مقدمة

بقلم  نيل ستيفنسون

عندما كنتُ صبيًّا صغيرًا يترعرع بمدينة إيمز بولاية آيوا، اشتركتُ في فريق الكشَّافة للأولاد، وقد أعدَّ لنا فريق الإشراف — الذي كان يتكوَّن في معظمه من أساتذةٍ في جامعة ولاية آيوا للعلوم والتكنولوجيا — المشروع التالي الذي من المُفترض أن نُنفذه عندما نفرُغ من لعب كرة المراوغة وعمَل العُقَد. أحضر أحدُ مُشرفي فريق الكشافة — وكان أستاذًا بارزًا في مجال الهندسة الزراعية — من مختبرٍ في قسمه بالجامعة، كيسًا يحتوي على حبات ذُرة مُتماثلة وراثيًّا، وكان يحمله في أرجاء الحرم الجامعي، وأعطاها لمُشرفٍ آخر من مشرفي الفريق، وكان فيزيائيًّا يعمل بمُختبر إيمز. كان هذا جزءًا من مشروع مانهاتن. واليورانيوم الذي جرى تخصيبه في مدينة أوك ريدج، واستُخدم في صُنع أول قنبلة ذرية، كان قد جرى استخلاصه من مادته الخام بطريقةٍ استُحدِثت في إيمز. حمل المُشرف الثاني — الذي كان حاضرًا في بداية تشغيل المفاعل الذري الأول في العالَم في ملعب كرة الراح بجامعة شيكاغو — البذورَ إلى غرفة احتواء إشعاع نووي بما يُوازي طابقَين أسفل إحدى بنايات مُختبر إيمز، وسلَّمها إلى ذراعٍ آلية حملَتها خلف حائطٍ سميك من الزجاج المائل إلى الصُّفرة المُطعَّم بالرَّصاص، ووضعتها بالقُرب من شيءٍ ما نشِطٍ إشعاعيًّا. بعد مرور فترة مُحددة من الزمن، استرجع البذور المُشعَّة وأحضرها إلى الاجتماع التالي لفريق الكشافة ووزَّعها على الصِّبية. أتذكر بوضوح أنني نظرتُ إلى هذه الحبوب في راحة يدي، ولاحظتُ أنها غُسِلت بطِلاءٍ أو حبرٍ بلونَين أو ثلاثة ألوان مختلفة، ومع أنَّ شفرة الألوان لم تُشرَح لنا (على الأقل قبل انتهاء المدى الزمني لانتباهي)، فقد لاحظتُ جوهر الطريقة العِلمية وتوقَّعت أن هذه المجموعات المختلفة قد تعرَّضَت لكمياتٍ متفاوتة من الإشعاع قلَّت أو كثُرت. على أية حال، طُلب منَّا أخذُ هذه البذور إلى المنزل وزراعتُها وريُّها؛ على أن نُحضر النتائج بعد بضعة أسابيع إلى اجتماعٍ ستُمنَح فيه جائزتان: واحدة لأطولِ وأصحِّ نبتة ذرة، والأخرى لأغرب طفرة. وبالتأكيد حصلْنا على كلتَيهما: سِيقان طويلة من شأنها أن تجعل أي فلَّاح في آيوا فخورًا، ونباتات جميلة جدًّا، في أحيانٍ كثيرة، نادرًا ما أمكن التعرُّفُ عليها باعتبارها تنتمي إلى الشُّعبة التصنيفية المُناسبة. لو كان شخصًا ما سألَنا: «هل تتخيَّلون أنَّ فِرق الكشافة في المدن الأخرى يفعلون أيَّ شيءٍ مماثل لذلك؟» لخمَّنَّا بعد تفكيرٍ عميق قائلين «لا.» ولكن أحدًا لم يسأل، ومن ثَمَّ استوعبَتْ عقولنا الصغيرة ما حدث على أنه شيء عادي، مثل لعبة التقاط الأشياء أو صنع حلوى «السمورز».

بعبارة أخرى، أودُّ أن ألفتَ انتباه القارئ إلى ظاهرة المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي التي أفخر بأن عاش فيها أيضًا ديفيد فوستر والاس الذي أرفع له القُبعة تقديرًا لأسلوبه الرائع. في عام ١٩٦٠ عندما كان عمري ستة أشهر، انتقلتُ برفقة والدَيَّ إلى ضاحية أكبرَ بعض الشيء من المُعتاد، بها مدينة جامعية نموذجية وهي ضاحية تشامبين — أوربانا بولاية إلينوي؛ حتى يتسنَّى لأبي متابعةُ دراسته لنَيل درجة الدكتوراه. وبعد عامَين عندما بلغ عمر ديفيد فوستر والاس ستة أشهر، انتقلَتْ عائلته أيضًا إلى المدينة الجامعية نفسِها للغاية ذاتِها (كان والده فيلسوفًا ووالدي مُهندسَ كهرباء). عشنا أنا وفوستر في المدينة الجامعية ذاتها حتى عام ١٩٦٦ فقط، عندما انتقلت عائلتي إلى المدينة الجامعية الكائنة في ضاحية إيمز، وهي مدينة على الرغم من كونها أصغرَ مساحة، لم تكن أقلَّ تميُّزًا. لم أُقابله قطُّ إلا عندما حدث وتقاسمْنا أرجوحةً أو زلَّاجة في حديقةٍ ما في تشامبين — أوربانا، كلٌّ منَّا ذهب إلى ماساشوسيتس للالتحاق بالتعليم العالي، واستقرَّ لفترةٍ في مدينة جامعية مختلفة: كنت أنا في مدينة آيوا، بينما ديفيد فوستر والاس في بلومينجتون نورمل بولاية إلينوي.

لعلَّ قصة الذُّرَة المُشعة قد أوضحت كلَّ ما من المفترض أن يُقال عن ثقافة المدن الجامعية بالغرب الأوسط الأمريكي، لكن بما أن ديفيد فوستر والاس وأنا يبدو أنَّنا كنَّا نتاجَ هذه الثقافة بكلِّ ما فيها، فثَمة بعضُ النقاط المُحدَّدة التي قد يكون من المُفيد تسليطُ الضوء عليها بمزيدٍ من التفصيل، وهي كالتالي.

