديوان، واحتضنتها أمي وطفاء إلى أن أدخلتها فراشها باكية.

غمغم أبو زيد: منذ التقينا.

واصل يونس متذكرًا: لحظتها بالتحديد اختفيت أنت وكأن أرض الله الواسعة انفتحت من تحت قدميك.

أكمل أبو زيد متندمًا مبتعدًا: أجل يا يونس، فلعل خناجر الأعداء وسيوفهم أكثر رحمة وسلامة من عينيها!

هنا وصل العجب بيونس مداه، وهو يقارب أبا زيد مستطلعًا ليقف منه على جلية الأمر سائلًا: أتعرفها؟

– تقصد العالية؟

– أجل.

– نعم أعرفها يا يونس، قتلت شقيقيها الأميرين عقيل وزيد؛ أولهما بشمال الهند والثاني بسرنديب.

سأل يونس وهو يعاود قراءة تعبير وجهه مغمغمًا: أليس هذا سببًا كافيًا لمعرفتها؟

وساد صمت طويل ثقيل مفعم بالأسى بين يونس وأبي زيد.

وحين عاودا امتطاء حصانيهما وجدَّا المسير في قطع الروابي والسهول المحيطة بنجد، أكمل أبو زيد ليونس مطلعًا إياه على الكيفية التي صاحبت قتله لشقيقيِّ العالية بنت جابر بالهند وسرنديب.

لقد وصل الشَّرَه بأولهما وهو الأمير عقيل للحصول على كنوز الأسلاب والسبي التي وقعت في أيدي الهلالية مما تزخر به قصور الهند والتركستان من ثمين الجواهر وعروش ملوكها ومهراجاتها وأمرائها، من أطنان الذهب وغالي الأحجار الكريمة من ياقوت وبلخش وزمرد وأكداس المال والسيوف المهندة؛ فاندفع بأقصى طاقات شرهه يطالب أبا زيد بحراستها مع «البَوْش» ومؤن الحرب والأسرى.

حتى إذا ما حقق له أبو زيد مبتغاه لم يصنِ الأمانة وحاول في صباح أحد الأيام الهرب بما استطاعت كتائبه حمله والفرار.

وما إن تواترت الأخبار إلى أبي زيد بفعلته حتى جدَّ السير في أثره برًّا وبحرًا، إلى أن تمكن من إيقاعه وكتائبه في الأسر. هنا لم يكتفِ عقيل بما حدث، بل شهر سيفه في وجه أبي زيد محاولًا طعنه من الخلف، فما كان من أبي زيد إلا أن نازله وقطع رأسه، ليصبح عبرة لمن تسول له نفسه من زعماء القبائل المتحالفة نهب أموال الهلالية دون حق.

أما الأخ الثاني — الأصغر — زيد، فقد رفض الواقعة من أساسها، محاولًا إثارة الفتن الجانبية والإنقاص من قدر أبي زيد جهارًا، متهمًا إياه — أي أبي زيد — بأنه مجرد عبد بني الزحلان الذميم ليس إلا، إلى أن تسلل ذات ليلة محاولًا الانتقام لأخيه الأكبر الأمير عقيل، والتوصل إلى مضارب أبي زيد واغتياله، وبالطبع استيقظ أبو زيد مع لحظة إطباقه عليه، فهب من فراشه قافزًا إلى حسامه ونازله على مرأى من حراسه الغاضبين بعد أن حال بينهم وبين قتله سوى بالمنازلة وجهًا لوجه في تلك الليلة الحالكة الظلمة إلى أن تمكن منه أبو زيد فقتله.

وأنهى أبو زيد كلامه ليونس بأن ذلك ما حدث.

وطمأنه يونس قائلًا: تخطاك العيب يا خال أبو زيد.

إلا أن يونس أعاد سؤاله له: لكن، هل تعرفها؟

– تقصد الأميرة العالية؟

– نعم.

– لم أرها قبل اختفائي البتَّة.

– لكنك أدركت ما بها.

– لا أعرف يا يونس، كل ما أعرفه هو عيناها اللتان أشهرتهما في وجهي كمثل حدَّي نصل، هنا اعترتني أقصى لحظات الخجل المحمل بالذنب الذي دفع بي دفعًا إلى الاختباء عَدْوًا إلى قلعة يثرب.

وحين أشرفا على سهول نجد المرية، واصل يونس هزله لأبي زيد منبهرًا من أصالته وعمق مشاعره، وهو الذي لم تقهره أعتى الجيوش المدججة لكن قهرته امرأة، قائلًا: إنه الحب يا خال.

