الفصل الرابع

المنظر الأول

معمل الدكتور آدم
آدم : حضرتي كل حاجة؟ إوعي تكوني نسيتي توصلي سلوك جهاز رسم القلب.
نارة : أنا عمري نسيت حاجة يا دكتور، اشمعنى المرة دي ح انسى؟
آدم : معلهش، زيادة في التأكد، دي التجربة نمرة ٧٧ وآخر مرة راح أحاول فيها، ولازم ننجح، ماعدتش أقدر أستحمل فشل تاني، أنا تلافيت كل العيوب اللي كانت في الإنزيمات اللي فاتت ووصلت بده لحد الكمال.
نارة : إنت فعلًا تعبت فيه.
آدم (وكأنه يحدث نفسه) : أصلها مش مجرد تجربة أخرى أو حتى أخيرة، دي حطيت فيها آخر أمل لحياتي كلها، ما دام فشلنا في المهمة الأكبر، ماعدش قدامنا إلا إننا ننجح في دي.
نارة : بتكلمني يا دكتور آدم؟
آدم (تائهًا) : لأ.
نارة : أنا تعبت قوي يا دكتور من الحيوانات الغلبانة اللي بقالي أسابيع وكل يوم أشوفها قدامي بتموت، نفسي بجد ننجح المرة دي، أنا ماعدتش أقدر استحمل أشوف حيوان تاني بيموت.
آدم : أنا عارف أنا تعبتك معايا، بس تأكدي إن لحظة النجاح ح تضيع كل الألم. (ثم مغيرًا لهجته) أظن مفيش داعي إني أقول لك، إنما احتياطيًّا حفكرك، دي الحقنة اللي فيها «إ. إ. م» (إنزيم إرادة الموت)، بنديها للحيوان لغاية ما جهاز رسم القلب يورينا إن القلب على وشك التوقُّف، بندي للحيوان الحقنة دي في الوريد، «م. أ. ح. ٧٧» الجديد ده، إنتي عليكي خلال التجربة رصد سلوك الحيوان وحركته، وأنا ح اتابع الأجهزة، نبتدي.
نارة : اتفضل.
آدم : هاتي لنا المرة دي الأرنب نمرة ٩٥.
نارة : ٩٥ اللي هنا ده؟ (مشيرة إلى الأرنب الموجود في قفصه السلكي على رف المعمل.)
آدم : أيوة هوه.
نارة (تبدو عليها علامات انزعاج متزايد) : بس …
آدم : بس إيه؟
نارة : دا مفروض يستنى هنا على طول، ده «الكنترول» اللي بنقارن بيه التانيين.
آدم : ما عدناش عايزينه دي آخر تجربة، وحنستعمله هو بالذات فيها.
نارة : أرجوك يا دكتور … أنا عمري ما طلبت منك حاجة أبدًا، ممكن أتجرأ وأطلب منك طلب صغير؟
آدم (باستغراب) : طلب إيه؟
نارة : ممكن عشان خاطري بلاش ٩٥، نختار واحد تاني.
آدم : وإيه الفكرة يعني؟ ما كلهم أرانب زي بعض.
نارة : أصل ده بالذات بقاله معانا في العمل مدة، وأنا بنفسي اللي كنت بأكله وأحيانًا كنت ألاعبه، وخد عليَّ لدرجة أنه كان بيمد إيده من القفص ويلاعبني، الأرنب ده بالذات باحبه، وحتضايق قوي لو جرى له حاجة.
آدم : من الناحية دي ما تخافيش، دا انتي ح تنبسطي قوي إن أرنبك ده كان أول حيوان يستعيد إرادة الحياة وينجح التجربة.
نارة : بس الاحتمال التاني موجود.
آدم : بنسبة لا تُذكر، ياللا ياللا ما تخافيش، دا لازم تحسي بالفخر إننا ح ندخله التاريخ.
آدم : وحياتك يا دكتور بلاش ٩٥.
آدم : نارة، العلم مافهشي عواطف، وده أمر، ياللا، هاتيه.

(بصعوبة بالغة وألم زائد تتحرك وتجيء به وتُسلمه لآدم وهي تودعه بنظراتها وكأنما الوداع الأخير.)