•••

الأشخاص كثيرو التَّرحال بين الساحل الشرقي والساحل الغربي للولايات المتحدة سيكونون على دراية بهذه المنطقة المُمتدَّة من أوهايو حتى بلات تقريبًا. تُغطي هذه المنطقة، باستثناء الأجزاء الوعرة غير المُسطحة منها، شبكةٌ كارتيزية من الطرُق. وربما لا يعلم هؤلاء الأشخاصُ أنَّ المسافة بين الطرُق هي ميل واحد بالضبط. وما لم يكن لديهم اهتمامٌ جادٌّ بخرائط الغرب الأوسط الأمريكي في القرن التاسع عشر، فمن غير المُحتمل أن يكونوا على درايةٍ بحقيقة أنه عند تصميم هذه الشبكة من الطرُق، وُضِع مخطط لإنشاء مدرسة عند كل تقاطُعَين. وبهذه الطريقة، ضَمِن المُصمِّمون أنه لن يبعُد أي طفل قطُّ في الغرب الأوسط الأمريكي عن مكان تعليمه بمسافةٍ تَزيد عن ميلَين. أما المدارس الثانوية، فكانت موزَّعةً بِناءً على مُخططٍ آخر أقلَّ صرامة، والجامعات كانت موزَّعة بصفةٍ عامة بمعدل جامعتَين في كل ولاية. وبناءً على اتفاقية أدَّت إلى اتِّساقٍ جيد بين جميع الولايات الواقعة غرب أوهايو، فإنَّ أي ولاية من تلك الولايات، ولنُطلِق عليها اسم X، خُصِّص لها «جامعة X» و«جامعة ولاية X». بالنسبة إلى «جامعة X»، فقد كانت جامعة، مُقارنةً بالكلية، منذ تأسيسها وهي تضمُّ بوجهٍ عام جميعَ أقسام الآداب والعلوم المرموقة وكلية الحقوق وكلية الطب. أما بالنسبة إلى «جامعة ولاية X»، فإنها كثيرًا ما كانت تبدأ تحت اسم «كلية ولاية X»، واكتسبت الصفة المرموقة «جامعة» خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وكثيرًا ما كانت بمثابة مؤسَّسة تُمنح الأراضيَ وتتَّسم بالتفكير العمَلي والمَيل نحو أقسام الزراعة والطب البيطري والهندسة بينما تُظهِر احترامًا جيدًا للعلوم الإنسانية.
كانت الكليات العادية، التي تأتي في المرتبة الثالثة من التصنيف الأكاديمي، تلي المدارسَ الثانوية، وكان الهدف منها تدريبَ المُعلمين الذين سوف يُشكِّلون هيئة التدريس لتلك المدارس التي تفصِل كلًّا منها عن الأخرى مسافةُ ميلَين على الشبكة الكارتيزية للطرق. وتسبَّب أخيرًا الضغط المُتزايد، الذي أدَّى إلى تحويل كلية ولاية X إلى جامعة ولاية X، في ترقِيَتها إلى «جامعة [المُحدِّد الجغرافي] X» أو «[المُحدِّد الجغرافي] جامعة X» وبهذه الطريقة وصَلنا إلى اسم جامعة شمال آيوا وجامعة شرق إلينوي وغير ذلك.

النتيجة هي شبكة من الجامعات الحكومية التي أُقيمت عادةً في مدنٍ صغيرة (يتراوح عدد سكانها بين عشرين ألفًا ومائتَي ألفِ نسمة)، وتناثرتْ في أنحاء الجزء العلوي من الغرب الأوسط الأمريكي على مسافاتٍ فاصلة تحتاج تقريبًا خزَّانًا واحدًا من الوقود. وعلى وجه التحديد، بسبب قُرب تلك الجامعات (إذ تقع في قلب المناطق السكَّانية التي تخدمها) وعدم علوِّ رُتبتها في التصنيف الأكاديمي، وواقعية محاور اهتماماتها العملية، وفِرَقها الرياضية التي تُسرِّي عن المناطق المُحيطة ذات الكثافات السكَّانية الضعيفة؛ بحيث لا يتأتَّى لها دعم الفِرَق الاحترافية، تلافَتْ هذه المؤسَّسات وصمة النخبوية أو البُرج العاجيِّ التي غالبًا ما تُوصَم بها — سواءٌ بطريقةٍ مُستحَقة أم لا — جامعاتٌ ساحلية خاصة على ألسِنة عناصرَ من المجتمع الذين حينما يُصوَّرون سينمائيًّا، يُصوَّرون على أنهم غوغائيون ناقِمون. هذا من الممكن أن يكون قد تغيَّر خلال القرن الواحد والعشرين بسبب تسييس العِلم، لكن لا شيء من ذلك كان موجودًا في المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي في الفترة من مُنتصف القرن العشرين إلى أواخر القرن ذاتِه، عندما كانت مواقفُ مُعظم الناس من العِلم قد أثَّرت فيها المضادَّات الحيوية وتطعيمات مرض شلل الأطفال والصواريخ المُرسَلة إلى القمر أكثرَ من التناقُضات الحاليَّة حول ما يستحيل حدوثُه فيما يتعلَّق بالتطوُّر والاحتِرار العالمي.

بناءً على مقاييسَ عدديةٍ للانتقائية والمكانة الأكاديمية إلى آخره — صدِّقْني، تلك هي فعلًا نوعية المعايير التي يستخدمها هؤلاء الأشخاص للتحكُّم في كل شيء — هذه الكليات أصبحَت في مكانةٍ ما أدنى من الكليات الخاصة القديمة المرموقة الواقعة على السواحل (ليس لأن الناس هناك أكثر غباءً، ولكن لأنَّ جزءًا من رسالتها يتمثَّل في جذب المواهب الأكاديمية على اختلافها، في حين تشغل الكليات الساحلية مُستوًى مُحددًا تمامًا). وقد أثقل هذا كاهلَهم، بالإضافة إلى ما يتَّصف به سكانُ الجزء العلوي من الغرب الأوسط الأمريكي من العِناد وقلَّة تقدير الذات، ناهيك عن العُدوانية السلبية، وأصبح لديهم نوعٌ من الميل المُخجِل إلى وصف أنفسهم بأنهم «هارفرد الغرب الأوسط» وما شابَهَ ذلك. لكن عند النظر بإمعانٍ وبدون التوغُّل أكثرَ في شأن سياسة الساحل مُقابلَ سياسة الغرب الأوسط الأمريكي، فإنَّ إنجازاتِ جامعات الولايات كانت أكثر تميُّزًا، وبالتأكيد أكثر تفردًا، في أنَّ المرء لن يتوقَّع بالضرورة لجامعاتٍ حكومية جديدة أن تكون قادرةً على تحقيق إنجازاتٍ مرموقة كهذه في ظلِّ منافسةٍ مع كلياتٍ خاصة أقدمَ بكثيرٍ لا تفعل شيئًا سوى تكديسِ إمكاناتها (ثروتها) قرنًا بعد قرن، وتعليمِ أبناء العائلات الكبيرة ذَوي المهارات الممتازة الذين تلقَّوا إعدادًا على أفضلِ نحو.

إنني أصف هنا موقفًا كان قائمًا خلالَ النصف الثاني من القرن العشرين. ربما يكون الوضع قد اختلف الآن، لكن في تلك الأيام، انتقل طلاب الدراسات العُليا وأعضاء هيئة التدريس من مدينةٍ جامعية في الغرب الأوسط الأمريكي لأخرى على نحوٍ مُشابه لتنقُّل العرَب عبر التضاريس الوعرة، وجميع المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي مُتماثلة في هذا الشأن مهما اختلفَت. وما اختلف فقط هو ألوان المدرسة والتمائم.