•••

ما إن وقعت عينا السلطان حسن بن سرحان على ابنه الأمير يونس مقبلًا وحده عليه وعلى من معه، حتى هب من فوره لاستقباله متلهفًا سائلًا في حدة: أين الأمير أبو زيد؟

طمأنه يونس من فوره: خالي أبو زيد في الطريق إلى هنا.

وتنفس جميع من في المجلس الصعداء، وأولهم دياب بن غانم وحاكم العراق الخفاجا عامر — أبو ذوابة — والقاضي بدير، وحتى الأمير جابر — والد العالية — اكتسى وجهه بالاطمئنان حين علم بمجيء أبي زيد.

وعلى الفور اختلى السلطان حسن بابنه يونس منسحبًا من مجلسه وقاربه مسلطًا عينيه في حدقتي عيني يونس ثائرًا: اصدقني القول يا يونس، ما الخبر؟ ما الذي دفع بأبي زيد إلى الاختفاء؟

ولما لم ينطق يونس بجواب، قاربه والده أكثر حدة وهو يضع قبضتي يديه حول عنقه: انطق، ماذا حدث؟

هنا داعب يونس والده مطمئنًا مترددًا: خالي أبو زيد فقط يُغير ملابسه للقدوم إلى هنا. مشيرًا إلى الطريق.

شدد السلطان حسن من قبضته حول عنقه: أنا أسألك، انطق، ما الخبر؟

هنا لم يجد يونس بدًّا من الإفصاح همسًا في أذني والده السلطان حسن متحرجًا: الأميرة العالية.

– العالية؟

تراخت قبضتا السلطان متراجعًا مفكرًا مستغربًا وكأنه يسترجع تلك اللحظة الدهر، حين استقبلها مترجلة من هودجها مقدمًا إياها إلى أبي زيد الهلالي.

– هاه، تذكرت.

وبدا السلطان وكما لو كان يخفي ضحكه عن ابنه يونس، إلا أنه غمغم متسائلًا: هكذا الأمر! غرايب! هي أيضًا العالية سألت عن ذلك الماكر المارق والدتك ثلاث مرات، أين الأمير أبو زيد؟ أين أبو زيد؟

وحين استدار السلطان حسن عائدًا إلى ديوانه ومجلسه لحق به يونس مواجهًا: خالي أبو زيد حكى لي خلال الطريق عن صحة ما حدث منه في الهند وسرنديب لشقيقيها الأميرين عقيل وزيد.

وانفلت السلطان حسن مندفعًا وهو يرمق ابنه يونس مطمئنًا: طبعًا أذكر، أعرف.

وكمن قرر أمرًا غمغم مسرًّا ليونس منسحبًا: والخيرة في جمع الشمل.

وتفهم يونس مغزى مقولة والده مندهشًا منشرحًا غير مصدق.

وعلى الفور سُمعت من الخارج ضجة عالية صاحبت دخول أبي زيد منكَّسًا مرتبكًا على غير عاداته وما عُرف عنه، ومن فوره تقدم جاثيًا عند ركبتي الأمير طاعن السن جابر الأقرب إلى أن يصبح ضريرًا، وهب الأمير جابر يمد يده عابثًا في خصلات شعر أبي زيد بعنف ينبئ عن مدى تكتم ما يعتمل في أعماقه من انفعالات عنيفة متضاربة: عمي الأمير جابر، الآن تحقق حلم السنين الطوال في أن تكتحل عيناي برؤيتك ومشاهدة سماحتك.

كل هذا ودياب بن غانم يقاربهما دهشًا من تصرف أبي زيد في تجاهله على هذا النحو وبعد طول افتراق وهما الصديقان القديمان اللذان وثَّقت الأيام والسنون بمحنها وانتصاراتها ما بينهما إلى حد يصعب تجاهله على هذا النحو.

إلا أن أبا زيد تنبه من فوره مستديرًا محتضنًا دياب بن غانم مقبلًا طويلًا: أخي وصديق عمري دياب.

متقدمًا لائمًا والده العزيز الأمير غانم، والخفاجا عامر وزيدان شيخ الشباب والقاضي بدير، والجميع في لهفة حقيقية محملة بكل تعبير الأسف العميق لتغيبه عنهم جميعًا وهم ضيوفه في نجد المرية، لحين دخول السلطان حسن منشرحًا قليلًا معابثًا أبا زيد والجميع: يبدو أن فارسنا أبا زيد يفكر أخيرًا جِدِّيًّا في استكمال نصف دينه.

في ذات اللحظة التي أخذ فيها أبو زيد مكانه ملاصقًا لعمه الأمير جابر منكسًا مضطربًا معانيًا قليلًا في صعوبة لم يعهدها قبلًا قائلًا: عمي الأمير جابر، أطلب مغفرتك مدى العمر!