لأ، بلاش التكشيرة دي وحياتك، إحنا بنستعد للنجاح، الابتسامة مش أليق به؟

(ينشغل آدم في استخراج الحيوان وتثبيته على منضدة للتجارب وإيصاله بالأجهزة المختلفة، بينما هو مستمر في الحديث.)

دا انت شقي بشكل، بقى هو ده يا ستي الحبيب المجهول؟ أنا قاعد أقول يا ترى نارة بتحب مين؟ بتحب مين، ويطلع في الآخر ٩٥؟ يا بختك يا ٩٥.
نارة : إنت متأكد يا دكتور أن الإنزيم ده حيدي نتيجة أكيدة؟
آدم : أنا عمري ما كنت متأكد من نتيجة حاجة بعملها زي ما أنا متأكد المرة دي.
نارة : يعني أطمِّن؟
آدم : ثقي إن حبيبك المجهول حيرجعلك بعد الرحلة الغريبة اللي حنبعته فيها ليخطف نظرة على وادي الموت والعودة بسرعة، وحيكون أول كائن حي يعمل رحلة بالشكل ده.
نارة : مش عارفة ليه ابتديت أتفاءل؟ الظاهر فعلًا نجاحنا مش حييجي إلا مع ٩٥.
آدم (منتهيًا من عمله) : دلوقتي كله جاهز، نبدأ الخطوة الأولى، إديني حقنة إنزيم إرادة الموت، اقريها كويس … أ. أ. م (نارة تتناول الحقنة وتقرأ ما كتب عليها ثم تعرضها تحت بصره ليطمئن).
مضبوط.

(يمد يده ويتناول منها الحقنة بصعوبة وكأنها تُقاوم، بعد تردد قليل تُخفي نارة وجهها إلى الناحية الأخرى في نفس اللحظة التي يصدر فيها عن الأرنب صوت تأوُّه، يسحب آدم الحقنة بعد نهايتها ويضعها جانبًا.)

تمت الخطوة الأولى بنجاح.
نارة (باضطراب) : ما هو دايمًا الخطوة الأولى بتتم بنجاح.
آدم : ارصدي لي الحركة والتنفس.
نارة : التنفس أسرع، الأرنب بتململ، وقف فجأة، بيشب بدماغه لفوق خالص، تنى رجليه اللي قدام، اللي ورا انتنوا رخرين، بيميل بجسمه ناحية الأرض عايز ينام، بقى على جنبه، التنفس بطيء، بقى أبطأ، أبطأ، يا دكتور آدم … مش كفاية بقى؟ حانستنى لإمتى؟
آدم : القلب لسة كويس.
نارة : التنفس بقى بطيء قوي، بيتهيألي إنه بطل يتنفس.
آدم : بيتهيألك بس، أنا عندي يا دوبك الموجة الأولى اتأثرت شوية، النهضة قوتها بتقل، الموجة التالتة بتنقلب.
نارة (كالمستغيثة) : القلب لسة كويس.
آدم : دا مش شغلك، إديني الحقنة التانية، إوعي تغلطي، م. أ. ح ٧٧ ح.
نارة (باضطراب أشد وهي تتبع الحقنة تحت بصره) : مش مضبوط؟
آدم : أعصابك يا نارة … كلها مسافة الحقنة وخلاص.

(يغرز الإبرة في وريد الحيوان ويُفرغها ثم يضعها جانبًا.)

نارة (منحنية فوق الأرنب) : ٩٥ أرجوك، عيش، اصحى، إوعى تموت، أرجوك، إوعى تموت، يا دكتور، دكتور، إوعى يموت (آدم يلقي ناحيتها نظرة صارمة ثم يعود لمراقبة أجهزته) دا ما بيتحركش خالص، دا مات يا دكتور، دا مات.
آدم (باضطراب وعصبية) : اسمعي، إذا كنت حتلخبطيني كدة، اخرجي برة الأوضة خالص، الله، سيبيني أشوف شغلي.
نارة : حاضر، شوف شغلك، بس انقذه، موِّتني حتى بس انقذه (آدم ينهمك في تتبع أي نبض أو علامة حياة في أجهزته، يمسك بيديه الأرنب ويتفحصه، ينظر مرة أخرى إلى الأجهزة، يعود يتحسَّس الأرنب، ببطء يرفع رأسه علامة أن لا فائدة).
نارة : مات؟

(آدم يخفض رأسه.)

