مقَدّمـة

بقلم  نسيب عريضة
 نيويورك في ٢٤ نيسان «أبريل» سنة ١٩١٤

قد انتقل جبران خليل جبران في الأعوام العشرة الأخيرة من ربيع الحياة إلى صيفها، فنمت أمياله ونضجت أفكاره، وتدرَّجت روحه من عالم الخيال الشعري إلى عالم أسمى وأوسع يتعانق فيه الخيال المطلق والحقيقة المجردة، وتلتقي في جنباته أشباح العواطف الدقيقة بجبابرة المبادئ الأساسية الصحيحة.

جبران اليوم ليس بجبران الأمس، فالشباب الحساس الذي كتب «دمعة وابتسامة» بقلم مُحَبَّرٍ بالدمع قد تحوَّل إلى رجل قوي يكتب برءوس الحراب المغموسة بالدماء، والفرق بين مقالة «جمال الموت» وحكاية «حفار القبور» هو الفرق بين جبران الأمس وجبران اليوم، فالنفس اللطيفة التي كانت ترتعش لهبوب نسيمات السحر قد تشدَّدت اليوم بالعزم فلم تعد تهتز إلا للعواصف، فالعواصف هي من حاضر جبران بمقام النسيم من ماضيه.

ولكن لو تَمَعَّنَّا مليًّا بمجموع كتابات جبران وتآليفه، وعلاقتها بالنهضة الأدبية الحديثة؛ لوجدنا أن «لدمعة وابتسامة» مقالًا خاصًّا بها لأنها كانت أول نغمة من نوعها في العالم العربي، فقد خالفت بما فيها من التراكيب ودقة البيان كل ما جاء قبلها من الكتابات؛ لأنها أتت كتوطئة لحركة عربية جديدة يشعر بها ويتأثر لها الطالب في مدرسته والمتأدب في مكتبته والصحافي في إدارته.

عندما ظهرت «دمعة وابتسامة» كان الكتَّاب والشعراء في مصر وسوريا والمهجر يملأون الصحف والمجلات بمقالات ورسائل وقصائد عقيمة بليدة خالية من الشعور بعيدة عن القلب، وكان أكثر الناس يحسبون كل من وزن الكلام شاعرًا وكل من رتَّب الفقرات كاتبًا، ولكن لما ابتدأ جبران بنشر «دمعة وابتسامة» غيَّر الناس أفكارهم وعلموا للمرة الأولي أن الشاعر الحقيقي هو الذي يضرب بأصابعه السحرية على أوتار قلوبهم، ويعيد على مسامعهم في اليقظة ما تسمعه أرواحهم في المنام، ومن ذلك الحين ابتدأ فتيان الكتاب والشعراء بتقليد «دمعة وابتسامة» والنسج على منوالها، فلم يمر عامان أو ثلاثة على ظهورها حتى كان لجبران تلاميذ وأتباع منتشرون في كل مكان من العالم العربي.

عندما طلبنا إلى جبران جمع «دمعة وابتسامة» ونشرها في كتاب، أجابنا ببيت من أحد موشحاته قائلًا:

ذاك عهد من حياتي قد مضي
بين تشبيب وشكوى ونواح

فقلنا له «ذاك عهد من حياتك قد مضى، ولكنه لم يزل حاضرًا في حياة محبيك ومريديك».

فأجابنا «إن الشاب الذي كتب قد ترنَّم بأغنية علوية قبل أن يموت».

قلنا له: «وعلينا أن نحفظ تلك الأغنية كي لا تتلاعب بها أيدي الضياع».

فأجابنا «افعلوا ما شئتم، ولكن لا تنسوا أن روح ذلك الشاب قد تقمصت في جسد رجل يحب العزم والقوة مَحَبَّتَهُ للظرف والجمال، ويميل إلى الهدم ميله إلى البناء، فهو صديق الناس وعدوهم في وقت واحد».

فقلنا له «سوف لا ننسى وإن حاولنا التناسي ففي «حفار القبور» ما ينبهنا ويذكرنا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