ولعلها كانت اللحظة، ويمكن القول الحالة الوحيدة التي يشهد فيها جميع من احتواهم ذلك المجلس أبا زيد فارس الهلالية على هذا النحو من الاضطراب والحنو، وفي مثل تلك المناسبة وهو تقبل العزاء في رحيل الأميرة الأم قائدة الهلالية — الشماء — الذي امتد أيامًا طويلة.

ومن جديد ساد صمت عميق في المجلس، امتدت خلاله يد الأمير جابر — والد العالية — وكأنها تبحث عن جدائل شعر أبي زيد لتعمل فيها وكما لو كان أبًا رحيمًا يداعب طفله في حنو، بينما تقاطعت دموع الأمير الشيخ على وجنتيه، وأبو زيد يجففها لائمًا بمنديله متحسسًا بكفتيه جبهته وجفون عينيه المسبلتين الآسيتين.

ودارت أقداح القهوة العربية في ذات الصمت المترقب، الذي قطعه دخول الأمراء الثلاثة يونس ومرعي ويحيى، مقاربين أبا زيد الهلالي سلامة، مسرين في أذنه همسًا برغبة والدتهم الأميرة «نوفلة» — أخت دياب بن غانم — في رؤيته داخل ديوان عزاء الحريم لحظة ويعود بعدها إلى ضيوفه.

وتشددوا في مطلبهم وهم يجذبونه إلى أن انتصب أبو زيد واقفًا مستأذنًا منسحبًا في أقصى اضطرابه واكفهراره، مما دفع بدياب بن غانم إلى تكتم ضحكاته العالية المدوية في صعوبة مداعبًا: غرايب! أبو زيد الهلالي يبدو رقيقًا خجلًا على هذا النحو مثل بقية خلق الله! غرايب!

وضاعف من مداعباته حين اعترضه منسحبًا قائلًا: وأنا، آجي؟ لا أحد يريدني.

وعلت الضحكات المتكتمة مما يحدث: من يُصدق أن هذا بعينه أبو زيد؟ أية حيلة؟!

هنا اندفع أبو زيد داخلًا إلى ديوان الحريم — أو المحصنات — والتقت عيناه من جديد بعيني العالية بنت جابر جالسة في انكماش إلى جانب الأميرة نوفلة، حتى اعتراه من جديد الاضطراب الذي سبق أن دفع به إلى الاختباء، فتوقف متعثرًا منكسًا في عتبة الديوان، إلى أن قاربته نوفلة وهي تسحب إلى الخلف منها العالية شبه دامعة: العالية ابنة عمك الأمير جابر.

وحين لامست قبضته يدها أحس وخزًا كمثل حربة همجية مست بنصلها شغاف قلبه، وغمغم منكسًا: العالية بنت عمي.

أجلسته الأميرة نوفلة، وهو منقاد لها كطفل صغير يسلم قياده إلى أمه مسلوبًا من كل إرادة إلى جوارها، فحط منزويًا من فوره: لحمي.

وكما لو أن العالية بدورها ترصدت بجلاء وتفهم حصيف ما يعانيه فارس الهلالية، فراحت تتأمله من تحت أهدابها خلسة لدرجة أن النساء الهلاليات والعامريات تزاحمن متفجرات بكل دهشة وانبهار، مما تختلسه عيونهن من خلف الشبابيك والمشربيات والستائر المسدلة، خاصة وقد تناولت العالية بنت جابر تفاحة من أطباق الفاكهة والحلوى التي تقدمت بها الجاريات ومضت تقشرها له بسكينها مقدمة في حنو.

فبدى المشهد للهلاليات والعامريات كمثل يوسف مع امرأة عزيز مصر، حين غالبها البكاء أمام صديقاتها من النساء بكت زليخة وقالت:

عشت في الذل لمتوني
في حب يوسف يا بني يعقوب
لمتوني …
ولما جالها البيض في أوان عصر
ومالوا وقالوا لها
فين يا زليخة اللي عليه البيان سكين؟
ما فتحت لهم زليخة الباب
ما خرطت يدهم سكين
قالت لهم
أهو يا مساكين اللي عليه لمتوني.

بدا مشهد «العالية وأبو زيد الهلالي» تحت إضاءات الشموع الخابية، باهرًا من وجهة نظر الفتيات المتلصصات في حذر، وأولهن الجازية التي اعتراها ذبول كمثل غصن يتخلى عنوة عن رحيقه: أبو زيد.

•••

كانت الأميرة «نور بارق» أو «الجازية» تحب من أعماقها أبا زيد منذ أن التقت عيناها به عقب عودته إلى نجد ومضارب الهلالية كفارس في مطلع شبابه المبكر، وهو الذي تربى يتيمًا في منفاه لدى قبائل بني الزحلان على مشارف بقاع بلاد الشام منذ مولده كطفل جاء كعنترة على غير لون آبائه ويُدعى بركات، لحين تحقق انتصاراته وذيوع صيته الذي عم ربوع جزيرة العرب بأسرها عقب غزواته ومنازلاته وملاحمه التي عُرفت عنه.