العُزلة الجغرافية هي أساس ثقافة المدن الجامعية في الغرب الأوسط. إذا كان لديك وظيفةٌ أكاديمية — مثلًا — في بوسطن الكبرى، فإنك تقضي يوم عملك في ثقافةٍ مُماثلة لثقافة المدن الجامعية في الغرب الأوسط، لكن عندما تعود إلى منزلك في سوجِس أو شقتك في أُلستون — برايتون، فأنت في مكانٍ سوف تستمتِع فيه على الأقل نظريًّا بمكانةٍ رفيعة بفضل درجتك العلمية ووظيفتك المَرموقتَين حتى إذا كنتَ لا تتقاضى فيه راتبًا أكبرَ من رواتب المُحيطين بك. وبعض الأشخاص سوف يُعاملونك بدرجةٍ من التوقير، حتى أولئك الذين يُذكِّرونك بأنك شخص غريب في المنظومة الأشمل. لكن إذا كنتَ في مدينة جامعية في الغرب الأوسط الأمريكي، فلن تُمنَح أي نوع من الخصوصية والتفرُّد.

ولا تنسَ أنَّ هؤلاء هم الأساتذة أنفسُهم الذين أتحدَّث عنهم. أطفال الأساتذة الذين يَكبرون في مجتمع يكون فيه جميعُ آباء الأطفال الآخرين من حمَلة الدكتوراه، ليس لديهم من الأساس شعورٌ بالانتماء إلى فصيلٍ يتَّسم بالخصوصية أو حتى بالاختلاف.

كان هناك تفاصيلُ مُعيَّنة أخرى لمدن الغرب الأوسط الجامعية التي قد تجد مكانها في مُعالجاتٍ أكثرَ استفاضة لهذا الموضوع، مثل تعامُل الناس مع أبناء جامِعي القُمامة وبنات المزارعين كتعامُلهم مع غيرهم؛ ما داموا أذكياء، والكيفية التي يُفاجَأ بها الطلاب — دون أن يُسعدهم ذلك دومًا — الذين ينتمون إلى أماكنَ كان يُنظَر إليها في تلك الأيام باعتبارها غريبة ونائية للغاية (تايلاند وأفغانستان ونيجيريا) عندما يرَون أبناءهم قد انخرطوا انخراطًا كاملًا في مجتمع الغرب الأوسط الصغير، ويذهبون بها إلى حفلات البيرة ويتردَّدون على منازل أصدقائهم كما لو كان أجدادهم قد قدِموا على متن السفينة «ماي فلاور» التي أقلَّت الروَّاد الأوائل إلى أمريكا.

الافتراض الذي يستند إليه استخدامُ هذا التمهيد، الذي سنُوضحه وندعمه بالأدلة بعد قليلٍ هو أن ديفيد فوستر والاس في كتابه «كل شيء وأكثر» يتحدَّث بلُغةٍ استقصائية ويستخدم أسلوبًا استقصائيًّا من شأنهما أن يجعلا الأشخاص الذين لم يتنفَّسوا هواء إيمز وبلومينجتون — نورمال وتشامبين — أوربانا يشعرون بأن هذه الأماكن ليست مألوفةً بالنسبة إليهم، ومِن ثمَّ يحتاجون إلى تفسيرٍ من نوعٍ ما. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه نظرًا إلى الافتقار إلى هذه الخلفية، يقع الكثيرون من نُقَّاد ديفيد فوستر والاس في هذا النمَط الشائع من الأخطاء، الذي يتضمَّن محاولة تفسير أسلوبه ومنهجيته بعزو مواقفَ أو دوافعَ مُعيَّنة إليه، ثم يُصابون بحالة من الارتباك أو الغضب أو الشعور المباشر بالإساءة حيالَ تلك المواقف والدوافع. إنه خطأٌ يُؤدي إلى إرباك قاطِني المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي الذين يرَون هذا الكتاب ببساطةٍ على حاله: مؤلَّف جديد من المؤلَّفات الذكية التي تُحاول تفسير مادةٍ ما مُثيرة للاهتمام.

•••

إنَّ الحقيقة المؤسِفة أنني لم ألتقِ قطُّ بالسيد والاس (باستثناء مُقابلاتٍ غير مُرتَّب لها حدثت بالمُصادفة في ملعب المدرسة) ليست بالضرورة شيئًا يَحول بيني وبين تأليف مُقدمةٍ لهذا الكتاب. ولهذا السبب، فإن كل ما أنا بحاجةٍ إليه هو شيء من المعرفة بالعمل الذي أكتب مُقدمة له. ولكن بما أن أيَّ شخصٍ يُمكنه قراءة الكتاب الذي بين أيدينا، فإن هذا لا يُمكن أن يكون مؤهلًا فريدًا أو حتى غير عادي لكتابة المُقدمة؛ ولذا فإن استراتيجيتي هنا هي إرساء نقاطٍ مُعينة تتعلق بديفيد فوستر والاس وعملِه هذا، استنادًا إلى مَنشئنا المُشترك وحدَه، وهو المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي، وهذه النقاط مجرد تخميناتٍ جامحة أنا على يقينٍ تام بأنها صحيحة. يُمكن التعبير عن هذا بإسهابٍ كبير، لكن بما أن هذه مجرد مُقدمة إلى الكتاب الفعلي («كُتيب» ديفيد فوستر والاس)، فإنني أُخاطر بالإفصاح عن فكرتي الأساسية مباشرةً وأُخبرك بأن الأمر كلَّه يتعلق بإنكارٍ مِثالي يغلب عليه طابعُ المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي، أو على الأقل بِتخلٍّ عن موقفٍ مُعين من المعرفة التي نُقِلت في قصة بروميثيوس على الطريقة الإغريقية، وفي قصة حوَّاء ضِمن التراث اليهودي المسيحي.

