مقدمة عن حياة المؤلف
جوهان وولفجانج جيته، نابغة الألمان وشاعرهم الكبير، فحْلُ عصره وعبقري زمانه. تمخَّضت
به ألمانيا، فأهدت للعالَم رجلًا هو الفلسفة والشعر، هو العلم والفن، أو الحقيقة
والخيال، بل هو العظمة والجمال. جاد به الدهر بعد أخيه شاكسبير، ومضى بين أفول النجم
الأول وسطوع الثاني قرنان، هما من حياة أوروبا كالفترة ما بين غروب وشروق، أو بين مساء
وصباح، وهو القائل فيه كارليل: «لا يذكِّرني رجل في العالم كله بشاكسبير إلا جيته، فهما
فرسا رهان في النظر إلى الحقائق واكتناه البواطن.» حياته كحياة الزهرة كلها معانٍ وجمال،
أفاد العالَم رَدَحًا من الزمن، كما تُعطِّر الزهرةُ النسائمَ وتُبهِج العيونَ، ثم عصفتْ
به ريح الموت، فهوتْ زهرته الفياحة، وانهصر عوده اللَّدِن، خالد العمل ممجد
الذكر.
وُلد جيته بمدينة فرنكفورت، في الثامن والعشرين من شهر أغسطس عام ١٧٤٩، من والد مثرٍ
عشَّاقٍ للمال، عبَّادٍ للسلطة، ظفر بوظيفة مستشار في حكومة بلاده، خشنِ الطبع جافِّ
الفؤاد؛ وأم هي والأب على طرفَي نقيض، موسيقية الطبع سامية الروح، فوُلد لها جيته صورةً
من نفسها، شاعرًا بالفطرة، تواقًا للفنون، فسعى إليها حتى ظفر ببغيته، ونبغ على أساتذته
من مَهَرة الإسرائيليين بمسقط رأسه. ثم انتظم في سلْك جامعة ليبزيج، وهناك شعرَ وفكَّرَ
وأحبَّ، ثلاثة هي الحياة. وتعلَّم الحفر ووقعتْ له — ولم يتم الحلقة الثانية — عشرون
أغنية من نظمه بليبزيج. وفي عام ١٧٧٠ يمَّم شطر ستراسبورج ليدرُس الحقوق، وفي السنة
التالية نال درجة «الدكتوراه»، ودرسَ العلوم الطبيعية، ورافقَ هردر
١ الذي كان له على أخلاقه تأثير جليل، ونثر درره الغالية في جريدة فرنكفرتر جلرتن أنزيجبن
Frankfurter Gleherten Anzeigen فأتحف
بها ألمانيا كلها زمنًا ليس بالقليل. وفي عام ١٧٧٢ أتمَّ رواية جوتز فون برلشنجن
Gottz Von Berlichingen اتبع فيها أسلوب
شاكسبير وروحه الحرة، نابذًا تقيدات أدباء الفرنسيس حينذاك، فتلقتها الأمة بالترحيب،
وهي
في ذلك الوقت ناقمة على المبدأ القديم
Classique، ثائرة
ضد السلطة التي أخذت تنحدر في مهاوي السقوط، وفي الرواية من الغمز والطعن في تقاليد
وعادات ذلك العصر ما فيها. وفي نفس هذه السنة ألقى عصاه بمدينة وتزلار ليتدرب على
الأعمال القانونية، وهناك أحبَّ شارلوت
رف
Charlotte Ruff، صبية حسناء، يتيمة الأم، ناهد في ميعة الشباب، خلبت فؤاد الشاعر —
دون أن تدري — عيناها الجميلتان، وكانت خطيبة هركاستنر كاتم أسرار إحدى السفارات
بهانوفر، فيئس جيته من حبه العقيم، وفرَّ هاربًا إلى بلده دامي الفؤاد، قريح الجفن،
مسلوب اللُّب، ينثُر من عينه الدمع، ومن قلمه الشِّعر، فألَّف هذه القصة التي بين أيدينا
اليوم، وأسماها «أحزان
فرتر»
Die Leiden des Jungen Werthers. وما أتمَّها حتى كانت شارلوت في شهر العسل مع كاستنر، فأهدى
كلًّا منهما نسخة منها، طالبًا أن يكتبا إليه برأيهما منفردين، وفي أكتوبر عام ١٧٧٤
طُبعت «أحزان فرتر»، فتلقاها الشعب الألماني وأوروبا كلها بالإكبار، وبلغ بها جيته ذُروة
مجده، وصافحت شهرته شهرة أبطال العالم العظماء، وعنه قال كارليل بعد قراءة الرواية: «لقد
شعر تمامًا في قلبه الحسَّاس بما يخفِق له كل فؤاد، ثم أبرزتْ عبقريته كشاعر هذا الشعور
في صورة ملموسة وبيان جلي، وكذا صار خطيب جيله المفوه، وما فرتر إلا صرخة الألم العميق
الذي انحنى تحته كثير من المفكرين والعظماء في عصرٍ ما، بل هو صورة الشقاء، وأنَّة
الشكوى المرة التي تجاوبها الأصوات، ويرنُّ صداها في القلوب من جميع أنحاء
أوروبا.»
وله غير فرتر رواية «فوست Faust عام ١٧٧٥»،
و«أجمونت Egmont عام ١٧٧٨»، و«أفيجيني Iphigenie عام ١٧٧٨»، و«تركاتو تاسو Torquato Tasso عام ١٧٩٠»، و«داي ناتورليش توشتر Die naturliche Tochter عام ١٨٠٤» وهي
تمثيلية، و«زرمورفولوجي Zur Morphologie عام ١٨١٧–٢٤»،
وغيرها من الكتب والروايات الممتعة.
وفي الثاني والعشرين من مارس عام ١٨٣٢ ببلدة ويمار Weimar مات الرجل العظيم، فسكت ذلك المِقْوَل الذَّرِب، ووقف القلم
الفيَّاض، وأُطلقت الروح الكبيرة من قفصها الهيولي، فطارت إلى أشباهها في السماء، تنشُد
الملائك وتصدع بالسِّحر الحلال.