وكان أكثر ما يلهب حب الجازية لأبي زيد عقب عودته إلى دفء القبيلة ليُنَصَّب فارسها الأول، هو ذكاؤه الخارق وسعة علمه ومعارفه التي لا حد ولا نهاية لمدى عمقها وتشعبها وطاقاتها، وهو الذي ينطق عن جدارة بمعظم إن لم يكن الألسنة واللغات واللهجات المتداولة على ألسن الأعداء قبل الحلفاء.

وكانت الجازية تنصت له وهو يتحدث معلمًا ومحاضرًا، سواء في الفروسية وأصولها أو في طبائع الأقوام والبلدان والأسفار وعادات الشعوب والأمم التي زارها محاربًا وسائحًا ومغامرًا جوَّابًا ومتخفيًا.

كانت تذوب حبًّا وهي تشهد منازلاته وإيماءاته وتفتحاته وتبدياته تحت مختلف جلود البشر؛ ما بين كاهن تطغى لحيته على صدره، أو شاعر جوال وكهل أعمى، وسائس «خيل الأجاويد»، وشحاذ سائل، وحاوٍ يلعب بالبيضة والأرنب، وحكيم جوال عبر النجوع والبوادي يشفي المرضى والمعلولين ويُناصر الضعفاء.

كل هذا وأكثر منه حقق به أبو زيد الانتصار تلو الانتصار للهلالية كما شهدته الجازية على يديها … بل ما تعلمته منه، حيث كان يصب الكلام في أذنيها قائلًا: يا نور يا بنة عمي، أنا صحيح سككي كلها مسالك، لكن المهم هنا هو أقصرها لتحقيق انتصار الهلالية الآن بأسرع من انطباق الجفن على الجفن.

كان ما يبهرها فيه هو فيض معرفته وهو يحادثها عن تاريخ العرب — العاربة — ومآثرهم عن ملوك وتباعنة اليمن، وبحر العرب من مخلفات القدماء من صرواح وطرواح وبقايا الآراميين والثموديين والسبئيين وملكتهم بلقيس بنت الهدهاد، عن بطولات الذباء والزرقاء، وقيم وبطولات النساء العربيات الأمازونيات — المقاتلات.

عن أطلال بعلبك وبوابات صور وقرطاج التي فتحها القائد العربي «هاني بال» أو «هاني بعل» وفتوحاته في جنوب أوروبا وبلاد الغال التي أوصلت الخيول والجمال والأفيال العربية إلى أقصى أصقاع أوروبا.

وكان يصل بالحديث معها عن أسفاره وجولاته في بحار الله المتلاطمة ليصل في نهاية المطاف إلى جزيرة في بلاد القوط، وإلى قطعة سلاح جديدة في نيوقوسيا أو التركستان تحقق بالاستحواذ عليها وعلى أسرار صناعتها النصر للهلالية.

قد تكون غايته حارة في صعيد مصر، أو بلبيس بدلتا مصر، وقد تكون جادة في دمشق ومراكش والأندلس.

كان يحلو للجازية تحضير طعامه عقب المعارك وطرح أسئلتها وإطلاق عنان حديثه العذب الواضح الطلي، وكان في كل مرة ينهي حديثه لها بمقولته الشهيرة: «بلاد العرب للعرب.»

وينشد:

لا يكتم الأسرار غير الأصايل
ولا يكشف الأخبار غير خائن
رديء الأصول من قوم أراذل
أنا أبو زيد من أهل عامر
وأمي شريفة من خيار القبائل.

وكان لا يُقدم وحده أبدًا على تناول طعامه:

يا ست زاد اثنين يكفي ثلاثة
ويكفي أربعة يا ست والكل راجع
ويكفي لخمسة من أجاويد حينا
ويكفي لستة من هلال السمايح.

لكم تمنت وحلمت طويلًا باليوم الذي تصبح فيه زوجة لأبي زيد، ولكنه حلم — هي الجازية — تعرف قبل غيرها مدى وعورته بإزاء متطلبات التحالف ونبذ البغضاء والانقسامات والعداء بين القبائل، التي قاسمها هنا هو الزواج السياسي وصلات رحم الدم في السلم قبل الحرب.

•••

فتحت الجازية عينها كمن انتُزعت كالمشدودة من سباتها ذلك الطليِّ، لتشهد أبا زيد إلى جوار العالية بنت جابر قاتل شقيقيها وهي — أي العالية — تطعمه من بين أناملها في سماحة.

– يا لله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