مش ممكن يموت، انقذه، حرام عليك تسيبه كدة، شغل مخك ده (وهي تهز آدم من كتفَيه بشدة) وانقذه، مش ممكن تسيبه للموت، دا كان حي وصاحي وكان زمانه حي وصاحي، إنت بس شاطر في إرادة الموت، آدي ٧٧ فشل، شوف حاجة تانية، أي حاجة، بس أرجوك أرجوك انقذه.

(ثم تنخرط في بكاء قصير، تكف عنه وهي لاتزال منكفئة فوق الجهاز.)

(آدم ينهار على الكرسي ذي المسندين ويجلس نفس جلسته في بداية الفصل الثالث وقد أبعد ساقيه وتدلت ذراعاه علامة الاستسلام الكامل.)

(موسيقى)

آدم : إنتي إذا كنتي زعلانة على أرنب مات، أعمل إيه أنا في إنسان عزيز، أعز إنسان، خلاص قدام عيني أهه بينتهي ويموت؟
نارة : كفاية مغالطات، الإنسان ده مامتش ولا حيموت، كل اللي حصل إنه فشل، والفشل له علاج، إنما فين العلاج للي حصل ﻟ ٩٥؟
آدم : فشلي ده زي الموت، لأنه آخر فشل، ضاعت آخر فرصة ألاقي فيها سبب واحد يدعوني إني أعيش، المصل ٧٧ كان آخر طلقة، آخر استغاثة حشدت فيها آخر ما أملكه من ذكاء وقدرة، والنتيجة أهه.

(نارة تحدق فيه دون أن تطرف أو تحوِّل عينيها أو تنطق.)