في هذا الصدد، في نسخةٍ ظنيَّة من هذه المُقدمة كانت أكثرَ تفخيمًا وتقليدية، أُعيد حَكْي هاتَين الأسطورتَين وتسليط الضوء عليهما. وبما أن الأمور على هذا المنوال، فإنني أُشجِّع القرَّاء الذين لا يعلمون الكثير عن هاتَين الأسطورتَين أن يستعينوا بمُحرك البحث جوجل قبل متابعة القراءة. إنهما أسطورتان مُرعبتان تحذيريَّتان لهما مَغزًى؛ إذ تهدفان إلى منعِ مَن هم أدنى مكانةً من طرح أسئلةٍ صعبة تتعلق بمَن يَعلُونهم في المكانة الاجتماعية. بادئَ بدءٍ، من الخطأ أن نقول إنهما استمرَّتا بما يفوق العمر الافتراضي للاستفادة منهما؛ لأنهما لم يُحقِّقا نفعًا قط. لكننا أُشرِبناهما في مرحلةٍ ما، ويُمكن الاستشهاد بهما في الخطاب من أجل إثارة استجاباتٍ مُعينة يُمكن التنبُّؤ بها. وهذا يُحقق نفعًا لِمَن اكتسبوا الكثير من المعرفة. قد تختلف معي لأن أسطورة بروميثيوس لها تأثير واضح على الحياة الأكاديمية. لكنَّ الشيء الذي يحتاج إلى توضيحٍ أن تلك الأسطورة تمنح العُلماء مُبررًا لارتداء عباءة الكهنة، وعن طريق التلميح إلى المواقف التي ربما تفتقر كثيرًا إلى السلوك الكهنوتي لدى نُظرائهم في بلدان أخرى، يُمكنهم أن يتفادَوا الكثير من الآراء المُناهضة لآرائهم. كما أنها تُعطي الأشخاص الآخرين من غير العلماء ذريعةً ضِمنية يُمكنهم أن يُشهِروها في أوجه العلماء. وبِناءً عليه، فقد توصَّل العلماء وغيرُ العلماء إلى اتفاقٍ يقضي بقَبول كِلا الفريقَين بكون أسطورة بروميثيوس نموذجًا للواقع يُمكن قَبوله. يُمكنك أن تصِف هذا بإجماع بروميثيوس. وهذا الإجماع شيءٌ لن يعترف أحدٌ أبدًا بأنه يؤمِن به، إذا طلبتَ منهم توضيح رؤيتهم أو حاولتَ إشراكهم في هذا المستوى من الاستبطان، لكنه يجري التشديد عليه وترسيخه بوجهٍ عام في كلِّ فيلمٍ سينمائي أو عرضٍ تليفزيوني عن العِلم كما تُؤكد عليه الكثير من الكتب، وعلاوةً على ذلك، فإنه من البديهي أن يكون أساسًا تستند عليه المواقف العامة التي مِن المُتوقَّع أن يتبنَّاها العلماء.

وبمجرد قَبولك لإجماع بروميثيوس، لا يُصبح أمامك سبيلٌ سوى أن تتَّخذ أحدَ موقفَين لا ثالث لهما: إما أن تحترم قواعده وإما أن تُخالفها عامدًا مُتعمدًا. فإما أن تكون كاهنًا أو إنسانًا سيئًا؛ كاهنًا لأنك إذا كنتَ أحد حرَّاس الشعلة الأكاديمية وكنتَ على استعدادٍ لأن تقبل أن يكون لجزءٍ من معرفتك تداعياتٌ خطيرة، فيُمكنك أن تحظى بالكثير من المنفعة بفضل الاختيار الصائب للاقتباسات الرنَّانة والمهيبة، وإنسانًا سيئًا لأنَّ مثالب أسطورة بروميثيوس قد تلاشت في الأساس. فلم يَعُد أحد يُطرَد من جنةِ عَدْن أو يُعقَل بسلسلةٍ في صخرةٍ لتنهش كبدَه العُقبانُ. صحيحٌ أن علماء العصر الحديث لا بدَّ أن ينالوا نصيبهم من النقد، ولكن، باستثناء الأشخاص القائمين على إدارة مدارس الفتيات في أفغانستان، أو باحث الطب الحيوي الذي اشتبك في صراعٍ مع نشطاء حقوق الحيوان، لم يعودوا مُضطرِّين إلى تفادي سهام النقد. ولذا إذا كنتَ أحدَ أولئك الناس الذين لديهم بالفعل إمكانيةُ الوصول إلى معرفةٍ بمستوى بروميثيوس، فالأمر لم يعُد ينطوي على الكثير من المخاطرة الشخصية، وبقدْر ما يُنظَر إلى المعرفة باعتبارها خطيرة، يُمكن أن تبدوَ مُثيرة نوعًا ما من منظور عابث، تمامًا كما لو كنتَ مراهقًا قد اكتشف لتوِّه أين يُخبِّئ أبوه مفاتيح الخِزانة التي يحتفظ فيها ببندقيته.

لم تكن الحال كذلك، على ما يبدو، مع بذور الذُّرة المُشعَّة. فمن الواضح أن إعطاء هذا النوع من المادة للأطفال ليس سلوكًا كهنوتيًّا. لكن عندما أُعطوا هذه المادة في اجتماع كشَّافة أو عندما تعرَّضوا للمعرفة المُقدَّسة بطرُقٍ أخرى لا حصر لها في المدن الجامعية بالغرب الأوسط الأمريكي، لم يحدُث أن قُوبِل هذا قطُّ بموقفٍ عقلي من قَبيل «لقد أفلَتنا من العقاب على شيءٍ ما؛ ألسْنا أشقياء؟» وإنما قُوبِل بموقفٍ عقلي آخر مفاده «لدَيْنا معرفةٌ ما مُثيرة للاهتمام وربما تكون مفيدةً بحيث يحتاج إليها أيُّ شابٍّ أُحسِنَت تربيتُه وتعليمه.»

إذن لم يكن لإجماع بروميثيوس حضورٌ طاغٍ في المدن الجامعية بالغرب الأوسط الأمريكي. فبعد أن انتقلتُ إلى المدن الجامعية الساحلية، ارتكبتُ مجموعةً من السقطات الاجتماعية التي عجزتُ فيها عن مخاطبة أحد الحاصلين على درجة الدكتوراه أو تقديمه باستخدام لقَبه الصحيح. فببساطة لم نفعل هذا قطُّ حيثما نشأتُ لأن هذا كان من شأنه أن يُضفِيَ علينا التأثير الكوميدي الواهي لشخصياتٍ مسرحية «ذا كروسيبل» عند مخاطبتهم بعضهم بعضًا بألقابٍ مثل «ربُّ البيت» و«ربَّة البيت» (في بلدتنا، كان هناك رجل حاصل على درجة الدكتوراه ولا يعمل في المجال الأكاديمي وكان يُصرُّ على أن يُنادى بهذا اللقب. ألطفُ وصفٍ يُمكن أن يُوصَف به رأي الناس فيه أنه «مشوَّش»).

في الفِقرة السابقة، استخدمتُ طريقًا مُختصرًا مجازيًّا فظًّا بعض الشيء من خلال السخرية من أشخاص لديهم نوعٌ من الهوَس بألقابهم الأكاديمية، والأرجح أنَّ القرَّاء المُنتمين إلى أوساط أكاديمية — خلافًا للمدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي — سيغضبون ويشعرون كما لو كانوا قد أُسيئَت معاملتهم بسبب زعمٍ واهٍ يطرحه رجلٌ يُهاجَم لكنه غير قادر على الصمود؛ لذا دعوني أوضح على نحوٍ مباشر أن الأمر أعقدُ بكثيرٍ مما يبدو عليه، وأن أساتذة جامعات هارفرد وكامبريدج وبولونيا وبيركلي يُخاطِب بعضهم بعضًا بأسمائهم الأولى طوال الوقت.