عندك حق، كل اللي بتقوليه بنظراتك مضبوط، أنا نفسي باحتقر نفسي، ما فيش حد أتيحت له فرص أنه يعمل بحياته حاجة قدي، وما فيش حد خيب الأمل قدي، قولي، انطقي، ماعدشي فيه مساعدة وعالم، اللي موجود شاهدة ومتَّهم، اشتميني حتى لو عايزة، أي حاجة أهون من نظراتك دي.
نارة (بادئة بصوت منخفض جدًّا لا يكاد يسمع مُتصاعِدة به شيئًا فشيئًا) : إنت لا خايب ولا فاشل ولا متَّهم، ولا حتى أقدر أقول إنك جبان أو خواف، مشكلتي ازاي أقدر أفهِّمك مأساتك، إزاي أوريك إنك عرَّضت نفسك لقضايا كبيرة جدًّا، من إنقاذ البشرية، لاكتشاف إرادة الحياة والموت، للوصول لحاجات لم يصل إليها بشر، حاجات أكبر منك بكتير، ومش معنى كدة إنك صغير، أو معدوم المزايا، بالعكس إنت تعتبر أحسن من ناس كتير، تعتبر بالنسبة للناس العاديين كبير، بس المأساة الحقيقية بقى إنك مش كبير كفاية، القضايا اللي عرَّضت نفسك لها ما يكفيهاش مجرد قلب كبير ولا حتى حب كبير، قضايا عايزة واحد كبير جدًّا، وقلب كبير جدًّا، واحد من اللي بيصنعوا التاريخ، بيغيروا في مجرى الحياة، في حين إنك لا تصلح إلا متفرج على التاريخ، متفرج كبير صحيح، إنما مجرد متفرج، الفرق بين اللي بيصنعوا التاريخ واللي بيتفرجوا عليه، اللي بيغيروا الحياة واللي بيعيشوا الحياة، إن دكهم ناس عندهم القدرة والطاقة على الحب النادر، اللي بيخلق الإرادة النادرة اللي بتقدر تستحضر في الإنسان قوة غير عادية، بتقدر تسخر فيه كل نبضة وكل فكرة، وكل ذرة وحركة، لخدمة الهدف اللي عايزين يحققوه، الناس اللي بيقدروا يحبوا لآخر المدى، لحد الجنون والهوس، يحبوا من غير ما يحسبوا ولا يفكروا ولا يدخروا انفعال. فشلت في علاقتك مع هيلدا لأنك خفت من عاصفة الحب اللي قابلتك بها، خفت لأنك حسيت إنك لازم تقابلها بعاصفة حب أكبر، حب يسيطر عليك هو، مش حب زي ما انت عايزه على قدك تسيطر عليه إنت، وتقدر تتحكم فيه. تجاربك بتفشل لأنها مجرد وسائل تبقى بيها عالم ومشهور وتاخد جوايز ومناصب، مع إن المفروض في واحد اختار الحياة والموت موضوع يبحث فيه، إنه ياخده قضية حياة أو موت، قضية واحد مآمن وحابب الحياة إلى درجة الجنون وكاره الموت كره حقيقي لا مكان فيه للتفكير في جوايز أو مناصب، اللي يكتشف الإرادة دي لازم يكون عاشق نادر للحياة وللإنسان، مأساتك إنك المحب اللي مهما كان كبير فهو صغير لأن هدفه صغير وبيحققه بإرادة صغيرة، والمحبين الصغار اللي زيك كتير قوي، ماليين الدنيا، إنما أسوأهم هما الصغيرين المتنكرين في أثواب الكبار.
آدم : نارة!
نارة : أنا خيبة أملي فيك خيِّبت أملي في الحياة كلها وفي نفسي، أنا كنت فرحانة إني جاية أشتغل مع راجل كبير، مصيبة كبرى إني أكتشف إن جواه قلب فار مذعور، بيخاف على نفسه حتى إنه يتحب بجنون، الدنيا ما بيضيعهاش إلا الناس اللي زيكم، الطموحين جدًّا، اللي حاطين قدام عينيهم أكبر وأعظم أهداف، مش عشان تتحقق، إنما عشان يا هما اللي يحققوها، يا عنها ما اتحققت، عشان هما اللي يركبوها ويسخروها. أنا قرفانة، منك، ومن كل اللي زيك، قرفانة من الناس اللي أكتر م الناموس اللي الحياة عندهم هي إنهم يعيشوا وبس، مش مهم ازاي، إنما المهم إنهم يفضلوا موجودين، يتلزقوا على قفاهم مش مهم، يعيشوا زي الدود ما يجراش حاجة، ييجوا للدنيا بالملايين ويقضوا العمر على قد ما يقضوه ويسيبوها وكأنهم ما كانوا، لا اتغير حاجة فيهم ولا غيروا في الدنيا حاجة، إذا كنتم أنتم الأحياء، فالموت أنظف وأشرف وأنبل ودليل حياة أنصع، وقدامك أهه، أنا، المرة دي، اللي حقوم بتجربة أثبت لك فيها إن الإنسان الحقيقي لا يمكن يحتمل حياة زي حياتكم، يا نعيش حقيقي بني آدمين، يا ننهيها بإدينا ونموت، الحياة ما اتخلقتش أبدًا لبني آدمين يعيشوها فيران، يا سيدي الفار الصغير المتشبث بحياته الصغيرة … بص.

(بسرعة هائلة تتناول حقنة من مصل الموت وتفرغها في فخذها الأيمن، ويحدث هذا كله في ومضة مفاجئة بحيث ما إن يبدأ آدم يتبين حقيقة ما حدث حتى تكون نارة قد أفرغت محتويات الحقنة تمامًا في جسدها.)

(يهجم عليها آدم وينتزع الحقنة من فخذها ومن يدها، ويصفرُّ وجهه رعبًا حين يراها فارغة تمامًا.)