بَيْد أنني أُحاول صراحةً أن ألفت انتباه القارئ إلى حقيقةٍ مفادها أنه حتى بين الأكاديميين الذين يركبون الدرَّاجات ذهابًا إلى العمل ويرتدون القمصان القصيرة الأكمامِ والجينز الأزرق، ويتحاشَون استخدام الألقاب الرسمية، تُوجَد بينهم ضوابطُ وقيود وقواعد وخطوط فاصلة واضحة، وتدرُّجات هَرمية ينبغي أن تُحترَم، وأن الأشخاص الذين يُخالفون ذلك يُمكن أن يُعرِّضوا أنفسَهم لعقوبةٍ شديدة مُبالَغ فيها. وهنا، أشعر بأنني أقف على أرضيةٍ أكثرَ رسوخًا؛ لأنَّ كل من قضى وقتًا على أي درجةٍ من درجات السُّلَّم الأكاديمي واجهَ على الأرجح موقفًا واحدًا على الأقل لا يُحسَد عليه خالفَ فيه تلك القيودَ وانتُقِد انتقادًا لاذعًا في اجتماعٍ لأعضاء هيئة التدريس أو في رسالةٍ ضِمن بريد القُرَّاء أو عبر البريد الإلكتروني. أقول لكم إنه بمقدور قاطِني المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي أن ينشَئوا دون إدراكٍ واعٍ لهذه القواعد، تمامًا مثلما أنَّ مجتمع الإيلوي لم يفطن أبدًا إلى حقيقة أنه كان طعامًا لمجتمع المورلوك. وكما حاولتُ أن أُوضِّح من خلال مثال الذُّرة المُشعة، تُولِّد المدن الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي حالةً من عدم الاكتراث المُناهِض لبروميثيوس وهو ما يُغضِب بعض الناس. وهذه الحالة تغلغلت في كل فقرةٍ من فقرات هذا الكتاب.

•••

ثَمة توقعٌ منطقي بما فيه الكفاية أن أيَّ شخصٍ يُغامر بالكتابة عن الرياضيات ينبغي أن يُقدِّم إسهامًا إيجابيًّا من نوعٍ ما أو يصمت. ثمة استثناءاتٌ لمقالات رأيٍ تصدُر من آنٍ لآخر، وتُلخِّص نتائجَ أخرى دون تقديم مادةٍ جديدة في حدِّ ذاتها، لكن حتى مقالة الرأي ينبغي أن تُكتَب وَفق معاييرَ صارمةٍ بما يكفي بحيث إنَّ أي طالبٍ جادٍّ في المجال مَوضعِ البحث، ولنقُل طالب الدكتوراه، يُمكن أن يقبل الأمر على ظاهره ولا يعرِف قطُّ أن هناك احتماليةً لأن يكون قد جرى تلميعه أو إعادة ترتيبه أو إفساده تمامًا، وهو ما ينطوي على شيءٍ من الخطورة. ولذا، إذا كان المرء يتصرَّف وفق قواعد النشر الأكاديمي، فإن تأليف كتابٍ جادٍّ ومُهم من الناحية الفكرية عن الرياضيات يتضمَّن شيئًا من إعادة الترتيب أو الصقل، كما فعل ديفيد فوستر والاس في كتابه هذا، لا يُنظَر إليه باستحسان.

ثَمَّة ممارسة أخرى تجعل الأكاديميين المُتفرغين يستشيطون غضبًا على ما يبدو، وهي عبور الحواجز بين فروع المعرفة الشديدة التخصُّص (أو، في حالة التاريخ، المناطق الجغرافية أو الحقَب الزمنية) من أجل كتابة مقالاتٍ تجمَع بين عددٍ من الخيوط، وتُبرز الموضوعات المشتركة بينها. ومن الأفضل أن تُترَك الأسباب الفعلية وراء هذا الحظر لعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس، لكنني أستنتج أن هذه النوعية من الأمور يُنظَر إليها باعتبارها امتيازًا يُكتسَب فقط مع السنِّ وعند التقاعُد مع الاحتفاظ بدرجةٍ شَرَفية، وأن تأليف أي مادةٍ كهذه قبل سنِّ الستين يجعل المرء يُصنَّف على أنه مُدَّعٍ، وهو ما يعني، في الأوساط الأكاديمية، الإعداد لتدابيرَ عقابيةٍ تبلُغ درجةً من الشدة لم يُسمَع عنها سوى في الأساطير الإغريقية.

إذن قواعد طريق النشر الأكاديمي صارمة وتُطبَّق بقسوة. وهذا يفرض بعض القيود الضيقة والصعبة على الموضوعات التي يُمكن أن يكتُب عنها الأذكياء من الناس دون أن يتعرَّضوا للعقاب، وأمرٌ على درجةٍ من الصرامة تكفي لأن يبحث البعض عن سُبلٍ للتحايل على القواعد. وأبرز تلك السبل الخيال العِلمي على ما يبدو؛ فرِوائيُّو الخيال العلمي يزعمون أن لهم الحقَّ فيما يكتبون، وجرى العُرف على تمكينهم من ذلك، وهو نوع من الحصانة كتلك التي كانت تُمنَح لمُهرِّجي البلاط الملكي في العصور الوسطى. في حقيقة الأمر، ثمَّة عددٌ كبير من أساتذة العلوم الطبيعية الذين انتهجوا نهج المُهرِّج، والتقطوا القلَم وكتبوا أعمالًا حقَّقت نجاحًا بدرجةٍ أو بأخرى عن الخيال العلمي في مجال العلوم الطبيعية؛ وذلك كطريقةٍ لتفادي هذَين القيدَين البَشِعَين اللذَين يعوقان التبسيط والترويج والجمع الشامل بين خيوط متنوعة.

كذلك يُسمَح للأكاديميين الجادين أن يُؤلِّفوا كُتبًا تستهدف بوضوح عموم القرَّاء، بالرغم من أن هذا قد يُنظَر إليه باعتباره سلوكًا من سلوكيات المُدَّعين إذا انخرط فيه الأكاديمي في وقتٍ مُبكر أكثرَ من اللازم من حياته المهنية.

ومن ثمَّ فإنه بوصولنا إلى تلك المرحلة، لدَينا قائمتان من الكتب التي تتناول العِلم الحقيقي للقرَّاء غير المُتخصصين: روايات الخيال العلمي في مجال العلوم الطبيعية، والكتاب الترويجي الذي يُؤلفه عالِم فِعلي. ثَمة قائمة ثالثة وهي تضمُّ كُتَّابًا مُثقفين حصلوا على قدرٍ جيدٍ من العِلم دون أن تكون لديهم شهاداتٌ أو أوراق اعتماد رسمية في المجال؛ حيث يغوص هؤلاء في أعماق المادة العلمية، ثم يبذلون قصارى جهدهم في شرح هذه المادة وتوضيحها. ثمة اتجاهٌ لا يُمكن أن يُوصَف بأي حالٍ من الأحوال بأنه سيئ؛ وهو أن هذه الكتب تحمِل مرجعيةً للمؤلف، أو تُصبح بمنزلة سيرةٍ ذاتية كتبها بنفسه بدرجةٍ أو بأخرى؛ حيث يروي المؤلف فيها حكاية تعليمه الذاتي. وفي حين أنَّ المبدأ، على النحو الذي عرَضناه، قد يبدو مراوغًا وينطوي على شيءٍ من المخاطرة، يُمكن أن تكون هذه الكتب جيدةً بحق، حيث يعلم الكاتب كيف يكون الحال عند عدم فَهم مادةٍ علميةٍ ما، ويُمكن أن يحكيَ قصة تعلُّم تلك المادة بطريقةٍ روائية.