آدم : إزاي تعملي كدة؟! تموِّتي نفسك عشان تثبتيلي إني صغير؟! دا لا أنا ولا غيري ولا تافهين الدنيا كلها يساوي ضفر من ضوافرك، تنتحري؟! إنتي مش عارفة انتي مين؟ إنتي نارة، نارة، عارفة يعني إيه نارة؟ تموتي يا نارة؟ إزاي تموتي؟ دا انتي نارة، نارة، نارة!
نارة (بصوت خفيض وإن كان قد بدأ ينخفض) : إنت اللي مش عارف نارة تبقى مين.
آدم : إزاي مش عارف؟ أنا عارف، دلوقتي بس عرفت الحاجة اللي عمري ما عرفتها، نارة، إنتي …
نارة (مواصلة بنفس الطريقة والطبقة) : ولا يمكن ح تعرف، أنا مش نارة يا دكتور آدم، أنا هي.
آدم : إيه؟! إنتي إيه؟! إنتي … هي؟! إيه الكلام اللي بتقوليه ده؟ إنتي عايزة تفجعيني أكتر وخلاص، أرجوكي، أنا عايز أنقذك، وما فيش قدامي غير نص ساعة، «هي» ما طلعت هيلدا وفشلنا معاها الفشل الأعظم وانتهينا.
نارة (بابتسامة وقد بدأ صوتها يضعف) : فشلك الأعظم كان معايا، هيلدا كانت شجرة التمر حنة، فاكر؟ عفيت عنها وعملت هالك ست عشان تحرَّك فيك أي قدرة على الحب.
آدم : هيلدا كانت شجرة التمر حنة؟ وإيش عرفك بشجرة التمر حنة؟ وإيش عرفك بيها؟ (ثم وكأنه لأول مرة يُدرك) إوعي تكوني «هي»؟! الله، إوعي بجد تكوني هي، هو ده معقول؟ «هي» مش ممكن تنتحر، دي عارفة كويس إنها أمل الدنيا الوحيد، معقول تضيعه ببساطة كدة؟
نارة : أنا مش بانتحر في لحظة يأس، وبموتي ما با اضيعشي حاجة، أنا ما قررتش أموت إلا لما انتهى كل شيء وضاعت الفرصة الأخيرة وفشلت معاك، وأنا ما اقدرشي أعيش أتسول أمل.
آدم : تتسولي أمل؟ أنا حتجنن، تتسولي ازاي؟ الأمل موجود طول ما انتي عايشة، ولازم تعيشي عشان ما يموتشي، المهم تعيشي، حياتك هي الأمل، مجرد حياتك أمل.
نارة (بضعف أكثر) : أهو دا السراب اللي بتضحكوا بيه على نفسكم عشان ما تواجهوش الحقيقة، وبالذات لما الحقيقة بتبقى اليأس، لو تيأسوا مرة يأس حقيقي تواجهوه وتبقوا مسئولين عنه، أشرف لكم ألف مرة من حياة ذليلة جبانة بتهربوا فيها حتى من مسئولية اليأس.
آدم : اسمعي! دا كله كلام فارغ، أي منطق ولو نازل م السما مستحيل يقنعني إنك تموتي، «هي» مش ممكن تموت (تكون قد بدأت تنهار فيحملها بين يديه كالطفلة ويدور بها كالمجنون في المعمل).
نارة (وقد بدأ صوتها يضعف تمامًا) : أنا أهو باسلم وجنس بحاله بيلفظ معايا آخر أنفاسه، كل اللي حيبقى منه حكاية، حكايتي معاك، اعتبرها كانت حلم، أحسن له إنه يفضل حلم، وإنه بعد شوية يتنسي …

(تغمض عينيها وتروح في غيبوبة الموت.)

آدم (بفزع مخيف) : مستحيل، مش ممكن، إنتي مش حلم، إنتي حقيقة أهه، وعليَّ أنا إنها تفضل عايشة، «هي» إنتي سامعاني يا نارة، لازم تسمعيني، لا يمكن تموتي، إنتي «هي» ربة الحياة لا يمكن تموت، حقيقة ولَّا حلم، أنا صغير ولَّا كبير، قادر ولَّا مش قادر، لازم أعملها ولوحدي ضد المحتوم، مفيش محتوم، ما فيش موت، مش ممكن البشاعة تنتصر، مش ممكن الهزيمة تنتصر، يا كل الحياة اللي عاشت قبلي عشان أنا أعيش، يا كل الحياة اللي حتعيش بعدي لما أعيش، يا اللي من دودة عملتني راجل، لازم حتقدر من راجل تعملني قادر، وإرادتي تبقى أمر، وأمري نافذ، إوعى يا قلب تبطل دق، إوعى يا جسم تسلم، يا حياتي دوبي في حياتها، يا إرادتي اعملي إرادتها، أنا وصلت، بالرعب الكامل وصلت، أنا باتغير، شيء مهول بيحصل لي، لأول مرة في حياتي باحس إني قادر على كل شيء. إزاي كنت عميان عن الحقيقة، الموت مش النهاية، مش ممكن يكون النهاية وإلا لكان كل شيء حي انتهى وراح، الحياة هي الرد المستمر على الموت، إنزيم الحياة لا بد هو الموت نفسه، هو أصغر جرعة من إنزيم الموت.