هناك قائمة رابعة قد تبدو مختلفة تمامًا عن القائمة الثالثة، لكنها تُشبهها في بعض الجوانب، وهذه القائمة هي كتب تاريخ العِلم التي تتَّخِذ عمومًا الشكل الروائي لتحكيَ جهود عالِمٍ أو أكثرَ من أجل فَهم شيءٍ ما. هنا، يحلُّ العالِم الفعلي، الذي فهم هذا الشيء فهمًا كاملًا في الأساس، محلَّ المؤلِّف الاستقصائي — باعتباره البطلَ — الذي ذكرناه في القائمة الثالثة.

من جديد، أقول إن هذه المقدمة ربما تُصبح وثيقةً أكثرَ أهمية وقيمة — وبالتأكيد كان من الممكن أن تُصبح أطول — لو أنها سرَدَت أمثلةً مُحدَّدة لكل قائمة من قوائم الكتب الأربع التي ذكَرناها آنفًا، وانخرطت في شيءٍ من النقد الأدبي الفعلي. لكن أي شخصٍ يهتم بقراءة مقدمة بقلم روائي خيالٍ علمي لكتابٍ عن اللانهائية بقلَم ديفيد فوستر والاس، لديه على الأرجح في مكتبته أمثلةٌ لجميع القوائم الأربع؛ ومِن ثمَّ فإنني سأترك هذا الأمر لجهد القارئ وحُكمه، كما يقولون. ولكن حتى يكون قصدي واضحًا؛ سأُورِد بعض الأمثلة هنا:
  • القائمة الأولى: أيُّ قصة خيال عِلمي لجريجوري بينفورد.
  • القائمة الثانية: كتاب «تاريخ موجز للزمن» بقلَم ستيفن هوكينج.
  • القائمة الثالثة: كتاب «١٤٩١» بقلم تشارلز مان.
  • القائمة الرابعة: «أينشتاين في برلين» بقلَم توم ليفنسون.

الأمر الذي لا ريبَ فيه بشأن جميع قوائم الكتب هذه أنَّ تأليفها آمنٌ لا ينطوي على أيِّ نوع من الخطورة؛ بمعنى أن القراء ذَوي التفكير النقدي من الأوساط الأكاديمية سرعان ما سيقولون في أنفسِهم: «آه، هذا كتاب من هذا النوع.» وبعدَها سينخرطون في نقده، إذا هُم رغبوا في ذلك، وَفقًا لقواعد هذا النوع.

يَشغَل الكتابُ الذي بين أيدينا حيِّزًا يصعُب تحديده أو وصفُه في مخطط فِن الذي تشكَّل في الفِقرات السابقة (وقبل الخوض في تفاصيل ذلك، سأكتفي بتقديم معلوماتٍ تحذيرية مُسبقة، مفادها أن الكتب التي بدون إحداثياتٍ واضحة على مُخطط فِن غالبًا ما تُزعج الناس أو تستثير حفيظتهم؛ لأنها لا تُوضِّح أي مجموعةٍ من القواعد الأساسية التفسيرية والنقدية يتعيَّن تطبيقها).

بادئَ بدءٍ، قيل إنَّ ديفيد فوستر والاس كاتب خيالٍ علمي (استنادًا إلى روايته «المرح اللامتناهي») بالرغم من أنه لم يكن ليُصنِّف نفسَه كذلك على الأرجح. بطبيعة الحال، الكتاب الذي بين أيدينا ليس من كتُب الخيال العلمي أو حتى كتب الخيال على الإطلاق، مع كامل الاحترام لبعض مُنتقِديه، لكن مجرَّد الحقيقة القائلة بأن ديفيد فوستر والاس كان كاتب خيالٍ عِلمي تُشوِّش على التصنيف السليم للكتاب، حتى قبل أن نبدأ قراءته. فالروائيون، الذين يحملون شهاداتٍ أو وثائقَ اعتمادٍ غيرَ رسمية — هذا إن مُنِحوا تلك الوثائق من الأساس — ليس من السهل أن ينسجموا مع الأوساط الأكاديمية التي تُعَدُّ فيها وثائقُ الاعتماد الرسمية كلَّ شيء، كما أن الكُتَّاب الذين يُؤلِّفون كتبًا حول الموضوعات المُتخصصة التي تستهدف قرَّاءً غيرَ مُختصِّين، عادةً ما تحصل على تقييماتٍ سلبية من كِلا الجانبَين: أي شيء ينقصه دراسة رُوجعت بالكامل من قِبل الأقران يُعَدُّ خطأً، ويكون عُرضةً للانتقاد من جانب الأشخاص الذين تكون مُهمتهم أن يجعلوها صحيحة، وأي مادة تحتاج إلى جهدٍ غير عادي لقراءتها تُضعِف من استحقاق العمل الوصولَ إلى عموم القرَّاء. ومِن ثمَّ فإنه في تأليفه كتابًا كهذا الذي بين أيدينا، يُذكِّرنا ديفيد فوستر والاس بالجندي الذي ينال قِلادةً باستدعائه ضربةً مدفعية على موقعه مع التوضيح المُحتمل بأنه في هذه الحالة يكون في الخارج وسطَ أرضٍ مُحايدة مُستدعيًا ضرباتٍ من كِلا الاتجاهَين.

الدرجة العلمية التي نالها ديفيد فوستر والاس كانت في منطق الموجهات، الذي إن لم تكن تعرفه من قبل، لا يُمكن تمييزه عن الرياضيات البحتة من جانب جميع الأشخاص العاديين تقريبًا، بالرغم من أنه حتى أكثرُ تجريدًا بكثيرٍ مما يُمكن أن تكون عليه الرياضيات. وبالرغم من أنه لم يتعقَّب هذا المسار المِهني لنَيل درجة الدكتوراه وتقلُّد منصبٍ أكاديمي، فإن الحقيقة القائلة بأنه كان قادرًا على دراسة مثل هذا المجال العويص من الأساس تُسلِّط الضوء بوضوحٍ على حقيقة أنه كان يمتلك كل ما يؤهِّله لأن يكون مُتخصِّصًا مُحترفًا في مجال العلوم الطبيعية (الرياضيات، المنطق)، ومِن ثمَّ، يجوز انتقاده في نظر نقَّاد الرياضيات الصِّرفة. ولذا، ينبغي علينا أن نسأل ما إذا كان ينبغي أن يأخُذ عالِمٌ حقيقي الكتابَ الذي بأيدينا على محمل الجِدِّ باعتباره كتابًا مُتخصِّصًا، أم أن هذا نوعٌ من النشر الترويجي. لقد طلب مُحرِّروه بوضوح النشرَ الترويجي له، وفي نهاية المطاف حقَّقوا شيئًا أقربَ إلى كونه كتابًا مُتخصِّصًا. لا نقول إن ديفيد فوستر والاس قدَّم إسهاماتٍ مُتخصِّصة فِعلية في مجال الرياضيات — هو لم يفعل ولم يُحاول أن يفعل — لكنه تعمَّق في المادة بطريقةٍ لم يكن بمقدور المُحرِّرين، بحُكم المنطق، أن يطلبوها أو يتوقَّعوها من أي كاتب، وترقية أجزاء من النص إلى مستوًى مُتخصِّصٍ أعلى من المستوى، وهو ما يُعَدُّ عمومًا نقلةً جيدة في كتبٍ رسالتها الترويج للعلم. ولو افترضنا أن كل ما كان يحرص عليه ديفيد فوستر والاس هو أن يحظى باستقبالٍ جيد ومُتحمِّس من جانب النقَّاد، فإن هذا قد لا يكون النهجَ التكتيكي الأمثل. لكنه، على ما يبدو، لم يكن من هذه النوعية من الناس على الإطلاق.