(فجأة تئوب حالة الهياج المنشرح والتفاؤل إلى انقباض مفاجئ.)

بس ازاي نحددها، أنهي أصغر جرعة؟ لأي درجة نخفف إنزيم الموت؟ ماعدشي قدامي إلا بالكتير خمس دقايق، يا دوب يسمحوا بتجربتين، ولازم أبتدي فورًا، أبتدي بإيه؟ الألف أنسب بداية، واحد على ألف، وناخد واحد سنتي (ينشغل بوضع مقادير صغيرة من مصل الموت في أنابيب مدرجة يخففها بالماء، ويقيس، ثم يأخذ قطرة من المحلول المخفَّف يضعها في مقادير أخرى، ويخففها، وهكذا).

(يملأ حقنة سعتها سنتي متر بالمحلول المخفَّف ويحقن بها نارة، وبرتقُّب مخيف ينتظر النتيجة، تظل نارة مغمضة العينين كالجثة الهامدة.)

آدم : التجربة الأولى فشلت، ماعدشي إلا التجربة الأخيرة، ماعادشي إلا رقم أقامر عليه بكل حاجة، بحياتها وحياتي وحياة آلاف الملايين، يا ربي، اللعبة أكبر من طاقتي، أواجه ازاي ميت ألف احتمال، كل احتمال منها زي الوحش الكاسر المخيف، اللحظة فاصلة، عايزة مخ أكبر من مخي وقدرة أكبر من قدرتي يا رب، عايزة استدعاء القوة الخارقة الأعظم، يا رب آخر شمعة حب في الكون في ثواني ح تنطفي ويسود الظلام إلى الأبد، وإذا ماتت ح اموت (يمسك بيده حقنة ممتلئة ويرفعها) بحقنة الموت دي ح احط لنفسي النهاية، يا رب، اعطيني كل قوتك، يا أيتها القوة الخارقة الأعظم (باستغاثة منبعثة من كل ذرة في كيانه) النجدة! (كما يتحوَّل دوي القنابل إلى عزف كمان، يتحوَّل صوته المرعوب المستغيث الذي يُطلقه وكأنما ليسمعه لكل قوى الكون، يتحوَّل إلى همس خاص لا يُخاطب به سوى نفسه) سبعة، أيوة سبعة، العدد سبعة بيلح، من زمان بيلح، من زمان شايفه وسامعه ومش قادر أبعده، كل ما اطرده ألتفت ألقاه، يكونشي ده الجواب؟ يكونشي القوة الخارقة الأعظم بترد؟ سبعة، لازم يكون سبعة، أنا ماعدتش متأكد من حاجة إلا إن الرقم اللي أنا عايزه سبعة، التخفيف واحد على سبعة آلاف والكمية سبعة سنتي، هكذا ومنذ الأزل تقرر (ينشغل في عمليات التخفيف المستمرة وهو يقول): يا آخر أمل في آخر لحظة في آخر عمل حاقوم به في حياتي.

(أخيرًا يملأ الحقنة، وبيد ترتجف بالانفعال، وبدموع بلا وعي قد بدأت تهطل، يدفع الحقنة في وريد نارة التي كان قد أرقدها فوق البنش، وببطء يَحقن المحلول، يسحب الإبرة، يمسك يدها ليجسَّ النبض، العرَق يتفصَّد من كل جسده ويختلط بالدموع، بكفِّه يمسح عن عينيه العرق والدموع ليستطيع الرؤية، هو في حالة ترقب لم تحدث لإنسان بمثل تلك القوة. فجأة، وكأول قطرات تتدفَّق من الحياة، تفتح نارة عينيها، يُحدِّق فيها لحظة بعينين مرعوبتين، ثم فجأة تصدر عنه وبأعلى صوت صرخة.)

آدم : النبض رجع.

(تبدأ نارة تتنفس.)

التنفُّس راخر.

(يبدأ التنفس ينتظم ويقوى.)

(ينكفئ آدم برأسه على يدَيه ويبكي ويُنهنِه ويمسح دموعه في كُم البالطو.)

(نارة أو «هي» تفيق وتبدأ تجول بعينيها حتى تقَعا عليه، فتمد يدها بضعف وتضعها فوق رأسه، يكفُّ عن البكاء، يرفع رأسه إليها وهو يضم يدَيها بيديه ويُقبِّلهما، تستدير نارة بوجهها لتقابله، وفجأة تبتسم بعذوبة.)