وبلُغةِ الجهاز المناعي، فإنَّ أجزاء هذا الكتاب المليئة بالمعادلات تجعله يُعبِّر عن أجسام مضادة مُعينة تستثير الرغبة العقابية لدى نقَّاد العلوم الطبيعية والرياضيات. والصورة التمثيلية هنا معكوسة لأنه عند استثارة الجهاز المناعي، فإنه يُولِّد مجموعةً من الاستجابات التي تتراوح ما بين إحساسٍ طفيف بأن ثمة شيئًا ما ليس على ما يُرام والانفعال والطفح الجلدي وصولًا إلى الهجوم المُضاد الكامل للخلايا التائية ولفظ العضو الغريب.

وأخيرًا، يتناوب تصنيف هذا الكتاب، في كثيرٍ من أجزائه، بين القائمتَين الثالثة والرابعة (انظر التحليل التصنيفي أعلاه)، حيث نجده في بعض الأحيان أقربَ إلى مادة السِّيَر الذاتية عندما يُسلط الضوء على الكيفية التي تعلَّم بها ديفيد فوستر والاس الرياضيَّات، بصفة أساسية على يدِ د. جوريس، ونجده في أحيانٍ أخرى بمثابة كتابٍ لتاريخ العِلم نتعلَّم منه أشياءَ عن الحياة الشخصية والمِهنية لكلٍّ من ديديكند وفايرشتراس وكانتور وآخرين.

وبالنظر إلى كل هذه الأشياء مُجتمعة، فإن أضعفَ ادِّعاءٍ يُمكنني أن أُؤكد عليه الآن هو أنني أحببتُ بحقٍّ هذا الكتاب، وأنني خلال قراءتي له، لم يحدُث أن اعتراني نوعٌ من المشقَّة أو الارتباك أو الانزعاج أو التشوُّش بسبب أيٍّ من الخصائص المُلمَح إليها: فحقيقة أنه قد جرى تأليفه بواسطة أحد كُتَّاب الخيال، والخوض في الخطاب الشديد التخصُّص، والإشارات — التي أوردها ديفيد فوستر والاس مرارًا وتكرارًا وبوضوح — إلى أن التفاصيل المُتخصِّصة قد بسَّطت وصقَلَت المادة العلمية بطريقةٍ قد لا تروق علماء الرياضيات، واستخدام كلٍّ من مادة السيرة الذاتية التي يكتبها بنفسه عن نفسه، ومادة تُسلِّط الضوء على جانبٍ من السيرة الذاتية للغير. ومن ثمَّ فإن نصيحتي لك، عزيزي القارئ، أن تقرأ الكتاب وحسْب، وإذا ما صادفتكَ تفصيلةٌ رياضية صعبة أو شديدةُ التخصُّص، طالِع أوجُهَ النقد اللاذعة المُوجَّهة إلى الكتاب، التي ظهرَت في أدبيات الرياضيات، واعمل على تحسين فَهمك للمحتوى الرياضي البحت عن طريق دراسة الوثائق التي خضعت لمراجعة الأقران والتي تناولَت الموضوعاتِ ذاتها، وبوجهٍ عام، تأكَّد من أن هذا الكتاب ليس آخِرَ ما تقرَؤه عن الموضوع قبل الامتحانات الشفهية.

بعد أن قدمتُ إليك هذه النصيحة، أودُّ أن أُضيف نصيحةً جديدة بشأن الكيفية التي تقرأ بها هذا الكتاب، وهي أن تسترخيَ ولا تهتم — بخلاف قراءته والاستمتاع به بطبيعة الحال — بخصيصةٍ يتَّسم بها هذا الكتاب أثارت قدرًا كبيرًا وسخيفًا من النقد؛ وهي اعتياد ديفيد فوستر والاس على استخدام تعبيراتٍ غير اصطلاحية أو دارجة أو عامية جنبًا إلى جنبٍ مع مفردات مُتخصِّصة؛ لا سيما عندما يتحدَّث عن أمورٍ خيالية. وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنما يدلُّ على إجادته الكتابةَ. فاللغة العامية أو الدارجة غالبًا ما تكون أكثرَ أجنحةِ اللغة قدرةً على التعبير. وقد تمتَّع ديفيد فوستر والاس بالقدرة على كتابة لغةٍ نثرية قوية ربما يتفوَّق بها على الكثيرين غيره، لكنه أدرك قيمة المزج بين تلك اللغة النثرية واللغة الإنجليزية اليومية الدارجة، وبالرغم من تميُّزه فيها بشدة، ينبغي أن يُوضَع في الحسبان أنه لم يكن الكاتبَ الإنجليزي الرائع الوحيد الذي فعل هذا. ففي مقابل كل شاعرٍ من أمثال ميلتون الذي سعى لأن يجعل لغته دومًا راقيةً وفخمة، كان هناك شعراء أمثال شكسبير عَلِموا كيف يُؤثِّرون فينا باستخدام لغةٍ بسيطة في التوقيت المناسب (ضمن كُتَّاب مقالات الرأي الذين يحملون درجاتٍ علمية في الإنسانيات، يبدو أنه يتعين أيضًا التنويهُ — أو الإشارة بشيءٍ من التفصيل — إلى «ما بعد الحداثة»، باعتباره موضوعًا لا يحظى بأي اهتمامٍ مِن أغلب القراء).

أستنبطُ من ذلك أن بعض الذين وُضِعت سُمعتهم الأكاديمية على المَحك نتيجةً لتكليفهم بكتابة مقال رأيٍ عن هذا الكتاب، قد شعَروا بشيءٍ من الحنق أو الارتباك؛ نتيجةً لإحجام ديفيد فوستر والاس أو رفضِه الصريح لاستخدام أسلوب التعبير الأكاديمي الرفيع الذي يُنتظَر من الأشخاص الذين يُريدون أن يزدهِروا في إطار هذه المنظومة، والذي، في الوقت نفسه، يُمكن أن يتنازل عنه الروائيون مقابل ارتداء «زيِّ مُهرِّج البلاط الملكي». ومن الأمثلة التي تُسلِّط الضوء على هذه الحقيقة، تلك العادة التي يكتُب فيها المرء عقبَ اقتباسه من نصٍّ نثري لديفيد فوستر والاس عبارة «هكذا كُتبَت». وما دُمتَ لستَ من نوعية الأشخاص الذين لديهم عادةُ استخدام عبارة «هكذا كُتِبَت» بعد الاقتباس من أعمال الآخرين في مُراسَلاتك الكتابية، فلن تكون لديك مشكلةٌ مع الأسلوب الذي جرى به تأليف هذا الكتاب.

•••

كلُّ ما سبق كان سلبيًّا تمامًا، ليس بمنظور علم النفس الرائج فيما يتَّصِل بتبنِّي نبرةٍ مُثبِّطة، لكن بالمنظور التخصُّصي البحت على اعتبار أنَّ الأمر تعرَّض لنفي عددٍ من الافتراضات (لم يقتنع ديفيد فوستر والاس بإجماع بروميثيوس، وهذا الكتاب لا ينسجم مع مُخطط فِن، فضلًا عن انتقاداتٍ مُعينة للكتاب ليست مُثيرةً للاهتمام أو مفيدة لأغلب القراء). أودُّ أن أختم هذه المقدمة بشيء إيجابي (من كِلا المنظورين؛ علم النفس الرائج والمنظور المُتخصِّص). يعكس أسلوب كتابة ديفيد فوستر والاس موقفًا جميلًا؛ إيمانًا مؤثرًا ومُستندًا في أغلبه إلى أسُس جيدة بأنك تستطيع توضيح أي شيء بالكلمات إذا اجتهدتَ بما فيه الكفاية، وأظهرتَ قدرًا من الاحترام الكافي للقُرَّاء. وفي حين أن هذا الموقف قد ظهر على الأرجح في أزمنةٍ وأماكن أُخرى، فإنه موقفٌ تتبنَّاه دائمًا المدنُ الجامعية في الغرب الأوسط الأمريكي.

وكتفسيرٍ لردود أفعالٍ أخفَّ وطأةً من حيث درجةُ حساسيتها — وبما أنني أقنعتُ الكثير من الأصدقاء بأسلوب ديفيد فوستر والاس في الكتابة بمرور السنين، فقد واجهتُ بعض تلك الاستجابات — يفترض بعض القراء (بطريقةٍ غامضة أو مشاكسة في كثيرٍ من الأحيان) أن الأسلوب الأدبي لديفيد فوستر والاس ينطوي على بعض المكر والتحايُل الذكي. هذا، بالنسبة إليَّ على أية حال، نتيجة لا تستند إلى أدلةٍ داعمة، إذا أخذنا في الاعتبار الحُبَّ الظاهر الذي يُضفيه ديفيد فوستر والاس على الموضوع الذي يكتُب عنه ومعارضته الصريحة للتورية كأسلوب حياة في مقالته «واحد من الكثرة». لماذا يستشعرها الناس رغم عدم وجودها؟ الأمر يتعلَّق بحقيقة أن موهبته اللفظية الجلية والتفنُّن في استخدام الكلمات يخلقان شعورًا مُؤرِّقًا لدى بعض القرَّاء أن ثمة طُرفةً ما لا يفهمونها أو أن ثَمة وغدًا ذكيًّا يسخر منهم بطريقةٍ أو بأخرى، وهو ما لا ينطبق على ديفيد فوستر والاس.

من وجهة نظري، هذا الكتاب هو حديثٌ من سماء براري خضراءَ يجلس فيها الأشخاصُ الذين لا يروق لهم أسلوبُ التورية، والذين تلقَّوا التعليم الأمثلَ في مدارس البراري تلك، والجامعات الرائعة رغم بساطتها حول موائد غَدائهم؛ يضعون الزبد على الذُّرة الحلوة، ويحتسون الشاي المُثلَّج، ويُحاولون في أناةٍ تفسيرَ حتى أكثر ألغاز الكون غموضًا؛ استنادًا إلى إيمانهم بأن العالَم ينبغي ألا يستعصيَ على فَهم البشر، وأنك إذا استطعت أن تفهم شيئًا ما، فيُمكنك أن تُوضِّحه بالكلمات: كلمات تَخيُّلية إذا كان هذا يُجدي نفعًا، وبسيطة إن أمكن. لكن يُمكنك، في جميع الأحوال، أن تصِل إلى عقولٍ أخرى عبر هذا الوسيط اللفظي، وهو الكلمة، وأن تصنع رابطًا معها. فتوزيع بذور الذُّرة المُشعة على صِبية الكشافة وتأليف كتابٍ يشرح أمورًا صعبة بلُغةٍ عامية مؤثرة؛ وجهان لعملة واحدة؛ طريقة تقول بها: «لديَّ هنا شيء رائع أريد أن أُشارككم إياه ليس لغرضٍ سِوى تعزيز التواصُل بين العقول.» لو كانت هذه هي الطريقة التي نشأت عليها، فسيُصبح شرحك أيَّ شيءٍ لأحدهم أمرًا مُمتعًا. فشرح الأمور الصعبة يُمثل تحديًا. وشرح الأفكار التي اشتُهرت بأنها صعبة، والتي تكاثرتْ على نحوٍ هائل إبَّان أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (اللانهائية، النسبية، ميكانيكا الكم، مسائل هيلبرت، دليل جودل الأنطولوجي) أمرٌ بالِغ الصعوبة.

ولذا، عند قراءتي هذا الكتاب، لم يَصِلني أيُّ انطباعٍ عاطفي بأن ثَمة تحايُلًا أو مهارة أو دهاءً لُغويًّا، لكنني لمستُ نوعًا من الانفتاح الذاتي ورغبة في التواصُل ظلَّا يُمارِسان تأثيرهما قبل أن يُسلِّم ديفيد فوستر والاس نفسَه لمرضٍ لعين لا يُرجى شفاؤه في سنِّ الأربعين وأضحى تأثيرهما مُفجعًا بعد مرضه. ولهذا السبب، لن تكون لدَينا الفرصةُ للاستماع إلى الشروح الأخرى التي كان بمقدوره تقديمُها بشأن موضوعاتٍ شتَّى بين عُلويٍّ وواقعي، والاستفادة بها. ومن ثَمَّ، ينبغي أن نَقنع بما تركه وراءه؛ وهو أمرٌ مستحيل إذا ما أخذنا في الاعتبار الاستمتاع والتبصُّر اللذَين يمنحُنا إياهما في كتابه هذا، وقدرتَه التي لا رَيب فيها على أن يمنحنا المزيد والمزيد لو أن القدَرَ عامَله بالاهتمام نفسِه الذي عاملَ به قُرَّاءه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