آدم : وكمان بتبتسمي؟ يا سلام أول مرة أحس يعني إيه ابتسامة، دا الحياة كلها مجرد ابتسامة زي ابتسامتك دي.
نارة (بصوت ضعيف تبدأ تتسرب إليه شيئًا فشيئًا القوة) : لازم قدرت تكتشف المصل، إزاي وصلت له قبل ما اموت ازاي؟
آدم : مش عارف … مش عارف ازاي.
نارة : لازم خفت عليَّ قوي.
آدم : خفت وبس؟! دا الرعب اللي حصل لي عمره ما حصل لبشر.
نارة : طبعًا لأنك عرفت إن اللي حتموت «هي» مش نارة.
آدم : بس أنا ماكنتش مرعوب على هي ولا كنت بانقذها.
نارة : إيه؟ أمال كنت بتنقذ مين إن ما كانشي هي؟
آدم : الحقيقة كنت بانقذ نارة.
نارة : ناره؟! بقى نارة كانت أهم عندك من هي؟
آدم : نارة اللي اكتشفْت بالضبط في لحظة ما بافقدها إني باحبها حب عمري ما تصورت إني قادر عليه، حب من ضخامته ما كنتش شايفه، حب اتأكدت في الحال إنه حبي الكبير المجنون اللي كان مخليني متمسك بالحياة عشان أحس بيه.
نارة : طب وهي؟ دا «هي» كانت كل أمانيك وأحلامك، حبك ورسالتك وإيمانك، هي كانت كل حاجة بالنسبة لك، دا حتى شكلًا، عمرك ما تصورت إنك تحب واحدة زي نارة، طول عمرك تدور على واحدة زي هيلدا من نوع تاني خالص.
آدم : يا خبيثة، إنتي عارفة كويسة قوي إيه النوع اللي باحبه، وعشان كدة دخلتي حياتي، إحنا مش بنحب بأحلامنا، إحنا بس بنحلم بحرماننا، إنما لما بنحب بنحب بحقيقتنا.
نارة : طب ما أنا كنت جنبك طول الوقت.
آدم : ما هو ده الغريب، أحيانًا بيبقى أبعد الناس عنا هم أقرب الناس لينا، زي ما أحيانًا بيبقى أقرب الناس لينا هم أبعدهم عنا.
نارة : طب اعدلني أرجوك.
آدم : لأ لأ لأ لأ … ما فيش داعي، خليكي مستريحة، بلاش أي مجهود، جسمك لسة كله على حافة الحياة.
نارة : أرجوك اعدلني.
آدم : ليه بس؟
نارة : اعدلني وأنا أقول لك.

(بحرص بالغ وكأنها من زجاج يعدلها.)

آدم : خسارة المجهود ده كله.
نارة : أبدًا … مش خسارة إني أبوسك.
آدم : تبوسيني تهنيني يعني؟ وعلى إيه التعب؟
نارة : أبوسك حب يا دكتور، يا آدم يا اللي استنيته إنه يلقاني كتير، ويئست ومت عشان ألقاه.
آدم : بس أنا فعلًا زي ما قلتي صغير، مش كبير كفاية، أنا ما اتخلقتلكيش، إنتي عايزة واحد قادر على الحب المجنون النادر اللي أنا ما أقدرشي عليه.
نارة : اللي يعمل اللي عملته، وعشان يحيي نارة يكتشف في لحظات وبمجهود خارق معجز، مصل إرادة الحياة عشان يحييها مش يبقى بس قادر على الحب النادر، دا يبقى إنسان فريد، ظاهرة، مش كبير وبس، مثل أعلى للكبار.
آدم : بس أنا ما ليش فضل في اللي حصل، دا منك، إنتي اللي عملتي مني كدة.
نارة : ما أنت راخر اللي خلقتني، أنا كنت مت فعلًا واللي عايشة قدامك واحدة من صنعك إنت، قرب، أنا مشتاقة لك وكأني عمري ما شفتك، قرب، عايزة أبوسك، آن الأوان بقى إننا نخلق الجنس التالت الجديد.

(يقتربان وقبل أن تتلامس شفاههما يُسدل الستار.)

(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